,
,
...
المبحث الأول: التحقيق فيمن تولى كبر الإفك
إن الحق الذي لا مرية فيه ولا شبهة، أن الذي تولى كبر الإفك1 هو: عبد الله بن أبي بن سلول المنافق، وبذلك تظاهرت الروايات عن عائشة رضي الله عنها، وهي صاحبة القصة.
فقد بوب البخاري بقوله: باب قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، [سورة النور الآية:11] .
ثم ساق بسنده: حدثنا أبو نعيم2، حدثنا سفيان3 عن معمر عن الزهري عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} ، [سورة النور، من الآية: 11] . قالت: "
__________
1 الإفك: أسوأ الكذب وأقبحه، وهو مأخوذ من أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه فالإفك إذا هم الحديث المقلوب. انظر تفسير الشوكاني 4/ 12.
2 أبو نعيم هو الفضل بن دكين، الكوفي، الملائي، بضم الميم بعدها لام خفيفة مشهور بكنيته، مولى تيم، ثقة ثبت، من التاسعة، (ت 218 وقيل 219) وهو من كبار شيوخ البخاري/ ع. التقريب 2/ 110.
3 سفيان هو الشوري.
عبد الله بن أبي ابن سلول"1. وعنده أيضا من رواية صالح بن كيسان عن الزهري: "وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول"2.
وفي رواية فليح بن سليمان والليث عن يونس3 عن الزهري: "وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول"4.
وعند مسلم من رواية يونس ومعمر كلاهما عن الزهري "وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول"5.
فهذه الأحاديث تدل دلالة واضحة على أن الذي تولى كبره هو عبد الله بن أبي ابن سلول، وما كنا بحاجة إلى الكلام في هذا وتثبيته بالأدلة والبراهين، بعد أن استفاض أن صاحب هذه المقالة الخبيثة هو عبد الله بن أبي ابن سلول، لولا ورود ما يشير إلى أن حسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ومسطح بن أثاثة ممن تولى كبره أيضا.
وذلك أيضا فيما رواه البخاري ومسلم من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: وكان الذي يتكلم فيه مسطح وحسان بن ثابت والمنافق عبد الله بن أبي، وهو الذي كان يستوشيه6 ويجمعه، وهو الذي تولى كبره منهم هو وحمنة7.
__________
1 البخاري 6/ 84 كتاب التفسير.
2 المصدر السابق 5/ 96 كتاب المغازي، باب حديث الإفك.
3 تقدمت ترجمته مع بقية تراجم رجال الأسانيد.
4 البخاري 3/ 151 كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضا و 6/ 84 كتاب التفسير باب قوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} .
5 صحيح مسلم 8/ 112 كتاب التوبة.
6 يستوشيه: الأصل فيه: استخراج الحديث باللطف والسؤال والبحث عنه. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير5/ 190.
7 البخاري 6/ 89 تفسير سورة النور باب قوله تعالى: {إن الذي يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة} . ومسلم 8/ 118 كتاب التوبة والترمذي 5/ 13 تفسير سورة النور.
وعند أحمد والطبري من رواية هشام المذكورة: "وكان الذين تكلموا فيه: المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول، وكان يستوشيه ويجمعه، وهو الذي تولى كبره ومسطح وحسان وثابت"1.
وورد عند البخاري ومسلم: حدثني محمد بن بشار، حدثنا ابن أبي عدي2، أنبأنا شعبة3، عن الأعمش4 عن أبي الضحى5 عن مسروق، قال: "دخل حسان بن ثابت على عائشة فشبب وقال:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بريبة ... وتصبح غَرْثَى من لحوم الغوافل6
قالت: "لست كذاك"7.
قلت: "تدعين مثل هذا يدخل عليك"، وقد أنزل الله {والذي تولى كبره منهم} . فقالت: "وأي عذاب أشد من العمى".
__________
1 مسند أحمد 6/ 59 وتفسير الطبري 18/ 89.
2 هو محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، وقد ينسب لجده، وقيل هم إبراهيم أبو عمرو البصري، ثقة، من التاسعة، (ت194) على الصحيح/ ع. التقريب 2/ 141.
3 شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي، مولاهم، أبو بسطام، بكسر الموحدة وسكون المهملة، الواسطي، ثم البصري، ثقة حافظ متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال، وذب عن السنة، وكان عابدا من السابعة، (ت160) / ع. التقريب 1/ 351.
4 الأعمش مدلس وقد عنعن ولكن لا تضر عنعنته هنا، لأن الراوي عنه شعبة، وقد قال كفيتكم تدليس الأعمش وأبي إسحاق وقتادة، قال السخاوي في فتح المغيث 1/ 176: فإذا جاء حديثهم من طريق شعبة، بالعنعنة حمل على السماع جزما.
5 مسلم بن صبيح مصغرا الهمداني أبو الضحى الكوفي، العطار، مشهور بكنيته، ثقة فاضل، من الرابعة (ت100) /ع. المصدر السابق2/ 245.
6 هذا البيت من جملة أبيات قالها حسان يعتذر إلى عائشة، والمراد بالحصان هنا العفيفة، والرزان: الملازمة موضعها التي لا تتصرف كثيرا، وامرأة رزان إذا كانت ذات ثبات ووقار وعفاف وكانت رزينة في مجلسها، وما تزن بريبة: أي ما تتهم، وغرثى: أي جائعة، والغوافل: جمع غافلة يريد أنها لا ترتع في أعراض الناس، انظر ديوان حسان بن ثابت ص 324
7 لست كذلك: بل اغتبت وخضت في قول أهل الإفك.
وقالت: "وقد كان يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"لفظ البخاري1.
قلت: الذي يظهر في هذا المقام أن الذي بدأ بالكلام في الإفك وكان يصول فيه ويجول هو عبد الله بن أبي ابن سلول، وهو الذي كان يجمع الناس في بيته ممن هم على شاكلته في الخبث والنفاق وكان يذيع ذلك ويردده مع عصابته وأهل بيته، ولما انتشر الكلام في ذلك من قبلهم، وكانوا يتناقلونه فيما بينهم، أثر ذلك في بعض المؤمنين فانزلقوا معهم، وصاروا يتكلمون بذلك مع من تكلم، ويرددون قول الإفك والنفاق دون وعي وإدراك لما يقصده ابن أبي من وراء ذلك.
فقد روى إسحاق بن راهويه: أخبرنا يحيى2 بن آدم نا ابن أبي زائدة3 وهو يحيى بن زكرياء عن محمد4 بن عمرو عن يحيى5 بن عبد الرحمن بن حاطب عن علقمة بن وقاص وغيره عن عائشة قالت: لما قال أهل الإفك ما قالوا دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُم} هؤلاء الآيات وكان الذي تولى كبره الذي يجمعهم في بيته عبد الله بن أبي ابن سلول6.
وأورد الطبري الأحاديث التي يفهم منها أن حسان بن ثابت ومسطحا وحمنة ممن تولى كبر الإفك ثم عقب بقوله: "وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: الذي تولى كبره من عصبة الإفك كان عبد الله بن أبي، وذلك أنه
__________
1 البخاري 6/ 88 تفسير سورة النور ومسلم 7/ 163 كتاب فضائل الصحابة.
2 يحيى بن آدم بن سليمان الكوفي، أبو زكرياء مولى بني أمية، ثقة حافظ فاضل من كبار التاسعة (ت203) / ع. التقريب 2/ 341.
3 يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة الهمداني، أبو سعيد الكوفي، ثقة متقن من كبار التاسعة (ت183 أو 184) /ع. المصدر السابق 2/ 347.
4 محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص، الليثي المدني، صدوق له أوهام، من السادسة (ت145) / ع. المصدر السابق 2/ 196.
5 يجيى بن عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة، أبو محمد أو أبو بكر، المدني، ثقة من الثالثة، (ت104) /م عم. المصدر السابق 2/ 352.
6 مسند إسحاق بن راهويه 4/ ق 135 ب وتفسير الطبري 18/ 89.
لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن الذي بدأ بذكر الإفك وكان يجمع أهله ويحدثهم عبد الله بن أبي ابن سلول"1. وأورد عن ابن زيد أنه قال: "أما الذي تولى كبره منهم فعبد الله بن أبي ابن سلول الخبيث، هو الذي ابتدأ هذا الكلام، وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقود بها". وقال ابن القيم أثناء شرحه لقصة الإفك: "ولما قدم صفوان لعائشة، وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة ورأى ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته وما يليق به، ووجد الخبيث عدو الله ابن أبي متنفسا فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه فجعل يستحكي الإفك، ويستوشيه، ويشيعه ويذيعه، ويجمعه ويفرقه، وكان أصحابه يتقربون به إليه"2.
وقال ابن كثير تحت قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُم} الآية. فكان المقدم في هذه اللعنة عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين، فإنه كان يجمعه ويستوشيه حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين فتكلموا به، وجوزه آخرون منهم، وبقي الأمر كذلك قريبا من شهر حتى نزل القرآن إلى أن قال: " ... ثم الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد الله بن أبي ابن سلول، قبحه الله تعالى ولعنه، وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث". وقال ذلك مجاهد وغير واحد.
ثم قال: "وقيل المراد به حسان بن ثابت وهو قول غريب، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على إيراد ذلك، لما كان لإيراده كبير فائدة، فإنه من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآثر، وأحسن مآثره أنه كان يذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هاجهم 3 وجبريل معك" 4 انتهى.
__________
1 تفسير الطبري 18/ 89 وانظر فتح القدير للشوكاني 4/ 12.
2 زاد المعاد 2/ 126 وانظر تفسير مجاهد بن جبير. سورة النور، ص 427 ومسند أبي يعلى 4/ق، 447.أ
3 الحديث في صحيح مسلم 7/ 163 (كتاب فضائل الصحابة) ونصه: "حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن عدي" وهو ابن ثايت قال: سمعت البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان بن ثابت: "اهجهم أو هاجهم وجبريل معك" ومن طريق الزهري أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع حسان بن ثابت الأنصاري يستشهد أبا هريرة أنشدك الله هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يا حسان أجب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم أيده بروح القدس"، قال أبو هريرة: "نعم".
ومن طريق أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه أن حسان بن ثابت كان ممن كثر على عائشة فسببته فقالت: "يا ابن أختي دعه فإنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".
4 تفسير ابن كثير 3/ 268 و272.
وقال ابن حجر أثناء شرحه للآية المذكورة {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُم لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} : "هو عبد الله بن أبي وبه تظاهرت الروايات عن عائشة من قصة الإفك المطولة"1.
وقال تحت قول مسروق "تدعين مثل هذا يدخل عليك وقد أنزل الله {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُم} 2 قال: "وهذا مشكل لأن ظاهره أن المراد بقوله {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُم} هو حسان بن ثابت، وقد تقدم قبل هذا أنه عبد الله بن أبي وهو المعتمد"3، انتهى.
قلت: وسيأتي أيضا موقف الزهري مع الوليد بن عبد الملك وهشام بن عبد الملك عندما قالا: الذي تولى كبره هو علي بن أبي طالب فغضب الزهري وقال: "هو عبد الله بن أبي ابن سلول" وساق بسنده إلى عائشة أنها قالت: "الذي تولى كبره عبد الله بن أبي"4.
وبهذا يتضح أن الذي تفوه به وتولى عبأه وتبعته هو عبد الله بن أبي. وهو الذي ترجح عند المحققين من أهل العلم5. ويؤيده أن الآية الكريمة هددت الذي تولى كبره بالعذاب العظيم قال تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُم لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
__________
1 فتح الباري 8/452.
2 تقدم الحديث، ص 229.
3 فتح الباري 8/ 452 و485.
4 انظر ص 261 وما بعدها.
5 انظر الجامع لأحكام القرآن المعروف بتفسير القرطبي 12/ 200 وروح المعاني للألوسي 18/ 105- 106 وفتح البيان في مقاصد القرآن لصديق حسن خان 6/ 330.
وهذا التهديد يتناسب مع نفاق عبد الله بن أبي، وأما من ذكر من الصحابة المشهود لهم بالخير ولبعضهم بالجنة، فإنهم لا يدخلون في هذا الوعيد كما هو ظاهر، وإنما هؤلاء يدخلون في مثل قوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} ، [سورة النور الآية: 12] .
فهذا عتاب للمؤمنين الذين تورطوا وانخدعوا بدعايات النفاق وأكاذيب المرجفين، والآيات التي تضمنت قصة الإفك واضحة في سياقها {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} ، [سورة النور، من الآية: 11] ، وهذا هو مطلع هذه الآيات وسياقها ثم ذكرت أن الذي تولى كبره من هذه العصبة واحد منهم، فقال تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، [سورة النور، من الآية: 11] ، ولا شك أن هذا الأسلوب القرآني في سباقه ولحاقه يدل على واحد معين من هذه العصبة، وهو عبد الله بن أبي ابن سلول، كما في الصحيح وغيره بخلاف ما قد يفهم من بعض الروايات التي ألحقت حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش بابن أبي في تولي كبر الإفك، فهؤلاء جماعة والآية تشير إلى واحد من عصبة الإفك، فالتعبير (بالذي) وإعادة الضمير إليه مفردا مرتين في قوله: {كِبْرَهُ} وقوله: {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} مع ذكر العصبة سابقا واضح في أن المراد واحد بعينه من هذه العصبة هو الذي تولى كبره وعظمه1.
وقد وضحته الروايات الصحيحة المتضافرة أنه رأس النفاق ابن سلول، وبهذا التقرير يندفع الإشكال وتتضح الحال، ويظهر أن هؤلاء الصحابة الأجلاء لا يصلح منهم أن يكون هو المراد بهذا التولي لكبر الإفك.
وإذا درسنا الآيات وتأملنا سياقها سياقاً ولحاقاً اتضح أن كل واحد من هؤلاء الصحابة ليس مرادا بتولي كبر الإفك، لأن العتاب الذي عوتب به هؤلاء، نصت عليه الآيات في مثل قوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} ، [سورة النور الآية: 16] ، وقوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} ، ولا شك أن صفة الإيمان ثابتة لحسان ومسطح وحمنة، ومنتفية عن عبد الله بن أبي ابن سلول، وإن كان في الظاهر مسلما، فيكون هذا العتاب لهؤلاء المؤمنين الذين تورطوا في هذه الدعاية السيئة
__________
1 انظر روح المعاني للألوسي 18/ 105- 106.
غفلة منهم وانخداعا ببهرج النفاق وزخرف قوله، يوضح ذلك تعقيبه جل شأنه على قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، [سورة النور، الآية: 14] ، بقوله: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ1 بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} ، [سورة النور الآية: 15] ، فهذه الآية توضح أن هؤلاء المؤمنين خدعوا بهذه الأكاذيب وسرت فيهم أراجيف المنافقين وأباطيلهم فصاروا يرددون قول أهل الزيغ والنفاق دون وعي وإدراك لمقصد المنافقين من وراء هذا القول الشنيع.
وبهذا يكون الذي تولى كبر الإفك وحمل لواءه وإشاعته بين الناس هو عبد الله بن أبي ابن سلول رأس النفاق.
وأما ذكر بعض الروايات لحمنة وحسان ومسطح مع عبد الله بن أبي ابن سلول، فيفسر ذلك على أنهم ذكروا من باب التبعية لا أنهم تولوا كبر الإفك أصالة، وإنما الذي تولاه هو ابن أبي ابن سلول المنافق، لكنهم حين قالوا بقالته ذكروا معه تبعا، والله أعلم2.
__________
1 تلقونه: بفتح التاء وتشديد اللام، وهو من التلقي وإحدى التائين فيه محذوفة وهي القراءة المشهورة، وكانت عائشة تقرأ {تَلَقَّوْنَهُ} بكسر اللام وضم القاف مخففا، وتقول: الولق- بفتح الواو وسكون اللام بعدها قاف- الكذب.
وقد وردت القراءة الأخيرة عن عائشة في صحيح البخاري 6/ 100 من كتاب التفسير وهذا سياقه حدثني يحيى حدثنا وكيع عن نافع عن ابن عمر عن ابن أبي مليكة عن عائشة كانت تقرأ {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} وتقول: الولق: الكذب. قال ابن أبي مليكة: وكانت أعلم من غيرها بذلك لأنه نزل فيها.
2 انظر مجمع الزوائد للهيثمي7/ 77وتفسير سورة النور للمودودي، ص126- 127.
,
ذكر البخاري: تحت قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} ، [سورة آل عمران، من الآية: 159] .
"وشاور1 عليا وأسامة فيما رمى أهل الإفك عائشة، فسمع منهما2 حتى نزل القرآن3 فجلد الرامين ولم يلتفت إلى تنازعهم4، ولكن حكم بما أمره الله"5.
قال ابن حجر: قوله: "فجلد الرامين"لم يقع في شيء من طرق حديث الإفك في الصحيحين ولا أحدهما.
وهو عند أحمد وأصحاب السنن من رواية محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن حزم عن عمرة عن عائشة قالت: "لما نزلت برائتي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فدعا بهم وحدهم"، وفي لفظ: "فأمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم"، وسموا في رواية أبي داود: مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش.
قال الترمذي: "حسن6 لا نعرفه إلا من حديث ابن إسحاق من هذا الوجه". ثم قال ابن حجر: "قلت: ووقع التصريح بتحديثه7 في بعض طرقه"8.
__________
1 قال ابن حجر: أما أصل مشاورتهما فذكره البخاري موصولا في هذا الباب باختصار، وتقدم في سورة النور في قصة الإفك. انظر فتح الباري 13/ 342 وانظر الحديث في البخاري 9/ 91 كتاب الاعتصام و6/ 84 باب {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} .
2 الضمير لعلي وأسامة. قال ابن حجر: فسمع كلامهما ولم يعمل بجميعه حتى نزل الوحي، فلم يعمل بما أومأ إليه علي من المفارقة في قوله: (والنساء سواها كثير) ، وعمل بقوله: (وسل الجارية) فسألها. وعمل بقول أسامة في عدم المفارقة ولكنه أذن لها في التوجه إلى بيت أبيها. فتح الباري 13/ 342.
3 هو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} ، [بسورة النور، من الآية: 11] .
4 قوله: (إلى تنازعهم) قال ابن بطال عن القابسي: كأنه أراد تنازعهما فسقطت الألف، لأن المراد أسامة وعلي، وقال الكرماني: القياس أن يقال تنازعهما إلا أن يقال أن أقل الجمع اثنان. أو أراد بالجمع علي وأسامة ومن معهما أو من وافقهما على ذلك. المصدر السابق 13/ 342.
5 صحيح البخاري 9/ 91 كتاب الاعتصام باب قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} .
6 في النسخة الموجودة بأيدينا (حسن غريب) .
7 الضمير لابن إسحاق ووقع تصريحه بالتحديث عن شبخه عبد الله بن أبيبكر عند البيهقي كماذكر ذلك العراقي، ووقع أيضا في سيرة ابن هشام. انظر السيرة2/297.
8 فتح الباري 130/342.
قلت: الحديث الذي أشار إليه ابن حجر أنه عند أحمد وأصحاب السنن هو: حدثنا محمد بن بشار ثنا ابن أبي عدي1 عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة2 بنت عبد الرحمن عن عائشة قالت: "لما نزل عذري3 قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن4، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم"5.
قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق" قال العراقي6 بعد أورد قول الترمذي هذا: "قلت: قد صرح ابن إسحاق بالتحديث عند البيهقي".
قال الشارح: "فزال بذلك ما يخشى من تدليسه، لأن المشهور قبول حديث ابن إسحاق، إلا أنه مدلس فإذا صرح بالتحديث كان حديثه مقبولاً"7.
