فقد كان صلّى الله عليه وسلّم أنجد النّاس وأشجعهم.
قال عليّ رضي الله تعالى عنه: لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو [أقرب] إلى العدوّ. وكان من أشدّ النّاس يومئذ بأسا.
وقال أيضا [رضي الله تعالى عنه] : كنّا إذا حمي «1» البأس ولقي القوم
__________
(1) في نسخة: احمرّ.
القوم.. اتّقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فما يكون أحد أقرب إلى العدوّ منه.
وقيل: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قليل الكلام، قليل الحديث، فإذا أمر النّاس بالقتال.. تشمّر.
وكان [صلّى الله عليه وسلّم] من أشدّ النّاس بأسا، وكان الشّجاع هو الّذي يقرب منه في الحرب؛ لقربه من العدوّ.
وقال عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما: ما لقي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كتيبة إلّا كان أوّل من يضرب.
وقالوا: وكان قويّ البطش. ولمّا غشيه المشركون.. نزل عن بغلته، فجعل يقول: «أنا النّبيّ لا كذب، أنا ابن عبد المطّلب» ، فما رئي يومئذ أحد أشدّ منه.
وسأل رجل البراء رضي الله تعالى عنه: أفررتم يوم حنين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟! قال: نعم، لكنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يفرّ، كان هوازن رماة، وإنّا لمّا حملنا عليهم انكشفوا؛ فأكببنا على الغنائم، فاستقبلتنا بالسّهام.
ثمّ قال: ولقد رأيته على بغلته البيضاء- وأبو سفيان بن الحارث اخذ بلجامها- وهو يقول: «أنا النّبيّ لا كذب، أنا ابن عبد المطّلب» ، فما رئي يومئذ أحد كان أشدّ منه.
وعن العبّاس رضي الله تعالى عنه قال: لمّا التقى المسلمون والكفّار.. ولّى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم يركّض بغلته نحو الكفّار، وأنا اخذ بلجامها أكفّها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان اخذ بركابه.
وقد كان أبيّ بن خلف يقول للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين افتدى يوم بدر: عندي فرس أعلفها كلّ يوم فرقا من ذرة أقتلك عليها، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أنا أقتلك إن شاء الله تعالى» . فلمّا راه يوم أحد شدّ أبيّ على فرسه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاعترضه رجال من المسلمين، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هكذا؛ أي: خلّوا طريقه، وتناول الحربة من الحارث بن الصّمّة [رضي الله تعالى عنه] ؛ فانتفض بها انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشّعراء عن ظهر البعير إذا انتفض.
ثمّ استقبله النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مرارا- وقيل: بل كسر ضلعا من أضلاعه- فرجع إلى قريش يقول:
قتلني محمّد. وهم يقولون: لا بأس بك.
فقال: لو كان ما بي بجميع النّاس لقتلهم، أليس قد قال: «أنا أقتلك» ؟! والله لو بصق عليّ.. لقتلني. فمات بسرف في قفولهم إلى مكّة.
و (الفرق) : مكيال يسع [ستّة عشر] رطلا؛ كلّ رطل مئة وثلاثون درهما «1» .
و (الشّعراء) : ذباب أحمر- وقيل: أزرق- يقع على الإبل فيؤذيها أذى شديدا.
__________
(1) أي أن الفرق يعادل (6500) غراما. أما الدرهم فيعادل (125، 3) غراما.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أحسن النّاس، وأجود النّاس، وأشجع النّاس. ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق النّاس قبل الصّوت، فاستقبلهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد سبق النّاس إلى الصّوت، وهو يقول: «لن تراعوا.. لن تراعوا» ، وهو على فرس لأبي طلحة عري، ما عليه سرج، والسّيف في عنقه، فقال: «لقد وجدته بحرا» .
وهذا الفرس اسمه: (المندوب) .
وفي رواية للبخاريّ: إنّ أهل المدينة فزعوا مرّة، فركب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فرسا لأبي طلحة كان يقطف، فلمّا رجع.. قال:
«وجدنا فرسكم هذا بحرا» ، فكان بعد لا يجارى.
قوله (بحرا) البحر: الفرس الجواد الواسع الجري.
و (يقطف) : يقال قطف الفرس في مشيه: إذا تضايق خطوه.
و (القطوف من الدّوابّ وغيرها) : البطيء.
الباب السّادس في صفة عبادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصلاته، وصومه، وقراءته
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأوّل في صفة عبادته صلّى الله عليه وسلّم وصلاته
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا أتقاكم لله تعالى، وأشدّكم له خشية» .
وفي «صحيح البخاريّ» : «إنّي لأعلمكم بالله، وأشدّكم له خشية» .
وفيه: عن أبي هريرة رضي الله [تعالى] عنه: «لو تعلمون ما أعلم..
لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» .
وفي «صحيح مسلم» : عن أنس رضي الله [تعالى] عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «والّذي نفس محمّد بيده، لو رأيتم ما رأيت.. لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» . قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: «رأيت الجنّة والنّار» .
