من مركز القوة الذي أحرزه المسلمون بعد الخندق، قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينطلق ليعتمر بأصحابه في مكة مستهدفا تحقيق أهداف ثلاثة، أولها إشعار الناس جميعا أن علاقات الإسلام بالقوى الآخرى ليس شرطا لها أن تظل قائمة على الحرب والعنف والقتال، وأن بالإمكان أن تسودها فترات من السلم والتهادن والتعايش المشترك على خلاف المذاهب والاتجاهات. وثانيها تجميد الصراع ضد قريش، ذلك الذي استغرق معظم مساحات الدرب الطويل الذي اجتازته الدعوة الإسلامية، والالتفات إلى الجهات الآخرى لغرض التركيز عليها، سيما بعد التصعيد الذي شهده الصراع ضد اليهود من جهة، وضد البيزنطيين وحلفائهم نصارى العرب من جهة أخرى. وأما ثالث الأهداف فهو إقرار حقيقة أن مكة ومقدّساتها ليست حكرا للوثنية تمارس فيها تقاليدها بحرية، وتسيطر على مقدراتها، فتسمح بدخولها لمن تشاء وتمنع من تشاء.. على العكس، إن المسلمين أحفاد إبراهيم عليه السلام أبي الحنيفية، وباني الكعبة، أحق وأجدر بدخول الحرام الآمن، وممارسة شعائرهم القائمة على التوحيد الخالص، الذي من أجله أقيم البلد الحرام في الوادي غير ذي الزرع.
ثم أن المسلمين المهاجرين ورسولهم صلى الله عليه وسلم لا زالوا يحنّون وطنهم القديم ويطوون جوانحهم- عبر سني الصراع الطويل- على الشوق العارم إلى الديار التي ولدوا فيها، وترعرعوا بين أكنافها، وآثروا دعوة الحق بين طرقاتها وأحيائها..
الحنين الذي كان بلال قد باح به في أيام الهجرة الأولى، والحمى تعتصره:
ألا ليت شعري هل ابيتنّ ليلة ... بفخ وحولي أذخر وجليل؟
وهل أردنّ يوما مياه مجنّة ... وهل تبدونّ لي شامة وطفيل؟
وها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يجيب على السؤال ويعلن- في ذي القعدة- أنه سيتجه إلى مكة معتمرا، لا يريد حربا، ويستنفر العرب وأهل البوادي من حوله ليخرجوا معه، ويخشى أن تعرض له قريش بحرب، أو تصده عن البيت «1» .
أبطأ كثير من الأعراب عن الاستجابة لنداء الرسول صلى الله عليه وسلم تخوفا من نشوب قتال مع قريش لا يهمهم من قريب أو بعيد، وانطلق المهاجرون والأنصار، ومن لحق بهم من مسلمي المناطق المجاورة، يسوقون الهدي صوب مكة، وأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم باستبدال ملابسهم بثياب الإحرام، ليأمن الناس الحرب، وليعلمهم أنه إنما خرج زائرا لبيت الله الحرام ومعظما له. وعندما بلغ المسلمون عسفان، الواقعة على بعد مرحلتين من مكة، لقيهم من يقول لهم إن قريشا قد خرجت بمقاتليها وفرسانها لمجابهة المسلمين ومنعهم من دخول مكة مهما كان الثمن!! فكان جواب الرسول: (يا ويح قريش!! لقد أكلتهم الحرب. ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوه، وأن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة. فما تظن قريش؟ فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة) . وطلب من أحد الأدلّاء أن يقودهم، عبر طرق غير مسلوكة، إلى مكان آخر تجنبا للصدام مع قريش، فقادهم الدليل في أراض وعرة، ومسالك جبلية، وانتهى بهم إلى أرض سهلة عند منعطف الوادي أسفل مكة تدعى الحديبية.
وعندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلّا أعطيتهم إياها) ، كان فرسان قريش يكرون عائدين اعتقادا منهم أن محمد صلى الله عليه وسلم اجتاح مكة عنوة «2» .
رأت قريش، وقد لمست رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم وإصراره على دخول مكة وأداء العمرة، أن تبعث إليه من يكلمه بالأمر ويقنعه بأن لا جدوى من محاولته تلك،
__________
(1) ابن هشام ص 249 الطبري 2/ 620 ابن سعد 2/ 1/ 69 الواقدي 2/ 572- 573.
(2) ابن هشام ص 229- 251: الطبري 2/ 623- 624 الواقدي 2/ 574- 594.
واعتقدت أن مجرد السماح للمسلمين بدخول بلدهم، بعد ذلك الصراع الحامي، يمثل هزيمة منكرة لقريش، زعيمة الوثنية، وتنازلا لخصومها كي يطؤوا حرمها المقدس ... وستقول العرب: لقد نكصت قريش عن حماية البيت الحرام، ولم تعط الأمر حقه، ثم ما تلبث أن تنصرف عنها.