والحديث المشار إليه عند البيهقي: هو أخبرنا أبن عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد ابن الحسن القاضي قالا ثنا أبو العباس8 محمد بن يعقوب ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر ابن عمرو بن حزم عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن عائشة
__________
1 ابن أبي عدي هو محمد بن إبراهيم، وعبد الله بن أبي بكر هو ابن محمد بن حزم وقد تقدمت ترجمتهما.
2 عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زررة الأنصارية، المدنية، أكثرت عن عائشة ثقة من الثالثة، (ت قبل المائة) . ويقال بعدها/ع. التقريب 2/ 607.
3 تريد الآيات الدالة على براءتها مما رماها به أصحاب الإفك.
4 هو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} ، [سورة النور، من الآية: 11] ، إلى آخر الآيات النازلة في ذلك.
5 الترمذي 5/ 17 تفسير سورة النور وابن ماجة 2/ 857 في الحدود، باب حد القذف وأبو داود فيه 2/ 471 ومصنف عبد الرزاق 5/ 419 وأحمد 6/ 61.
6 هو الإمام الحافظ الحجة المحدث الكبير أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين ابن عبد الرحمن بن أبي بكر العراقي الشافعي. صاحب الألفية في علم الحديث وصاحب التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من كتاب ابن الصلاح (ت806) مقدمة التبصرة والتذكرة شرح ألفية العراقي 1/9 و18.
7 طرح التثريب شرح التقريب 8/ 72.
8 أبو العباس: محمد بن يعقوب هو الأصم وقد تقدمت ترجمته مع بقية رجال الإسناد.
رضي الله عنها قالت: "لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم القصة التي نزل بها عذري على الناس نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر برجلين وامرأة ممن كان باء بالفاحشة في عائشة فجلدوا الحد قال: وكان رماها عبد الله بن أبي ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش رموها بصفوان بن المعطل السلمي". وكذلك رواه محمد بن أبي عدي عن محمد بن إسحاق1.
والحديث أورده أبو داود من طريق ابن أبي عدي وهذا نصه:
حدثنا قتيبة2 بن سعيد الثقفي ومالك3 بن عبد الواحد المسمعي، وهذا حديثه أن ابن عدي حدثهم عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فذكر ذاك وتلا- تعني القرآن- فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم"4.
ومن طريق محمد بن مسلمة وهذا نصه: حدثنا النفيلي5، ثنا محمد ابن سلمة، عن محمد بن إسحاق، بهذا الحديث ولم يذكر عائشة6، قال: فأمر
__________
1 السنن الكبرى للبيهقي 8/ 250 كتاب لحدود، باب ما جاء في حد قذف المحصنات.
2 قتيبة بن سعيد بن جميل بفتح الجيم ابن طريف الثقفي أبو رجاء البغلاني بفتح الموحدة وسكون المعجمة، ثقة ثبت، من العاشرة، (ت240) /ع. التقريب2/ 123.
3 مالك بن عبد الواحد المسمعي أبو غسان البصري ثقة من العاشرة، (ت230) / م د. المصدر السابق 2/ 225.
4 سنن أبي داود 2/ 471 كتاب الحدود باب في حد القذف.
5 هو عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل أبو جعفر النفيلي، الحراني، ثقة حافظ من كبار العاشرة (ت234) / خ عم. المصدر السابق 1/ 448.
6 قال صاحب عون المعبود: والحديث أسنده ابن إسحاق مرة وأرسله أخرى انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود 12/ 174.
قال ابن الصلاح: "ومذهب الجمهور من الفقهاء وأصحاب الحديث – فيما حكاه الخطيب أبو بكر – أن الزيادة من الثقة مقبولة إذا تفرد بها سواء كان ذلك من شخص واحد بأن رواه مرة ناقصا ومرة أخرى وفيه تلك الزيادة، أو كانت الزيادة من غير من رواه ناقصا، خلافا لمن رد من أهل الحديث مطلقا، وخلافا لمن رد الزيادة منه ومن قبلها من غيره". انظر مقدمة ابن الصلاح ص 111- 112 مع التقييد والإيضاح.
برجلين وامرأة ممن تكلم بالفاحشة: حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة.
قال النفيلي: "ويقولون: المرأة حمنة بنت جحش"1.
قلت: وقد صرح ابن إسحاق أيضا بتسميتهم في (مغازيه) في حديث عائشة الطويل في سياق قصة الإفك مصرحا بالتحديث وهذا نصه:
حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه2، عن عائشة، وعبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة3، ثم ساق الحديث وفي آخره "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشري يا عائشة، فقد أنزل الله براءتك"، قالت: "قلت: بحمد الله"، ثم خرج إلى الناس، فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل الله عليه من القرآن في ذلك، ثم أمر بمسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة، فضربوا حدهم"4.
وأورده ابن جرير الطبري في التاريخ من هذه الطريق5.
والحديث عند البزار من حديث أبي هريرة وفيه التصريح بتسميتهم أيضا وهذا نصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأصاب عائشة القرعة في غزوة بني المصطلق". الحديث ...
وفيه: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيء فيقوم على الباب فيقول: "كيف تيكم" حتى جاء يوما فقال: "أبشري يا عائشة فقد أنزل الله عذرك"، فقالت: "بحمد الله لا بحمدك"، وأنزل الله في ذلك عشر آيات: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} ، [سورة النور، من الآية: 11] ، قال: "فحد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسطحا وحمنة وحسان"6.
__________
1 سنن أي داود 2/ 471 كتاب الحدود باب في حد القذف.
2 هو عباد بن عبد الله بن الزبير بن العوام، كان قاضي مكة زمن أبيه، وخليفته إذا حج، ثقة من الثالثة/ع. التقريب 1/ 392.
3 تقدمت ترجمتهم.
4 سيرة ابن هشام 2/ 297- 302.
5 2/ 611- 616 وأورده في التفسير أيضا مختصرا 18/ 93.
6 مجمع الزوائد للهيثمي 9/ 230.
قال الهيثمي: "فيه محمد1 بن عمرو وهو حسن الحديث وبقية رجاله ثقات. فهذان الحديثان صريحان في إقامة الحد على هؤلاء المذكورين تطهيرا لما علق بهم من درن مقالة أهل الإفك والافتراء، وكلا الحديثين حسن لذاته".
وعلى هذا فلا يلتفت إلى قول من قال بأن الحد لم يقم عليهم مستندا إلى أن الحد لا يثبت إلا ببينة أو إقرار2. فهذان الحديثان من أبين البينات في ذلك.
وإنما الخلاف قائم في إقامة الحد على عبد الله بن أبي ابن سلول، وذلك أن الحديثين المذكورين لن يتعرضا لذكره أصلا، في إقامة الحد عليه أو عدمه.
وقد ورد عند الطبري من طريق هشام بن عروة عن أبيه التصريح بأن ابن أبي لم يسم في أهل الإفك، وهذا نص الحديث: حدثنا عبد الوارث3 بن عبد الصمد، قال: ثنا أبي4، قال ثنا أبان العطار5، قال: ثنا هشام بن عروة - عن عروة - أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان: "كتبت إلي تسألني في الذين جاؤا بالإفك، وهم كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} وأنه لم يسم منهم أحد6 إلا حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش، وهو يقال في آخرين لا علم لي بهم، غير أنهم عصبة كما قال الله"7.
__________
1 هو محمد بن عمرو بن علقمة بم وقاص الليثي تقدمت ترجمته.
2 قائل هذا هو الماوردي. انظر فتح الباري 8/ 479 و481.
3 عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، أبو عبدة، صدوق، من الحادية عشرة، (ت252) / م ت س ق. التقريب 1/ 527.
4 هو عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد، العنبري، مولاهم، التنوري، أبو سهل صدوق، ثبت في شعبة، من التاسعة، (ت207) /ع. المصدر السابق1/ 507.
5 أبان بن يزيد العطار، البصري، أبو يزيد، ثقة، له أفراد، من السابعة، (ت في حدود 160) / خ م د ت س. المصدر السابق 1/ 31.
6 يريد لم يسم منهم أحد فيمن أقيم عليه الحد غير هؤلاء، ولا يريد أن عبد الله بن أبي ابن سلول لم يذكر فيمن قال الإفك، بل هو الذي تولى كبره كما صرحت الأحاديث بذلك.
7 تفسير الطبري 18/ 86.
وعند البخاري من رواية صالح بن كيسان: قالت عائشة: "وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول".
قال عروة: "أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده، فيقره، ويستمعه ويستوشيه".
وقال عروة أيضا: "لم يسم من أهل الإفك إلا حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم، غير أنهم عصبة كما قال الله تعالى"1. ومن خلال هذه الأحاديث الصحيحة التي لم تتعرض لذكر عبد الله بن أبي ابن سلول فيمن أقيم عليه الحد، وإنما اقتصرت على ذكر الثلاثة المصرح بهم فيها جزم من جزم من العلماء بأن عبد الله بن أبي ابن سلول لم يقم عليه الحد وذكروا عدة أشياء في وجه الحكمة في ترك إقامة الحد عليه، ومن الذاهبين إلى هذا:
القرطبي فإنه بعد أن ذكر ما ظاهره أن عبد الله بن أبي أقيم عليه الحد عقب بقوله: المشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذي حد حسان ومسطح وحمنة بنت جحش، ولم يسمع بحد لعبد الله ابن أبي، ثم أورد حديث أبي داود2 في إقامة الحد على هؤلاء الثلاثة دون عبد الله بن أبي ابن سلول، ثم أشار إلى وجه الحكمة في عدم إقامة الحد عليه فقال: قال علماؤنا: "وإنما لم يحد عبد الله بن أبي، لأن الله تعالى قد أعد له في الآخرة عذابا عظيما، فلو حد في الدنيا لكان ذلك نقصا من عذابه في الآخرة وتخفيفا عنه، مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها وبكذب كل من رماها، فقد حصلت فائدة الحد، إذ مقصوده إظهار القاذف وبراءة المقذوف كما قال تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} ،" [سورة النور الآية: 13] 3.
وإنما حد هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى
__________
1 البخاري 5/ 96 كتاب المغازي باب حديث الإفك.
2 تقدم حديث أبي داود ص 237.
3 آية 13 من سورة النور، وهي: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} .
لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحدود: "إنها كفارة لمن أقيمت عليه" كما في حديث1 عبادة بن الصامت ثم قال القرطبي أيضا: "ويحتمل أن يقال: إنما ترك حد ابن أبي استئلافا لقومه واحتراما لابنه، وإطفاء لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك، وقد كان ظهر مبادئها من سعد بن عبادة ومن قومه"2 كما في صحيح مسلم3.ا?
2- ابن القيم: وهذا نص كلامه:
قال: "ولما جاء الوحي ببراءة عائشة رضي الله عنها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن صرح بالإفك فحدوا ثمانين ثمانين، ولم يحد الخبيث عبد الله بن أبي مع أنه رأس أهل الإفك، ثم ذكر وجه الحكمة في ذلك. فقال:
أ- قيل لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة، والخبيث ليس أهلا لذلك، وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة، فيكفيه ذلك عن الحد.
ب- وقيل: بل كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه.
ج- وقيل: الحد لا يثبت إلا ببينة أو إقرار وهو لم يقر بالقذف ولا شهد به عليه أحد، فإنه كان يذكره بين أصحابه، ولم يشهدوا عليه، ولم يكن يذكره بين المؤمنين.
__________
1 الحديث في كتاب الحدود عند البخاري 8/ 133 ومسلم فيه 5/ 126- 127 وهذا لفظ البخاري عن عبادة بن الصامت قال: "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس، فقال: "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا"، وقرأ هذه الآية كلها، "فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارته، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه".
قلت: الآية هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} ، الخ. [سورة الممتحنة، من الآية: 12] .
2 تفسير القرطبي 12/ 201- 202.
3 انظر الحديث في صحيح مسلم.
د- وقيل: بل ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته عليه، كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه بما يوجب قتله مرارا، وهي تأليف قومه، وعدم تنفيرهم عن الإسلام، فإنه كان مطاعا فيهم، رئيسا عليهم، فلم يؤمن إثارة الفتنة في حده، ثم قال في ختام كلامه: ولعله ترك لهذه الوجوه كلها، فجلد مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، وهؤلاء من المؤمنين الصادقين تطهيرا لهم وتكفيرا، وترك عبد الله بن أبي إذ فليس هو من أهل ذلك"1.ا?
وقد وردت آثار تدل على أن عبد الله بن أبي ابن سلول ممن أقيم عليه الحد ولكنها كلها ضعيفة لا تقوم بمثلها الحجة، وفيما يأتي سردها وبيان ما فيها من ضعف:
حديث عبد الله بن عمر عند الطبراني فقد ساق قصة الإفك مطولا وفيه: "لما أنزل الله براءة عائشة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة قد أنزل الله عذرك"، فقلت: "بحمد الله لا بحمدك"، فتلا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النور إلى الموضع الذي انتهى إليه خبرها وعذرها وبراءتها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قومي إلى البيت" فقامت وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فأمر أبا عبيدة بن الجراح فجمع الناس ثم تلا عليهم ما أنزل الله عز وجل من البراءة لعائشة، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث إلى عبد الله ابن أبي المنافق فجيء به فضربه النبي صلى الله عليه وسلم حدين، وبعث إلى حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش فضربوا ضربا وجيعا ووجي في رقابهم، قال ابن عمر: "إنما ضرب النبي صلى الله عليه
__________
1 زاد المعاد 2/ 127- 128 قال ابن حجر فتح الباري 8/ 479 و481 بعد أن نقل قول ابن القيم هذا: "وفاته أنه ورد أن ابن أبي ذكر فيمن أقيم عليه الحد، ووقع ذلك في رواية أبي أويس عن حسن بن زيد عن عبد الله بن أبي بكر، أخرجه الحاكم في (الإكليل) مرسلا، وفيه رد على الماوردي حيث صحح أنه لم يحدهم مستندا إلى أن الحد لا يثبت إلا ببينة أو إقرار، وقيل: حدهم، وما ضعفه هو الصحيح المعتمد".
وسلم حدين لأن من قذف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعليه حدان"1 قال الهيثمي: "فيه إسماعيل بن يحيى بن عبيد الله التيمي وهو كذاب"2.
ما رواه الطبراني أيضا عن سعيد بن جبير قال: "جلد النبي صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت وعبد الله بن أبي ومسطحا وحمنة بنت جحش كل واحد ثمانين جلدة في قذف عائشة"3.
قال الهيثمي: "فيه ابن لهيعة وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح".
قلت: والحديث مرسل والمرسل من قسم الحديث الضعيف عند المحققين من أهل العلم.
ما رواه الحاكم في (الإكليل) من رواية أبي أويس4 عن الحسن5 بن زيد وعبد الله بن أبي بكر بن حزم وغيرهما مرسلا. أن ابن أبي ممن جلد الحد6 والحديث فيه علة الإرسال كالحديث الذي قبله.
وخلاصة القول: أن في إقامة الحد على عبد الله بن أبي ابن سلول قولين لأهل العلم.
الأول: أنه لم يقم عليه حد في ذلك وقد نصره القرطبي وابن القيم، وبينا الحكمة في ترك حده، كما سبق7.
__________
1 مجمع الزوائد 9/ 237- 240.
2 انظر ترجمته في ميزان الاعتدال 1/ 253 فقد وصفه بأنه يأتي بالأباطيل، وأنه يضع الحديث، وبأنه كذاب، وذكر له عدة أحاديث من أباطيله، وفي نهاية ترجمته قال: قلت: مجمع على تركه.
3 مجمع الزوائد 7/ 80.
4 هو عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، أبو أويس المدني، قريب مالك، وصهره، صدوق يهم، من السابعة (ت 167) / م عم. التقريب.
5 الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، أبو محمد المدني، صدوق يهم، وكان فاضلا، ولي إمرة المدينة للمنصور، من السابعة (ت168) / س. المصدر السابق 1/ 166.
6 فتح الباري 8/ 479 و481 وهذا الحديث أورده ابن حجر ردا على ابن القيم في جزمه بأن عبد الله بن أبي ابن سلول لم يقم عليه الحد.
7 انظر ص 239 وما بعدها.
الثاني: أنه أقيم عليه الحد مع من حد من الصحابة وأشار إلى هذا القول ابن حجر في الفتح ومستند هذا القول هو هذه الروايات التي لا تخلو كل منها من مقال. والمسألة محتملة، ولكن أكثر أهل العلم أنه لم يقم عليه حد. والله أعلم.
,
,
...
المبحث الأول: صفوان بن المعطل
أ- نسبه:
هو صفوان بن المعطل1 بن رحضة2 بن المؤمل بن خزاعي بن محاربن مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم بن منصور السلمي الذاكوني3، يكنى أبا عمرو4.
__________
1 المعطل: بضم الميم وفتح العين المهملة، وبالطاء المهملة، المفتوحة الثقيلة.
2 وعند ابن حزم رخصة بدل رحضة) ثم ساق بقية نسبه كسياق ابن الكلبي. قال المعلق: والمعروف في أسمائهم (رحضة) .
قلت: الظاهر أن هذه الكلمة صحفت من رحضة إلى (رخصة) بأن تكون النقطة تقدمت قليلا فصارت رخصة.
3 في اللباب لابن الأثير 1/ 531، الذكواني: نسبة إلى ذكوان وهم بطن كبير من سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر.
وهو ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم، ينسب إليه خلق كثير منهم: صفوان بن المعطل بن رحضة بن المؤمل بن خزاعي بن محارب بن مرة بن هلال بن فالح بن ذكوان السلمي الذكواني.
4 أسد الغابة 3/ 30 نقلا عن ابن الكلبي.
وساق نسبه إلى خليفة إلى مرة، وأسقط (المؤمل) 1.
ب- أول مشاهده:
في أسد الغابة نقلا عن ابن الكلبي: أنه أسلم قبل المريسيع وشهدها2.
وقال الواقدي: "شهد صفوان الخندق فما بعدها"3.
قلت: الراجح ما ذهب إليه ابن الكلبي، ويسانده أن في حديث الإفك، "قالت عائشة وكان يراني قبل أن يضرب علي الحجاب".
فهذا يدل على تقدم إسلامه، لأن نزول الحجاب كان في السنة الرابعة على المشهور4.
وأما شهوده غزوة المريسيع فهذا مما لا ينبغي النزاع فيه لأن ما حصل له مع عائشة في هذه الغزوة أمر مصرح به في أصح الصحيح.
وأما الواقدي فقد تناقض في هذا وذلك أنه يرى تقدم غزوة المريسيع على غزوة الخندق.
وقد ذكر حديث الإفك في غزوة المريسيع وفيه قصة صفوان مع عائشة، فقوله هنا بأن صفوان شهد الخندق فما بعدها، أكبر دليل على تناقضه5.
ج- وفاته:
اختلف العلماء في سنة وفاته والمشهور منها ما يأتي:
قال ابن إسحاق: "قتل في غزوة أرمينية شهيدا سنة تسع عشرة، في خلافة عمر بن الخطاب، وكان أمير الجيش يومئذ عثمان بن أبي
__________
1 طبقات خليفة ص 51.
2أسد الغابة3/30وفتح الباري8/461،وتعجيل المنفعة لابن حجر ص:126- 128.
3 المصادر السابقة.
4 انظر ص 94 مما تقدم.
5 انظر مغازي الواقدي 1/ 404 و2/ 440.
العاص الثقفي"، وتبعه على هذا أبو أحمد1 في الكنى، وابن السكن وابن الأثير، وابن كثير2.
وقال خليفة بن خياط وابن سعد: "مات في أواخر خلافة معاوية سنة تسع وخمسين"3، وتبعهما السهيلي4.
