"ثم سرية عمرو بن العاصي" بالياء على الصحيح الذي عليه الجمهور كما مر أول الكتاب "رضي الله عنه إلى ذات السلاسل" بمهملتين الأولى مفتوحة على المشهور، وبه جزم البكري على لفظ جمع السلسلة قيل سمي المكان بذلك، لأنه كان به رمل بعضه على بعض كالسلسلة، وضبطها ابن الأثير بالضم.
قال: وهو بمعنى السلسال أي السهل، قاله: في الفتح في المناقب، ولذا قال ابن القيم بضم السين وفتحها لغتان، وتبرأ الشامي منه وقوله وصاحب القاموس مع سعة اطلاعه لم يحك إلا الفتح غير قادح فمن حفظ حجة، كيف وقد صرح البرهان بأن غير ذكر اللغتين الضم والفتح وهو المشهور والمجد، وإن اتسع اطلاعه فلم يحط باللغة ولم يستوعبها، وقدمت عن
وسميت بذلك لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفروا. وقيل: لأن بها ماء يقال له: السلسل، وراء ذات القرى، من المدينة على عشرة أيام.
وكانت في جمادى الآخرة سنة ثمان، وقيل: كانت سنة سبع، وبه جزم ابن أبي خالد في كتاب صحيح التاريخ. ونقل ابن عساكر الاتفاق على أنها كانت بعد غزوة مؤتة، إلا ابن إسحاق فقال: قبلها.
وسببها: أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن جمعا من قضاعة.
__________
الفتح وجه تسميتها بذلك في المناقب وهو صريح في قدم التسمية قبل السرية.
"و" قال هنا ما حكاه المصنف إلا أنه أسقط منه قوله أوله: قيل: "سميت بذلك لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفروا", وهذا ظاهر في حدوثه بعدها.
ولعل المراد انضموا والتصقوا أخذا من تعبيره بإلى دون الباء لا أنهم ارتبطوا بالفعل؛ لأنه يكون سببا في الظفر بهم، ولعل هذا وجه قول الشامي أغرب من قال هذا القول أو لمنافاته لما في القصة من أنه أتاهم على غفلة وهربوا وتفرقوا إلا أن يقال: تجمعوا أولا خوف الفرار. ثم لما قرب المسلمون منهم ألقي الرعب في قلوبهم فهربوا.
"وقيل: لأن بها ماء يقال له: السلسل" وبه جزم ابن إسحاق وغيره.
وفي القاموس السلسل كجعفر وخلخال الماء العذب أو البارد كالسلاسل بالضم "وراء ذات القرى" مر له نظيره مرتين وتقدم تأويله والذي عند ابن سعد، كما في الفتح: وراء وادي القرى "من المدينة على عشرة" أي بينها وبين المدينة عشرة "أيام وكانت في جمادى الآخرة سنة ثمان" كما قاله ابن سعد والجمهور فيكون تأمير عمرو عقب إسلامه بنحو أربعة أشهر على ما صدر به المصنف فيما مر أنه كان في صفر سنة ثمان.
وفي الشامية أن بعثه كان بعد سنة من إسلامه وهو إنما يأتي على قول الحاكم أسلم سنة سبع، وقيل كانت سنة سبع" حكاهما ابن سعد، "وبه جزم ابن أبي خالد في كتاب صحيح التاريخ، ونقل ابن عساكر الاتفاق على أنها كانت بعد غزوة مؤتة إلا ابن إسحاق فقال: قبلها", وهو قضية ما ذكر عن ابن سعد، وابن أبي خالد قاله الحافظ وتعقبه الشامي بأنه غير واضح إن ابن سعد قال: كانت في جمادى الآخرة سنة ثمان وإن مؤتة في جمادى الأولى منها، وأما ابن إسحاق فالذي في رواية البكائي عنه تأخيرها عن مؤتة بعد غزوات وسرايا ولم يذكر أنها قبلها فيحتمل أنه نص على ما ذكره ابن عساكر في رواية غير زياد البكائي، "وسببها" كما قال ابن سعد: "أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن جمعا من قضاعة" هم كما قال ابن إسحاق عن يزيد عن عروة، هي أي ذات
قد تجمعوا للإغارة فعقد له لواء أبيض وجعل معه راية سوداء، وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار. ومعهم ثلاثون فرسا.