كان بديل بن ورقاء الخزاعي أول سفراء قريش إلى معسكر المسلمين، فقدم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يصحبه رجال من خزاعة، فكلموه وسألوه: ما الذي جاء به؟
فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا، وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته (فمن صدّنا عنه قاتلناه) . فرجع بديل إلى قريش وقال: يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد، وأن محمدا لم يأت لقتال وإنما جاء زائرا هذا البيت. فما كان من زعماء قريش إلا أن اتهموه وعنفوه وقالوا له: وإن كان جاء لا يريد قتالا، فو الله لا يدخلها علينا عنوة أبدا، ولا تحدث بذلك عنا العرب. وما لبثوا أن بعثوا إلى المسلمين سفيرهم الثاني: مكرز بن حفص، الذي عاد بما كان رفيقه قد عاد به إلى زعماء قريش «1» .
وكان الحليس بن علقمة، سيد الأحابيش، السفير الثالث، فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم مقبلا قال: إن هذا من قوم يتألّهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه، فلما رأى الهدي ينساب صوبه في عرض الوادي، قفل عائدا قبل أن يقابل الرسول صلى الله عليه وسلم إعظاما لما شهد، وأخبر القرشيين بالذي رأى، فقالوا له: اجلس، إنما أنت أعرابي لا علم لك!! فغضب عند ذاك وقال منددا: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم.. أيصد عن بيت الله من جاء معظما له؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلنّ بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد. فقالوا له: مه يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به. ثم ما لبثوا أن بعثوا سفيرهم الرابع: عروة بن مسعود الثقفي، وعندما جلس بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد، أجمعت أو شاب الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضّها بهم؟ إنها قريش قد خرجت، وقد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا. وأيم الله لكأنني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا! فعنّفه أبو بكر الذي كان يجلس وراء الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: أنحن ننكشف عنه؟ وراح عروة يتناول
__________
(1) ابن هشام ص 251- 252 ابن سعد 2/ 1/ 70 الواقدي 2/ 593- 594.
لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه، والمغيرة بن شعبة واقف بسلاحه على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم فجعل يقرع يد المفاوض ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ألاتصل إليك!! فيجيبه عروة: ويحك ما أفظك وأغلظك!! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم. وعاد عروة إلى قريش ليعلمها بما حدثه به الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه لم يأت يريد حربا، وليقول لها: يا معشر قريش إني قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه. ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا. فروا رأيكم «1» .
رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث من جهته سفيرا إلى قريش ليوضح لهم الهدف الذي جاء المسلمون من أجله، فاختار خراش بن أمية الخزاعي لأداء المهمة، إلّا أن خراشا ما أن بلغ مكة حتى عقر أشرافها بعيره وأرادوا الفتك به لولا أن منعته الأحابيش، فخلوا سبيله لكي ما يلبث أن يرجع إلى معسكر المسلمين. ليس هذا فحسب بل إن قريشا أرسلت خمسين من رجالها المسلّحين ليتسلّلوا إلى معسكر المسلمين ويصيبوا بعض رجاله في محاولة لاستفزاز الرسول صلى الله عليه وسلم ودفعه إلى اتخاذ إجراء انتقامي يعزز موقف قريش لدى العرب. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم فوّت عليهم الفرصة بعد ما جاء به أصحابه من أسرى دون عناء كبير، فعفا عنهم وخلّى سبيلهم «2» .
ويحدثنا رجل من معسكر المسلمين فيقول: «أتيت شجرة فكسحت شوكها ثم اضطجعت في ظلها، فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة، فتحولت إلى شجرة أخرى، فعلقوا سلاحهم ثم اضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي: يا للمهاجرين، قتل ابن زنيم، فاستللت سيفي على أولئك الأربعة وهم رقود، وأخذت سلاحهم، ثم قلت: لا يرفع أحدكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه!! ثم جئت بهم أقودهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء عمي برجل آخر حتى وقفنا بهم على رسول الله في سبعين من المشركين ... فنظر إليهم رسول الله فقال: (دعوهم يكن لهم بدء الفجور) وعفا عنهم» «3» . وفي رواية أخرى للواقدي
__________
(1) ابن هشام ص 252- 254 الطبري 2/ 628 ابن سعد 2/ 1/ 70 الواقدي 2/ 594- 600 اليعقوبي: تاريخ 2/ 45.
(2) الطبري 2/ 631 الواقدي 2/ 602.
(3) الطبري 2/ 629- 630.
أن الرسول صلى الله عليه وسلم احتفظ بأسرى قريش رهائن ريثما تطلق من في أيديها من مسلمين كانوا قد دخلوا مكة لزيارة أهليهم وكانوا أحد عشر رجلا، فاستجابت قريش لعرضه فأطلق سراحهم «1» .