وعن المغيرة بن شعبة وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما قالا: صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى انتفخت قدماه، فقيل له: أتتكلّف هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟! قال: «أفلا أكون عبدا شكورا؟!» .
قال الباجوريّ: (واستشكل هذا قديما وحديثا.. بأنّه صلّى الله عليه وسلّم لا ذنب عليه؛ لكونه معصوما.
وأحسن ما قيل فيه: أنّه من باب (حسنات الأبرار.. سيّئات المقرّبين) ، إذ الإنسان لا يخلو عن تقصير، من حيث ضعف العبوديّة مع عظمة الرّبوبيّة، وإن كان صلّى الله عليه وسلّم في أعلى المقامات وأرفع الدّرجات في عباداته وطاعاته.
وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» .
ولذلك قيل: المغفرة قسمان:
مغفرة للعوامّ، وهي: مسامحتهم من الذّنوب.
ومغفرة للخواصّ، وهي: مسامحتهم من التّقصير) اهـ
وعن الأسود بن يزيد [رحمه الله تعالى] قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باللّيل فقالت: كان ينام أوّل اللّيل، ثمّ يقوم، فإذا كان من السّحر.. أوتر، ثمّ أتى فراشه، فإذا كان له حاجة.. ألمّ بأهله، فإذا سمع الأذان.. وثب، فإن كان جنبا.. أفاض عليه من الماء، وإلّا.. توضّأ وخرج إلى الصّلاة.
وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أنّه بات عند ميمونة أمّ المؤمنين وهي خالته رضي الله تعالى عنها قال: فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في طولها، فنام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتّى إذا انتصف اللّيل، أو قبله بقليل،
أو بعده بقليل.. فاستيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجعل يمسح النّوم عن وجهه، ثمّ قرأ العشر الايات الخواتيم من سورة (ال عمران) ؛ أي: الّتي أوّلها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى اخر السّورة ثمّ قام إلى شنّ معلّق فتوضّأ منها، فأحسن الوضوء، ثمّ قام يصلّي.
قال عبد الله بن عبّاس: فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده اليمنى على رأسي، ثمّ أخذ بأذني اليمنى ففتلها- وفي رواية: فأخذ بأذني؛ فأدارني عن يمينه- فصلّى ركعتين، ثمّ ركعتين، ثمّ ركعتين، ثمّ ركعتين، ثمّ ركعتين، ثمّ ركعتين (ستّ مرّات) ، ثمّ أوتر، ثمّ اضطجع حتّى جاءه المؤذّن، فقام فصلّى ركعتين خفيفتين، ثمّ خرج فصلّى الصّبح.
وفي «الصحيح» : عن أنس [رضي الله تعالى عنه] : أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يتوضّأ عند كلّ صلاة.
وعن ابن عبّاس أيضا «1» [رضي الله تعالى عنه] ؛ قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصلّي من اللّيل ثلاث عشرة ركعة.
وعن عائشة رضي الله عنها: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا لم يصلّ باللّيل؛ منعه من ذلك النّوم، أو غلبته عيناه.. صلّى من النّهار ثنتي عشرة ركعة.
__________
(1) غير مناسب الإتيان به هنا بعد حديث أنس، إذ يوهم أن حديث أنس من حديث ابن عباس، ومحل الحديث- والله أعلم- بعد حديث بيتوتته صلّى الله عليه وسلّم عند ميمونة رضي الله تعالى عنها.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قام أحدكم من اللّيل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين» .
وعن زيد بن خالد الجهنيّ رضي الله تعالى عنه أنّه قال: لأرمقنّ صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتوسّدت عتبته، أو فسطاطه، فصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعتين خفيفتين، ثمّ صلّى ركعتين طويلتين.. طويلتين.. طويلتين.
ذكر لفظ «طويلتين» ثلاث مرّات؛ للتّأكيد مبالغة في طولهما.
ثمّ صلّى ركعتين وهما دون اللّتين قبلهما، ثمّ صلّى ركعتين؛ وهما دون اللّتين قبلهما، ثمّ صلّى ركعتين؛ وهما دون اللّتين قبلهما، ثمّ صلّى ركعتين؛ وهما دون اللتين قبلهما، ثمّ أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة.
وعن أبي سلمة بن عبد الرّحمن- رحمه الله تعالى- أنّه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها: كيف كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رمضان؟
فقالت: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليزيد في رمضان، ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة؛ يصلّي أربعا لا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ، ثمّ يصلّي أربعا لا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ، ثمّ يصلّي ثلاثا.
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: قلت: يا رسول الله؛ أتنام قبل أن توتر؟ فقال: «يا عائشة؛ إنّ عينيّ تنامان، ولا ينام قلبي» .
وعن عائشة أيضا رضي الله تعالى عنها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي من اللّيل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة، فإذا فرغ منها.. اضطجع على شقّه الأيمن.
وعن عائشة أيضا [رضي الله تعالى عنها] قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي من اللّيل تسع ركعات. أي: في بعض الأوقات.