وعند الواقدي والطبري، مات سنة ستين بشمشاط56.
قلت: الراجح في هذا ما ذهب إليه ابن إسحاق وموافقوه، وذلك لأن في حديث الإفك، التصريح من عائشة رضي الله عنها "بأنه قتل شهيدا في سبيل الله"7.
فهذا يدل على أن وفاته كانت قبل وفاة عائشة رضي الله عنها. وعائشة إنما توفيت في ستة سبع وخمسين، والأكثر على أنها توفيت سنة ثمان وخمسين، وعلى كل حال فالذي ينبغي الجزم به أن وفاته قبل وفاة عائشة لهذا الحديث الصحيح.
__________
1 أبو أحمد هو الحاكم الكبير محدث خراسان الإمام الحافظ الجهبذ، محمد بمن محمد بن أحمد بن إسحاق النيسابوري، الكرابيسي، صاحب التصانيف، ومؤلف كتاب الكنى، سمع ابن خزيمة والباغندي وغيرهما، وعنه الحاكم أبو عبد الله صاحب المستدرك وصاعد بن محمد القاضي وغيرهما. (ت378) تذكرة الحفاظ للذهبي3/976-978.
2 انظر: الاستيعاب لابن عبد البر2/187 وأسد الغابة لابن الأثير3/30 والكامل له 2/563، والبداية والنهاية7/ 96-97، والإصابة2/190،وفتح الباري8/461، وتعجيل المنفعة، ص 127 ثلاثتها لابن حجر.
3 تاريخ خليفة بن خياط، ص 226 وتعجيل المنفعة، ص 128.
4 الروض الأنف، 6/ 437- 438.
5 شمشاط: بكسر أوله وسكون ثانية وشين مثل الأولى، وآخره طاء مهملة، مدينة بالروم على شاطئ الفرات من أعمال خرتبرت، وهي غير سمساط: بسينين مهملتين، وكلتاهما على الفرات، إلا أن سمساط بالإهمال من أعمال الشام وشمشاط بالإعجام في طرف أرمينية. معجم البلدان لياقوت 3/ 362 و2/ 355.
6 تاريخ الإسلام للذهبي 2/ 266 والإصابة لابن حجر 2/ 191.
7 البخاري 6/ 89، كتاب التفسير باب {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} ومسلم 8/ 119 كتاب التوبة.
د- سبب تأخره عن الجيش:
روى البزار من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأصاب عائشة القرعة في غزوة بني المصطلق، فلما كان في جوف الليل انطلقت عائشة لحاجة فانحلت قلادتها فذهبت في طلبها" الحديث ... وفيه "فلما رجعت عائشة لم تر العسكر، قال: وكان صفوان بن المعطل السلمي، يتخلف عن الناس فيصيب القدح والجراب والإداوة، أحسبه قال: فيحمله، قال: فتظر فإذا عائشة فغطى أحسبه قال وجهه عنها ثم أدنى بعيره منها" الحديث ...
قال الهيثمي: "رواه البزار1 وفيه محمد بن عمرو2 وهو حسن الحديث، وبقية رجاله ثقات"3.
ونسبه السيوطي للبزار أيضا وابن مردويه وساق المتن بدون تردد، وقال: "بسند حسن"4.
ورد عند أبي داود أن سبب تأخره هو غلبة النوم عليه.
وهذا نصه: حدثنا عثمان5 بن أبي شيبة أخبرنا جرير6 عن
__________
1 البزار: هو الحافظ العلامة أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البصري صاحب المسند الكبير المعلل، سمع من هدبة بن خالد وعبد الأعلى بن حماد وغيرهم، وعنه: عبد الباقي بن قانع وأبو الشيخ وخلق، (ت292) . تذكرة الحفاظ للذهبي 2/ 653- 654.
2 هو ابن علقمة بن وقاص الليثي.
3 مجمع الزوائد 9/ 230.
4 الدر المنثور 5/ 27.
5 عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسي، أبو الحسن بن أبي شيبة الكوفي، ثقة حافظ، شهير، وله أوهام، وقيل كان لا يحفظ القرآن، من العاشرة (ت239) خ م د س ق. التقريب 2/ 13.
6 جرير بن عبد الحميد بن قرط بضم القاف وسكون الراء بعدها طاء مهملة، الضبي الكوفي، نزيل الري وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب، وقيل كان في آخر عمره يهم من حفظه، (ت 188) ، ع. المصدر السابق 1/ 127.
الأعمش1 عن أبي صالح2 عن أبي سعيد3، قال: "جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده فقالت: يا رسول الله إن زوجي صفوان ابن المعطل يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، قال: وصفوان عنده، قال: فسأله عما قالت، فقال: يا رسول الله، أما قولها يضربني إذا صليت، فإنها تقرأ بسورتين4، وقد نهيتها، قال: فقال: "لو كانت سورة واحدة لكفت الناس" وأما قولها يفطرني، فإنها تنطلق فتصوم وأنا رجل شاب فلا أصبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: "لا تصوم5 امرأة، إلا بإذن زوجها". وأما قولها إني لا أصلي حتى تطلع الشمس فإنا أهل6 بيت عرف لنا
__________
1 هو سليمان بن مهران، تقدمت ترجمته.
2 أبو صالح السمان ذكوان الزيات المدني، ثقة ثبت، وكان يجلب الزيت إلى الكوفة من الثالثة، (ت101) . ع: المصدر السابق 1/ 238.
3 أبو سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري، وله ولأبيه صحبة استصغر يوم أحد ثم شهد ما بعدها وروى الكثير، مختلف في وفاته، ع: المصدر السابق 1/ 289.
4 قال صاحب عون المعبود 7/ 129:أي تقرأ بسورتين طويلتين في ركعة أو في ركعتين وقد نهيتها عن تطويل القراءة وإطالة الصلاة، وفي مسند أبي يعلى 2/ 121: "فإنها تقرأ بسورتي" بالإضافة إلى ياء المتكلم والإفراد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقرأي سورته" وفي مشكل الآثار 2/ 424:فإنها تقوم بسورتي التي أقرأها فتقرأ بها وقد وجهها الطحاوي بقوله: يحتمل أن يكون صفوان ظنها إذا قرأت سورته التي يقوم بها، لا يحصل لهما جميعا إلا ثواب واحد، فيريدها أن تقرأ غير ما يقرأ فيحصل لهما ثوابان، فأعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك يحصل له بها ثوابا، لأن قراءة كل واحد لها غير قراءة الآخر إياها".
وعند أحمد في المسند 3/ 85:فإنها تقرأ بسورتي فتعطلني.
5 المراد به صوم التطوع إذا كان زوجها حاضرا، لأن حق الزوج مقدم على نفل العبادة، أما إذا كان غائبا عنها فلها أن تصوم، لحديث: "لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه" البخاري7/27كتاب النكاح باب صوم المرأة بإذن زوجها تطوعاً.
6 قوله: "فإنا أهل بيت قد عرف لنا ذاك"، أي فإنا أهل صنعة لا ننام الليل، وذلك أنهم كانوا يسقون الماء في طول الليل، ولذا قال: لا نكاد نستيقظ: أي إذا رقدنا آخر الليل. عون المعبود 7/ 130.
ذاك، لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس1، قال: "فإذا استيقظت فصل"2.
قال أبو داود: "رواه حماد3 - يعني ابن سلمة - عن حميد4 أو ثابت5 عن أبي6 المتوكل7".
قلت: والحديث بهذا الإسناد: عند أحمد وابن حبان والطحاوي وأبي يعلى
__________
1 وعند أحمد: فإني ثقيل الرأس، وأنا من أهل بيت يعرفون بذاك بثقل الرؤوس قال: "فإذا قمت فصل". مسند أحمد 3/ 84- 85.
2 قوله: "فإذا استيقظت فصل"، قال في عون المعبود 7/ 130- 131: "ذلك أمر عجيب من لطف الله سبحانه بعباده ومن لطف نبيه صلى الله عليه وسلم ورفقه بأمته، ويشبه أن يكون ذلك منه على معنى ملكة الطبع، واستيلاء العادة، فصار كالشيء المعجوز عنه، وكان صاحبه في ذلك بمنزلة من يغمى عليه، فعذر فيه ولم يثرب عليه، ثم قال: ويحتمل أن يكون ذلك إنما كان يصيبه في بعض الأوقات دون بعض، وذلك إذا لم يكن بحضرته من يوقظه ويبعثه من المنام، فيتمادى به النوم حتى تطلع الشمس، دون أن يكون ذلك منه في عامة الأحوال فإنه يبعد أن يبقى الإنسان على هذا في دائم الأوقات وليس بحضرته أحد لا يصلح هذا القدر من شأنه، ولا يراعي هذا من حاله، ولا يجوز أن يظن به الامتناع من الصلاة في وقتها ذلك، مع زوال العذر بوقوع التنبيه والإيقاظ ممن يحضره ويشاهده. قلت: وهذا هو الظاهر الذي ينبغي في حقه لأنه لا يمكن أن يتخلف صفوان عن الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون عذر وذلك لما عرف من حرص الصحابة على الخير واتباع هدى نبيهم، وخاصة صلاة الصبح التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى البردين دخل الجنة"، صحيح البخاري 1/ 100 باب فضل صلاة الفجر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفقد أصحابه ويسأل عنهم، فيبعد أن يتخلف صفوان عن صلاة الصبح مرارا ولا يفطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة. وقد ورد في مسند أحمد 5/ 312 أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة التي تكره فيها الصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صليت الصبح فأمسك عن الصلاة حتى تطلع الشمس فإذا طلعت فصل فإن الصلاة محضورة ومتقلبة"،فهذا يدل على أنه كان يصلي الصبح في وقتها.
3 حماد بن سلمة بن دينار البصري، أبو سلمة، ثقة عابد، أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بآخره، من كبار الثامنة، (ت167) ، خت م عم. التقريب 1/ 197.
4 حميد بن أبي حميد الطويل ثقة مدلس من الخامسة، (ت 142?) ع: التقريب.
5 ثابت بن أسلم البناني أبو محمد البصري، ثقة عابد من الرابعة (ت بضع وعشرين بعد المائة) ع: التقريب 1/ 115.
6 هو علي بن داود ويقال دؤاد بضم الدال بعدها واو بهمزة أبو المتوكل الناجي بنون وجيم.
مشهور بكنيته، ثقة من الثالثة، (ت108) ، ع: المصدر السابق 2/ 36.
7 سنن أبي داود 1/ 572، كتاب الصيام باب المرأة تصوم بغير إذن زوجها.
والحاكم وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي1.
وبهذه المتابعة التي ذكرها أبو داود علم بأن الحديث صحيح لا مطعن فيه، وأنه لا معارضة بينه وبين حديث أبي هريرة المتقدم2، المصرح بأن صفوان كان يتخلف عن الناس، فيصيب القدح والجراب والإداوة فيحمله ويعطيه أهله، لأنه يقال: إن سبب تأخره عن الجيش هو غلبة النوم ثم بعد استيقاظه يمر بمكان تعريس الجيش فإذا وجد شيئا من المتاع حمله حتى يقدم به على صاحبه. غير أن أبا بكر البزار قد طعن في حديث أبي داود هذا سندا ومتنا.
وهذا معنى كلامه:
قال: "أما من حيث السند فإن الأعمش مدلس، ولم يقل حدثنا أبو صالح، فأحسب أنه أخذه من غير ثقة وأمسك عن ذكر الواسطة فصار الحديث ظاهر إسناده حسن، وكلامه منكر لما فيه".
وأما من حيث المتن: "فإنه ورد فيه أن صفوان بن المعطل كانت له زوجة، وأنه كان لا يصلي الفجر حتى تطلع الشمس".
وفي هذا كله مخالفة لما ثبت في حديث الإفك المتفق على صحته، وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدح صفوان وأثنى عليه وذكره بخير3، وفيه أيضا قال: عروة: "قالت عائشة: والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل، ليقول: سبحان الله! فوالذي نفسي بيده ما كشفت من كنف4 أنثى قط، قالت: ثم
__________
1 صحيح ابن حبان 3/ 33، ومشكل الآثار 2/ 424، ومسند أبي يعلى2/121 و/134، والمستدرك1/436، ومسند أحمد3/80 و84.
2 انظر ص 250.
3 تقدم ذلك في حديث الإفك في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا)) . انظر ص 215.
وفي هذا رد على ما أورده ابن حجر في الإصابة، وفي تعجيل المنفعة منسوبا إلى أبي يعلى والبغوي من حديث الحسن عن سعيد مولى أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دعوا صفوان بن المعطل فإنه طيب القلب خبيث اللسان)) . انظر: الإصابة 2/ 191، وتعجيل المنفعة، ص 128.
4 كناية عن بعده من النساء وأنه ما لمس ثوب امرأة قط، فضلا عن غيره، لأن الكنف هو الثوب الساتر.
قتل بعد ذلك في سبيل الله"1.
وقد أجاب العلماء عن اعتراض البزار على هذا الحديث بما يأتي:
أ- من حيث السند: أجاب ابن حجر بقوله: "وما أعله به ليس بقادح، فإن ابن سعد صرح في روايته2 بالتحديث بين الأعمش وأبي صالح، وأما رجاله: فرجال الصحيح.
وأيضا فإن للحديث متابعا ثم، أورد المتابعة التي ذكرها أبو داود عقب حديث الأعمش، ثم قال: وهذه متابعة جيدة تؤذن بأن للحديث أصلا، وغفل من جعل هذه الطريق الثانية علة للطريق الأولى3.
وأشار إلى حديث أبي داود هذا في الإصابة وقال: إسناده صحيح4. وفي تعجيل المنفعة قال: بسند جيد"5.
وأجاب صاحب عون المعبود بقوله: "والحاصل أن أبا صالح ليس بمتفرد بهذه الرواية عن أبي سعيد، بل تابعه أبو المتوكل عنه. ثم الأعمش ليس بمتفرد أيضا، بل تابعه حميد أو ثابت وكذا جرير ليس بمتفرد بل تابعه حماد بن سلمة.
ثم قال: وفي هذا كله رد على الإمام أبي بكر البزار"6.
وقال الألباني: "أخرجه أبو داود وابن حبان والحاكم وأحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين"7.
__________
1 الحديث المشار إليه في البخاري 5/ 98 و100، 6/ 89 ومسلم 8/ 115 و118 و119.
2 لم أجد هذه الرواية في طبقات ابن سعد الكبرى المطبوعة المتداولة.
3 فتح الباري 8/ 462.
4 الإصابة 2/ 191.
5 تعجيل المنفعة ص 128.
6 عون المعبود 7/ 131.
7 انظر المجلد الأول من سلسلة الأحاديث الصحيحة تحت حديث رقم 395.
ب- وأما من حيث المتن:
فأجاب ابن القيم بقوله: "اعتراض البزار على هذا الحديث بحديث الإفك، فيه نظر، فلعله تزوج بعد ذلك"1.
وأجاب ابن حجر بعدة أجوبة لا تسلم من الاعتراض.
ثم قال: "والذي يظهر أن مراده بالنفي المذكور في قصة الإفك، ما قبل هذه القصة، ولا مانع أن يتزوج بعد ذلك، وهذا جمع لا اعتراض عليه، إلا ما جاء عند ابن إسحاق أن صفوان كان حصورا، لكنه لم يثبت، فلا يعارض الحديث الصحيح.
وعند الطبراني من حديث ابن عباس: "أنه كان لا يقرب النساء""2.
وفي الإصابة بعد أن أورد حديث أبي داود، قال عقبه: ولكن يشكل عليه أن عائشة قالت في حديث الإفك: "إن صفوان بن المعطل قال: والله ما كشفت كنف أنثى قط".
وقد أورد هذا الإشكال قديما البخاري ومال إلى تضعيف حديث أبي سعيد بذلك، ثم قال ابن حجر: "ويمكن أن يجاب بأنه تزوج بعد ذلك"3.
قلت: حديث ابن إسحاق مرسل رواه عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحمد هذا من الرابعة4.
وحديث الطبراني: أورده الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: "فيه إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل متروك"5.
وإشكال البخاري المشار إليه، أورده في التاريخ الصغير، وهذا نصه:
__________
1 تهذيب السنن 7/ 129 على هامش عون المعبود.
2 فتح الباري 8/ 462.
3 الإصابة 2/ 191.
4 سيرة ابن هشام 2/ 306، وانظر التقريب 2/ 140.
5 مجمع الزوائد 9/ 236، وانظر التقريب 1/ 75.
حدثني الأويسي1، ثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح عن ابن شهاب، قال عروة: قالت عائشة: "والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل، يعني صفوان ابن المعطل السلمي ثم الذكواني - ليقول سبحان الله، فوالذي نفسي بيده، ما كشفت من كنف أنثى قط، قالت: ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله"، هذا في قصة الإفك.
ثم عقب على هذا بقوله: قال أبو عوانة2 وأبو حمزة3 عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد، جاءت امرأة صفوان بن المعطل النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "إن صفوان يضربني"4.
وخلاصة القول في هذا ما أجاب به ابن القيم وابن حجر من أن النفي المذكور في حديث عائشة في قصة الإفك يحمل على ما قبل قصة الإفك، وأن حديث أبي داود ومجيء زوجة صفوان تشكوه يحمل على أنه تزوج بعد ذلك، وبهذا يلتئم شمل الأحاديث ومتى أمكن الجمع فهو أولى من الترجيح.
موقفه من حسان بن ثابت:
روى ابن إسحاق: حدثني محمد5 بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن ثابت6 بن قيس بن الشماس وثب على صفوان بن المعطل حين ضرب حسان
__________
1 عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى بن عمرو بن أويس بن سعد بن أبي سرح الأويسي، أبو القاسم المدني، ثقة من كبار العاشرة، خ د ت ق كن. المصدر السابق1/510.
2 وضاح بتشديد المعجمة ثم مهملة ابن عبد الله اليشكري، بفتح التحتية وبشين معجمة وضم كاف الواسطي، البزاز أبو عوانة مشهور بكنيته ثقة ثبت، من السابعة (ت175 أو176) ع. التقريب 2/ 331.
3 هو محمد بن ميمون المروزي، أبو حمزة السكري، ثقة فاضل، من السابعة (ت167 أو168) ع. المصدر السابق 2/ 212.
4 تاريخ البخاري الصغير، ص 25.
5 محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي أبو عبد الله المدني، ثقة له أفراد من الرابعة (ت120) على الصحيح، ع: التقريب 2/ 140.
6 ثابت بن قيس بن شماس أنصاري خزرجي، خطيب الأنصار، من كبار الصحابة، بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة واستشهد باليمامة، فنفذت وصيته بمنام رآه خالد بن الوليد، خ د س. المصدر السابق 1/ 116.
فجمع يديه إلى عنقه بحبل، ثم انطلق به إلى دار بني الحارث ابن الخزرج، فلقيه عبد الله بن رواحة، فقال: "ما هذا؟ " قال: "أما أعجبك ضرب حسان بالسيف! والله ما أراه إلا قد قتله"، قال له عبد الله بن رواحة: "هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء مما صنعت؟ " قال: "لا والله"، قال: "لقد اجترأت، أطلق الرجل"، فأطلقه، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا حسانا وصفوان بن المعطل، فقال ابن المعطل: "يا رسول الله: آذاني1 وهجاني، فاحتملني الغضب، فضربته"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: "أحسن يا حسان، أتشوهت* على قومي، أن هداهم الله للإسلام"، ثم قال: "أحسن يا حسان في الذي أصابك"، قال: "هي لك يا رسول الله"2 والحديث أخرجه ابن جرير الطبري من هذه الطريق3.