فسار الليل وكمن النهار، فلما قرب منهم بلغه أن لهم جمعا كثيرا، فبعث رافع بن مكيث -بفتح الميم- الجهني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح، وعقد له لواء.
__________
السلاسل بلاد بلى وعذرة وبني القين نقله عنه البخاري.
قال الحافظ: الثلاثة بطون من قضاعة وبلى بفتح الموحدة وكسر اللام الخفيفة بعدها ياء النسب قبيلة كبيرة ينسبون إلى بلى بن عمرو بن الحارث بن قضاعة، وعذرة بضم العين المهملة وسكون الذال المعجمة قبيلة كبيرة ينسبون إلى عذرة بن سعد ونسبه إلى قضاعة وبنو القين بفتح القاف وسكون التحتية قبيلة كبيرة ينسبون إلى القين ونسبه إلى قضاعة، قال: ووهم ابن التين. فقال: بنو القين قبيلة من تميم "قد تجمعوا للإغارة" وأرادوا أن يدنوا من أطراف المدينة، كما هو المنقول عن ابن سعد، وذكر ابن إسحاق أن أم أبيه العاصي بن وائل كانت من بلى فبعث صلى الله عليه وسلم عمرا يستفز العرب إلى الشام ويستألفهم.
قال في الروض: واسمها سلمى فيما ذكر الزبير، وأما أم عمرو فهي ليلى تلقب بالنابغة.
قال الحافظ: ويمكن الجمع بين السببين. انتهى.
وروى أحمد والبخاري في الأدب صححه أبو عوانة، وابن حبان، والحاكم عن عمرو بن العاصي. قال بعث إليّ النبي صلى الله عليه وسلم يأمرني أن آخذ ثيابي، وسلاحي، فقال: "يا عمرو إني أريد أن أبعثك على جيش فيغنمك الله ويسلمك". قلت: إني لم أسلم رغبة في المال، قال: "نعم المال الصالح للمرء الصالح". "فعقد له لواء أبيض وجعل معه راية سوداء، وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والنصار" بفتح المهملة، وقد تضم جمع سري بفتح فكسر وهو النفيس الشرف وقيل السخي ذو مروءة، قاله ابن الأثير.
قال الجوهري: وهو جمع عزيز أن يجمع فعيل على فعلة ولا يعرف غيره، وفي القاموس أنه اسم جمع "ومعهم ثلاثون فرسا" قال ابن سعد وأمره أن يستعين بمن مر به من بلى وعذرة وبلقين "فسار الليل وكمن النهار فلما قرب منهم" بأن وصل إلى الماء المسمى بالسلاسل "بلغه أن لهم جمعا كثيرا فبعث رافع" براء وفاء "ابن مكيث بفتح الميم" وكسر الكاف وسكون التحتية وبمثلثة "الجهني" بضم الجيم وفتح الهاء والنون صحابي شهد الحديبية والفتح ومعه لواء جهينة "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده"، أي: يطلب منه مددا أي جيشا يعينونه "فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح" القرشي أمين هذه الأمة، "وعقد له لواء" لم نر من عين لونه إلا قوله في بعض
وبعث معه مائتين من سراة المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يكونا جميعا ولا يختلفا.
فأراد أبو عبيدة أن يؤم الناس فقال عمرو: إنما قدمت عليّ مددا، وأنا الأمير، فأطاع له بذلك أبو عبيدة، فكان عمرو يصلي بالناس.
وسار حتى وصل إلى العدو: بلى وعذرة، فحمل عليهم المسلمون غافلين، فهربوا في البلاد وتفرقوا.
__________
النسخ أبيض ولا أخال صحتها، "وبعث معه مائتين من سراة المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما وأمره أن يلحق بعمرو وأن يكونا" الظاهر أنها ناقصة خبرها "جميعا" أي مجتمعين، ويجوز أنها تامة وجميعا حال وهو قيد في عاملها لكن الأول أتم فائدة لجعله جزء الكلام "ولا يختلفا" بيان للمراد من الاجتماع، كأنه قال: كونا متفقين غير مختلفين "فأراد أبو عبيدة أن يؤم الناس فقال عمرو: إنما قدمت عليّ مددا" معينا ومقويا "وأنا الأمير" ولا إمارة لك حتى تؤم.