لم ييأس الرسول وكأنه كان يرى بثاقب بصره الثمار الحلوة التي ستجنيها الدعوة الإسلامية إذا ما سادت العلاقات السلمية فترة من الوقت مع قريش زعيمة الوثنية، فدعا عمر بن الخطاب ليسفر له لدى قريش فقال عمر: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي وليس في مكة من بني عدي أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ولكني أدلك على رجل أعز بها مني: عثمان ابن عفان.
انطلق عثمان إلى مكة ودخل في جوار قريب له يدعى أبان بن سعيد بن العاص ريثما يبلغ زعماء قريش ما جاء به فأجابه هؤلاء: إن شئت أن تطوف في البيت فطف! فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله. وراح عثمان يتصل بمسلمي مكة المستضعفين من الرجال والنساء ويقول لهم: «إن رسول الله يبشركم بالفتح» ، فكانت الدموع تسيل من أعينهم فرحا بذلك وهم يقولون: أقرىء رسول الله منا السلام، إن الذي أنزله بالحديبية لقادر أن يدخله بطن مكة «2» . وما لبثت قريش أن اعتقلته فبلغ الرسول وأصحابه أن عثمان قد قتل «3» .
لم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ من التهيؤ للقتال ... بعد فشل كل محاولاته الودية لدخول مكة.. وبعد الموقف السيء الذي وقفته قريش من سفرائه إليها، ودعا الناس إلى البيعة على عدم الفرار والصمود بوجه قريش، فانهال عليه المسلمون يبايعونه وهو واقف تحت شجرة سميت فيما بعد بشجرة الرضوان نسبة إلى البيعة التي تمت تحتها، ولم يتخلف عن مبايعته أحد من أصحابه، إلا أن الأنباء ما لبثت أن جاءت لتنفي ما أشبع عن مقتل عثمان ... وأعقب ذلك قيام قريش بإرسال سهيل بن عمرو سفيرا خامسا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ربما لتخوفها من استعداد
__________
(1) الواقدي 2/ 603- 604 وانظر: المقريزي: إمتاع الأسماع 1/ 290.
(2) الواقدي 2/ 601.
(3) ابن هشام ص 254- 255 الطبري 2/ 631- 632 ابن سعد 2/ 1/ 70 الواقدي 2/ 600- 602.
المسلمين للقتال ومبايعتهم الرسول على الصمود، وكلفت رجلها أن يسعى جاهدا لمصالحة محمد صلى الله عليه وسلم شرط أن يرجع عنهم هذا العام «فو الله لا تحدث العرب عنا أن محمدا دخلها علينا عنوة أبدا» «1» .
التقى سهيل بالرسول صلى الله عليه وسلم وأدرك الرسول، عندما لمحه قادما من بعد، أن قريشا تسعى للصلح. وجرى بين الطرفين كلام طويل انتهى بالموافقة على الصلح ولم يبق إلّا صياغة الوثيقة ... هناك وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر وقال: يا أبا بكر أليس برسول الله؟ قال: بلى ... قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى.
قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى ... قال: فعلام نعطي الدنيّة في ديننا؟
أجاب أبو بكر: يا عمر الزم أمره فإني أشهد أنه رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله ... ورأى عمر، الذي فطر على الصراحة والوضوح، أن يلتقي بالرسول صلى الله عليه وسلم نفسه ويطرح عليه نفس الأسئلة ... فكان جواب الرسول صلى الله عليه وسلم: أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني ...
ثم ما لبث أن دعا عليا ليملي عليه صيغة الصلح وقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال سهيل: لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم. فكتبها، ثم قال لعلي: اكتب (هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيلا بن عمرو) فقال سهيل: لو شهدت إنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.
فأجابه الرسول إلى ما أراد «2» .
كان الصلح يقضي بعقد هدنة أمدها عشر سنوات «3» ، وأن يرجع المسلمون هذا العام ولهم أن يدخلوا مكة في العام المقبل والسيوف في أغمادها، وإن لكل قبيلة الحق بالدخول في عهد مع أي من الطرفين تشاء ... وأنه لا إسلال ولا إغلال.. وإن من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه فعليه أن يرده، ومن جاء قريشا ممن مع محمد صلى الله عليه وسلم لا تجد نفسها ملزمة برده ... وسرعان ما أعلنت خزاعة دخولها في عقد محمد وعهده ... بينما دخلت بنو بكر عقد قريش وعهدها ...
وقبل أن يتم إملاء الشروط وصل معسكر المسلمين أبو جندل، ابن المفاوض القرشي سهيل بن عمرو، وهو يرسف بالحديد فانقض عليه أبوه يضرب وجهه
__________
(1) ابن هشام ص 255- 256 الطبري 2/ 632- 633 الواقدي 2/ 603- 605 خليفة بن خياط: تاريخ 1/ 43- 44.
(2) ابن هشام ص 256- 257 الطبري 2/ 633- 634 الواقدي 2/ 606- 607.