وأشار ابن حجر إلى هذا الحديث في (تعجيل المنفعة) وقال: "سنده صحيح"4، وقال في الإصابة: "وقصة صفوان مع حسان مشهورة ذكرها يونس بن بكير في زيادات المغازي موصولة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قعد صفوان بن المعطل لحسان فضربه بالسيف قائلا:
تلق ذباب السيف مني فإنني غلام إذا هوجيت لست بشاعر
فجاء حسان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستعداه على صفوان فاستوهبه الضربة فوهبها له.
__________
1 يريد قول حسان:
أمس الجلابيب قد عزوا وقد كثروا ... وابن الفريعة أمسى بيضة البلد
إلى آخر ما ذكر من الأبيات، ويريد بالجلابيب (الغرباء) وبيضة البلد أي:منفرداً لا يدانيه أحد، وعندها اعترضه صفوان فضربه بالسيف وهو يقول:
تلق ذباب السيف عني فإنني ... غلام إذا هوجيت لست بشاعر
انظر سيرة ابن هشام 2/ 304- 305.
(*) أتشوهت على قومي: أي أقبحت ذلك من فعلهم حين سميتهم بالجلابيب من أجل هجرتهم إلى الله وإلى رسوله)) .
2 المصدر السابق 2/ 305.
3 تاريخ ابن جرير 2/ 618.
4 تعجيل المنفعة، ص128.
ثم قال: وذكرها موسى بن عقبة في المغازي عن الزهري نحوه، وزاد أن سعد بن عبادة كسا صفوان حلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كساه الله من حلل الجنة"1، وفي سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري وتعجيل المنفعة أن هذا حديث ابن إسحاق وليس من الزيادات".
والحديث بهذا السياق الذي ذكره ابن حجر عند الطبراني، وفيه: زيادة وهي "أن النبي صلى الله عليه وسلم عوض حسان بن ثابت في ضربته حائطا من نخل عظيم وجارية رومية، ويقال قبطية تدعى سيرين2 فولدت لحسان ابنه عبد الرحمن الشاعر، وباع هذا الحائط من معاوية في ولايته بمال عظيم"، قال الهيثمي بعد إيراده: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح إلا أن بعض هذا يخالف ما في الصحيح"3.
وقال ابن إسحاق: "حدثني محمد بن إبراهيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى حسان في ضربته بيرحاء وهي قصر بني حديلة4 اليوم بالمدينة وكانت مالا لأبي طلحة بن سهل تصدق بها على آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان في ضربته، وأعطاه سيرين أمة قبطية، فولدت له عبد الرحمن بن حسان"5.
قلت: هذا مخالف لما ثبت في الصحيحين من أن الذي أعطى حسان هذا المال هو أبو طلحة وذلك لقرابته منه.
__________
1 الإصابة 2/ 191.
2 سيرين هي أخت مارية سرية الرسول صلى الله عليه وسلم أهداهما له المقوقس صاحب الإسكندرية، أسد الغابة7/ 160.
3 مجمع الزوائد 9/ 234- 236.
4 حديلة: قال ابن حجر: "هو بالمهملة مصغرا، ووهم من قاله بالجيم، وبنو حديلة بالمهملة مصغرا، بطن من الأنصار وهم بنو معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار وكان قصر بني حديلة حائطا لأبي طلحة يقال لها بيرحاء" وأن هذا القصر نسب إليهم بسبب المجاورة لكونهم كانوا ساكنين في تلك البقعة، وإلا فالذي بنى القصر هو معاوية بن أبي سفيان بعد أن اشترى حصة حسان بن ثابت منه. وصار هذا القصر فيما بعد للخليفة العباسي أبي جعفر المنصور. انظر فتح الباري 5/ 388 قلت: كان هذا القصر في مكان قصر المدينة الموجود حاليا.
5 سيرة ابن هشام 2/ 306.
وهذا نص الحديث: حدثنا إسماعيل1 قال حدثني مالك عن إسحاق2 بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس3 بن مالك رضي الله عنه يقول: "كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة نخلا، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة4 المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما أنزلت: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ، [سورة آل عمران، من الآية: 92] ، قام أبو طلحة فقال: "يا رسول الله، إن الله يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بخ ذلك مال رابح5، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين"، قال أبو طلحة: "أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه
6، هذا لفظ البخاري في التفسير وبين حديث أنس الآخر أن أبا طلحة جعلها لحسان بن
__________
1 إسماعيل هو ابن أبي أويس، وهو إسماعيل بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو عبد الله بن أبي أويس المدني، أخطأ في أحاديث من حفظه من العاشرة، (ت226) خ م د ت ق. قلت: تابعه يحيى بن يحيى بن بكير التميمي الحنظلي عند مسلم 3/ 79، كتاب الزكاة.
2 إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري المدني، أبو يحيى، ثقة حجة، من الرابعة، (ت132) وقيل بعدها، ع. التقريب 1/ 59.
3 أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خدمه عشر سنين، صحابي مشهور، (ت92 وقيل93) ،ع. التقريب1/ 84.
4 من جهة الشمال تجاه باب عثمان بن عفان مع ميل إلى الغرب.
5 رويت هذه اللفظة "رايح ورابح ورائح" قال ابن حجر: "رابح من الربح، ورايح أو رائح بمعنى أن أجرها يروح ويغدو عليه. فتح الباري 3/ 326.
6 البخاري 6/ 31 كتاب التفسير باب {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} و 2/ 102 كتاب الزكاة باب الزكاة على الأقارب و3/ 90 كتاب الوكالة، باب إذا قال الرجل لوكيله: ضعه حيث أراك الله، و4/ 6 كتاب الوصايا باب إذا وقف أو أوصى لأقاربه و4/ 7 باب من تصدق إلى وكيله ثم رد الوكيل إليه و4/ 10 (باب إذا وقف أرضا ولم يبين الحدود فهو جائز) من كتاب الوصايا و7/ 95 كتاب الأشربة باب استعذاب الماء ومسلم 3/ 79 كتاب الزكاة وأبو داود 1/ 392 فيه باب في صلة الرحم.
ثابت وأبي بن كعب وهذا نصه: حدثنا محمد1 بن عبد الله الأنصاري قال: حدثني أبي2 عن ثمامة3 عن أنس رضي الله عنه قال: "فجعلها لحسان وأبي، وأنا أقرب إليه4، ولم يجعل لي منها شيئا"5.
__________
1 محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري، البصري، القاضي، ثقة من التاسعة، (ت215) / ع. التقريب 2/ 180.
2 هو عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري، صدوق، كثير الغلط، من السادسة، خ ت ق. المصدر السابق 1/ 445.
3 ثمامة بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري، قاضيها، صدوق من الرابعة، ع: المصدر السابق1/120.وهذا الحديث عند مسلم من طريق محمد بن حاتم حدثنا بهز حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت عن أنس، صحيح مسلم3/79. وعند أبي دلود من طريق موسى بن إسماعيل ثنا حماد بن سلمة ... الخ. سنن أبي داود 1/ 392.
4 انظر تخريج الحديث، ص 209.
5 وهذه القرابة بين أبي طلحة وحسان وأبي بينها محمد بن عبد الله الأنصاري المترجم له في هذا السند. فقال: أبو طلحة هو زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، وحسان هو:ابن ثابت بن المنذر بن حرلم، يجتمعان إلى حرام، وهو الأب الثالث، وأبي: هو ابن كعب بن قيس ابن عتيك بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، فعمرو يجمع حسان وأبا طلحة وأبيا.
قال الأنصاري: "بين أبي وأبي طلحة ستة آباء"، انظر سنن أبي داود 1/ 392- 393 كتاب الزكاة، باب في صلة الرحم، وصحيح لبخاري 4/ 6 كتاب الوصايا باب إذا وقف أو أوصى لأقاربه وفي حديث الباب: تصريح أنس بن مالك بأنه أقرب إلى أبي طلحة من حسان وأبي بن كعب، وقد وقع عند البخاري 4/ 6 من كتاب الوصايا باب إذا وقف أو أوصى لأقاربه "قال أنس: فجعلها لحسان وأبي وكانا أقرب إليه مني" وقد أورد ابن حجر عدة روايات مصرحة بهذا، ثم وجه قول أنس هذا بأن الذي يجمع أبا طلحة وأنسا، هو النجار، لأنه من بني عدي بن النجار، وأبو طلحة وأبي بن كعب من بني مالك بن النجار فلهذا كان أبي بن كعب أقرب إلى أبي طلحة من أنس. انظر فتح الباري 5/ 380- 381. وأما حديث الباب فقد تعرض له أثناء شرحه له في كتاب التفسير وبين أن المزي أغفل التنبيه على هذه الطريق، ولكنه لم يتعرض لتوجيه قول أنس بأنه أقرب إلى أبي طلحة من حسان وأبي بن كعب فالله أعلم. انظر فتح الباري 8/ 224.
,
ورد في حديث الإفك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار أسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب في فراق أهله، فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود، فقال: "يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا"، وأما علي بن أبي طالب فقال: "لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك"1.
وعند ابن إسحاق: فأما أسامة فأثنى علي خيرا، وقاله: ثم قال: "يا رسول الله، أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وهذا الكذب والباطل"، وأما علي فإنه قال: "يا رسول الله إن النساء لكثير، وإنك لقادر على أن تستخلف، وسل الجارية، فإنها ستصدقك"، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ليسألها، قالت: فقام إليها علي بن أبي طالب فضربها ضربا شديدا، ويقول: "اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.
وبهذا وجدت عائشة رضي الله عنها على علي رضي الله عنه ووصفته بأنه كان مسيئا في حقها - حيث إنه لم يقل كما قال أسامة بن زيد، روى البخاري: حدثني عبد الله3 بن محمد قال: أملى علي هشام4 ابن يوسف من حفظه قال: "أخبرني معمر عن الزهري قال: قال لي الوليد5 بن عبد الملك: "أبلغك أن عليا كان في من قذف عائشة؟ " قلت: لا - ولكن قد أخبرني رجلان من قومك
__________
1 صحيح مسلم 8/ 115، كتاب التوبة، والبخاري 3/ 151، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضا.
2 سيرة ابن هشام 2/ 301.
3 عبد الله بن محمد بن جعفر الجعفي، أبو جعفر البخاري، المعروف بالمسندي، ثقة حافظ، جمع المسند، من العاشرة (ت229) /خ ت. التقريب 1/ 447.
4 هشام بن يوسف الصنعاني، أبو عبد الرحمن القاضي، ثقة من التاسعة (ت197) /خ عم. المصدر السابق 2/ 320.
5 الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، المعروف بالوليد الأول، الخليفة الأموي (ت96?) وتقدمت ترجمة بقية رجال الإسناد.
أبو سلمة1 بن عبد الرحمن وأبو بكر2 بن عبد الرحمن بن الحارث - أن عائشة رضي الله عنها قالت لهما: كان علي مسلما3 في شأنها، فراجعوه4 فلم يرجع، وقال: مسلما* بلا شك فيه، وعليه وكان في أصل العتيق كذلك"5.
قال ابن حجر: "المراجعة وقعت مع هشام بن يوسف فيما أحسب، وذلك أن عبد الرزاق رواه عن معمر فخالفه، فرواه بلفظ (مسيئا) . كذلك أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في المستخرجين".
وزعم الكرماني أن المراجعة وقعت في ذلك عند الزهري، قال وقوله: فلم يرجع أي: فلم يجب بغير ذلك، قال: "ويحتمل أن يكون المراد، فلم يرجع الزهري إلى الوليد، ثم قال ابن حجر قلت: ويقوي رواية عبد الرزاق، ما في رواية ابن مردويه بلفظ: "أن عليا أساء في شأني والله يغفر له".
وقال ابن التين: "روى (مسيئا) وفيه بعد".
__________
1 أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، المدني، قيل اسمه عبد الله وقيل اسمه إسماعيل، ثقة مكثر من الثالثة (ت94) ، وكان مولده سنة بضع وعشرين /ع. المصدر السابق 2/ 430.
2 أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي المدني، قيل اسمه محمد وقيل المغيرة، وقيل أبو بكر اسمه، وكنيته أبو عبد الرحمن، وقيل أبو بكر اسمه وكنيته، ثقة فقيه، عابد، أحد الفقهاء السبعة، من الثالثة (ت94) وقيل غير ذلك/ ع. المصدر السابق 2/ 398، وإنما قال الزهري من قومك أي من قريش: لأن أبا بكر بن عبد الرحمن مخزومي، وأبا سلمة زهري: يجمعهما مع بني أمية رهط الوليد مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، فتح الباري 7/ 437.
3 قال ابن التين: "قوله مسلما: بكسر اللام، وضبط أيضا بفتحها والمعنى متقارب، عقب عليه ابن حجر بقوله: كون مسلما بكسر اللام وفتحها معناهما متقارب فيه نظر، لأن رواية الفتح تقتضي سلامته من ذلك، ورواية الكسر تقتضي تسليمه لذلك". المصدر السابق7/ 437.
4 من قوله فراجعوه فلم يرجع إلى آخر الحديث ليس من أصل الحديث على حسب المتن الذي اعتمده وإنما هذا موجود في النسخة التي شرح عليها ابن حجر.
(*) قال القسطلاني في إرشاد الساري 6/ 343 قوله (مسلما) بكسر اللام المشددة، ولأبي ذر (مسلما) بفتحها. وقوله (بلا شك فيه) لا بلفظ مسيئا. وكان في أصل العتيق مسلما (كذلك) لا مسيئا.
5 صحيح البخاري 5/ 100 (كتاب المغازي باب حديث الإفك) .
ثم عقب ابن حجر على هذا بقوله: "بل هو الأقوى من حيث نقل الرواية، وقد ذكر عياض أن النسفي1رواه عن البخاري بلفظ: (مسيئا) ".
وقال: "وكذلك رواه أبو علي بن السكن عن الفربري".
وقال الأصيلي2 بعد أن رواه بلفظ: " (مسلما) : كذا قرأناه والأعراف غيره"3.
قلت: وقد أورد صاحب (الدر المنثور) ما يقوي لفظ: (مسيئا) .
قال: أخرج البخاري4 وابن المنذر والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في (الدلائل) عن الزهري قال: كنت عند الوليد بن عبد الملك فقال: الذي تولى كبره منهم علي، فقلت: لا، حدثني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عتبة بن مسعود، كلهم سمع عائشة تقول: "الذي تولى كبره عبد الله بن أبي".
قال: "فقال لي فما كان جرمه قلت: حدثني شيخان من قومك: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أنهما سمعا عائشة تقول: "كان مسيئا في أمري"5.
وقد بينت رواية ابن مردويه سبب هذه المقالة الصادرة من الوليد قال الزهري: كنت عند الوليد بن عبد الملك ليلة من الليالي وهو يقرأ سورة النور، مستلقيا، فلما بلغ هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ
__________
1 هو إبراهيم بن معقل بن الحجاج الحافظ العلامة أبو إسحاق النسفي، قاضي نسف وعالمها ومصنف المسند الكبير والتفسير وغير ذلك، وحدث بصحيح البخاري عنه (ت295) تذكرة الحفاظ للذهبي 2/ 686.
2 هو الحافظ الثبت العلامة أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن محمد الأندلسي، أخذ صحيح البخاري عن أبي زيد محمد بن أحمد المروزي، قال القاضي عياض قال الدارقطني: حدثني أبو محمد الأصيلي ولم أر مثله. (ت392) تذكرة الحفاظ للذهبي 3/ 1024.
3 فتح الباري 7/ 437.
4 تقدم حديث البخاري في ص 261 من هذه الرسالة.
5 الدر المنثور للسيوطي 5/ 32.
لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، [سورة النور، الآية: 11] ، جلس ثم قال: "يا أبا بكر من تولى كبره منهم؟ أليس علي بن أبي طالب؟ " قال: "قلت في نفسي: "ماذا أقول؟ لئن قلت لا، لقد خشيت أن ألقى منه شرا، ولئن قلت نعم، لقد جئت بأمر عظيم، قلت في نفسي: لقد عودني الله على الصدق خيرا، قلت: لا"، قال: فضرب بقضيبه على السرير ثم قال: "فمن فمن؟ " حتى ردد ذلك مرارا، قلت: "لكن عبد الله بن أبي"1.
وقد جاء عن الزهري أيضا: أن هشام2 بن عبد الملك، كان يعتقد هذا أيضا، فقد أخرج يعقوب بن شيبة في مسنده: حدثنا الحسن بن علي الحلواني، ثنا الشافعي3، ثنا عمي4. قال: دخل سليمان5 بن يسار على هشام بن عبد الملك، فقال له: "يا سليمان {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، من هو؟ قال: "ابن أبي". قال: "كذبت هو علي"، قال: "أمير المؤمنين أعلم بما يقول"، فدخل الزهري، فقال: "يا ابن شهاب من الذي تولى كبره؟ " قال: "ابن أبي"، قال: "كذبت هو علي"، فقال: "أنا أكذب، لا أبا لك6، والله لو نادى مناد من السماء أن الله أحل الكذب ما كذبت".
حدثني عروة وسعيد وعبيد الله وعلقمة عن عائشة: "أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي (فذكر له قصة مع هشام وفي آخرها - نحن هيجنا الشيخ) "7.
__________
1 فتح االباري 7/ 437.
2 هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الخليفة الأموي، (ت125?) .
3 هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع، أبو عبد الله الإمام المشهور صاحب المذهب (ت204) ، التقريب 2/ 143 خت م عم.
4 هو محمد بن علي بن شافع المطلبي، المكي وثقه الشافعي، من السابعة، د س، المصدر السابق 2/ 192.
5 سليمان بن يسار الهلالي، المدني، مولى ميمونة، وقيل أم سلمة، ثقة فاضل، أحد الفقهاء السبعة، من كبار الثالثة (ت بعد المائة وقيل قبلها) /ع. المصدرالسابق1/331.
6 قوله: لا أبا لك: قال في النهاية: هذا اللفظ أكثر ما يذكر في المدح، أي لا كافي لك غير نفسك، وقد يذكر في معرض الذم كما يقال: لا أم لك. انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1/ 19.
قلت: وهنا يحمل قول الزهري على الذم، لأنه صدر منه في حالة الغضب.
7 فتح الباري 7/ 437، والدر المنثور 5/ 32.
عذر علي بن أبي طالب في ذلك:
قال النووي: "الذي قاله علي رضي الله عنه هو الصواب في حقه صلى الله عليه وسلم، لأنه رآه مصلحة ونصيحة للنبي صلى الله عليه وسلم في اعتقاده، ولم يكن ذلك في نفس الأمر، لأنه رأى انزعاج النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر، وتقلقه، فأراد راحة خاطره، وكان ذلك أهم من غيره".ا?ـ1.
وقال ابن قيم الجوزية: "ولما استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في فراق أهله فأشار عليه رضي الله عنه أن يفارقها ويأخذ غيرها تلويحا لا تصريحا، لأنه لما رأى أن ما قيل مشكوك فيه أشار بترك الشك والريبة إلى اليقين، ليتخلص رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهم والغم الذي لحقه من كلام الناس، فأشار بحسم الداء"2.
وقال ابن حجر: "هذا الذي قاله علي رضي الله عنه حمله عليه ترجيح جانب النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى عنده من القلق والغم بسبب القول الذي قيل، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الغيرة3، فرأى علي أنه إذا فارقها سكن ما عنده من القلق بسببها إلى أن يتحقق براءتها فيمكن رجعتها".
