631- تتبع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هوازن حيثما سارت سار وراءها، سار وراءها إلى أوطاس، إذ دخلتها هوازن وتحصنت بها ثم ساروا إلى الطائف، وهى ذات حصون قوية، وهم أشداء، ورماة، فسار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فلما علموا بمسيره تحصنوا بحصونهم، وجمعوا طعاما وزادا يكفيهم سنة، بحيث يصبرون إذا طال الحصار عليهم، فيجهد أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يجهدون، وهم فى حصونهم يرمون ولا ينالون، فيقتلون ولا يقتلون.
والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم عندما اتجه إلى حصونهم أشار عليه سلمان الفارسى بالمنجنيق يرمى بها حصونهم، فيأتيها من قواعدها، فتنهار قوة تحصينهم.
وصنع لهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دبابات من خشب تقتحم عليهم حصونهم.
مضى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم إلى حصون الطائف، فرموا جيش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وصار النبل ينزل على المؤمنين كأنه جراد، فقتل من المسلمين عدد قيل إنه بلغ اثنى عشر شهيدا أو يزيد، فاوى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى مكان بعيد عن مرمى النبل، ولكنه يريد أن يعرف حالهم فى الداخل.
فنادى منادى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، من خرج منهم، ودخل جيش المسلمين من العبيد، فهم أحرار.
فخرج نفر من العبيد، ونالوا حريتهم بحكم الشرع، وبحكم ذلك النداء المحمدى الحر الكريم، ولقد تعرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أحوالهم وعلم أن عندهم الزاد الذى يكفيهم سنة.
وأخذ عليه الصلاة والسلام يعمل على أن يخرجوا من الحصون مختارين فأمر بالنخيل أن يقطع، وبالكرم أن تجتث- فرأوا أن ذلك ضياع لثروتهم، وقالوا ما يكون لنا إن قطعت كرومنا ونخلنا، وقال مناد من بنى ثقيف قد بعثوه يقول، لا تفسدوا الأموال، فإنها لنا أو لكم.
هز ذلك نفوسهم، وأضعف عزيمتهم، وخصوصا أن عبيدهم أخذوا يتركونهم، وكان العبد الذى ينال الحرية يدفعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بعض المسلمين يعولونه، حتى ينال خيرا فى حريته، واستمروا يقاومون مع ضعضعة نفوسهم والمسلمين ينالون من حصونهم، حتى إنهم ليحمون الحديد، يرمونه على الدبابات الخشبية، ليحرقوها، ويخرجوا الرجال من تحتها.
وقد كان بين الطائف وقريش رحم ومصاهرة.
ولذلك تقدم ناس من قريش لثقيف يمنعونهم من المطاولة، فالنتيجة ليست لهم، وإن العاقبة للمتقين.
تقدم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة يطالبون ثقيفا بأن تؤمنهم ليتمكنوا من كلامهم، وقد لانت شكيمة ثقيف، وقبلت التفاهم، فأمنوهما، تقدم أبو سفيان والمغيرة ودعوا نساء من نساء قريش وكنانة ليخرجن إليهما، ولكنهما لم يجبن خشية السبى كما كان لنساء هوازن، منهن آمنة بنت أبى سفيان.
فلما أبين عليهما قال لهما الأسود بن مسعود يا أبا سفيان ويا مغيرة ألا أدلكما على خير مما جئتما له، وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نازلا بواد يقال له العقيق، قال ابن مسعود هذا: إنه ليس بالطائف مال أبعد رشاء، ولا أشد مؤنة، ولا أبعد عمارة من مال بنى الأسود، وإن محمدا إن قطعه لم يعمر أبدا، فكلماه، فليأخذه لنفسه، أو ليدعنه لله وللرحم فإن بيننا وبينه من القرابة، ما لا يجهل.
لأن القوم، وثقيف لا يلينون إلا إذا أرادوا أن يباعدوا بينهم العنف، ويريدوا السلم، ولقد وجدوا أن الحصار عضهم، وإن كانت لديهم المؤن والذخائر، فهو حبس كيفما كانت صورته، وأن جيش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ أموالهم من النخيل والكروم، ويأتى حصونهم من قواعدها وهم لا قبل
لهم، فنادوا محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم بالرحم والقرابة، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصم آذانه عن نداء الرحم والقرابة، وهو الذى يأمر أن يوصل ما أمر الله تعالى بوصله.
وقد رأى الإسلام يدخل الطائف من مكة المكرمة وما حولها، وأن بعض بنى ثقيف دخلوا فى الإسلام وأكثرهم مال إليه، وما كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إلا هاديا داعيا إلى الحق وإلى صراط مستقيم، وإن اللين مع من عندهم عنف كثقيف قد يكون سببا فى أن تصغى قلوبهم إلى الإسلام، بينما العنف يعمى قلوبهم ويغلظ أكبادهم ويزيدهم عنادا.