(3) يخطىء اليعقوبي في قوله بأن مدة الهدنة كانت ثلاث سنوات. تاريخ 2/ 45.
ويأخذ بتلابيبه قائلا للرسول: إن شروط الصلح قد أبرمت قبل وصول أبي جندل فأجابه الرسول: صدقت ... وراح أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: ... يا معشر المسلمين أأردّ إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فما كان جواب الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ... إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله.. وإنا لا نغدر بهم.. ووثب عمر وراح يمشي إلى جوار أبي جندل ويقول: اصبر يا أبا جندل فإنهم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب!! وعندما تمّ إملاء الكتاب شهد على الصلح أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن سهيل بن عمرو وسعد ابن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعن الجانب المشرك مكرز بن حفص وحويطب بن عبد العزى «1» .
لم يرتح المسلمون لأحداث الصلح ونتائجه سيما وأنهم جاؤوا يحملون أملا بدخول مكة والطواف في البيت العتيق في أعقاب رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم، وها هم يعودون من حيث جاؤوا دون أن يتحقق أملهم، هذا فضلا عما في بنود الصلح نفسها وصيغته من أمور رأوا فيها تنازلا للمشركين. هذا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستشر أصحابه على غير ما ألفوا منه في هذا الاتفاق المقترح مع أنه في شؤون الحرب والسلم التي سلفت كان يرجع إليهم.. وربما نزل على رأيهم وهو له كاره.. لكنه اليوم ينفرد بالعمل ويقرّ ما يكرهون على عير ضرورة ملجئة «2» . ثم جاءت قضية تسليم أبي جندل لأعدائهم إثارة جديدة لأعصابهم المرهقة وحنقهم الذي عبر عنه (عمر) صراحة.
من أجل ذلك كله [دخل عليهم أمر عظيم حتى كادوا يهلكون] وعندما أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بنحر الهدي وحلق رؤوسهم إيذانا بالعودة للمدينة.. لم يستجيبوا له لأول مرة في حياتهم.. فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد استشارة زوجته أم سلمة إلا أن يخرج عليهم فينحر ويحلق رأسه، فلما رأى أصحابه ذلك راحوا
__________
(1) ابن هشام ص 257- 258 الطبري 2/ 634- 636 ابن سعد 2/ 1/ 70- 71 الواقدي 2/ 607- 609، 611- 612 البلاذري: فتوح البلدان 1/ 41، أنساب 1/ 350- 352 وانظر عن نص وثيقة الصلح: محمد حميد الله: الوثائق ص 77- 80.
(2) محمد الغزالي: فقه السيرة ص 359.
ينحرون ويحلقون وهم يتميزون غيظا وألما حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما «1» ، دون أن يدركوا أن الصلح الذي تمخض عن مرونة الرسول وتنازله عن بعض الشكليات في صياغة الوثيقة وبنودها كان أكبر فتح في تاريخ الدعوة الإسلامية منذ انبعاثها قبل تسع عشرة سنة، وأن الرسول بموقفه ذاك قد فتح طريقا جديدا أمام الحركة الإسلامية أوصلها إلى آفاق جديدة ومساحات واسعة لم يكن أحد من المسلمين يطمع في الوصول إليها قبل مرور سنين وسنين.
وفي طريق العودة نزلت آيات القرآن الكريم لتؤكد البعد الحقيقي للصلح مع زعيمة الوثنية إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً «2» ، وتستطرد الآيات الكريمة مؤكدة دخول المسجد الحرام عما قريب وتحقق رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم التي تجيء دوما كفلق الصبح: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً «3» .
ولم يكن هذا الفتح كما يقول ابن هشام سوى صلح الحديبية:
[فما فتح في الإسلام.. يقول الزهري.. فتح قبله كان أعظم منه. إنما كان القتال حيث التقى الناس ... فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضا والتقوا فتفاوضوا فلم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه ... ولقد دخل في تينك السنتين مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر] بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة ثم خرج في فتح مكة بعد سنتين على رأس عشرة آلاف رجل «4» .
وما من شك أن مجرد دخول قريش في عهد مع المسلمين يمثل اعترافا منها
__________
(1) الواقدي 2/ 613- 616.
(2) سورة الفتح، الآيتان 1 و 2.
(3) سورة الفتح، الآية: 27.
(4) ابن هشام ص 258- 259 الطبري 2/ 638 وانظر: الواقدي 2/ 609- 610، 624. وعن الآيات المتعلقة بالحديبية انظر: سورة الفتح: الآيات 1- 6، 10- 13، 18- 20، 24- 28.
بالدولة الفتية والدين الجديد بعد حرب الإفناء الطويلة التي شنتها ضدهما..