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما: أنّه صلّى مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من اللّيل، قال: فلمّا دخل في الصّلاة.. قال:
«الله أكبر ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة» .
قال: ثمّ قرأ (البقرة) ، ثمّ ركع؛ فكان ركوعه نحوا من قيامه، وكان يقول: «سبحان ربّي العظيم، سبحان ربّي العظيم» ، ثمّ رفع رأسه؛ فكان قيامه نحوا من ركوعه، وكان يقول: «لربّي الحمد، لربّي الحمد» ، ثمّ سجد؛ فكان سجوده نحوا من قيامه، وكان يقول:
«سبحان ربّي الأعلى، سبحان ربّي الأعلى» ، ثمّ رفع رأسه فكان ما بين السّجدتين نحوا من السّجود، وكان يقول: «ربّ اغفر لي، ربّ اغفر لي» حتّى قرأ (البقرة) ، و (ال عمران) ، و (النّساء) ، و (المائدة) ، أو (الأنعام) ؛ أي: أنّه صلّى أربع ركعات قرأ في الأولى: (البقرة) ، وفي الثّانية: (ال عمران) ، وفي الثّالثة: (النّساء) ، وفي الرّابعة:
(المائدة) أو (الأنعام) . والشّكّ فيهما من شعبة راوي هذا الحديث.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باية من القران ليلة.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: صلّيت ليلة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يزل قائما حتّى هممت بأمر سوء. قيل له: وما هممت به؟ قال: هممت أن أقعد وأدع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي جالسا فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين- أو أربعين- اية.. قام فقرأ وهو قائم، ثمّ ركع وسجد، ثمّ صنع في الرّكعة الثّانية مثل ذلك.
وعن عبد الله بن شقيق [رحمه الله تعالى] قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في تطوّعه؟ فقالت:
كان يصلّي ليلا طويلا قائما، وليلا طويلا قاعدا، فإذا قرأ وهو قائم.. ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو جالس.. ركع وسجد وهو جالس.
وعن حفصة [رضي الله تعالى عنها] زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي في سبحته- أي: نافلته قاعدا، ويقرأ بالسّورة ويرتّلها حتّى تكون أطول من أطول منها «1» .
وعن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت: والّذي نفسي بيده،
__________
(1) أي حتى يصير وقت قراءة السورة القصيرة- كالأنفال مثلا- لاشتمالها على الترتيل والوقوف عند معاني الايات أطول من الوقت الذي تقرأ فيه السورة الطويلة كالأعراف- في الأحوال العادية.
ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى كان أكثر صلاته قاعدا، إلّا المكتوبة.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يدع قيام اللّيل، وكان إذا مرض أو كسل.. صلّى قاعدا.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: صلّيت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعتين قبل الظّهر، وركعتين بعده، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته.
وعن حفصة رضي الله تعالى عنها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي ركعتين خفيفتين حين يطلع الفجر.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يدع ركعتي الفجر في السّفر ولا في الحضر، ولا في الصّحّة ولا في السّقم.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: حفظت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثماني ركعات: ركعتين قبل الظّهر، وركعتين بعده، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء.
قال ابن عمر: وحدّثتني حفصة بركعتي الغداة، ولم أكن أراهما من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وعن معاذة [رحمها الله تعالى] قالت: قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها: أكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصلّي الضّحى؟ قالت: نعم..
أربع ركعات، ويزيد ما شاء الله عزّ وجلّ.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي الضّحى ستّ ركعات.
وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصلّي الضّحى حتّى نقول لا يدعها، ويدعها حتّى نقول لا يصلّيها.
وعن أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يدمن أربع ركعات عند زوال الشّمس، فقلت: يا رسول الله؛ إنّك تدمن هذه الأربع ركعات عند زوال الشّمس؟ فقال:
«إنّ أبواب السّماء تفتح عند زوال الشّمس، فلا ترتج حتّى يصلّى الظّهر، فأحبّ أن يصعد لي في تلك السّاعة خير» ؛ قلت: أفي كلّهنّ قراءة؟
قال: «نعم» ، قلت: هل فيهنّ تسليم فاصل؟ قال: «لا» .
ومعنى (لا ترتج) : لا تغلق.
وعن أمّ هانىء رضي الله تعالى عنها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل بيتها يوم فتح مكّة فاغتسل، فسبّح- أي: صلّى ثمان ركعات ما رأيته صلّى الله عليه وسلّم صلّى صلاة قطّ أخفّ منها، غير أنّه كان يتمّ الرّكوع والسّجود.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخفّ النّاس صلاة في تمام.
وعن أبي واقد اللّيثيّ رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم أخفّ النّاس صلاة على النّاس، وأطول النّاس صلاة لنفسه.
