الطائف: هي بلد كبير على ثلاث مراحل بسير الإبل من مكة، وعلى خمس ساعات بسير السيارات الحديثة، على طريق وعر غير معبّد، واليوم مهّد الطريق إليه من عرفة إلى جبل الكر الذي حطم لتعبيد الطريق إلى جبل الهدى، ومنه النزول إلى وادي محرم، ولو تمّ هذا العمل «1» .. تكون المسافة إلى الطائف نحو ساعة أو أقل.
__________
(1) قد تمّ العمل بطريق الهدا منذ عام (1385 هـ) تقريبا، وتقطع المسافة في نحو الساعة بالسير المعتدل بالسيارة الصغيرة.
وهي مدينة بناحية المشرق، طيبة الهواء، كثيرة الفواكه، ترتفع عن سطح البحر بمقدار ألف قدم، قيل: سميت بالطائف؛ لأنّها كانت بالشام، فنقلها الله إلى الحجاز بدعوة إبراهيم عليه وعلى نبيّنا الصّلاة والسّلام، أو لأنّ رجلا من الصّدف أصاب دما بحضرموت، ففرّ إلى وجّ «1» ، وحالف مسعود بن معتّب، وكان له مال عظيم؛ فقال: هل لكم أن أبني لكم طوفا عليكم يكون لكم ردءا من العرب؟ فقالوا:
نعم، فبناه، وهو الحائط المطيف به، أو لأنّه طاف على الماء في الطوفان، أو لأنّ جبريل طاف بها على البيت، ذكر هذه الأقوال صاحب «القاموس» .
وقال السهيليّ: (ذكر بعض المفسّرين وجها آخر في تسميتها بالطائف، فقال في الجنة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في «سورة ن» حيث يقول: فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ قال: كان الطائف جبريل عليه السّلام، اقتلعها من موضعها، فأصبحت كالصّريم، وهو الليل، أصبح موضعها كذلك، ثمّ سار بها إلى مكة، فطاف بها حول البيت، ثمّ أنزلها حيث الطائف اليوم، فسميت باسم الطائف الذي طاف عليها وطاف بها، وكانت تلك الجنة بصوران على فراسخ من صنعاء، ومن ثمّ كان الماء والشجر بالطائف دون ما حولها من الأرضين، وكانت قصة أصحاب الجنة بعد عيسى ابن مريم
__________
(1) بفتح الواو وتشديد الجيم: اسم لموضع بالطائف، وقيل: اسم للوادي كله.
فلثقيف وهي في حصون ... بطائف أقبل من حنين
صلّى الله عليه وعلى نبينا وسلّم بيسير، ذكر هذا الخبر النقاش وغيره) اهـ
قلت: فهذه وجوه خمسة في التسمية، ولم أر من اعتمد واحدا منها وردّ الآخر، أو اعتمد غيرها.
,
وكانت هذه الغزوة في شوال سنة ثمان، على ما قاله جمهور أهل المغازي.
واعلم: أنّه عليه الصّلاة والسّلام لمّا فرغ من حنين منصورا مظفرا، وبعث بغنائمها إلى وادي الجعرانة كما تقدم.. توجه لثقيف كما قال الناظم:
(فلثقيف) أي: فبعد حنين أقبل عليه الصّلاة والسّلام لثقيف، فالجار والمجرور يتعلق ب (أقبل) وقوله: (وهي) أي: ثقيف متحصنة (في حصون بطائف) جملة معترضة بين قوله فلثقيف وقوله: (أقبل من) وادي (حنين) .
قال في «العيون» عن ابن سعد: (قالوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين يريد الطائف، وقدّم خالد بن الوليد على مقدمته، وقد كانت ثقيف رمّوا حصنهم، وأغلقوه عليهم، وتهيّؤوا للقتال، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل قريبا من حصن الطائف- قال الزرقانيّ:
ولا مثل له في حصون العرب- وعسكر هناك، فرموا
فسألوه الكفّ عن قطع الكرم ... بالله والرّحم فارتادوا الكرم
المسلمين بالنّبل رميا شديدا كأنّه رجل جراد «1» ، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة، وقتل منهم اثنا عشر رجلا، فارتفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع مسجد الطائف اليوم «2» ، وكان معه من نسائه أم سلمة وزينب، فضرب لهما قبتين، وكان يصلي بين القبتين حصار الطائف كله، فحاصرهم ثمانية عشر يوما، وأمر بقطع أعنابهم ونخلهم، فقطع المسلمون قطعا ذريعا- أي: سريعا- ثمّ سألوه أن يدعها لله وللرحم، فقالوا: لم تقطع أموالنا؟ إمّا أن تأخذها إن ظهرت علينا، وإمّا أن تدعها لله وللرحم، فقال عليه الصّلاة والسّلام: «إنّي أدعها لله وللرحم» «3» ) ، وإليه الإشارة بقوله:
(فسألوه الكف) أي: المنع (عن قطع الكرم) أي:
العنب، والراء في الأصل ساكنة، وحركت بالفتح للضرورة (بالله والرحم) يتعلق ب (سألوه)
__________
(1) بكسر الراء وسكون الجيم، يعني: أنّ السهام لكثرتها صارت كجماعة الجراد المنتشر.