ثم أورد ما ذكره ابن أبي جمرة في هذا: فقال: وقال الشيخ أبو محمد* بن أبي جمرة: "لم يجزم علي بالإشارة بفراقها، لأنه عقب بذلك بقوله: "وسل الجارية تصدقك" ففوض الأمر في ذلك إلى نظر النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قال: إن أردت تعجيل الراحة ففارقها، وإن أردت خلاف ذلك فابحث عن حقيقة الأمر إلى أن تطلع على براءتها، لأنه كان
__________
1 شرح مسلم 5/ 634.
2 زاد المعاد 2/ 126.
3 الغيرة بفتح الغين: مصدر قولك "غار الرجل على أهله يغار غيرا وغيرة وغارا ومعناه الحميةوالأنفة".انظر: مختار الصحاح ص:486،والنهاية لابن الأثير3/401.
(*) هو عبد الله بن أبي جمرة محدث مقرئ من آثاره: مختصر الجامع الصحيح للبخاري، وشرح بهجة النفوس في سفرين، (ت699?) ، معجم المؤلفين لكحالة 6/ 40.
يتحقق أن بريرة لا تخبره إلا بما علمته، وهي لم تعلم من عائشة إلا البراءة المحضة"1.
وبهذا اتضح عذر علي رضي الله عنه وأنه على خلاف ما وصفه به الوليد وهشام بل وعلى خلاف ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها فإنها لم تقل كان علي ممن تولى كبر الإفك وإنما قالت: كان مسيئا في شأني، حيث إنه لم يجزم ببراءتها كما جزم أسامة بن زيد بذلك2.
__________
1 فتح الباري 8/ 468.
2 قال ابن حجر في الفتح 7/ 437: "وكأن بعض من لا خير فيه من الناصبة تقرب إلى بني أمية بهذه الكذبة فحرفوا قول عائشة إلى غير وجهه لعلمهم بانحرافهم عن علي فظنوا صحتها، حتى بين الزهري للوليد أن الحق خلاف ذلك".
,
ورد ذكرها في حديث الإفك عندما استشار الرسول صلى الله عليه وسلم عليا في شأن عائشة رضي الله عنها، فقال: "لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك"، قالت عائشة: "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة"، فقال: "أي بريرة1 هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ " الحديث2 ...
ورغم هذا كله فقد استشكل العلماء وجودها في قصة الإفك وذلك لأن قصة الإفك متقدمة، وكان شراء عائشة لبريرة ومكاتبتها متأخرين وقد أجاب العلماء عن هذا الإشكال بما يأتي:
أ- قال ابن القيم: "وقد استشكل وجود بريرة في هذا الحديث وذلك أن بريرة إنما كاتبت وعتقت بعد هذا بمدة طويلة، وكان العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في المدينة، والعباس إنما قدم المدينة بعد
__________
1 بريرة: بفتح الموحدة، وكسر الراء الأولى وسكون التحتانية.
2 انظر الحديث في صحيح مسلم 8/ 115 كتاب التوبة وصحيح البخاري 3/ 151، كتاب الشهادات.
الفتح، ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شفع إلى بريرة أن تراجع زوجها فأبت أن تراجعه، يا عباس ألا تعجب من بغض بريرة مغيثا وحبه لها، ففي قصة الإفك لم تكن بريرة عند عائشة، وهذا الذي ذكروه إن كان لازما فيكون الوهم من تسمية الجارية بريرة، ولم يقل علي سل بريرة، وإنما قال: فسل الجارية تصدقك، فظن بعض الرواة أنها بريرة فسماها بذلك، وإن لم يلزم بأن يكون طلب مغيث لها استمر إلى ما بعد الفتح ولم ييأس منها زال الإشكال"1.
قلت: ما أشار إليه من قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمه العباس هو ما رواه البخاري عن ابن عباس: "أن زوج بريرة كان عبدا يقال له مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي، ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعباس: "يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثا"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو راجعته، قالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: "إنما أنا أشفع، قالت: لا حاجة لي فيه"2.
ب- وقال ابن حجر في أثناء شرحه لحديث الإفك تحت قوله: "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة - قد قيل: إن تسميتها هنا وهم، لأن قصتها كانت بعد فتح مكة"، ثم أشار إلى حديث ابن عباس الآنف الذكر، ثم عقب بقوله: "ويمكن الجواب بأن تكون بريرة كانت تخدم عائشة وهي في رق مواليها، وأما قصتها معها في مكاتبتها وغير ذلك فكان بعد ذلك بمدة، أو أن اسم هذه الجارية المذكورة في قصة الإفك، وافق اسم بريرة التي وقع لها التخيير بعد عتقها".
ثم قال ابن حجر: "وجزم البدر الزركشي فيما استدركته عائشة على الصحابة أن تسمية هذه الجارية ببريرة مدرج من بعض الرواة، وأنها جارية أخرى ... " ثم قال: "وأخذ هذا من ابن القيم3 الحنبلي4".
__________
1 زاد المعاد 2/ 129.
2 صحيح البخاري 7/ 42 كتاب الطلاق باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج بريرة.
3 انظر قول ابن القيم ص 266.
4 فتح الباري 8/ 469.
قلت: كلام البدر الزركشي المشار إليه هذا نصه:
"فإنه بعد أن ذكر نزول القرآن ببراءة عائشة مما رميت به وجلد الذين قذفوها قال عقب ذلك: تنبيه جليل على وهمين وقعا في حديث الإفك في صحيح البخاري أحدهما1 قول علي رضي الله عنه "وسل الجارية تصدقك" قال: "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ... ".
وبريرة إنما اشترتها عائشة وأعتقتها بعد ذلك.
ويدل عليه أنها لما أعتقت واختارت نفسها، جعل زوجها يطوف وراءها في سكك المدينة ودموعه تتحادر على لحيته، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم "لو راجعته" فقلت: أتأمرني؟ فقال: "إنما أنا شافع". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عباس ألا تعجب من حب مغيث لبريرة وبغضها له" والعباس إنما قدم المدينة بعد الفتح.
والمخلص من هذا الإشكال: أن تفسير الجارية ببريرة مدرج في الحديث من بعض الرواة، ظنا منه أنها هي. وهذا كثيرا ما يقع في الحديث من تفسير بعض الرواة، فيظن أنه من الحديث، وهو نوع غامض لا ينتبه له إلا الحذاق.
ومن نظائره ما وقع في الترمذي وغيره2 من حديث يونس بن أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال: "خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش"، فذكر الراهب وقال في آخرها: "
__________
1 وثانيهما هو وجود سعد بن معاذ في غزوة بني المصطلق، ومراجعته لسعد بن عبادة في شأن أهل الإفك.
2 انظر سنن الترمذي 5/ 250 كتاب المناقب باب ما جاء في بدء نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
فرده أبو طالب وبعث معه أبو بكر بلالا وزوده الراهب من الكعك1 والزبيب"2.
فهذا من الأوهام الظاهرة، لأن بلالا إنما اشتراه أبو بكر بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبعد أن أسلم بلال، وعذبه قومه، ولما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام مع عمه أبي طالب كان له من العمر اثنتا عشرة سنة وشهران وأيام، ولعل بلالا لم يكن ولد. ولما خرج في المرة الثانية، كان له قريب من خمس وعشرين سنة ولم يكن مع عمه أبي طالب، إنما كان مع ميسرة"3.ا?
قلت: أورد ابن حجر استشكال4 البدر الزركشي، ثم عقب بقوله: وأجاب غيره بجواز أنها كانت تخدم عائشة بالأجرة، وهي في رق مواليها قبل وقوع قصتها في المكاتبة. ثم قال ابن حجر: هذا أولى من دعوى الإدراج وتغليط الحفاظ5.
وبين هذا الغير في موضع آخر6 بأنه تقي الدين السبكي7.
والخلاصة: أن البدر الزركشي ذكر ثلاثة أوهام تتعلق بحديث الإفك، وهم في ذكر بريرة، ووهم في ذكر سعد بن معاذ في هذه الغزوة ومحاورته مع سعد بن عبادة، ووهم في سماع مسروق من أم رومان، أم عائشة التي هي إحدى من روى قصة الإفك، ثم كر على الوهمين الأخيرين بما يدفعهما.
__________
1 الكعك: خبز معروف فارسي، معرب. القاموس المحيط للفيروز آبادي 3/ 317، ومختار الصحاح لأبي بكر الرازي، ص 572
2 في حديث الترمذي: الزيت. انظر سنن الترمذي 5/ 250 كتاب المناقب باب ما جاء في بدء نبوة النبي صلى الله عليه وسلم
3 الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة، ص 47- 50.
4 تقدم ص 267.
5 فتح الباري 8/ 469 و9/409.
6 فتح الباري 8/ 469 و9/ 409.
7 هو علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام، تقي الدين السبكي، الخزرجي الأنصاري، أبو الحسن الدمشقي الشافعي، صاحب كتاب (شفاء السقام في زيارة خير الأنام) في الرد على ابن تيمية، وكمل على شرح المهذب للنووي في خمس مجلدات وهو والد تاج الدين أبي نصر عبد الوهاب صاحب كتاب (طبقات الشافعية الكبرى) ، (ت756) ذيل تذكرة الحفاظ لأبي المحاسن محمد بن علي تلميذ الذهبي، ص 39- 40.
أما الوهم المتعلق ببريرة، فلم يدفعه بشيء، بل نظر له بوهم لا شك فيه، وهو ما وقع في حديث الترمذي في قصة ذهاب الرسول صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب إلى الشام، وما حصل له مع الراهب، وما كان من أمر عمه له بالرجوع إلى مكة، وما كان من قصة أبي بكر وبلال، وتزويد الراهب له، بالكعك والزيت، فهذا الصنيع منه يدل على أنه جازم بأن ذكر بريرة في حديث الإفك، مدرج من بعض الرواة، وأن الجارية التي أرادها علي بن أبي طالب غير بريرة، مولاة عائشة رضي الله عنها. فظن هذا الراوي أنها هي، غير أنه في ختام كلامه على هذه الأوهام الثلاثة، قال: "فهذه ثلاثة أوهام ادعيت في حديث الإفك، والثلاثة ثابتة في الصحيح، فلا ينبغي الإقدام على التوهيم إلا بأمر بين، وقد تقدم ما يدفع الكل".
لكن المتتبع لكلامه يجد أنه تقدم له ما يدفع وهمين فقط. وهما: الوهم في ذكر سعد بن معاذ، والوهم في سماع مسروق من أم رومان.
أما الوهم المدعى في بريرة، فلم يسبق له ما يدفعه كما يفهم من كلامه وتعميمه، بل الذي سبق له يدل على جزمه بهذا الوهم كما نظر لذلك بالوهم المذكور في قصة ذهاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الشام، وقد مر قريبا1.
ولعل هذا الصنيع منه هو الذي حمل ابن حجر، فقال عنه: إنه جازم بهذا الوهم كما سبق ذكره2.
ولكنني أستشعر من صنيعه أنه متردد في الجزم بهذا الوهم أيضا، لأن قوله: "هو ثلاثة أوهام ادعيت في حديث الإفك، والثلاثة ثابتة في الصحيح فلا ينبغي الإقدام على التوهيم إلا بأمر بين" دليل على ما أقول.
هذا على فرض أن هناك تعارضا بين قصة مغيث وزوجته، وبين ذكر بريرة في قصة الإفك، ولكن يظهر للمتأمل أن لا وجود للتعارض أصلا، لأن
__________
1 انظر: ص 268، وما بعدها.
2 انظر: ص 267.
رؤية ابن عباس لمغيث وهو يطوف في سكك المدينة متابعا لزوجه بريرة، وهي كارهة له، لا يدل على عدم وجود صلة بين عائشة وبريرة قبل ذلك، لأن بريرة مولاة للأنصار وهي موجودة حتما في المدينة، قبل هجرة العباس وابنه، فما المانع من وجود صلة وثيقة بينها وبين عائشة أم المؤمنين، بل مجيئها إلى عائشة تستعينها في فكاك رقبتها يدل دلالة واضحة على تقدم الصلة بينهما، ومعروف أن الناس يتسابقون إلى خدمة بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلتكن بريرة إحدى الخدم في بيت عائشة بالأجرة، أو بغيرها، ونكون قد سلمنا من توهيم العلماء وتغليط الحفاظ، وتكلفات الجمع التي ذكرت في هذا الصدد خاصة أن ذكر بريرة في حديث الإفك ثابت في أصح الصحيح في البخاري ومسلم، وغيرهما من كتب السنة وتظافرت الروايات على ذكرها، مما يدفع أي ريب في وجودها في هذه الحادثة، ومساءلة الرسول صلى الله عليه وسلم لها والله أعلم.
,
قال البخاري: "لما أخبرت عائشة بالأمر1 قالت: يا رسول الله أتأذن لي أن أنطلق إلى أهلي، فأذن لها وأرسل معها الغلام"2.
"وقال رجل من الأنصار: سبحانك ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم"3.
قال ابن حجر: قوله: "وقال رجل من الأنصار ... "الخ وقع عند ابن إسحاق أنه أبو أيوب الأنصاري، وأخرجه الحاكم من طريقه، وأخرجه الطبراني
__________
1 أي: بأمر الإفك.
2 قال ابن حجر في فتح الباري 13/ 344:هو موصول بالسند قبله. قلت: والسند الذي قبله هو:حدثني محمد بن حرب، حدثنا يحيى بن أبي زكريا الغساني عن هشام عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ما تشيرون علي في قوم يسبون أهلي، ما علمت عليهم من سوء قط.
3 البخاري 9/ 92 كتاب الاعتصام باب قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} .
في مسند الشاميين، وأبو بكر الآجري1 في طرق حديث الإفك من طريق عطاء2 الخراساني عن الزهري عن عروة عن عائشة3.
وأشار ابن حجر أيضا إلى هذا في تفسير سورة النور أثناء شرحه لحديث الإفك، فقال: وفي رواية هشام عن عروة: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فتشهد وحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد"".
وزاد عطاء الخراساني عن الزهري هنا قبل قوله فقام: "وكانت أم أيوب الأنصارية قالت لأبي أيوب: "أما سمعت ما يتحدث الناس؟ " فحدثته بقول أهل الإفك، فقال: "ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم"، ثم أشار إلى ما علقه البخاري بقوله: "وقال رجل من الأنصار"4.
وقال: فيستفاد معرفته من رواية عطاء هذه5. قلت: وقد رواه الواحدي أيضا موصولا من طريق عطاء المذكور ولفظه: عن الزهري عن عروة أن عائشة
__________
1 أبو بكر الآجري هو محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي الإمام المحدث القدوة، مصنف كتاب الشريعة في السنةوغير ذلك (ت360) تذكرة الحفاظ للذهبي3/936.
2 عطاء بن أبي مسلم أبو عثمان الخراساني، واسم أبيه ميسرة وقيل عبد الله، صدوق يهم كثيرا ويدلس، من الخامسة، (ت 135) لم يصح أن البخاري أخرج له/ م عم. التقريب 2/ 23.
وفي تهذيب التهذيب 7/ 213 نقل توثيقه عن ابن معين وأبي حاتم وابن سعد والدارقطني وقال النسائي: ليس به بأس، ونقل تضعيفه عن البخاري وابن حبان، وقال شعبة: كان نسيا. وفي ميزان الاعتدال 3/ 73- 75 نقل توثيقه عن أحمد والعجلي ويعقوب بن شيبة، علاوة على من ذكرهم ابن حجر، ونقل تضعيفه عن العقيلي وابن حبان ولم يرتض ذلك، ونقل عن النرمذي أنه قال في كتاب العلل: "قال محمد - يعني البخاري-: "ما أعرف لمالك رجلا يستحق أن يترك حديثه غير عطاء الخراساني"، قلت: "ما شأنه؟ " قال: "عامة أحاديثه مقلوبة".
ثم قال الترمذي معقبا على هذا: "عطاء ثقة"، روى عنه مثل مالك ومعمر، ولم أسمع أن أحدا من المتقدمين تكلم فيه". ا?ـ. لم أجد هذا في العلل الموجود بأيدينا وبهذا التقرير يكون قول ابن حجر في عطاء: " صدوق يهم كثيرا" فيه نظر. والظاهر أنه ثقة قد وثقه أجلة أئمة النقد. أمثال أحمد وابن معين وأبي حاتم والدارقطني والعجلي ويعقوب بن شيبة وغيرهم.
3 فتح الباري 13/ 344.
4 تقدم ص 271.
5 فتح الباري 8/ 470.
رضي الله عنها حدثته بحديث الإفك وقالت فيه: "وكان أبو أيوب1 الأنصاري حين أخبرته امرأته2 وقالت: "يا أبا أيوب ألم تسمع بما تحدث الناس؟ " قال: "وما يتحدثون؟ " فأخبرته بقول أهل الإفك، فقال: "ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم".
قالت: "فأنزل الله عز وجل: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} ، [سورة النور، الآية: 16] 3.
ورواية ابن إسحاق التي أشار إليها ابن حجر فيما تقدم4، هذا نصها: قال ابن إسحاق: حدثني أبي5 إسحاق بن يسار عن بعض رجال بني النجار أن أبا أيوب خالد بن زيد، قالت له امرأته أم أيوب: "يا أبا أيوب ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ " قال: "بلى، وذلك الكذب، أكنت يا أم أيوب فاعلة؟ " قالت: "لا والله ما كنت لأفعله" قال: "فعائشة والله خير منك"، قالت: "فلما نزل القرآن بذكر من قال من أهل الفاحشة ما قال من أهل الإفك، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، [سورة النور، الآية: 11] .
__________
1 أبو أيوب هو خالد بن زيد بن كليب الأنصاري الخزرجي من كبار الصحابة، شهد بدرا، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة عليه، مات غازيا بالروم سنة خمسين وقيل بعدها/ ع. التقريب 1/ 213.
2 هي أم أيوب الأنصارية الخزرجية، زوج أبي أيوب الأنصار، وهي بنت قيس بن سعد، وكان أبوها خال زوجها./ د ق. المصدر السابق 2/ 619.
3 أسباب النزول للواحدي، ص 218.
4 انظر ص 271.
5 هو إسحاق بن يسار المدني، والد محمد صاحب المغازي، ثقة من الثالثة/مد. التقريب 1/ 62.
وذلك حسان بن ثابت وأصحابه الذين قالوا ما قالوا.
ثم قال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} ، [سورة النور، الآية: 12] ، أي فقالوا: كما قال أبو أيوب وصاحبته". الحديث ... 1.
وأخرجه من طريق الطبري وابن كثير2.
وفي الدر، أخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن بعض الأنصار أن امرأة أبي أيوب قالت له حين قال أهل الإفك ما قالوا ... الحديث3 وأما رواية الحاكم فقال ابن حجر فيما تقدم4 إنها من طريق ابن إسحاق، وقال في موضع5 آخر بعد أن ذكر رواية ابن إسحاق: وللحاكم من طريق أفلح6 مولى أبي أيوب ونحوه7.
وقال السيوطي بعد أن ذكر الطريق المتقدمة: "وأخرج الواحدي8 وابن عساكر الحاكم عن أفلح مولى أبي أيوب، أن أم أيوب قالت: "ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ " قال: "بلى، وذلك الكذب"، الحديث"9 ...
وهكذا ذكر الشوكاني بعد أن ساق الطريق الأولى، التي عند السيوطي
__________
1 سيرة ابن هشام 2/ 302- 303.
2 تفسير الطبري 18/ 96 وتاريخه 2/ 617 وتفسير ابن كثير 3/ 273.
3 الدر المنثور للسيوطي 5/ 33.
4 انظر ص 271.
5 فتح الباري 8/ 470.
6 أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري، أبو عبد الرحمن، وقيل أبو كثير، ثقة مخضرم، من الثانية، (ت 63) / م مد. التقريب 1/ 83.