وعن عبد الله بن سعد رضي الله تعالى عنه قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الصّلاة في بيتي، والصّلاة في المسجد؟ قال:
«قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد، فلأن أصلّي في بيتي أحبّ إليّ من أن أصلّي في المسجد؛ إلّا أن تكون صلاة مكتوبة» ؛ أي: لتحصل البركة للبيت وأهله، وتنزل الملائكة، وليذهب عنه الشّيطان.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتدّ البرد.. بكّر بالصّلاة، وإذا اشتدّ الحرّ.. أبرد بالصّلاة.
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يكون في المصلّين إلّا كان أكثرهم صلاة، ولا يكون في الذّاكرين إلّا كان أكثرهم ذكرا.
وعن حذيفة رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا حزبه- وفي رواية: حزنه- أمر.. صلّى؛ أي: إذا نزل به همّ، وأصابه غمّ.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل منزلا.. لم يرتحل منه حتّى يصلّي فيه ركعتين.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ أن يليه المهاجرون والأنصار في الصّلاة؛ ليحافظوا عنه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يفارق مصلّاه سواكه ومشطه.
وروى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والتّرمذيّ، والنّسائيّ، وابن ماجه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا انصرف من صلاته.. استغفر (ثلاثا) ، ثمّ قال: «اللهمّ؛ أنت السّلام، ومنك السّلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» .
الفصل الثّاني في صفة صومه صلّى الله عليه وسلّم
عن عبد الله بن شقيق [رحمه الله تعالى] قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صيام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قالت: كان يصوم حتّى نقول قد صام- أي: داوم الصّوم- فلا يفطر، ويفطر حتّى نقول قد أفطر- أي: داوم الإفطار- فلا يصوم.
قالت: وما صام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شهرا كاملا منذ قدم المدينة.. إلّا رمضان.
وسئل أنس رضي الله تعالى عنه عن صوم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: كان يصوم من الشّهر حتّى نرى ألايريد أن يفطر منه، ويفطر حتّى نرى ألايريد أن يصوم منه شيئا، وكنت لا تشاء أن تراه من اللّيل مصلّيا إلّا رأيته مصلّيا، ولا نائما إلّا رأيته نائما.
وعن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: ما رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصوم شهرين متتابعين إلّا شعبان ورمضان.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لم أر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم في شهر أكثر من صيامه في شعبان، كان يصوم شعبان إلّا قليلا، بل كان يصومه كلّه.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم من غرّة كلّ شهر ثلاثة أيّام، وقلّما كان يفطر يوم الجمعة «1» .
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتحرّى صوم الإثنين والخميس.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس، فأحبّ أن يعرض عملي وأنا صائم» .
وعن أبي هريرة [رضي الله تعالى عنه] أيضا قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكثر ما يصوم الإثنين والخميس، فقيل له.. فقال:
«الأعمال تعرض كلّ إثنين وخميس؛ فيغفر لكلّ مسلم.. إلّا المتهاجرين «2» ، فيقول: أخّروهما [حتّى يصطلحا] » .
وعن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكثر صومه السّبت والأحد «3» ، ويقول: «هما يوما عيد المشركين فأحبّ أن أخالفهم» .
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النّبيّ صلّى الله عليه
__________
(1) لكنه صلّى الله عليه وسلّم كان يضمه إلى الخميس أو السبت؛ فلا يخالف هذا حديث النهي عن إفراده بالصوم.
(2) أي: المسلمين المتقاطعين.
(3) أي: معا؛ لأنّ إفرادهما كيوم الجمعة مكروه.
وسلّم يصوم من الشّهر السّبت والأحد والإثنين، ومن الشّهر الاخر الثّلاثاء والأربعاء والخميس.
وعن معاذة [رحمها الله تعالى] قالت: قلت لعائشة: أكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر؟ قالت: نعم، قلت:
من أيّها كان يصوم؛ أي: من أيّ أيّامه؟ قالت: كان لا يبالي من أيّها صام؛ أي: من أوّله، ومن وسطه، ومن اخره.
وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يدع صوم أيّام البيض في سفر ولا حضر.
و (أيّام البيض) : اليوم الثّالث عشر من الشّهر، والرّابع عشر، والخامس عشر. وسمّيت بيضا؛ لأنّ القمر يطلع فيها من أوّلها إلى اخرها.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان عاشوراء «1» يوما تصومه قريش في الجاهليّة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصومه، فلمّا قدم المدينة.. صامه وأمر بصيامه، فلمّا افترض رمضان.. كان رمضان هو الفريضة، وترك عاشوراء، فمن شاء.. صامه، ومن شاء.. تركه.
وعن عليّ رضي الله [تعالى] عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم يوم عاشوراء، ويأمر به.
وعن حفصة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه
__________
(1) هو اليوم العاشر من المحرّم.
وسلّم يصوم تسع ذي الحجّة ويوم عاشوراء، وثلاثة أيّام من كلّ شهر:
أوّل إثنين من الشّهر، والخميس، والإثنين من الجمعة الاخرى.
وعن جابر رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعجبه أن يفطر على الرّطب ما دام الرّطب، وعلى التّمر إذا لم يكن رطب، ويختم بهنّ، ويجعلهنّ وترا؛ ثلاثا، أو خمسا، أو سبعا.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبّ أن يفطر على ثلاث تمرات، أو شيء لم تصبه النّار.