ولما كانت قريش هي زعيمة الوثنية وحامية حمى الحرم المقدس فإن توابعها من القبائل العربية المنتشرة في الجزيرة رأت نفسها في حل من الانتماء لزعامتها والارتباط بمصيرها وأن لها الحرية المطلقة في أن تختار المعسكر الذي تراه مناسبا دخولا في دينه أو صداقة معه..
وقد فتح ذلك المجال أمام المسلمين لكي ينشطوا وينتشروا في الآفاق لكسب مزيد من الأصدقاء والحلفاء والمنتمين إلى الدين الجديد، مستغلين من جهة أخرى فترة السلم التي أتاحتها شروط الحديبية.
وكان انضمام خزاعة إلى معسكر المسلمين نصرا كبيرا للرسول صلى الله عليه وسلم ذلك أن جزآ كبيرا من الأحابيش الذين كانت قريش تعتمد عليهم يعدون من بطونها، وبذلك ضمّ محمد جزآ كبيرا من هذه القوة إلى جانبه وأضعف بذلك مركز قريش الحربي «1» .
ويرى (أرنولد) أن الحروب المتصلة التي كان الرسول قد شنها على أهل مكة قد جعلت حتى ذلك الحين القبائل، التي تقيم جنوبي هذه المدينة حتى تخوم اليمن، بعيدين بعدا يكاد يكون تاما عن سلطان الدين الجديد.. ولكن هدنة الحديبية جعلت الاتصال مع بلاد العرب الجنوبية أمرا ميسورا في ذلك الحين «2» .
وقد كان لانتشار الإسلام في اليمن في الفترة التي أعقبت الحديبية أهمية خاصة من الناحية العسكرية، فقد جعل قريشا محفوفة بالمسلمين من الشمال والجنوب وبذلك تقرر مصير مكة وقريش نهائيا «3» ... هذا في الوقت الذي كانت قريش فيه قد توخت أهدافا سطحية دفعتها إليها العصبية الجاهلية وهي رد المسلمين عن زيارة البيت الحرام هذا العام ليعودوا إلى زيارته في العام المقبل، ورد الذين يسلمون من قريش بدون رضى أوليائهم حتى لا يكثر عدد المسلمين وأن ينالوا بهذه الهدنة الاستقرار للتفرغ لتجارتهم وهو أهم هدف حيوي بالنسبة لقريش «4» .
ولم ينس الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينتزع من هذه الفرصة الثمينة كل ما يستطيع انتزاعه، فضلا عن كسب الناس إلى الإسلام وصداقتهم لدولته.. صراعا ضد
__________
(1) الشريف: مكة والمدينة ص 469.
(2) الدعوة إلى الإسلام ص 57.
(3) شيت خطاب: الرسول القائد ص 212.
(4) المصدر السابق ص 190.
القوى الآخرى المضادة للإسلام كاليهود الذين تكتلوا في خيبر والمواقع المجاورة له، والبيزنطيين وحلفائهم العرب الذين ازداد تكالبهم في الجهات الشمالية بازدياد نشاط الإسلام هناك، فضلا عن التجمعات القبلية البدوية المنتشرة في الصحراء والتي كانت تنتظر الفرصة السانحة لإنزال الضربات بأتباعه. وها هو الرسول وقد فصم عقدها بهدنته مع زعيمتها قريش يوجه إليها السرايا تلو السرايا طيلة السنة السابعة ليصدها عن المضي فيما تبتغيه وليشعرها بمقدرة المسلمين على العقاب!
خرج عمر بن الخطاب على رأس ثلاثين رجلا إلى إحدى قبائل هوازن، وكان يسير برجاله ليلا ويكمن نهارا، وما إن سمع أعداؤه خبر هجومه المباغت حتى فروا فقفل عائدا ولم يلق كيدا. وخرج أبو بكر الصديق إلى نجد، وبشير بن سعد إلى بني مرّة على رأس ثلاثين رجلا أصيب بعضهم فاضطر إلى العودة إلى المدينة، وانطلق غالب بن عبد الله، يقود مائة وثلاثين رجلا إلى بني عبد بن ثعلبة فأغاروا عليهم واستاقوا نعمهم وعادوا بها إلى المدينة، وما لبث بشير بن سعد أن خرج ثانية على رأس سرية أخرى للهجوم على بعض القبائل من غطفان بدأت تتحرك للهجوم على المسلمين، فباغتها سعد واستاق نعمها «1» .
وطيلة الأشهر الأولى من السنة التالية استمرت السرايا الإسلامية تغادر المدينة منطلقة إلى أهدافها التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحددها لها في قلب الصحراء..
خرج غالب بن عبد الله الليثي ليغير على بني الملوح بمنطقة تدعى الكديد.