7 طالعت المستدرك فلم أجد هذه الرواية فلعلها في الإكليل فإن ابن حجر كثيرا ما ينسب إليه.
8 كذا هو في الدر الواحدي وصوابه: (الواقدي) كما في رواية الشوكاني، وكما هو أصل الحديث من هذه الطريق عند الواقدي، وأما الواحدي فقد أخرج الحديث من طريق عطاء الخراساني عن الزهري عن عروة عن عائشة كما تقدم، ص 272، وانظر أسباب النزول له، ص 218.
9 الدر المنثور 5/ 33.
قال: "وأخرج الواقدي والحاكم وابن عساكر عن أفلح مولى أبي أيوب أن أم أيوب فذكر نحوه1 فهذا ظاهر في أن للحاكم روايتين: إحداهما من طريق ابن إسحاق، والأخرى ليست من طريقه".
وحديث الواقدي المشار إليه هو: حدثني ابن أبي2 حبيبة عن داود3 بن الحصين عن أبي سفيان4 عن أفلح مولى أبي أيوب أن أم أيوب قالت لأبي أيوب: "ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ " قال: "بلى، وذلك الكذب"، ثم ساق قريبا من ألفاظ حديث ابن إسحاق5 المتقدم6.
فهذه ثلاث روايات وردت في هذا الباب:
الأولى: رواية ابن إسحاق وفيها الإبهام المذكور (عن بعض رجال بني النجار) .
الثانية: رواية الحاكم والواقدي وابن عساكر من طريق أفلح مولى أبي أيوب وهي موصولة عند الواقدي، وأما رواية الحاكم وابن عساكر فلا نستطيع الجزم بوصلها أو عدمه إلا بعد الإطلاع على تاريخ ابن عساكر والإكليل للحاكم.
الثالثة: رواية أبي بكر الآجري والواحدي من طريق عطاء الخراساني عن الزهري عن عروة عن عائشة وهي موصولة عند الواحدي.
__________
1 فتح القدير للشوكاني 4/ 15- 16.
2 إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأنصاري، الأشهلي، مولاهم أبو إسماعيل المدني، ضعيف، من السابعة، (ت 165) وهو ابن 82 سنة، / دت س. التقريب 1/ 31.
3 داود بن الحصين الأموس، أبو سليمان المدني، ثقة إلا في عكرمة، ورمي برأي الخوارج، من السادسة (ت 135) /ع. المصدر السابق 1/ 231.
4 أبو سفيان مولى ابن أبي أحمد، قيل اسمه وهب، وقيل قزمان، ثقة من الثالثة / ع. المصدر السابق 2/ 429.
5 تقدم ص 273.
6 مغازي الواقدي 2/ 434.
فهذه الروايات بمجموعها يقوي بعضها بعضا ويكون الحديث على أقل تقدير حسنا لغيره.
وهذه الأحاديث المتعاضدة تبرز موقف أبي أيوب وزوجه من حادثة الإفك، وهو موقف جدير بالتنويه، ذلك لأن بعض الناس وقعوا في شرك هذه الدسيسة السيئة والفرية الذميمة فأخذوا يشيعونها دون وعي لأبعادها السيئة، أما أبو أيوب وزوجه فقد نفياها واعتبراها بهتانا عظيما، وأوضحا أن أقل رتبة في الورع والاستقامة من عائشة وصفوان لا يقع في مثل هذه السفاسف. فكيف بأم المؤمنين وزوج سيد الخلق أجمعين، فرضي الله عن أبي أيوب وزوجه وأرضاهما.
ولقد أنصفتهما عائشة رضي الله عنها فنوهت بموقفهما النزيه الشريف من هذه الفرية وكأنها تعرض بمن وقع في حبائل هذه الفتنة العمياء.
وأنزل الله سبحانه فيما أنزل في كتابه: {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} إشارة إلى موقف أبي أيوب وزوجه، وقولهما ذلك كما أثبتت ذلك الروايات السابقة، وعلى هذا جرى عامة المفسرين فإنهم حين يفسرون قوله سبحانه {ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم} يذكرون هذه روايات المتعلقة بموقف أبي أيوب وزوجه على أن المراد بهذه الإشارة القرآنية هو أبو أيوب الأنصاري وزوجه والله أعلم.
,
حصل نزاع شديد بين الحيين الأوس والخزرج بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين خطب في الناس يستعذر من ابن أبي، فقال: "يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغ أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي".
فقام سعد بن معاذ الأنصاري سيد الأوس فقال: "أنا أعذرك منه
يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك".
فرد عليه سعد بن عبادة سيد الخزرج بقوله: "كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله".
فقام أسيد بن حضير ابن عم1 سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة:"كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين".
فثار الحيان، الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا، وسكت. وسوف أسرد الروايات المتعلقة بهذا الشجار مبينا السبب الدافع لسعد بن عبادة على مقالته، ومحاولا بعد ذلك تحليلها حسب الإمكان. فأقول: إن السبب الدافع لسعد ابن عبادة على ما جرى منه هو قول سعد بن معاذ: "إن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك"، فأثرت هذه الكلمة في سعد بن عبادة تأثيرا شديدا، ذلك لأنه رأى أن فيها هضما لحقه بحكم أنه سيد الخزرج ويريد سعد بن معاذ أن يتحكم فيهم، مما يجعله يتهم سعد بن معاذ بأن فعله هذا لم يكن نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد بذلك الانتقام من الخزرج لما كان بينهم من العداوة قبل الإسلام، وهذه الروايات المتعلقة بذلك:
فقد صرحت عائشة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله الحديث، وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: "يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي" فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: "أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك".
__________
1 قال ابن حجر: ليس ابن عمه لحما، ولكنهما يجتمعان في امرئ القيس لأن سعد بن معاذ هو ابن النعمان بن امرئ القيس، وأسيد بن حضير ابن سماك وابن عتيك بن امرئ القيس (الفتح 8/ 474، والإصابة 1/ 49 و2/ 37، وأسد الغابة 1/ 111 و2/ 373) .
قالت: فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان رجلا صالحا ولكن اجتهلته الحمية، فقال لسعد ابن معاذ: "كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله".
فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: "كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين". فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا الحديث ... 1.
وفي لفظ: "وكان رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية"2.
وعند الواقدي: "وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن الغضب بلغ منه، وعلى ذلك ما غمص عليه في نفاق ولا غير ذلك إلا أن الغضب يبلغ من أهله"3.
ما رواه البخاري في المغازي: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب قال: حدثني عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا وكلهم حدثني طائفة من حديثها ثم ساق الحديث ...
وفيه: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله ابن أبي وهو على المنبر فقال: "يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهلي ... " فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل، فقال: "أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا4 من الخزرج، أمرتنا ففعلنا أمرك".
__________
1 صحيح مسلم 8/ 116 و118 من كتاب التوبة، وانظر سياق حديث الإفك، ص 205 وما بعدها.
2 صحيح مسلم 8/ 116 و118 من كتاب التوبة، وانظر سياق حديث الإفك، ص 205 وما بعدها.
3 مغازي الواقدي، 2/ 431.
(من) تبعيضية والأخرى بيانية، فتح الباري 8/ 472.
قالت: فقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه1 وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، قالت: وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد: "كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل"، وهذا محل الشاهد2.
وعند ابن إسحاق من رواية عباد بن عبد الله بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة "فقام سعد بن عبادة وكان قبل ذلك يرى رجلا صالحا، فقال: كذبت لعمر الله لا تضرب أعناقهم، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا"3ا?.
وعند ابن إسحاق بن راهويه والطبري من حديث يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن علقمة بن وقاص وغيره أيضاً قال: خرجت عائشة تريد المذهب ومعها أم مسطح وكان مسطح بن أثاثة ممن قال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس قبل ذلك فقال: "كيف ترون فيمن يؤذيني في أهلي ويجمع في بيته من يؤذيني؟ " فقال سعد بن معاذ: "أي رسول الله إن كان منا معشر الأوس جلدنا رأسه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فأطعناك"، فقال سعد بن عبادة: "يا ابن معاذ والله ما بك نصرة رسول الله، ولكنها قد كانت ضغائن4 في الجاهلية وأحن5 لم تحلل6 لنا من صدوركم" فقال ابن معاذ: "الله أعلم ما أردت".
__________
1 قال ابن حجر: "قوله: (من فخذه) بعد قوله: (بنت عمه) ، إشارة إلى أنها ليست بنت عمه لحما لأن سعد بن عبادة يجتمع معها في ثعلبة: فهو سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة ... الخ"
وهي الفريعة بنت خالد بن خنيس بن لوذان بن عبدود بن زيد بن ثعلبة. الخ، انظر فتح الباري 8/ 472 و7/ 126 من كتاب المناقب.
2 كتاب المغازي باب حديث الإفك 5/ 98- 99.
3 سيرة ابن هشام 2/ 300 غير أن ابن إسحاق صرح بوقوع المحاورة بين أسيد بن حضير وبين سعد بن عبادة، ولم يذكر في حديثه سعد بن معاذ أصلا.
4 ضغائن: جمع ضغينة وهي: الحقد والعداوة والبغضاء. النهاية لابن الأثير 3/ 91.
5 الإحن: جمع أحنة: وهي الحقد والبغضاء. المصدر السابق 1/ 27.
6 لم تحلل لنا من صدوركم: أي لم تزل كامنة لنا في صدوركم.
فقام أسيد بن حضير فقال: "يا ابن عبادة إن سعدا ليس شديدا، ولكنك تجادل عن المنافقينن وتدفع عنهم"، وكثر اللغط في المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على المنبر، فما زال النبي صلى الله عليه وسلم يومئ بيده إلى الناس ههنا وههنا حتى هدأ الصوت" الحديث1 ...
وقد صرح إسحاق بن راهويه في روايته بتحديث ابن حاطب لمحمد2 بن بشر العبدي، ولكن الذي يظهر أنه سقط من السند شيخ محمد بن بشر العبدي وهو محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، ويكون هو الذي قال: حدثنا ابن حاطب، كما هو مصرح به عند الطبري في هذا الحديث.
ويقوي هذا أن محمد بن بشر العبدي من التاسعة، وابن حاطب من الثالثة فبينهما ست طبقات3.
وفي إسناد الطبري شيخه سفيان بن وكيع بن الجراح، وهو متكلم فيه4. ولكن ما يدل عليه هذا الحديث، ثابت عند البخاري وابن إسحاق، كما أوضحت ذلك5.
خلاصة القول في ذلك:
من المعلوم أن سعد بن عبادة رئيس قبيلة الخزرج، التي منها عبد الله بن أبي ابن سلول، وأن سعد بن معاذ رئيس الأوس، وقد جرى بين السعدين رضي الله عنهما نزاع أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "من يعذرني من رجل بلغ أذاه في أهلي". الحديث.
فقام سعد بن معاذ فقال:"يا رسول الله إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك".
__________
1 مسند إسحاق بن راهويه 4/ 134، وتفسير الطبري 18/ 94.
2 في الأصل (محمد بن بسر العبدي) والتصحيح من إسناد الطبري.
3 انظر التقريب 2/ 147 و352.
4 انظر المصدر السابق 1/ 312، وتهذيب التهذيب 4/ 123- 124 وميزان الاعتدال 2/ 173.
5 انظر، ص 278- 279.
وفي هذه الكلمة من سعد بن معاذ إغفال لقيادة سعد بن عبادة لقومه الخزرج، وسبب هذا الإغفال -فيما يبدو - هو تأثر سعد بن معاذ من ألم رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الفرية على أهله.
غير أن هذا السبب الحامل لسعد بن معاذ على مقالته لم يكن ليجدي نفعا في تهدئة انفعال سعد بن عبادة الذي رأى في هذا الإغفال هضما لحقه وتنقصا لقبيلته، فقال فورا: "كذبت1 لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله"، فأثارت هذه الكلمة أيضا أسيد بن حضير ابن عم سعد ابن معاذ فقال لسعد بن عبادة: "كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق2 تجادل عن المنافقين".
وكانت هذه الكلمة القوية من أسيد بن حضير سببا في احتدام الصراع العنيف الذي دار بين الفريقين (الأوس والخزرج) وارتفعت الأصوات من كلا الجانبين وكثر اللغط وكادت تكون كارثة، تقر بها أعين الحاقدين على الإسلام وأهله، لولا أن الله سلم. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيما في معالجة الموقف، فما زال بالحيين يخفضهم وينهاهم عن هذه العصبيات الجاهلية، التي أرسل لهدمها حتى هدأ القوم وعادوا إلى صوابهم راشدين.
وكان في ذلك انتصار للمسلمين وانكسار لأعداء الله من المنافقين والمشركين.
__________
1 قوله: (كذبت) أجاب ابن التين نقلا عن الداودي أن معنى ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجعل حكمه إليك، فلذلك لا تقدر على قتله.
قال ابن حجر: "وهو حمل جيد". فتح الباري 8/ 473.
2 قوله: (فإنك منافق) الخ أجاب المازري عن هذا بما يأتي:
أ- أن ذلك وقع من أسيد على جهة الغيظ والحنق والمبالغة في زجر سعد بن عبادة، عن المجادلة عن ابن أبي وغيره، ولم يرد النفاق الذي هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر.
ب- أو أراد أن سعد بن عبادة كان يظهر المودة للأوس ثم ظهر منه في هذه القصة ضد ذلك، فأشبه حال المنافق، لأن حقيقته إظهار شيء وإخفاء غيره، ولم يرد بذلك نفاق الكفر، قال: ولعل هذا هو السبب في ترك إنكار النبي صلى الله عليه وسلم عليه. انظر فتح الباري 8/ 473- 474.
,
,
...
المبحث الأول: الانتقاد الوارد على الزهري في جمعه حديث الإفك والجواب عنه مع تخريج الحديث
تقدم في أول حديث الإفك أن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها مما قالوا: "وكلهم حدثني طائفة من حديثها ... "1.
ومن هنا انتقد على الزهري هذا في كونه لم يفرد حديث كل واحد منهم على الآخر.
وقد أجاب العلماء عن هذا بما يأتي:
أ- أجاب النووي بقوله: "هذا الذي ذكره الزهري من جمعه الحديث عنهم جائز لا مانع منه، ولا كراهة فيه، لأنه قد بين أن بعض الحديث عن بعضهم وبعضه عن بعضهم، وهؤلاء أئمة حفاظ ثقات من أجل التابعين، فإذا
__________
1 انظر الحديث، ص 205.
ترددت اللفظة من هذا الحديث، كونها عن هذا أو ذاك لم يضر، وجاز الاحتجاج بها لأنهما ثقتان".
وقد اتفق العلماء على أنه لو قال حدثني زيد أو عمرو وهما ثقتان معروفان بالثقة عند المخاطب، جاز الاحتجاج به.
وقال أيضا في أثناء تعداد فوائد الحديث1: إحداها: جواز رواية الحديث الواحد عن جماعة عن كل واحد قطعة مبهمة منه، وهذا وإن كان فعل الزهري وحده2، فقد أجمع المسلمون على قبوله منه، والاحتجاج به3.
ب- وأورد أحمد بن عبد الرحيم العراقي قول النووي هذان وزاد: وحكى القاضي عياض عن بعضهم أنه انتقد هذا على الزهري قديما، وقال: "كان الأولى أن يذكر حديث كل منهم بجهته".
ثم عقب العراقي بقوله: "ولا درك على الزهري في شيء منه، لأنه قد بين ذلك في حديثه، والكل ثقات"4.
ج- ونقل ابن حجر قول عياض هذا الذي ذكره العراقي، ثم عقب بقوله: "وقد تتبعت طرق الحديث فوجدته من رواية عروة على انفراده، ومن رواية علقمة بن وقاص على انفراده، وفي سياق كل منهما مخالفات ونقص وبعض زيادة لما في سياق الزهري عن الأربعة".
ثم قال: "وأما رواية سعيد بن المسيب وعبيد الله فلم أجدهما إلا من رواية الزهري عنهما".
ثم ذكر أن الحديث رواه جماعة عن عائشة غير مشايخ الزهري الأربعة.
وذكر أيضا أنه رواه جماعة من الصحابة غير عائشة رضي الله عنها، ثم
__________
1 حديث الإفك.
2 قلت: وهو صنيع ابن إسحاق والواقدي، أيضا. انظر سيرة ابن هشام 2/ 290 ومغازي الواقدي 1/ 404
3 شرح مسلم للنووي 5/ 628- 629 و641.
4 طرح التثريب 8/ 47.
أشار إلى الذين خرجوا هذه الروايات من العلماء. انتهى باختصار من فتح الباري 8/ 456 وفيما يلي تخريجه:
أولاً: رواية الحديث من طريق الزهري عن مشايخه الأربعة:
أ- رواية صالح بن كيسان عنه. أخرجها البخاري في المغازي باب حديث الإفك 5/ 96 و6/ 64 التفسير، باب {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرا} و8/ 114 كتاب الأيمان والنذور، باب قول الرجل لعمر الله و9/ 91 كتاب الاعتصام باب قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} وأخرجها مسلم 8/118 كتاب التوبة، وأحمد في مسنده 6/ 197 و198، وأبو يعلى في مسنده 4/ ق 447 أو 4/ ق 450 ب.
ب- رواية فليح بن سليمان عنه: أخرجها البخاري 3/ 151 كتاب الشهادات باب تعديل النساء بعضهن بعضا، ومسلم 8/ 118 كتاب التوبة وابن شيبه في تاريخ المدينة 1/ 101 وأبو يعلى في مسنده 4/ ق 444 و4/ ق 447 أ.
ج- رواية معمر بن راشد عنه: أخرجها مسلم 8/ 112 كتاب التوبة والترمذي5/17 وعبد الرزاق في المصنف 5/410 حديث الإفك وأحمد في المسند 6/194 وإسحاق بن راهويه في مسنده 4/ ق 127 ب والطبري في التفسير 18/ 89- 90.
د- رواية يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري: أخرجها البخاري 3/ 147 كتاب الشهادات، باب إذا عدل رجل أحدا فقال لا نعلم إلا خيرا و4/ 27 كتاب الجهاد والسير باب حمل الرجل امرأته في الغزو دون بعض نسائه و6/ 64 من تفسير سورة يوسف باب قوله تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} و6/84 تفسير سورة النور باب: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} و8/114كتاب الأيمان والنذور باب قول الرجل لعمر الله 9/116، كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} و9/ 127 من كتاب التوحيد باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الماهر بالقرآن مع الكرام البررة"
ومسلم 8/ 112 كتاب التوبة والترمذي 5/ 17 كتاب التفسير وأبو داود 2/ 536 كتاب السنة باب في القرآن.
هـ- رواية محمد بن إسحاق عن الزهري 2/ 297 من سيرة ابن هشام والطبري من هذه الطريق في التفسير 18/92 والتاريخ 2/611.
ثناياً: رواية الحديث عن عروة على انفراده أخرجها البخاري 3/ 154 كتاب الشهادات باب تعديل النساء بعضهن بعضا من طريق هشام بن عروة عنه و6/ 84 تفسير سورة النور باب قوله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} من طريق الزهري عنه و6/ 89 تفسير سورة النور باب قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} من طريق هشام بن عروة عنه. وكتاب الاعتصام باب قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} من طريق هشام عنه. ومسلم 8/118 كتاب التوبة من طريق هشام بن عروة عنه. والترمذي 5/13 كتاب التفسير وأحمد في المسند 6/59 من طريق هشام بن عروة عنه. وابن إسحاق2/296 سيرة ابن هشام من طريق الزهري عنه. والطبري في التاريخ 2/610- 611.
ثالثاً: رواية الحديث عن علقمة بن وقاص على انفراده، أخرجها إسحاق ابن راهويه في مسنده 4/ق 134 ب و4/ق135ب من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عنه. والطبري في التفسير 18/ 94 من هذه الطريق.