وعن أنس [رضي الله تعالى عنه] أيضا: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفطر على رطبات قبل أن يصلّي، فإن لم يكن رطبات.. فتمرات، فإن لم يكن تمرات.. حسا حسوات من ماء.
وعن أنس [رضي الله تعالى عنه] أيضا قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر عند قوم.. قال: «أفطر عندكم الصّائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وتنزّلت عليكم الملائكة» .
وعن ابن الزّبير رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر عند قوم.. قال: «أفطر عندكم الصّائمون، وصلّت عليكم الملائكة» .
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر.. قال: «ذهب الظّمأ، وابتلّت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى» .
وعن معاذ بن زهرة [رحمه الله تعالى] : كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر.. قال: «اللهمّ؛ لك صمت، وعلى رزقك أفطرت» .
وعن معاذ رضي الله تعالى عنه «1» قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر.. قال: «الحمد لله الّذي أعانني فصمت، ورزقني فأفطرت» .
وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر.. قال: «اللهمّ؛ لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، فتقبّل منّي إنّك أنت السّميع العليم» .
وعن علقمة [رحمه الله تعالى] قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها: أكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخصّ من الأيّام شيئا؟
قالت: كان عمله ديمة «2» ، وأيّكم يطيق ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطيق؟
وعن عائشة أيضا رضي الله تعالى عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعندي امرأة، فقال: «من هذه؟» ، قلت:
فلانة؛ لا تنام اللّيل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم من الأعمال ما تطيقون؛ فو الله لا يملّ [الله] حتّى تملّوا» ، وكان أحبّ ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الّذي يدوم عليه صاحبه.
__________
(1) وهو معاذ بن زهرة التابعي المعروف، وكان ينبغي هنا الترحم لا الترضي، كما هي عادة المؤلف- رحمه الله تعالى- في الترضي على الصحابة والترحم على من بعدهم.
(2) أي: دائما.
وعن أبي صالح [رحمه الله تعالى] «1» قال: سألت عائشة وأمّ سلمة رضي الله [تعالى] عنهما: أيّ العمل كان أحبّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قالتا: ما ديم عليه، وإن قلّ.
وروى البخاريّ: عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّه كان أحبّ الدّين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما داوم عليه صاحبه.
__________
(1) واسمه: ذكوان السمان والزيات.
الفصل الثّالث في صفة قراءته صلّى الله عليه وسلّم
عن عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة، فاستاك، ثمّ توضّأ، ثمّ قام يصلّي، فقمت معه، فبدأ فاستفتح (البقرة) ، فلا يمرّ باية رحمة.. إلّا وقف فسأل، ولا يمرّ باية عذاب.. إلّا وقف فتعوّذ، ثمّ ركع فمكث راكعا بقدر قيامه، ويقول في ركوعه: «سبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة» ، ثمّ سجد بقدر ركوعه، ويقول في سجوده: «سبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة» ، ثمّ قرأ (ال عمران) ، ثمّ سورة سورة. يفعل مثل ذلك في كلّ ركعة.
وعن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرّ باية خوف.. تعوّذ، وإذا مرّ باية رحمة.. سأل، وإذا مرّ باية فيها تنزيه الله.. سبّح.
وعن أبي ليلى رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرّ باية فيها ذكر النّار.. قال: «ويل لأهل النّار، أعوذ بالله من النّار» .
وعن يعلى بن مملك [رحمه الله تعالى] : أنّه سأل أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها: عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هي تنعت قراءة مفسّرة حرفا حرفا.
وعن قتادة [رحمه الله تعالى] قال: قلت لأنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: كيف كانت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال:
مدّا.
وعن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقطّع قراءته؛ يقول: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ، ثمّ يقف، ثمّ يقول: «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» ، ثمّ يقف، وكان يقرأ:
«مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» «1» .
وعن عبد الله بن قيس [رحمه الله تعالى] قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها: عن قراءة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أكان يسرّ بالقراءة أم يجهر؟ قالت: كلّ ذلك قد كان يفعل؛ قد كان ربّما أسرّ، وربّما جهر.
فقلت: الحمد لله الّذي جعل في الأمر سعة.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ من اللّيل.. رفع طورا، وخفض طورا.
وعن أمّ هانىء رضي الله تعالى عنها قالت: كنت أسمع قراءة النّبيّ
__________
(1) أي بالألف؛ أحيانا، وهي قراءة متواترة مشهورة، كما أنّ قراءة (ملك) بدون ألف متواترة أيضا.
صلّى الله عليه وسلّم باللّيل، وأنا على عريشي.
وعن معاوية بن قرّة [رحمه الله تعالى] قال: سمعت عبد الله بن مغفّل رضي الله تعالى عنه يقول: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على ناقته يوم الفتح وهو يقرأ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 1- 2] .