ويحدثنا أحد أبطال السرية فيقول: «.. نزلنا بطن كديد بعد العصر، فبعثني أصحابي ربيئة، فعمدت إلى تل يطلعني على الحيّ، فانبطحت عليه، قبيل المغرب، فخرج منهم رجل فنظر فرآني منبطحا على التل فقال لامرأته: والله إني لأرى على هذا التل سوادا ما كنت رأيته أول النهار، فانظري لا تكون الكلاب جرت بعض أوعيتك! فنظرت فقالت: والله ما فقدت شيئا. قال: فناوليني قوسي فناولته، فرماني بسهم فوضعه في جنبي، فنزعته فوضعته، ولم أتحرك، ثم رماني بالآخر فوضعه في رأس منكبي فنزعته فوضعته ولم أتحرك. فقال الرجل: أما والله لقد خالطه سهماي ولو كان طليعة لتحرك. وأمهلناهم حتى إذا سكنوا وذهبت
__________
(1) الطبري 3/ 22- 23 ابن سعد 2/ 1/ 85- 87 الواقدي 2/ 722- 731 المسعودي التنبيه ص 227.
عتمة من الليل، شننا عليهم الغارة، فقتلنا من قتلنا واستقنا النعم وقفلنا عائدين بعد أن جاءنا منهم ما لا قبل لنا به ... » ولم يكن عدد أفراد هذه السرية يجاوز البضعة عشر رجلا «1» .
وانطلق شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلا إلى بني عامر فشن عليهم الغارة وأصاب نعما وشاء «2» . وسار أبو عبيدة عامر بن الجراح في ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار مستهدفين قبائل جهينة.. وكان الطريق طويلا، فنفد ما معهم من قوت، وراح الجوع يعتصرهم، وقال رجل منهم: كان أبو عبيدة يقبض لنا قبضة من التمر، ثم تمرة تمرة، فنمصها ونشرب عليها الماء إلى الليل حتى نفد ما في الجراب فكنا نجني الخبط، إذ جعنا جوعا شديدا، وما لبث البحر أن ألقى إلينا حوتا ميتا فأكلنا منه حتى شبعنا «3» . وسرايا أخرى قادها مسلمون آخرون، انطلقت إلى أهدافها بشجاعة، وعادت وقد لقنت الأعراب ودعاة الفتنة دروسا لن ينسوها «4» .
ولم يقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند حد اعتماد الهدنة مع قريش لتأديب الأعراب، بل نشط منذ أواخر السنة السادسة، وحتى فتح مكة، في توجيه دعاته وسفرائه إلى كبار أمراء العرب الوثنيين وزعمائهم ومشايخهم يدعوهم إلى الإسلام، في نفس الفترة التي كان قد وجّه فيها سفراءه ومبعوثيه إلى أباطرة العالم وملوكه يعرض عليهم الدعوة التي بعث بها إلى الناس جميعا..
أرسل العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي، أمير البحرين والمناطق الشمالية المطلة على الخليج العربي، وكتب إليه كتابا جاء فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد النبي رسول الله إلى المنذر بن ساوى. سلام عليك.
فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد فإن كتابك جاءني ورسلك، وإن من صلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا واستقبل قبلتنا فإنه مسلم، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، ومن أبى فعليه الجزية» . فأسلم المنذر ومعه الكثيرون من
__________
(1) الطبري 3/ 27- 28 ابن سعد 2/ 1/ 89- 91 الواقدي 2/ 750- 752.
(2) الطبري 3/ 29 ابن سعد 2/ 1/ 91- 92 الواقدي 2/ 753- 755.
(3) الطبري 3/ 32- 33 ابن سعد 2/ 1/ 95 الواقدي 2/ 774- 777.
(4) انظر: الطبري 3/ 34- 36 وابن سعد 2/ 1/ 91- 96 والواقدي 2/ 741، 752- 753، 777- 780.
رعاياه، أما الذين بقوا على مجوسيتهم فصالحهم الرسول صلى الله عليه وسلم على الجزية، على ألا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم. وبقي العلاء هناك أميرا من رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحرين «1» .
وبعث عمرو بن العاص إلى جيفر وعباد ابني الجلندي الأزديين بعمان، فصدقا النبي وأقرا ما جاء به، فعرض الزكاة على أموال مسلميهم والجزية على من بقي على مجوسيته من أتباعهم «2» . وبعث سليط بن عمرو إلى ثمامة بن أثال وهوذة بن علي الحنفيين ملكي اليمامة، ويبدو أن ذهاب وفد بني حنيفة في السنة التالية المسماة بعام الوفود كان استجابة من زعماء هذه القبيلة الكبيرة لنداء الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتد مسيلمة هناك «3» .
وخرج عمرو بن كعب الغفاري يصحبه خمسة عشر رجلا إلى ذات أطلاح على حدود الشام، فوجدوا جمعا كثيرا، فدعوهم إلى الإسلام فأبوا أن يجيبوا، وانقضوا على أصحاب عمرو فأبادوهم جميعا، وتحامل عمرو حتى بلغ المدينة «4» فيما يذكر بمأساتي الرجيع وبئر معونة، ويبين لنا كم كانت الدعوة إلى الإسلام تعطي من تضحيات قبل أن تتمكن من تثبيت أقدامها في قلب الصحراء.