رابعاً: روابية الحديث عن عائشة من غير مشايخ الزهري:
أ- أخرجه البخاري 3/154 كتاب الشهادات باب تعديل النساء بعضهن بعضا من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر عنها.
ب- وأخرجه ابن إسحاق من طريق يحيى بن عباد عن أبيه عن عائشة ومن طريق عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن حزم عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة، سيرة ابن هشام 2/297. وأخرجه أبو داود في كتاب الحدود باب في حد القذف 2/471، والترمذي 5/17 في تفسير سورة
النور وابن ماجه 2/ 857 كتاب الحدود باب حد القذف. الجميع من طريق ابن إسحاق الثانية. مختصرا.
ج- وأخرجه عبد بن حميد في مسنده 2/ق 159 من طريق أبي عوانة عن عمر بن سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري عن أبيه عن عائشة.
د- وأخرجه الطبراني من طريق الأسود بن يزيد عنها 9/230 مجمع الزوائد للهيثمي.
خامساً: رواية الحديث عن جماعة من الصحابة غير عائشة - رضي الله عنها -:
1- أخرجه البخاري عن عبد الله بن الزبير في الشهادات باب تعديل النساء بعضهن بعضا عقب رواية فليح بن سليمان عن هشام بن عروة ولم يسق لفظه 3/ 154.
ومن حديث أم رومان 4/120 كتاب أحاديث الأنبياء باب قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} و5/100 كتاب المغازي باب حديث الإفك و6/64 تفسير سورة يوسف باب قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} و6/87 باب قوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
2- وأبو دواد الطيالسي من حديث أم رومان أيضا 2/131منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود، وأحمد في مسنده 6/367.
3- وأخرجه الطبراني من حديث ابن عمر وابن عباس وأبي اليسر1 9/236 و9/237 مجمع الزوائد للهيثمي والدر المنثور للسيوطي 5/ 29.
4- وأخرجه البزار من حديث أبي هريرة9/230 مجمع الزوائد للهيثمي.
5- وأخرجه ابن مردويه من حديث أبي هريرة وأبي اليسر5/ 27و5/29 الدر المنثور للسيوطي.
فهذه طرق هذا الحديث التي عثرت عليها.
__________
1 أبو اليسر بفتح التحتانية والمهملة هو كعب بن عمرو بن عباد، السلمي، بالفتح الأنصاري، صحابي، بدري جليل، (ت55) بالمدينة/بخ م عم. التقريب2/ 135.
,
تفرد البخاري دون مسلم بحديث مسروق عن أم رومان من طريق حصين بن عبد الرحمن وقد أورده بثلاث صيغ وهي:
أ- صيغة التحديث: حدثنا موسى1 حدثنا أبو عوانة2 عن حصين3 عن أبي وائل4 قال: حدثني مسروق5 بن الأجدع قال حدثتني أم رومان6 وهي أم عائشة قالت: "بينا أنا وعائشة أخذتها الحمى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعل في حديث تحدث؟ " قالت: "نعم"، وقعدت عائشة،
__________
1 موسى بن إسماعيل المنقري، بكسر الميم، وسكون النون وفتح القاف أبو سلمة التبوذكي، بفتح المثناة وضم الموحدة وسكون الواو وفتح المعجمة، مشهور بكنيته وباسمه، ثقة ثبت، من صغار التاسعة، ولا التفات إلى قول ابن خراش: تكلم الناس فيه، (ت223) /ع. التقريب 2/ 280.
2 هو وضاح بن عبد الله اليشكري تقدمت ترجمته.
3 حصين بن عبد الرحمن السلمي، أبو الهذيل بالتصغير الكرفي، ثقة، تغير حفظه في الآخر، من الخامسة، (ت 136) وله 93 سنة/ ع. المصدر السابق 1/ 182.
4 أبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي، أبو وائل الكوفي، ثقة، مخضرم، توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة/ع. المصدر السابق 1/ 354.
5 مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني، الوادعي، أبو عائشة الكوفي، ثقة، فقيه عابد مخضرم من الثانية، (ت62 ويقال 63) /ع. التقريب 2/ 242 وهو ابن أخت البطل الكرار عمرو بن معدي كرب الزبيدي مصغرا، وكان أبوه أفرس فارس باليمن، سماه عمر بن الخطاب مسروق بن عبد الرحمن، وقال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" الأجدع شيطان" انظر طبقات ابن سعد 6/ 76 وتذكرة الحفاظ للذهبي 1/ 49 وتهذيب التهذيب 10/ 109- 112.
والحديث الوارد في تسمية والده عبد الرحمن عند أحمد1/31 وابن سعد6/76.
6 أم رومان الفراسية زوج أبي بكر الصديق، وأم عائشة وعبد الرحمن ن صحابية، يقال اسمها زينب، وقيل دعد، زعم الواقدي ومن تبعه أنها ماتت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ونزل قبرها. والصحيح أنها عاشت بعده، ورواية مسروق عنها مصرح بالسماع منها في صحيح البخاري، وليست بخطأ كما زعم بعضهم والله أعلم /خ. التقريب 2/ 621.
قالت: "مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ، [سورة يوسف، من الآية: 18] 1.
والحديث من هذه الطريق بهذه الصيغة في التاريخ الصغير للبخاري2 وفي مسند الطيالسي، تحت رقم (2497) 3.
ب- صيغة (سألت) حدثنا محمد4 بن سلام أخبرنا ابن فضيل5، حدثنا حصين عن شقيق عن مسروق قال:" سألت أم رومان وهي أم عائشة لما قيل فيها ما قيل، قالت: "بينما أنا مع عائشة جالستان، إذ ولجت علينا امرأة من الأنصار، وهي تقول: فعل الله بفلان وفعل"، قالت: " فقلت: لم؟ " قالت: إنه نمى"6 ذكر الحديث.
فقالت عائشة: "أي حديث؟ " فأخبرتها، قالت: "فسمعه أبو بكر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " قالت: "نعم"، فخرت مغشيا عليها، فما أفاقت إلا وعليها حمى7 بنافض، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما لهذه؟ " قلت: "حمى أخذتها من أجل حديث تحدث به"، فقعدت، قالت: "والله لئن حلفت لا تصدقوني ولئن اعتذرت لا تعذروني، فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبنيه، فالله المستعان على ما تصفون"، فانصرف النبي صلى
__________
1 البخاري كتاب التفسير 6/ 64 باب قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} سورة يوسف آية:18 و5/ 100 كتاب المغازي باب حديث الإفك وهو أتم سياقا.
2 تاريخ البخاري الصغير ص 22.
3 منحة المعبود بترتيب مسند الطيالسي أبي داود، للبنا الشهير بالساعاتي 2/ 131.
4 هو البيكندي. تقدمت ترجمته
5 هو محمد بن فضيل بن غزوان بفتح المعجمة وسكون الزاي، الضبي، مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفي، صدوق عارف، رمي بالتشيع، من التاسعة، (ت295) /ع. التقريب 2/ 200.
6 نمى ذكر الحديث بالتشديد معناه: بلغ الحديث على وجه الإفساد والنميمة. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/ 121.
7 حمى بنافض: أي برعدة شديدة، كأنها نفضتها أي حركتها. المصدر السابق5/97.
الله عليه وسلم فأنزل الله ما أنزل فأخبرها فقالت: "بحمد الله لا بحمد أحد"1. والحديث بهذا الإسناد وبهذه الصيغة عند البخاري في تاريخه الصغير2.
ج- صيغة (العنعنة) حدثنا محمد3 بن كثير أخبرنا سليمان4 عن حصين عن أبي وائل عن مسروق عن أم رومان أم عائشة أنها قالت: "لما رميت عائشة خرت5 مغشيا عليها"6 والحديث بهذا الإسناد وبهذه الصيغة عند البخاري في تاريخه الصغير7.
وهو عند أحمد أيضا بهذه الصيغة من طريق أبي جعفر الرازي8 وعلي بن عاصم9 عن حصين10. وعلى هذا فالبخاري يرى أن مسروقا سمع من أم رومان قطعا وأنها عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك فقد أورد في تاريخه الصغير الرواية المصرحة بسماع مسروق من أم رومان.
__________
1 البخاري4/120 كتاب أحاديث الأنبياء باب قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} .
2 انظر ص 22.
3 محمد بن كثير العبدي، البصري، ثقة، لم يصب من ضعفه، من العاشرة (ت223) وله 90 سنة/ ع. التقريب 2/ 203.
4 سليمان بن كثير العبدي، البصري، أبو داود وأبو محمد، لا بأس به في غير الزهري، من السابعة، (ت 133) /ع. المصدر السابق 1/ 329.
5 خرت مغشيا عليها: أي سقطت مغمى عليها. النهاية لابن الأثير2/21 و3/369.
6 البخاري 6/ 87- 88 كتاب التفسير باب قوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
7 انظر، ص 22.
8 أبو جعفر الرازي، التميمي مولاهم، مشهور بكنيته، واسمه عيسى بن أبي عيسى عبد الله بن ماهان، وأصله من مرو، صدوق سيء الحفظ، خصوصا عن مغيرة، من كبار السابعة، (ت في حدود 1609 /بخ عم. التقريب 2/ 406.
9 علي بن عاصم بن صهيب الواسطي التميمي مولاهم، صدوق يخطئ ويصر ورمي بالتشيع من التاسعة، (ت201) وقد جاوز التسعين/د ت ق. المصدر السابق2/39.
10 مسند أحمد 6/ 367.
ثم أورد بعد ذلك حديث علي بن زيد الوارد فيه أن أم رومان ماتت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "وروى علي1 بن زيد عن القاسم2، ماتت أم رومان زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عقب بقوله: وفيه نظر، وحديث مسروق أسند"3.
قال ابن حجر: "يعني أصح إسنادا وهو كما قال". انتهى4.
وقد صرح بسماع مسروق من أم رومان.
وجزم جماعة من العلماء5 بأن مسروقا لم يدرك أم رومان اعتمادا على رواية علي بن زيد هذه المصرحة بأن أم رومان ماتت زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قدوم مسروق إلى المدينة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم وهم البخاري في إدخاله هذه الحديث في الصحيح وتصريحه فيه بأن مسروقا سمع من أم رومان.
وقد انتصر لقول البخاري هذا ابن القيم وابن حجر وردا على القائلين بغيره.
وهذا نص كلام ابن القيم قال: "ومما وقع في حديث الإفك: أن في
__________
1 علي بن زيد بن عبد الله بن زهير بن عبد الله بن جدعان بضم الجيم وسكون الدال المهملة، التيمي البصري، أصله حجازي، وهو المعروف بعلي بن زيد بن جدعان، ينسب أبوه إلى جد جده، ضعيف من الرابعة (ت 131) وقيل قبلها /بخ م عم. المصدر السابق 2/ 37.
2 القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، التيمي، ثقة أحد الفقهاء بالمدينة قال أيوب: "ما رأيت أفضل منه، من كبار الثالثة" (ت 106) على الصحيح / ع. المصدر السابق2/120.
3 تاريخ البخاري الصغير، ص 22 والحديث في طبقات ابن سعد وهذه نصه: "أخبرنا يزيد بن هارون وعفان بن مسلم قالا: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن القاسم بن محمد قال: لما دليت أم رومان في قبرها"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أم رومان" وفي حديث عفان: "ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبرها" 8/ 276.
4 هدي الساري مقدمة فتح الباري، ص 373.
5 سيأتي تسمية بعضهم في كلام ابن حجر، ص 296.
بعض طرق البخاري عن أبي وائل1: عن مسروق قال: "سألت أم رومان عن حديث الإفك فحدثتني"2.
قال غير واحد: وهذا غلط ظاهر، فإن أم رومان ماتت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبرها، وقال: "من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى هذه".
قالوا: ولو كان مسروق قدم المدينة في حياتها وسألها للقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه، ومسروق إنما قدم المدينة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وقد روى مسروق عن أم رومان حديثا غير هذا، فأرسل الرواية عنها، فظن بعض الرواة أنه سمع منها، فحمل هذا الحديث على السماع.
قالوا: ولعل مسروقا قال: سئلت أم رومان فتصحفت على بعضهم سألت لأن بعض الناس من يكتب الهمزة بالألف على كل حال. ثم عقب بقوله: وقال آخرون: كل هذا لا يرد الرواية الصحيحة التي أدخلها البخاري في صحيحه، وقد قال إبراهيم الحربي3 وغيره: إن مسروقا سألها وله خمس عشرة سنة، ومات وله ثمان وسبعون سنة4، وأم رومان أقدم من حدث عنه.
قالوا: وأما حديث موتها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزوله في قبرها فحديث لا يصح وفيه علتان تمنعان صحته.
__________
1 هو شقيق بن سلمة الأسدي.
2 هذا الجمع بين "سألت أم رومان فحدثتني" لم يرد في البخاري مجموعا في حديث واحد. انظر سياق الحديث، ص 290 وما بعدها.
3 هو الإمام الحافظ شيخ الإسلام أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق، البغدادي أحد الأعلام روى عن أبي نعيم وعبد الله بن صالح العجلي، ومسدد وطبقتهم. وتفقه على الإمام أحمد فكان من جلة أصحابه، وعنه ابن صاعد وأبو بكر القطيعي وخلق ولد سنة 198 وتوفي سنة 285هـ. تذكرة الحفاظ للذهبي 2/ 584- 586.
4 وكانت وفاته سنة (63) انظر تذكرة الحفاظ للذهبي 1/ 49- 50 وتهذيب التهذيب لابن حجر 10/ 111.
إحداهما: رواية علي بن زيد بن جدعان له، وهو ضعيف الحديث لا يحتج بحديثه.
والثانية: أنه رواه عن القاسم بن محمد عن النبي صلى الله عليه وسلم، والقاسم لم يدرك زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يقدم هذا على حديث إسناده كالشمس يرويه البخاري في صحيحه ويقول فيه مسروق: سالت أم رومان فحدثتني، وهذا يرد أن يكون اللفظ سئلت، وقد قال أبو نعيم1 في كتاب معرفة الصحابة قد قيل: إن أم رومان توفيت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو وهم". انتهى كلام ابن القيم2.
__________
1 هو الحافظ الكبير محدث العصر أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق ابن موسى، أبو نعيم الأصبهاني، صاحب كتاب معرفة الصحابة وحلية الألياء، وكتاب دلائل النبوة، وكتاب المستخرج على البخاري والمستخرج على مسلم، وغيرها. أجاز له مشايخ الدنيا وعمره ست سنين، منهم أبو العباس الأصم وخيثمة بن سليمان الأطرابلسي وغيرهم سمع من أبي القاسم الطبراني وأبي بكر الآجري وأبي الشيخ بن حيان وعنه الخطيب البغدادي وهبة الله بن محمد الشيرازي وأبو صالح المؤذن.
ولد سنة 336هـ وتوفي سنة 430هـ. تذكرة الحفاظ للذهبي 3/ 1092- 1097.
2 زاد المعاد 2/ 129 وانظر إرشاد الساري شرح صحيح البخاري 7/ 178، وساق ابن كثير حديث مسروق من طريق أحمد بن حنبل عن علي بن عاصم عن حصين عن أبي وائل عن مسروق عن أم رومان وقال عقبه:
تفرد به البخاري دون مسلم من طريق حصين، وقد رواه البخاري عن موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة وعن محمد بن سلام عن محمد بن فضيل كلاهما عن حصين به، وفي لفظ أبي عوانة حدثتني أم رومان، وهذا صريح في سماع مسروق منها، وقد أنكر ذلك جماعة من الحفاظ منهم الخطيب البغدادي، وذلك لما ذكره أهل التاريخ أنها ماتت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الخطيب: "وقد كان مسروق يرسله فيقول: سئلت أم رومان ويسوقه، فلعل بعضهم كتب سئلت بألف اعتقد الراوي أنها وسألت فظنه متصلا، قال الخطيب وقد رواه البخاري كذلك ولم تظهر له علته".كذا قال والله أعلم.
ورواه بعضهم عن مسروق عن عبد الله بن مسعود عن أم رومان فالله أعلم. انظر تفسير ابن كثير3/272. قلت: رواية مسروق عن ابن مسعود أوردها المزي في تهذيب الكمال9/131 يؤيد بها قول الخطيب بأن مسروقا لم يدرك أم رومان. وردها ابن حجر بقوله: وهذه الرواية شاذة وهي من المزيد في متصل الأسانيد. انظر فتح الباري 7/ 438.
وأورد ابن حجر هذا الاعتراض على حديث مسروق في خمسة من كتبه وبين أن المتصدر في هذا القول هو الخطيب1 البغدادي، وتبعه في ذلك جماعة من العلماء منهم: ابن عبد البر2 والسهيلي3 وابن سيد الناس4 والحافظ المزي5 والذهبي6 والعلائي7 وآخرون.
وذكر أن مما أعل به الخطيب حديث مسروق كون حصين اختلط فلعله حدث به بعد اختلاطه.
وهذا معنى كلام الخطيب قال: "أخرج البخاري عن مسروق عن أم رومان - رضي الله عنها - وهي أم عائشة طرفا من حديث الإفك وهو وهم، لم يسمع مسروق من أم رومان رضي الله عنها لأنها توفيت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لمسروق حين توفيت ست سنين"، قال: "وخفيت هذه العلة على البخاري، وأظن مسلما فطن لهذه العلة، فلم يخرج له، ولو صح هذا لكان مسروق صحابيا لا مانع له من السماع من النبي صلى الله عليه وسلم، والظاهر أنه مرسل، قال: ورأيته في تفسير سورة يوسف من الصحيح عن مسروق قال: سألت أم رومان" فذكره، قال: "وهو من رواية حصين عن شقيق، وحصين اختلط فلعله حدث به بعد اختلاطه، وقد رأيته في رواية أخرى8 عنه عن
__________
1 أورد ذلك في كتابه (المراسيل) ، كما في تهذيب الكمال للمزي9/131 والإصابة لابن حجر 4/ 451 وذكر ابن حجر في الإصابة أيضا أن أبا علي بن السكن سبق الخطيب إلى تعليل رواية مسروق هذه فقال في كتاب الصحابة في ترجمة أم رومان بأنها ماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أشار إلى رواية البخاري عن حصين عن أبي وائل عن مسروق سألت أم رومان ثم قال: "هذا خطأ تفرد به حصين، ويقال إن مسروقا لم يسمع من أم رومان لأنها ماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم". الإصابة لابن حجر 4/ 452.
2 انظر الاستيعاب 4/ 448- 452.
3 في الروض الأنف 6/ 440.
4 في عيون الأثر 2/ 101.
5 تهذيب الكمال 9/ 131.
6 في تجريد أسماء الصحابة 2/ 336.
7 في جامع التحصيل في أحكام المراسيل 2/ 674.
8 هذه الرواية أوردها العلائي في (جامع التحصيل في أحكام المراسيل) فقال: ورواه أبو سعيد الأشج عن ابن فضيل فقال فيه: عن مسروق قال: "سئلت أم رومان وهي أم عائشة فذكر القصة" 2/ 675.
شقيق عن مسروق قال: سئلت أم رومان فلعل قوله في رواية البخاري سألت تصحيف من سئلت". انتهى1.
ثم عقب ابن حجر على هذا بقوله: "وعندي أن الذي وقع في الصحيح هو الصواب والراجح، وذلك أن مستند هؤلاء في انقطاع هذا الحديث2، إنما هو ما روى علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف أن أم رومان ماتت سنة ست وأن النبي صلى الله عليه وسلم حضر دفنها".
