ليلة ١٤ من ربيع الأول سنة ٣هـ، بالقرب من جنوب المدينة
قادها الصحابي محمد بن مسلمة - رضي الله عنه-، وكان ابن أخت كعب، وأربعة من الصحابة من الأنصار من قبيلة الأوس وهم : عباد بن بشر وأبو نائلة، وكان أخًا لكعب بن الأشرف من الرضاعة، والحارث بن عيسى والحارث بن أوس.
كان كعب بن الأشرف من أشد اليهود حنقًا على الإسلام والمسلمين، وإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتَظاهُرا بالدعوة إلى حربه صلى الله عليه وسلم بالتآمر مع سادات قريش، كما عرّض بالعفيفات من المسلمات في أشعاره.
كان كعب بن الأشرف أحد سادات العرب الأثرياء والمعروفين بجمالهم، وكان يجيد قرض الشعر، وهو من قبيلة طيء من بني نبهان، وأمه من بني النضير، وقد عرف حصنه بشرق جنوب المدينة.
وكان كعب يعطي أحبار اليهود ويصلهم، ما لم يصالحوا المسلمين، فإذا ما فعلوا كيهود بني قريظة حين كتبوا المعاهدات سلبهم حقوقهم، ومن تلك الفعال نزل قول الحق عزَّ وَجلَّ : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: ٧٥]
ولما انتصر الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر وقَدِم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة مبشرين لأهل المدينة بذلك وصارا يقولان قُتِل فلان وفلان وأُسر فلان وفلان من أشراف قريش، صار كعب يُكَذِّب في ذلك ويقول هؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، والله إن كان محمد قتل هؤلاء القوم فبطن الأرض خير من ظهرها.
يقال إنه خرج في سبعين راكبًا من اليهود إلى مكة؛ ليحالفوا قريشًا على الرسول صلى الله عليه وسلم، فنزلوا على أبي سفيان، وقد طلب إليهم السجود لصنمين كي لا يكون حِلفه مع أهل كتاب مثل المسلمين، ففعلوا، ونزل قول الحق عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا ) [النساء: ٥١] وحالف كعب قريشًا عند أستار الكعبة على قتال المسلمين، فخرج من مكة للمدينة، فلما وصل إلى المدينة وصار يشبب بنساء المسلمين. أي: يتغزل فيهن ويذكرهن بالسوء حتى آذاهن.
وقيل إن كعب بن الأشرف صنع طعامًا وواطأ جماعة من اليهود أن يدعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطعام، فإذا حضر يفتكون به، ثم دعاه، فجاء صلى الله عليه وسلم ومعه بعض أصحابه، فأعلمه جبريل عليه السلام بما أضمروه بعد أن جالسه، فلم يجدوه بينهم وقد أرخى ملك الوحي عليه الستر، فتفرقوا.
وقد ظل كعب يحرض قريش بشعره على المسلمين، كقوله:
طَحَنَتْ رَحَى بَدْرٍ لِمَهْلِكِ أَهْلِهِ ... وَلِمِثْلِ بَدْرٍ تَسْتَهِلُّ وَتَدْمَعُ
قُتِلَتْ سَرَاةُ النَّاسِ حَوْلَ حِيَاضِهِمْ ... لَا تَبْعَدُوا إنَّ الْمُلُوكَ تُصَرَّعُ
وهنا خاطب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه: «مَنْ لِي بِابْنِ الْأَشْرَفِ؟»، وأجابه مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وقد مكث أيامًا ثلاث لا يذوق الزاد والشراب إلا ما يقيم الرمق، حرصًا على الوفاء بما تعهد به، فأعانه النبي محمد صلى الله عليه وسلم بتجنيد أربعة معه لأداء المهمة: أَبُو نَائِلَةَ ، َعَبَّادُ بْنُ بِشْرِ، َالْحَارِثُ بْنُ أَوْسِ وَأَبُو عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ، أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ.
كانت الخطة أن يجيء الصحابة لكعب على أنهم يرغبون بشراء طعام من عنده في مقابل رهن شيء من متاعهم، وقد جذب معه أبو نائلة أطراف الحديث وتناشدا الشعر، وأفهمه بأنهم يرغبون عن دين محمد الذي عاداهم العرب بسببه، ورمتهم القبائل، وقطعت عنهم السبل، وجهدت النفس، وقد طلب كعب الخبيث رهن نسائهم في البداية، ولما رفض أبو نائلة بحجة جماله، طلب رهن ابنائهم، ورفض كي لا تعايرهم القوم، فكان رهن السلاح هو المدخل للقدوم إليه مجددا، وكان محمد بن سلمة قد فعل ما فعله أبو نائلة من قبله.
ولما جاءت الليلة الموعودة، قال لهم الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم «انْطَلِقُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ، اللَّهمّ أَعِنْهُمْ» ولما ذهبوا لحصن كعب، توجست امرأته وشعرت بأنهم يضمرون شرًا، ولكن كعبا سعى لطمأنتها قائلًا أنهم أقرباؤه، وطلبوا أن يتمشوا معه إلى شعب العجوز المجاورة، وبالفعل مرت ساعة فساعة، وأبو نائلة يدخل يده في رأس كعب المعطرة ويشمه، وكأنه يستطيب رحيه، وكانت امرأته من أعطر نساء العرب، وفي إحدى المرات، أمسك برأسه ونادى أصحابه، فتعانقت سيوفهم والتصق بأبي نائلة، وأطلق صيحة مدوية أيقظت الحصون المجاورة، وجعلت نيرانها تشتعل جميعا، وهنا طعنه محمد بن مسلمة طعنة قوية في خصره وسقط، وجاءوا يكبرون حاملين رأسه للنبي صلى الله عليه وسلم، فكبر معهم وكان قائم يصلي لله، وتفل على جرح الْحَارِثُ بْنُ أَوْسِ بْنِ مُعَاذٍ، الذي أصابته بعض أسياف رفاقه بالسرية بالخطأ.
لما علمت اليهود بمصرع طاغيتها كعب بن الأشرف، دَبَّ الرعب في قلوبهم العنيدة، وعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يتوانى في استخدام القوة حين يرى أن النصح لن يجدي نفعًا لمن يريد العبث بالأمن، وإثارة الاضطرابات، وعدم احترام المواثيق، فلم يحركوا ساكنًا لقتل طاغيتهم، بل لزموا الهدوء، وتظاهروا بإيفاء العهود، واستكانوا كالأفاعي حين تسرع لجحورها تختبئ، وهكذا تفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم -إلى حين- لمواجهة الأخطار التي كان يتوقع حدوثها خارج المدينة
الحرب خدعة، وامتلاك القوة لردع من يستخف بدين الله والمسلمين، مع مناصحتهم في البداية، وهي قوة يمتلكها ولي الأمر حصرًا، ورجاله الثقات.
ويستفاد أن أعداء الله لا خلاق لهم ولا ذمة، فقد أراد كعب بن الأشرف لعنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يذل المسلمين فيرهن نسائهم وأولادهم، ثم لما قوبل طلبه بالرفض ممن استدرجوه بالحديث، قبل برهن السلاح مقابل إقراضهم.
"السيرة النبوية" لابن هشام 2/60، "السيرة الحلبية" فصل مقتل كعب بن الأشرف، "زاد المعاد" لابن القيم 2/91