وعند ابن إسحاق: قال أبو عبيدة: لا ولكني على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه وكان أبو عبيدة رجلا لينا سهلا هينا عليه أمر الدنيا. فقال له عمرو: بل أنت مدد لي، فقال أبو عبيدة: يا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: "لا تختلفا". وإنك إن عصيتني أطعتك. قال: فإني الأمير عليك وأنت مدد لي. قال: فدونك "فأطاع له بذلك أبو عبيدة فكان عمرو يصلي بالناس وسار حتى وصل إلى العدو بلى" بالجر بدل قبيلة كبيرة من قضاعة "وعذرة" قبيلة كبيرة أيضا تنسب إلى عذرة بن سعد هذيم بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بضم اللام ابن الحارث بن قضاعة، "فحمل عليهم المسلمون غافلين، فهربوا في البلاد وتفرقوا".
والمصنف اختصر كلام ابن سعد وما وفى به فأوهم أنه لم يقع بينهم حرب ولفظه بعد قوله يصلي بالناس وسار حتى وجأ بلاد بلى ودوخها حتى أتى إلى أقصى بلادهم وبلاد عذرة وبلقين ولقي في آخر ذلك جمعا، فحمل عليهم المسلمون فهربوا في البلاد وتفرقوا، وبعث عوف بن مالك الأشجعي بريدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بقفولهم وسلامتهم، وما كان في غزاتهم.
وذكر موسى بن عقبة نحو هذه القصة وبلقين أي بني القين كقولهم بلحارث في بني الحارث ودوخها بفتح المهملة وشد الواو وخاء معجمة استولى عليها وقهرها وعند الواقدي أنهم لما لقوا ذلك الجمع وليسوا بالكثير اقتتلوا ساعة وحمل المسلمون عليهم، فهزموهم وتفرقوا وأقام هناك أياما، وكان يبعث الخيل فيأتون بالشاء والنعم فينحرون ويأكلون، ولم يكن في ذلك
...............................
__________
غنائم تقسم وقال البلاذري: فلقي العدو من قضاعة وغيرهم وكانوا مجتمعين ففضهم أي فرقهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وغنم وهذا يعضده قوله صلى الله عليه وسلم: "فيغنمك الله ويسلمك". كما مر.
وروى ابن راهويه والحاكم عن بريدة أن عمرو بن العاصي أمرهم في تلك الغزوة أن لا يوقدوا نارا فأنكر عمر ذلك، فقال له أبو بكر: دعه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثه إلا لعلمه بالحرب، فسكت عنه.
وروى ابن حبان عن عمرو بن العاصي أنهم سألوه أن يوقدوا نارا فمنعهم، فكلموا أبا بكر فكلمه في ذلك، فقال: لا يوقد أحد نارا إلا قذفته فيها. قال: فلقوا العدو فهزموهم فأرادوا أن يتبعوهم فمنعهم فلما انصرفوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال: كرهت أن آذن لهم أن يوقدوا نارا فيرى عدوهم قلتهم، وكرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد فحمد أمره، فقال: يا رسول الله! من أحب الناس إليك.
قال الحافظ: فاشتمل هذا السياق على فوائد زوائد ويجمع بينه وبين حديث بريدة بأن أبا بكر سأله فلم يجبه فسلم له أمره أو ألحوا على أبي بكر حتى سأله فلم يجبه.
أخرج الشيخان والترمذي، والنسائي وغيرهم دخل حديث بعضهم في بعض عن عمرو أنه قال: قدمت من جيش ذات السلاسل فحدثت نفسي أنه لم يبعثني على قوم فيهم أبو بكر، وعمر إلا لمنزلة لي عنده، فأتيته حتى قعدت بين يديه، فقلت: يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة". فقلت: إني لست أعني النساء إنما أعني الرجال. فقال: "أبوها". فقلت: ثم من؟ قال. "ثم عمر بن الخطاب". فعد رجالا فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم وقلت في نفسي لا أعود أسأله عن هذا، وفي الحديث جواز تأمير المفضول على الفاضل، إذا امتاز المفضول بصفة تتعلق بتلك الولاية وفضل أبي بكر على الرجال وبنته على النساء ومنقبة لعمرو بن العاصي لتأميره على جيش فيهم أبو بكر وعمر, وإن لم يقتض ذلك أفضليته عليهم لكن يقتضي أن له فضلا في الجملة، وقد قال رافع الطائي: هذه الغزوة هي التي يفتخر بها أهل الشام.
"سرية الخبط":
ثم سرية أبي عبيدة بن الجراح.
__________