وإلى زعماء اليمن ومشايخها وبقايا ملوك حمير بعث الرسول صلى الله عليه وسلم معاذ ابن جبل ومالك بن مرارة يحملان إليهم وإلى أهل اليمن دعوة الإسلام، فأسلم الكثيرون منهم «5» . كما كتب صلى الله عليه وسلم إلى أمراء كندة وحضرموت رسائل مطولة يشرح لهم فيها تعاليم الإسلام وشرائعه. ويسرد ابن سعد أسماء عدد كبير من الزعماء العرب في الجنوب والشمال ممن تلقوا نداء الإسلام من الرسول صلى الله عليه وسلم فاستجاب له كثير منهم، وبقي الآخرون على شركهم. ومن بين هؤلاء الذين راسلهم الرسول على سبيل المثال: خالد بن ضماد الأزدي، ونعيم بن أوس أخي تميم الداري، والحصين بن أوس الأسلمي، وبنو قرة
__________
(1) الطبري 3/ 29، 137 ابن هشام ص 375 ابن سعد 1/ 2/ 19 البلاذري: فتوح 1/ 95- 99 وعن نصوص الكتب المتبادلة بين الرسول وأمير البحرين انظر حميد الله: الوثائق ص 144- 153.
(2) الطبري 3/ 29 ابن هشام ص 375 ابن سعد 1/ 2/ 18 البلاذري: فتوح 1/ 92.
(3) ابن هشام ص 375 الطبري 2/ 644- 645 ابن سعد 1/ 2/ 18.
(4) الطبري 3/ 29.
(5) ابن سعد 1/ 2/ 20- 21.
ابن عبد الله، وبنو الضباب بن الحارث بن كعب، ويزيد بن الطفيل الحارثي، وبنو قنان بن ثعلبة من بني الحارث، وعبد يغوث بن وعلة الحارثي، وبنو زياد بن الحارث، ويزيد بن المحجل الحارثي، وبنو فهد حلفاء بني الحارث، وعاصم بن الحارث، وبنو جرول الطائيين، وعامر ابن أسود الطائي وقومه طيىء، وبنو جوين الطائيين، وبنو معن الطائيين، وجنادة الأزدي وقومه، وقبيلتا سعد وهذيم القضاعية وجذام وبنو زرعة، وبنو الربعة ابن جهينة، وبنو جعيل بن بلى، وأسلم بن خزاعة، وعوسجة بن حرملة الجهني، وبنو شفخ والجرمز بن ربيعة والحرقة وعمرو بن معيد الجهنيين، وبلال بن الحارث المزني، وبنو عمرو، والعدّاء بن خالد بن عامر، ومسيلمة الكذاب الذي ردّ على كتاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنه نبي مثله، وسأله أن يقاسمه الأرض، وأن قريشا قوم لا يعدلون، فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم: «بلغني كتابك الكذب والافتراء على الله، وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين..» .
كما كتب الرسول صلى الله عليه وسلم لسلمة بن مالك من بني حارثة والعباس بن مرداس وهوذة بن نبيشة والأجبّ وراشد بن عبد الله وحرام بن عبد عوف السلميين، وجميل ابن رزام العدوي، وحصين بن فضلة الأسدي، وبني ضمرة بن بكر بن كنانة، والهلال أحد زعماء البحرين، وأسيبخت بن عبد الله صاحب هجر الذي جاء في كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إليه: « ... إنه قد جاءني الأقرع بكتابك وشفاعتك لقومك، وإني قد شفعتك وصدقت رسولك في قومك، فأبشر فيما سألتني وطلبتني بالذي تحب.. فإن تجئنا أكرمك وأن تقعد أكرمك أما بعد فإني لا أستهدي أحدا، وإن تهد إليّ أقبل هديتك وقد حمد عمالي مكانك، وأوصيك بأحسن الذي أنت عليه من الصلاة والزكاة وقرابة المؤمنين، وإني قد سميت قومك بني عبد الله، فمرهم بالصلاة وبأحسن العمل، وأبشر والسلام عليك وعلى قومك المؤمنين» .
وإلى جماعة من العبيد وقطاع الطريق في جبل تهامة كتب الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن استقبل وفدا منهم: «هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لعباد الله العتقاء، إنهم إن آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فعبدهم حرّ ومولاهم محمد. ومن كان منهم من قبيلة لم يرد إليها، وما كان فيهم من أدم أصابوه أو مال أخذوه فهو
لهم، وما كان لهم من دين في الناس ردّ إليهم ولا ظلم عليهم ولا عدوان..» .