ثم قال ابن حجر: "وقد نبه البخاري في تاريخه الأوسط والصغير على أنها رواية ضعيفة، فقال في (فصل) من مات في خلافة عثمان قال علي بن زيد عن القاسم: ماتت أم رومان زمن النبي صلى الله عليه وسلم سنة ست"3.
ثم قال البخاري: "وفيه نظر، وحديث مسروق أسند"4.
قال ابن حجر: "يعني أصح إسنادا وهو كما قال5، وقد جزم إبراهيم الحربي بأن مسروقا سمع من أم رومان وله خمس عشرة سنة، فعلى هذا يكون سماعه منها في خلافة عمر بن الخطاب لأن مولد مسروق كان في سنة الهجرة، ولهذا قال أبو نعيم الأصبهاني: "عاشت أم رومان بعد النبي صلى الله عليه وسلم دهرا".
ثم قال ابن حجر: "ومما يدل على ضعف رواية علي بن زيد بن جدعان:
__________
1 هدي الساري مقدمة فتح الباري، ص 373.
2 يعني حديث مسروق.
3 هذه الرواية لعلها في التاريخ الأوسط، أما في التاريخ الصغير ففيه أن أم رومان توفيت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بدون تحديد. انظر التاريخ الصغير للبخاري، ص 22.
4 المصدر السابق، ص 22.
5 وقال في الإصابة 4/ 452 أثناء رده على الخطيب ومن تبعه: "وأول من فتح هذا الباب صاحب الصحيح - يعني البخاري - فإنه ذكر رواية مسروق ورجحها على رواية علي بن زيد"، قال ابن حجر: "وهو كما قال، لأن مسروقا متفق على ثقته"، وعلي بن زيد متفق على سوء حفظه".
قلت: وقال البخاري وأبو حاتم وابن خزيمة: "لا يحتج به". انظر ميزان الاعتدال 3/ 127- 129.
أ- ما ثبت في الصحيح م رواية أبي عثمان1 النهدي عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن الصديق رضي الله عنهما أن أصحاب الصفة2 كانوا ناسا فقراء، فذكر الحديث في قصة أضياف أبي بكر، وفيه قال: قال عبد الرحمن: إنما هو أنا وأمي وامرأتي وخادم بيتنا. الحديث3 ...
وفي بعض طرقه عند البخاري في كتاب الأدب فلما جاء أبو بكر قالت له أمي: احتبست عن أضيافك. الحديث"4 ...
وأم عبد الرحمن هي أم رومان لأنه شقيق عائشة، وعبد الرحمن إنما أسلم بعد سنة ست، وقد ذكر الزبير بن بكار من طريق ابن عيينة عن علي بن زيد أن إسلام عبد الرحمن كان قبل الفتح، وكان الفتح في رمضان سنة ثمان، فبان ضعف ما قال علي بن زيد في تقييده وفاة أم رومان بسنة ست، مع ما اشتهر من سوء حفظه في غير ذلك فكيف تعل به الروايات الصحيحة المعتمدة.
ب- ما رواه الإمام أحمد في مسنده أن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بي" فقال: "يا عائشة إني عارض عليك أمرا فلا تعجلي فيه بشيء حتى تعرضيه على أبويك أبي بكر وأم رومان" قالت: "قلت: يا رسول الله وما هو؟ " قال: " قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ ... } الآية إلى قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} ، [سورة الأحزاب، من الآيتان: 28-29] .
__________
1 أبو عثمان النهدي بفتح النون وسكون الهاء، هو عبد الرحمن بن مل بلام ثقيلة والميم مثلثة، مشهور بكنيته، مخضرم من كبار الثانية، ثقة ثبت عابد، (ت 95) وقيل بعدها وعاش 130 سنة وقيل أكثر/ ع. التقريب 1/ 499.
2 قال ابن حجر: "الصفة: مكان في مؤخر المسجد النبوي مظلل أعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل، وكانوا يكثرون فيه ويقلون بحسب من يتزوج منهم أو يموت أو يسافر". انظر فتح الباري 6/ 595 وهدي الساري مقدمة فتح الباري، ص 145.
3 انظر: البخاري 4/ 155 كتاب المناقب باب علامات النبوة في الإسلام.
4 المصدر السابق 8/ 28 كتاب الأدب باب قول الضيف لصاحبه لا آكل حتى تأكل
و1/ 103 كتاب مواقيت الصلاة باب السمر مع الضيف والأهل.
قالت: "فقلت: فإني أريد الله تعالى ورسوله والدار الآخرة، ولا أؤامر في ذلك أبا بكر وأم رومان، فضحك".
وهذا إسناد جيد، وأصله في الصحيحين1 بلفظ: "استأمري أبويك" ولم يسمهما، والتخيير كان في سنة تسع، والحديث دال على أن أم رومان كانت إذ ذاك موجودة، فبان وهم علي بن زيد ومن معه2.
قلت: حديث أحمد المشار إليه هو: حدثنا محمد3 بن بشر قال: ثنا محمد4 بن عمرو ثنا أبو سلمة عن عائشة قالت: "لما أنزلت آية التخيير5، قال: بدأ بعائشة فقال: "يا عائشة: إني عارض عليك أمرا فلا تفتاتن6 فيه
__________
1 وهذا نصه في الصحيحين: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمر الله أن يخير أزواجه، فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن تستعجلي حتى تستأمري أبويك، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه"،قالت: ثم قال:"إن الله قال": {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِِزْوَاجِك} إلى تمام الآيتين، فقلت له: "ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله، والدار الآخرة"، البخاري 6/ 97 تفسير سورة الأحزاب واللفظ له، ومسلم 4/ 185- 186 من كتاب الطلاق.
2 هدي الساري مقدمة فتح الباري، ص: 373 وفتح الباري7/ 438 وتهذيب التهذيب12/467-469، وتقريب التهذيب2/621 والإصابة 4/450-452.
3 محمد بن بشر العبدي، أبو عبد الله الكوفي، ثقة حافظ من التاسعة، (ت 203) /ع. التقريب 2/ 147.
4 محمد بن عمرو هو ابن وقاص الليثي، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن الزهري تقدمت ترجمتهما.
5 هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} ، كما هو موضح في الحديث.
6 فلا تفتاتن بفتح التاء الأولى وسكون الفاء، وكسر التاء الأخيرة بعدها نون مشددة مفتوحة يقال افتات فلان افتياتا إذا سبق بفعل شيء فاستبد برأيه فيه ولم يؤامر من هو أحق بالأمر فيه. المصباح المنير 2/138 (مادة فوت) .
بشيء حتى تعرضيه على أبويك أبي بكر وأم رومان"، قالت: "أي رسول الله وما هو؟ "
قال: " قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} "، [سورة الأحزاب، الآيتان: 28-29] .
قالت: "إني أريد الله ورسول والدار الآخرة، ولا أؤامر في ذلك أبوي أبا بكر وأم رومان"، قالت: "فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم استقرأ1 الحجر" فقال: "إن عائشة قالت: كذا وكذا"، قال: "فقلن مثل الذي قالت عائش"2.
قلت: الحديث رجاله رجال الجماعة إلا أن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص أخرج له البخاري مقرونا بغيره وتعليقا ومسلم في المتابعات، وهو حسن الحديث3.
وخلاصة القول في هذه المسألة أن اعتراض الخطيب ومن تبعه على البخاري في سماع مسروق من أم رومان يتلخص فيما يلي:
دعوى وفاة أم رومان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم سنة ست أكثر تقدير.
أنه حصل تصحيف في الرواية فإن مسروقا كان يرسله فيقول: سئلت أم رومان فتصحف على بعضهم (سألت) .
__________
1 استقرأ الحجر: أي تتبع أفرادها. المصدر السابق 1/ 160.
2 مسند أحمد 6/ 211- 212.
3 انظر: هدي الساري مقدمة فتح الباري، ص 441.
اختلاط حصين1 بن عبد الرحمن الذي مدار الحديث عليه.
والجواب عن هذا أن يقال:
أما دعوى وفاة أم رومان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم سنة ست أو قبل ذلك فإنهم استندوا في ذلك على حديث علي بن زيد بن جدعان وفيه علتان: ضعف علي بن زيد والانقطاع بين القاسم بن محمد والرسول صلى الله عليه وسلم لأن القاسم تابعي من كبار الثالثة كما هو معروف2.
وعلى هذا فلا تقوم بالحديث حجة، كيف وقد عارضته أحاديث أخرى صحيحة ذكرت أن أم رومان كانت موجودة سنة تسع كما في قصة تخييره صلى الله عليه وسلم بين نسائه، وذلك سنة تسع بالاتفاق، ذكر ذلك ابن حجر3، وفي هذه القصة أن الرسول صلى الله عليه وسلم عرض الأمر على عائشة وقال لها: لا تعجلي فيه بشيء حتى تعرضيه على أبويك أبي بكر وأم رومان، ولهذا جزم إبراهيم الحربي وأبو نعيم بأن وفاتها كانت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بزمن.
وأما دعوى التصحيف فإنها ضعيفة لأمرين:
الأول: أن في صحيح البخاري التصريح بالتحديث فدل على أن دعوى تصحيف سألت عن (سئلت) غير صحيحة.
الثاني: أن توهيم الثقات بدون حجة قاطعة باطل عند أهل العلم وهذا نوع من التوهيم بدون دليل.
__________
1 قال عنه ابن حجر: "حصين بن عبد الرحمن السلمي أبو الهذيل الكوفي متفق على الاحتجاج به، إلا أنه تغير في آخر عمره، وأخرج له البخاري من حديث شعبة والثوري، وزائدة وأبي عوانة، وأبي بكر بن عياش وأبي كدينة إلى أن قال: فأما شعبة والثوري وزائدة وهشيم فسمعوا منه قبل تغيره، وأما حصين بن نمير فلم يخرج له البخاري من حديثه سوى حديث واحد، وأما محمد بن فضيل ومن ذكر معه، فأخرج من حديثهم ما توبعوا عليه". انظر هدي الساري مقدمة فتح الباري، ص 398. قلت: وهذا الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه ورد عن أبي عوانة ومحمد بن فضيل وسليمان بن كثير العبدي وعلي بن عاصم بن صهيب الواسطي وأبي جعفر الرازي التميمي خمستهم عن حصين بن عبد الرحمن.
2 انظر ترجمته في: التقريب 2/ 120.
3 انظر: فتح الباري 7/ 438.
وأما اختلاط حصين بن عبد الرحمن فيجاب عنه من أوجه:
أ- أن يكون البخاري أخرج له قبل اختلاطه ثم طرأ عليه الاختلاط بعد ذلك، وهذا هو المظنون بالبخاري.
ب- أن يكون البخاري أخرج له ما تأكد من حفظه له دون ما فيه شبهة الاختلاط، وهذا لا مانع منه لأن الممنوع في رواية المختلط ما كانت بعد اختلاطه أو لم تعرف هل هذه الرواية قبل الاختلاط أو بعده، وتحري البخاري ومعرفته بعلل الحديث يرشداننا إلى أنه لا يروي عن مختلط إلا ما حفظه وكان ثابتا فيه.
ج- ما أجاب به ابن حجر في مقدمة الفتح في سياق أسماء من طعن فيهم من رجال الصحيح، قال: "وقبل الخوض فيه ينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأي راو كان مقتض لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين، وهذا معنى لم يحصل لغير من خرج عنه في الصحيح فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما هذا إذا خرج له في الأصول، فأما إن خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط وغيره مع حصول اسم الصدق لهم".
وحينئذ إذا وجدنا لغيره في أحد منهم فذلك الطعن مقابل لتعديل هذا الإمام، فلا يقبل إلا مبين السبب مفسرا بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي في ضبطه مطلقا أو في ضبطه لخبر بعينه لأن الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح متفاوتة منها ما يقدح ومنها ما لا يقدح، وقد كان الشيخ أبو الحسن1 المقدسي يقول في الرجل الذي يخرج عنه في الصحيح: "هذا جاز القنطرة"، يعني لا يلتفت إلى ما قيل فيه.
__________
1 هو علي بن الفضل بن علي بن حاتم بن حسن بن جعفر الحافظ العلامة المفتي شرف الدين أبو الحسن ابن القاضي الأنجب أبي المكارم المقدسي، ثم الإسكندراني المالكي، سمع صحيح البخاري من القاضي أبي عبيدة نعمة بن زيادة الله الغفاري عن عيسى بن أبي ذر الهروي. (ت611?) تذكرة الحفاظ للذهبي4/1390-1392.
قال الشيخ أبو الفتح1 القشيري في مختصره: "هكذا نعتقد وبه نقول ولا نخرج عنه إلا بحجة ظاهرة وبيان شاف يزيد في غلبة الظن على المعنى الذي قدمناه من اتفاق الناس بعد الشيخين على تسمية كتابيهما بالصحيحين، ومن لوازم ذلك رواتهما"2.
د- ما أجاب به ابن حجر أيضا عن الأحاديث المنتقدة جملة:
قال: "والجواب عنه على سبيل الإجمال أن نقول لا ريب في تقدم البخاري ثم مسلم على أهل عصرهما ومن بعده من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعلل، فإنهم لا يختلفون في أن علي بن المديني كان أعلم أقرانه بعلل الحديث وعنه أخذ البخاري ذلك، حتى كان يقول ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني، ومع ذلك كله فكان علي بن المديني إذا بلغه ذلك عن البخاري، يقول: دعوا قوله ما رأى مثل نفسه".
وكان محمد بن يحيى الذهلي أعلم أهل عصره بعلل حديث الزهري، وقد استفاد منه ذلك الشيخان جميعا.
وروى الفربري3 عن البخاري قال: ما أدخلت في الصحيح حديثا إلا بعد أن استخرت الله تعالى وتيقنت صحته.
وقال مكي4 بن عبدان سمعت مسلم بن الحجاج يقول: عرضت كتابي
__________
1 هو محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن دقيق العيد القشيري المنفلوطي الصعيدي، المالكي، والشافعي صاحب التصانيف منها العدة شرح العمدة والإلمام، وكتابا في علوم الحديث اسمه الاقتراح، ولد سن (625هـ) وتوفي سنة (792هـ) تذكرة الحفاظ للذهبي 4/ 1481- 1483.
2 هدي الساري مقدمة فتح الباري الفصل التاسع، ص 384.
3 هو محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر أبو عبد الله الفربري، بفتح الفاء وكسرها، وسكون الموحدة وكسر الراء الثانية، راوية صحيح البخاري، وكان سماعه للصحيح مرتين: مرة بفربر سنة (248) ومرة سنة (253هـ) ، كانت وفاته سنة (320) فتح الباري 1/5 وتذكرة الحفاظ للذهبي 3/798.
4 مكي بن عبدان بن محمد بن بكر بن مسلم بن راشد، أبو حاتم التميمي محدث نيسابور، وراوي كتب مسلم بن الحجاج عنه. ولد سنة (242هـ) وتوفي سنة (325هـ) انظر كتاب التمييز لمسلم بن الحجاج، ص 114 وتذكرة الحفاظ للذهبي 2/ 588 و3/ 822.
وقد وقع في هدي الساري مقدمة فتح الباري (مكي بن عبد الله) وهو تحريف. انظر هدي الساري ص 347.
هذا على أبي زرعة1 الرازي، فكل ما أشار أن له علة تركته.
ثم قال ابن حجر: "فإذا عرف وتقرر أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له، أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عندهما، فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون قوله معارضا لتصحيحهما، ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما فيندفع الاعتراض من حيث الجملة"2 ا?.
وبهذا التقرير الذي سقناه عن ابن حجر وغيره يتضح أن البخاري مقدم على غيره، من علماء هذا الشأن، لا سيما الخطيب البغدادي ومن تبعه، فيما أخرجه في كتابه الصحيح من المتون وفيمن أخرج لهم من الرواة، وذلك لتقدم البخاري في هذا الفن ودقة فهمه فيه، وبوجه أخص إذا نظرنا إلى مستند الخطيب ومن وافقه في توهيم البخاري، نجدهم استندوا إلى حجة ضعيفة وقد سبق بيان ضعفها، فبان رجحان قول البخاري هنا في سماع مسروق من أم رومان على قول الخطيب وموافقيه، والله أعلم.
__________
1 هو عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ، أبو زرعة الرازي، إمام حافظ ثقة مشهور، من الحادية عشرة (ت 264هـ) / م ت س ق. التقريب 1/ 536.
2 هدي الساري مقدمة فتح الباري الفصل الثامن، ص 346- 347.
,
تقدم الحديث الوارد في ذلك عند أصحاب السنن وأحمد وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها. ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل القرآن ببراءة عائشة، أمر بحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش، فضربوا حدهم.
والخلاف في عبد الله بن أبي ابن سلول فالأكثر على أنه لم يقم عليه حد، وقد تقدم تحقيق ذلك في مبحث إقامة الحد على القاذفين1
__________
1 انظر ص 234 وما بعدها.
,
...
المبحث الثامن: حكم من قذف عائشة - رضي الله عنها -
قال ابن تيمية في الصارم المسلول تحت عنوان: حكم من سب عائشة:
"قال القاضي1 أبو يعلى: من قذف عائشة بما برأها الله منه كفر بلا خلاف. وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد. وصرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم. ثم ذكر بعض الوقائع التي قتل فيها من رماها رضي الله عنها بعد نزول القرآن ببراءتها"2.
وقال ابن القيم: "اتفقت الأمة على كفر قاذفها"3.
وقال ابن كثير - تحت قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، [سورة النور الآية: 23] :
__________
1 القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء الحنبلي شيخ الحنابلة صاحب التصانيف وفقيه عصره، كان إماما لا يدرك قراره ولا يشق غباره، ولي قضاء الحريم، وجميع الطائفة معترفون بفضله ومغترفون من بحره. انظر العبر في خبر من غبر للذهبي 3/243- 244.
2 الصارم النسلول على شاتم الرسول ص 565- 567 وص 571.
3 زاد المعاد 1/41.
"أجمع العلماء قاطبة على أن من سب عائشة رضي الله عنها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية، فإنه كافر، لأنه معاند للقرآن"1.
وقال بدر الدين الزركشي: "من قذفها فقد كفر لتصريح القرآن الكريم ببراءتها"2.
وقال السيوطي في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} ، [سورة النور، من الآية: 11] الآيات: قال: "نزلت في براءة عائشة فيما قذفت به، فاستدل به الفقهاء على أن قاذفها يقتل لتكذيبه لنص القرآن، قال العلماء: قذف عائشة كفر لأن الله سبح نفسه عند ذكره3، فقال: {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} ، كما سبح نفسه عند ذكر ما وصفه به المشركون من الزوجة والولد4.
وقال النووي أثناء تعداد فوائد حديث الإفك: "الحادية والأربعون: براءة عائشة من الإفك وهي براءة قطعية بنص القرآن العزيز فلو تشكك فيها إنسان - والعياذ بالله- صار كافرا مرتدا بإجماع المسلمين، قال ابن عباس وغيره: لم تزن امرأة نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهذا إكرام من الله تعالى لهم"5.
__________
1 تفسير ابن كثير 3/276.
2 الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ص 52.
3 الضمير في (ذكره) يعود على قصة الإفك.
4 الإكليل في استنباط التنزيل ص 160 وانظر المحلى لابن حزم 13/504 والشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض2/309 والروض الأنف للسهيلي 6/449-450 وكتاب محمد الخرشي على مختصر خليل 5/316. والإقناع لشرف الدين الحجاوي الحنبلي 4/299 وكشاف القناع عن متن الإقناع لمنصورر ابن يونس البهوتي الحنبلي 6/171، وأحكام المرتدين في الشريعة الإسلامية للدكتور نعمان عبد الرزاق السامرائي ص 111.
5 شرح صحيح مسلم للنووي 5/643.