ظلّ النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى التوحيد الخالص. وهذا أمر معلوم، لكن ليس معنى هذا أنه لم يكن يدعو إلا إلى التوحيد فقط، بل كان يدعو إلى صدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، والنهي عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة (1) ، إلاّ أن تركيزه صلى الله عليه وسلم على الجانب العقدي كان أكثر. والحق أن التركيز على الجانب العقدي في غاية الأهمية؛ لأنّ الإيمان إذا وقر في القلب انتفت جميع الشوائب المؤدية إلى زعزعة الإيمان، وقد آتت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المكية وتركيزه على الجانب العقدي ثمارها يلحظ من قرأ تاريخ حروب الردة التي أعقبت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلم نجد أحداً ارتد من المهاجرين والأنصار أبداً، وما ذلك إلا لرسوخ الإيمان في قلوبهم رضوان الله عليهم أجمعين.
وعلى هذا فالواجب على الدعاة اليوم غرس العقيدة الصحيحة في النفوس أولاً مع الاهتمام أيضاً بالجوانب الأخرى التي مرّ ذكرها آنفاً.
وعندما يركز الداعية اهتمامه على الجانب العقدي، فلا بد أن يدرك معنى قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" (2) .
والحقّ أنّ تلك المضغة إذا وقر الإيمان فيها، منعت صاحبها من الوقوع في الفواحش بأنواعها.
__________
(1) انظر: مسند أحمد (3/266،263) ، رقم (1740) من حديث أم سلمة، وهو حديث حسن، فقد صرح ابن إسحاق فيه بالتحديث.
(2) البخاري، رقم (52) ، ومسلم، رقم (4094) .
الأمر الثالث: أنّ السيرة النبوية مصدر مَعِين لمن يريد التبحر في علوم الشريعة
فعن طريق السيرة تعرف قضية الناسخ والمنسوخ من الآيات والأحاديث، وهي ناحية مهمة جدّاً يترتب عليها كثير من الأحكام الشرعية (1) .
كما أن من معرفة نزول الآيات وأسبابها من الأمور المهمة التي بمعرفتها تعرف أحداث السيرة النبوية كتلك التي نزلت في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم.
أيضاً هناك بعض الأمور التي لا يستغني عن معرفتها أي طالب علم فضلاً عن العلماء، وذلك مثل المعجزات التي أجراها الله على يدي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فمعرفتها تزيد - ولا شك - في الإيمان، وكذا معرفة ما كابده صلى الله عليه وسلم من مشاق في سبيل تبليغ هذا الدين وصبره على ذلك.
__________
(1) مصادر السيرة النبوية وتقويمها، ص (62-63) بتصرف.
المبحث الثاني: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية الاجتماعية