كما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني زهير بن أقيش وأبي ظبيان الأزدي وحبيب ابن عمر الأجيئي وسمعان بن عمرو الكلابي وبكر بن وائل والسعير بن عداء وبني عبد القيس، ونفاثة بن فروة الدئلي ملك السماوة، وبني عذرة ومطرف بن الكاهن الباهلي ونهشل بن مالك الوائلي وسعيد بن سفيان الرعلي ومسلمة بن مالك السلمي، وبني جناب، ومهري بن الأبيض أمير مهرة، وبني خثعم، وقبائل ثمالة والحدان في صحار، ووائل بن حجر قيل حضرموت «1» .
وفي ذي القعدة من السنة التالية (7 هـ) حان موعد دخول المسلمين مكة فيما أسمته الروايات (عمرة القضاء) تنفيذا لشروط الحديبية. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر كل الذين شهدوا الحديبية بأن يتجهوا للعمرة، وأمر بحمل السلاح حذرا وحيطة.
فلما علمت قريش ذلك أصابها الخوف، وأرسلت إليه رجلا لقيه بمرّ الظهران وأعرب له عن مخاوف قريش فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم «ما عرفت صغيرا ولا كبيرا إلا بالوفاء، وما أريد إدخال السلاح عليهم، ولكن يكون قريبا إليّ» . فعاد المبعوث لكي يطمئن قريشا أن المسلمين لا ينوون دخول مكة مسلّحين، وأنهم سيبقون السلاح بعيدا عنها «2» .
وما إن اقترب المسلمون من مكة حتى انسحبت قريش صوب المرتفعات المحيطة خوفا من حدوث احتكاك بين الطرفين، إلا أنها عبرت عن غيظها بإشاعة بثتها بين الناس مفادها أن محمدا وأصحابه يعانون شدة وعسرة وجهدا، فاصطف بعضهم عند دار الندوة لينظروا إلى الرسول وإلى أصحابه، فلم يشأ الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن يجابه الشائعات بالأفعال، فشد رداءه وأخرج عضده اليمنى وقال: أرملوا بالبيت ليرى المشركون قوتكم، ثم استلم الركن وأخذ يهرول وأصحابه معه، حتى إذا واراهم البيت عن أعين القرشيين عادوا صوب الكعبة، فاعلين ذلك ثلاثا، ثم
__________
(1) انظر بالتفصيل ابن سعد 1/ 2/ 18- 38 وعن نصوص الرسائل المتبادلة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أمراء العرب وملوكهم وزعمائهم انظر: حميد الله: الوثائق ص 144، 153، 156، 163، 218، 219، 226، 230، 233، 234، 236، 237، 238، 241، 244، 332.
(2) الطبري 3/ 26.
أمر بلالا أن يصعد إلى ظهر الكعبة فيؤذن هناك. وبعد ثلاثة أيام من إقامة المسلمين في مكة وأداء مراسيم العمرة، بعثت قريش إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من يقول له: إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا، فقفل الرسول صلى الله عليه وسلم بأصحابه عائدا إلى المدينة، وصدقت رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم وكلمات الله: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً «1» !!
كان لعمرة القضاء- وأحداث الحديبية من قبلها- أثرها الخطير في مكة نفسها، فإن أهلها رأوا من تضامن المسلمين وتعاونهم وتعاطفهم، وحسن نظامهم والتفاهم بينهم، واقتدائهم بنبيهم، ما جعلهم يدركون أن مثل هذه الجماعة لا يمكن الوقوف في وجهها وليس من أمل في التغلب عليها، حتى لقد كانت عمرة القضاء قضاء تاما على روح العناد والمقاومة في قريش، وحتى لقد أدرك عقلاؤها أن من الخير الانضمام إلى محمد، يتمثل ذلك في إسلام خالد بن الوليد وعمرو ابن العاص وعثمان بن طلحة، حارس الكعبة. وبإسلام هؤلاء الثلاثة أسلم عدد كبير من أهل مكة وأصبحت مكة في حكم البلد الذي فتح أبوابه للدعوة الإسلامية، ولم يبق إلا أن تفتح أبوابها وتسلم القياد للمسلمين «2» ، ومن ثم يمكن اعتبار فتح مكة قد تم للمسلمين من يوم عمرة القضاء لأن هذه العمرة أثرت على معنويات قريش أعظم التأثير. إن عمرة القضاء فتحت قلوب قريش، وغزوة الفتح فتحت أبوابها «3» !!
__________
(1) سورة الفتح، الآية: 27، ابن هشام ص 268- 270 الطبري 3/ 23- 25 ابن سعد 2/ 1/ 87- 89 الواقدي 2/ 731- 741 البلاذري: أنساب 1/ 353 المسعودي: التنبيه 228 ابن حزم: جوامع ص 219- 220 ابن الأثير: الكامل 2/ 227- 228 ابن كثير: البداية 4/ 226- 232.
(2) الشريف: مكة والمدينة ص 468- 469.
(3) شيت خطاب: الرسول القائد ص 238.