قال: فقرأ ورجّع «1» .
قال: وقال معاوية بن قرّة: لولا أن يجتمع النّاس عليّ.. لأخذت لكم في ذلك الصّوت، أو قال: اللّحن.
وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: كان قراءة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ربّما سمعها من في الحجرة، وهو في البيت؛ أيّ: كان إذا قرأ في بيته.. ربّما يسمع قراءته من في حجرة البيت من أهله، ولا يتجاوز صوته إلى ما وراء الحجرات.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى.. قال: «بلى» ، وإذا قرأ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ.. قال: «بلى» .
وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى.. قال: «سبحان ربّي الأعلى» .
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه
__________
(1) أي: ردّد صوته بالقراءة.
وسلّم إذا تلا: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.. قال: «امين» ؛ حتّى يسمع من يليه من الصّفّ الأوّل.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يقرأ القران في أقلّ من ثلاث «1» .
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا ختم.. جمع أهله ودعا.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا ختم.. يقرأ من أوّل القران خمس ايات.
__________
(1) أي: لا يقرؤه كاملا في أقل من ثلاثة أيام؛ لأنها أقل مدة يمكن فيها تدبره وترتيله، هذا كله في تفهم معانيه. أما الثواب على قراءته: فحاصل لمن قرأه سواء فهمه أم لا، للتعبّد بلفظه بخلاف غيره من الأذكار.. فلا ثواب فيه إلا إن فهمه ولو بوجه.
الباب السّابع في أخبار شتّى من أحوال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وبعض أذكار وأدعية كان يقولها في أوقات مخصوصة وثلاث مئة وثلاثة عشر حديثا من جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلّم وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأوّل في أخبار شتى من أحواله صلّى الله عليه وسلّم
في «الشّفا» للقاضي عياض رحمه الله تعالى: (ولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مختونا، مقطوع السّرّة.
وقد روي عن أمّه امنة أنّها قالت: ولدته نظيفا ما به قذر.
وفي حديث عكرمة، عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أنّه صلّى الله عليه وسلّم نام حتّى سمع له غطيط «1» ، فقام فصلّى، ولم يتوضّأ. قال عكرمة: لأنّه صلّى الله عليه وسلّم كان محفوظا.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يتغوّط.. انشقّت الأرض فابتلعت غائطه وبوله، وفاحت لذلك رائحة طيّبة.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنّك تأتي الخلاء فلا نرى منك شيئا من الأذى؟! فقال لها: «يا عائشة؛ أو ما علمت أنّ الأرض تبتلع ما يخرج من الأنبياء، فلا يرى منه شيء» .
وقال قوم من أهل العلم بطهارة هذين الحدثين منه صلّى الله عليه
__________
(1) وهو صوت يخرج مع نفس النائم.
وسلّم، وشاهد هذا أنّه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن منه شيء يكره، ولا غير طيّب.
ومن هذا حديث عليّ رضي الله [تعالى] عنه: غسّلت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذهبت أنظر ما يكون من الميت، فلم أجد شيئا، فقلت:
طبت حيّا وميتا. وسطعت منه ريح طيّبة لم يجدوا مثلها قطّ.
ومثله قال أبو بكر حين قبّل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد موته.
ومنه شرب مالك بن سنان دمه يوم أحد، ومصّه إيّاه، وتسويغه صلّى الله عليه وسلّم ذلك له، وقوله: «لن تصيبه النّار» .
ومثله شرب عبد الله بن الزّبير دم حجامته، وقال له عليه الصّلاة والسّلام: «ويل لك من النّاس، وويل لهم منك» ، ولم ينكره.
وقد روي نحو من هذا عنه صلّى الله عليه وسلّم في امرأة شربت بوله، فقال لها: «لن تشتكي وجع بطنك أبدا» .
ولم يأمر واحدا منهم بغسل فم، ولا نهاه عن عوده) اهـ ملخّصا.
وأمّا ريقه الشّريف صلّى الله عليه وسلّم:
فقد بصق في بئر دار أنس، فلم يكن في المدينة بئر أعذب منها.
وأتي بدلو من ماء فشرب من الدّلو، ثمّ صبّ في البئر، ففاح منها مثل رائحة المسك. رواه أحمد وابن ماجه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يوم عاشوراء يدعو برضعائه ورضعاء ابنته
فاطمة فيتفل في أفواههم؛ ويقول للأمّهات: «لا ترضعنهنّ إلى اللّيل» ، فكان ريقه يجزيهم. رواه البيهقيّ.
ودخلت عليه عميرة بنت مسعود هي وأخواتها يبايعنه- وهنّ خمس- فوجدنه يأكل قديدا، فمضغ لهنّ قديدة فمضغنها، كلّ واحدة قطعة، فلقين الله وما وجد لأفواههنّ خلوف. رواه الطّبرانيّ.
و (الخلوف) : تغيّر رائحة فم الصّائم.