(2) قال في «شرح المواهب» : (وهو الذي بناه عمرو بن أميّة بن وهب مسجدا لما أسلمت ثقيف، وكان فيه سارية فيما يزعمون لا تطلع عليها الشمس يوما من الدهر إلّا سمع لها نقيض- أي: صوت- أكثر من عشر مرات، وكانوا يرون أنّ ذلك نبيح) اهـ
(3) لأنّ أمه عليه الصّلاة والسّلام آمنة، أمها برة بنت عبد العزّى بن قصي، وأم برة هذه أم حبيب بنت أسعد، وأمها برة بنت عوف، وأمّها قلابة بنت الحارث، وأم قلابة هند بنت يربوع من ثقيف، كما قاله ابن قتيبة.
فهابه والمنجنيق ضربا ... وسئل الدّعا عليهم فأبى
(فارتادوا) أي: فطلبوا من النّبيّ صلى الله عليه وسلم (الكرم) الذي هو ضد اللؤم، يقال: ارتاد الكلأ: طلبه، فلا إيطاء.
فإن قيل: قد سمى الناظم العنب كرما، وقد نهى عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تسموا العنب الكرم» أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه؟
قلت: النهي محمول على التنزيه، وعلة النهي: كونه يتخذ منه الخمر، ولأنّ فيها تقريرا لما كانوا يتوهمونه من تكريم شاربها.
(فهابه) أي: هاب الله تعالى لما سألوه به، وقال:
«أدعها لله وللرحم» وكفّ عزّ وجلّ.
,
(والمنجنيق) بفتح الميم وتكسر: آلة ترمى بها الحجارة قال في شرح المواهب: (مؤنث عند الأكثر، ويذكر، معرب، والميم أصلية عند سيبويه والنون زائدة، ولذا أسقطت في الجمع، قال كراع: كل كلمة فيها جيم وقاف أو جيم وكاف مثل كيلجة.. فهي أعجمية، ذكره في «الروض» ) اهـ وهو بالنصب على حذف الخافض؛ أي: وبالمنجنيق (ضربا) عليه الصّلاة والسّلام ثقيفا، وهو أول منجنيق رمى به في الإسلام، وكان قدم به الطفيل الدوسي معه لما رجع من
سرية ذي الكفين «1» ، فرمتهم ثقيف بالنبل، فقتل من المسلمين اثنا عشر رجلا.
إباء الرسول صلّى الله عليه وسلّم الدعاء على ثقيف:
(و) لمّا أحرقتهم نبال ثقيف (سئل) أي: سأل الصحابة النّبيّ صلى الله عليه وسلم (الدعا عليهم) فقالوا:
يا رسول الله؛ ادع على ثقيف، (فأبى) عليه الصّلاة والسّلام؛ لعظيم حلمه، وكريم أخلاقه، ولنظره السامي أن يخرج الله من أصلابهم من يؤمنون بالله عزّ وجلّ، ورجاء أن يهديهم الله للدخول في حظيرة الإسلام، ومن ثمّ لمّا سئل ذلك.. أبى، وقال عليه الصّلاة والسّلام: «اللهمّ؛ اهد ثقيفا، وائت بهم مسلمين» .
ومن ألقى نظرة إلى سوء ما عاملت به ثقيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنّهم آذوه أشد الأذى يوم أتاهم للدعوة إلى دين الله، وإلى ما يقوله عليه الصّلاة والسّلام في شأنهم في هذا اليوم يرى سموّ أخلاقه، وكرم نفسه الشريفة؛ فقد قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله؛ هل مرّ عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ فقال: «ما لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت
__________
(1) تثنية كف، وهو صنم من خشب كان لعمرو بن حممة.
وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلّا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إنّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ، ثم قال:
يا محمّد؛ ذلك لك إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين..
فعلت، - فقال صلى الله عليه وسلم- بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا»
وقد حقق الله ما رجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من هداية ثقيف، وقدوم وفدهم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم مسلمين طائعين.
وهذا الحديث موافق لقوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ وإلى هذا المعنى أشار سيدي عبد العزيز الفاسي في «قرّة الأبصار» وأجاد بقوله:
وكان قادرا على التدمير ... لو شاء لكن جاد بالتأخير
حتى هدى الله به من شاء ... منهم ومن أصلابهم أبناء
ثم أعزّ دينه ونصره ... وأيّد الحق به وأظهره
ونوفل استشاره في أمره ... فقال هم كثعلب في جحره
ولم يؤذن له عليه الصّلاة والسّلام في فتح الطائف ذلك العام.
(ونوفل) هو ابن معاوية الدّؤلي، وعدّ من المؤلّفة قلوبهم (استشاره) رسول الله صلى الله عليه وسلم (في أمره) أي:
الطائف: أيرجع عن أهله أم لا؟ (فقال) يا رسول الله، صلّى الله عليك وسلم (هم كثعلب في جحره) بتقديم الجيم على الحاء؛ أي: ثقبه، إن أقمت عليه.. أخذته، وإن تركته..
لم يضرك.
تحرير الرسول صلّى الله عليه وسلّم من خرج إليه مسلما من عبيدهم:
ثمّ أمر عليه الصّلاة والسّلام مناديا ينادي: «أيّما عبد خرج إلينا.. فهو حر» فخرج منهم بضعة عشر عبدا نزلوا ببكرة، منهم نفيع بن الحارث المكنى بأبي بكرة، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه ويحمله، وأمرهم أن يقرؤوهم القرآن، ويعلّموهم السنن، فشقّ ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة، ثمّ لمّا أسلمت ثقيف.. كلّم أشرافهم فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردوهم إلى الرق، فقال: «أولئك عتقاء الله» .
ولمّا قدم وفدهم، وأسلموا.. ولى عليهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم عثمان بن أبي العاصي، وله المقام المحمود يوم قبض النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فإنّه قام خطيبا وقال:
(يا معشر ثقيف؛ لا تكونوا آخر العرب إسلاما، وأوّلهم ارتدادا) فلم يرتد منهم أحد.
أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالرحيل إذ لم يؤذن له في الفتح هذا العام:
وأمر عليه الصّلاة والسّلام عمر بن الخطاب، فأذن في الناس بالرحيل، فضجّ الناس من ذلك، فقالوا: نرحل ولم يفتح علينا الطائف؟! فقال عليه الصّلاة والسّلام: «فاغدوا على القتال» فغدوا، فأصاب المسلمين جراحات، فقال عليه الصّلاة والسّلام: «إنّا قافلون إن شاء الله تعالى» فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك.
قال النووي: (قصد النّبيّ صلى الله عليه وسلم الشفقة عليهم، والرفق بهم، وبالرحيل عن الطائف؛ لصعوبة أمره، وشدة الكفار الذين هم فيه، وتقويهم بحصنهم، مع أنّه صلى الله عليه وسلم علم أو رجا أنّه سيفتحه بعد هذا بلا مشقة، فلمّا حرص الصحابة على المقام والجهاد.. أقام، وجدّ في القتال، فلمّا أصابتهم الجراح.. رجع إلى ما كان قصده أوّلا من الرفق بهم، ففرحوا بذلك لما رأوا من المشقّة الظاهرة، ووافقوا على الرحيل، فضحك صلى الله عليه وسلم تعجّبا من تغير رأيهم، ولمّا أرادوا أن يرتحلوا.. قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «قولوا: لا إله إلّا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» فلمّا ارتحلوا.. قال: «قولوا:
«آئبون، تائبون، عابدون، لربّنا حامدون» .
عمرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الجعرانة:
وهنا انتهى الكلام على غزوة الطائف، وبعدها رجع عليه الصّلاة والسّلام إلى الجعرانة؛ لقسم الأموال والسبايا.
قال في «الإمتاع» : (وأقام عليه الصّلاة والسّلام بالجعرانة ثلاث عشرة ليلة، وخرج ليلة الأربعاء لثنتي عشرة بقيت من ذي القعدة، وأحرم- أي: بالعمرة- ولمّا كملها..
عاد إلى الجعرانة من ليلته، فكان كبائت بها، ثمّ خرج يوم الخميس على سرف إلى مرّ الظهران، واستعمل على مكة عتاب ابن أسيد، وقال له: «أتدري على من استعملتك؟» قال:
الله ورسوله أعلم، قال: «استعملتك على أهل الله» ثمّ وصل إلى المدينة المنوّرة مظفرا منصورا يوم الجمعة لثلاث بقين من ذي القعدة من السنة الثامنة، والمدينة في تلهّف وتشوّق، واستطلاع لأنواره المحمّدية، عليه أفضل الصّلاة وأزكى التحية) .
وفي السنة التاسعة خرج لغزو الروم بتبوك.