ومسح صلّى الله عليه وسلّم بيده الشّريفة بعد أن نفث فيها من ريقه على ظهر عتبة- وكان به شرى- فما كان يشمّ أطيب منه رائحة. رواه الطّبرانيّ.
وأعطى الحسن لسانه؛ وكان قد اشتدّ ظمؤه، فمصّه حتّى روي.
وروى القاضي عياض في «الشّفا» بسنده إلى عبد الله بن أبي الحمساء: (قال: بايعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ببيع قبل أن يبعث، وبقيت له بقيّة، فوعدته أن اتيه بها في مكانه، فنسيت، ثمّ ذكرت بعد ثلاث، فجئت، فإذا هو في مكانه. فقال: «يا فتى؛ لقد شققت عليّ، أنا هنا منذ ثلاث أنتظرك» .
وعن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها، قالت: كان أبغض الأشياء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكذب.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اطّلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة.. لم يزل معرضا عنه حتّى يحدث توبة.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتى باب قوم.. لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: «السّلام عليكم.. السّلام عليكم» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه الفيء «1» .. قسمه في يومه، فأعطى الاهل حظّين، وأعطى العزب حظّا.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتي بالسّبي.. أعطى أهل البيت جميعا؛ كراهية أن يفرّق بينهم.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه رجل فرأى في وجهه بشرا.. أخذ بيده.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع بالاسم القبيح.. حوّله إلى ما هو أحسن منه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يتفاءل ولا يتطيّر. وكان يحبّ الاسم الحسن.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا وجد الرّجل راقدا على وجهه ليس على عجزه شيء.. ركضه برجله، وقال: «هي أبغض الرّقدة إلى الله تعالى» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر بالباه، وينهى عن التّبتّل نهيا شديدا؛ أي: يأمر بالتّزوّج وينهى عن تركه.
__________
(1) المراد به هنا: ما يشمل خراج الأرض، وما أخذ من الكفار بلا قتال.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر من أسلم أن يختتن، وإن كان ابن ثمانين سنة.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يضمّر الخيل «1» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم يكره الشّكال من الخيل.
قال العزيزيّ: فسّره في بعض طرق الحديث عند مسلم: بأن يكون في رجله اليمنى وفي يده اليسرى بياض، أو في يده اليمنى ورجله اليسرى.
وكرّهه لكونه كالمشكول، لا يستطيع المشي. وقيل: يحتمل أن يكون جرّب ذلك الجنس فلم يكن فيه نجابة.
وقال بعض العلماء: إذا كان مع ذلك أغرّ.. زالت الكراهة.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا صعد المنبر.. سلّم.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب.. قال: «أمّا بعد» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب.. يعتمد على عنزة؛ أو عصا.
و (العنزة) : العصا الصّغيرة.
وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يعود مريضا إلّا بعد ثلاث.
وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يضيف الخصم إلّا وخصمه معه.
__________
(1) هو أن يعلف الفرس حتى يسمن، ثم يردّه إلى القلّة ليشتد لحمه، وقيل: هو أن يقلّل علف الفرس مدة ويدخل بيتا مغلقا ويجلّل ليعرق ويجف عرقه فيجفّ لحمه، فيقوى على الجري.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر بالهديّة؛ صلة بين النّاس.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر بقطع المراجيح «1» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ هذه السّورة: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) .
وكان صلّى الله عليه وسلّم يحثّ على الصّدقة، وينهى عن المسألة.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يسمر عند أبي بكر اللّيلة في الأمر من أمور المسلمين.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يعجبه الرّؤيا الحسنة.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اشتدّي أزمة تنفرجي» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم يبيع ويشتري، ولكن كان شراؤه أكثر.
واجر نفسه قبل النّبوّة في رعاية الغنم، ولخديجة في سفر التّجارة.
واستدان برهن، وبغير رهن، واستعار، وضمن، ووقف أرضا كانت له.
وحلف في أكثر من ثمانين موضعا، وأمره الله تعالى بالحلف في ثلاثة مواضع، في قوله تعالى: قُلْ إِي وَرَبِّي، وقوله تعالى: قُلْ بَلى وَرَبِّي، وقوله: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ.
__________
(1) يعني: الأراجيح، والترجّح: التذبذب بين شيئين، وعلى هذا فالأرجوحة: الة معروفة يلهو بها العجم أيام النيروز تلهّيا عن الغموم التي تراكمت على قلوبهم من رين الذنوب وكره لهم أن يتزيّوا بزيّ من اشترى الحياة الدنيا بالاخرة، فلا خلاق له هناك.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يستثني في يمينه تارة، ويكفّرها تارة، ويمضي فيها تارة أخرى.
ومدحه بعض الشّعراء فأثاب عليه، ومنع الثّواب في حقّ غيره، وأمر أن يحثى في وجوه المدّاحين التّراب.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا حلف.. قال: «والّذي نفس محمّد بيده» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم أكثر أيمانه: «لا ومصرّف القلوب» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اجتهد في اليمين.. قال: «لا والذي نفس أبي القاسم بيده» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم يحلف: «لا ومقلّب القلوب» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا حلف على يمين.. لا يحنث؛ حتّى نزلت كفّارة اليمين.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا استراث الخبر؛ أي: استبطأه.. تمثّل ببيت طرفة:
........... ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد «1»
وكان صلّى الله عليه وسلّم يتمثّل بهذا البيت:
__________
(1) وصدر البيت:
ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا.........
كفى بالإسلام والشّيب للمرء ناهيا..........
وأصل هذا الشّطر «1» :
كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا........
ولكنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم تمثّل به على الوجه المذكور.
قال تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ صلّى الله عليه وسلّم.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ أن يسافر يوم الخميس.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد سفرا.. أقرع بين نسائه، فأيّتهنّ خرج سهمها خرج بها معه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يتخلّف في المسير، فيزجي الضّعيف ويردف، ويدعو لهم.
ومعنى (يزجي الضّعيف) : يسوقه سوقا رفيقا.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا قدم من سفر.. بدأ بالمسجد، فصلّى فيه ركعتين، ثمّ يثنّي بفاطمة، ثمّ يأتي أزواجه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يطرق أهله ليلا «2» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ أن يخرج إذا غزا يوم الخميس.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يودّع الجيش.. قال:
«أستودع الله دينكم، وأمانتكم، وخواتيم أعمالكم» .
__________
(1) يعني: موزونا.
(2) أي: لا يقدم عليهم من سفر ولا غيره في الليل على غفلة.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث سريّة أو جيشا.. بعثهم من أوّل النّهار.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث أميرا قال: «أقصر الخطبة، وأقلّ الكلام، فإنّ من البيان لسحرا» «1» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد غزوة.. ورّى بغيرها.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يعجبه أن يلقى العدوّ عند الزّوال «2» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم يكره رفع الصّوت عند القتال.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا خرج يوم العيد في طريق.. رجع في غيره.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي.. نكّس رأسه، ونكّس أصحابه رؤوسهم، فإذا أقلع عنه.. رفع رأسه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل رمضان.. أطلق كلّ أسير، وأعطى كلّ سائل.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل [شهر] رمضان شدّ مئزره، ثمّ لم يأت فراشه حتّى ينسلخ.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل رمضان.. تغيّر لونه، وكثرت
__________
(1) في نسخة: (فإنّ من الكلام سحرا) .
(2) في نسخة: (عند زوال الشمس) .
صلاته، وابتهل في الدّعاء، وأشفق لونه؛ أي: تغيّر وصار كلون الشّفق.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل العشر الأخير من رمضان.. شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا كان مقيما.. اعتكف العشر الأواخر من رمضان، وإذا سافر.. اعتكف من العام المقبل عشرين.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا كانت ليلة الجمعة.. قال: «هذه ليلة غرّاء، ويوم أزهر» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا جاء الشّتاء.. دخل البيت ليلة الجمعة، وإذا جاء الصّيف.. خرج ليلة الجمعة.
قال العزيزيّ: الظّاهر أنّ المراد ما اعتاده النّاس من دخولهم البيوت في الشّتاء، والخروج منها في الصّيف.
الفصل الثّاني في بعض أذكار وأدعية كان يقولها صلّى الله عليه وسلّم في أوقات مخصوصة
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سأل الله تعالى.. جعل باطن كفّيه إليه، وإذا استعاذ.. جعل ظاهرهما إليه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أصابته شدّة فدعا.. رفع يديه حتّى يرى بياض إبطيه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رفع يديه في الدّعاء.. لم يحطّهما حتّى يمسح بهما وجهه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا ذكر أحدا فدعا له.. بدأ بنفسه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دعا لرجل.. أصابته الدّعوة، وولده وولد ولده.
وكان صلّى الله عليه وسلّم أكثر دعائه: «يا مقلّب القلوب؛ ثبّت قلبي على دينك» ، فقيل له في ذلك؟ قال: «إنّه ليس ادميّ إلّا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله؛ فمن شاء.. أقام، ومن شاء.. أزاغ» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم أكثر دعوة يدعو بها: «ربّنا؛ اتنا في الدّنيا
حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النّار» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم يتعوّذ من جهد البلاء، ودرك الشّقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يتعوّذ من خمس: من الجبن، والبخل، وسوء العمر، وفتنة الصّدر، وعذاب القبر.
وكان [صلّى الله عليه وسلّم] يتعوّذ من الجانّ، وعين الإنسان.. حتّى نزلت المعوّذتان، فأخذ بهما وترك ما سواهما.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يتعوّذ من موت الفجاءة، وكان يعجبه أن يمرض قبل أن يموت.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أصبح وإذا أمسى.. يدعو بهذه الدّعوات: « (اللهمّ؛ إنّي أسألك من فجاءة الخير، وأعوذ بك من فجاءة الشّرّ) ؛ فإنّ العبد لا يدري ما يفجؤه إذا أصبح وإذا أمسى» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أصبح وإذا أمسى.. قال: «أصبحنا على فطرة الإسلام