فرأى عليه الصلاة والسلام استجابة لداعى الرحم الذى أثاروه، والقرابة التى تنادوا بها، والإصلاح فى الأرض أن يرحل، وقد غاب عن المدينة المنورة أكثر من شهرين.
وإن ذلك كان فى شوال، وإذا استمر فإنه سيجيء ذو القعدة وهو من الأشهر الحرم، وما كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليقاتل مهاجما فى الأشهر الحرم، التى هى ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذى بين جمادى وشعبان.
وموقف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان موقف هجوم، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا يخالف أمر الله تعالى باحترام الأشهر الحرم.
لذلك أخذ فى الرحيل عائدا إلى المدينة المنورة بعد أن حاصر الطائف سبع عشرة ليلة، وفى رواية سبعا وعشرين ليلة، وقال ابن إسحاق: مكث بضعا وعشرين ليلة.
اتخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الأهبة فى الرحيل، وذكر أن الله تعالى لم يأذن له فى الطائف، وذكر ذلك لخويلة بنت حكيم بن أمية.
فخرجت خويلة وذكرت ذلك لعمر بن الخطاب، فقال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما حديث حدثتنيه خويلة، زعمت أنك قلته. أفلا أؤذن بالرحيل، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بلى، فأذن عمر رضى الله تعالى عنه بالرحيل.
رحل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى يثرب عائدا من تلك الرحلة المباركة غير مهزوم ولا مغلوب ولا عاجز، ولكنه قادر ومنفذ لحدود الله، غير مقاتل ولا مهاجم فى الشهر الحرام، مراعيا الرحم والقرابة، وآخذا القوم إلى الإسلام فى رفق وغير غلظة، وخرج من بين ظهرانيهم، ليلقى وفد هوازن وثقيف فى المدينة المنورة بين ظهرانى المسلمين.
ولما ارتحلوا وأخذوا يستقيمون على الطريق بعد هذا الفتح المبين، والنصر المؤزر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آيبون عابدون، لربنا حامدون» .
وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع على ثقيف، فقال نبى الرحمة: «اللهم اهد ثقيفا وأت بهم» .
ويروى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم اتبعه فى أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يدخل المدينة المنورة مسلما، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: كما يتحدث قومك أنهم قاتلوك. وعرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن فيهم نخوة الامتناع الذى كان فيهم، فقال عروة: يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبكارهم، وكان حقيقة مجابا مطاعا فيهم، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء ألا يخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف عليهم من مكان مرتفع يدعوهم إلى الإسلام رموه بسهم فقتل، فقال رضى الله عنه: كرامة أكرمنى الله تعالى بها، وشهادة ساقها الله تعالى إليّ، فليس فى إلا ما فى الشهداء الذين قتلوا مع النبى صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنونى معهم فدفنوه.
ويظهر أن قتلهم عروة، وهو المحبب فيهم، قد أثر فى نفوسهم، وقد رأوا أن العرب قد دخلوا فى طاعة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنهم وحدهم الباقون على عدائه، ولا قبل لهم به، ولا بحرب من حولهم من العرب الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا.
لذلك أجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فكلموا عبد بن ياليل، وكان فى سن عروة بن مسعود، وعرضوا عليه ذلك، فأبى أن يجيبهم، وقد رأى ما صنعوه مع عروة، وكانوا هم الذين أرسلوه، كما يحاولون إرساله، فخشى أن يفعل به ما وقع بصاحبه، فقال لهم عبد ياليل: ابعثوا معى وفدا فبعثوا معه ستة، ووصلوا المدينة المنورة، فلقيهم المغيرة بن شعبة، ولنترك الكلام فيما صنعه الوفد، وما قاله الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الكلام فى الوفود من بعد ذلك فى وقتها من الزمان.
وإن كلامنا الآن فى وفد ثقيف كلام مبتسر، ذكرناه لنبين أن ترك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غير عاجز، كان لحكمة عالية ألانت قلوبا بعد شماسها، حتى إنه يروى أبو داود: أن العيلة الأحمسى واسمه صخر، أخذ على نفسه عهدا وذمة أن يحمل ثقيفا على مبايعة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الإسلام، وقد استطاع أن يلين قلوبهم وأن ينزلهم على حكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد كتب صخر هذا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول له: «أما بعد فإن ثقيفا قد نزلت على ذلك يا رسول الله، وأنا مقبل بهم، وهم فى خيلى» .
عندما جاء ذلك الكتاب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سر سرورا لا حد له، لأنهم جاؤه مسلمين، ولم تكن حرب تخرب الديار، وأمر بأن ينادى: الصلاة جامعة، فقرأ على المسلمين كتاب صخر، ثم دعا لقبيلة أحمس التى منها صخر هذا، وقال عشر مرات: «اللهم بارك لأحمس فى خيلها ورجالها» .
ولقد جاء صخر هذا ببعض ثقيف، ولكن لم يكن هو الوفد الذى جاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد ذكرنا أننا سنتكلم فى وفد ثقيف من بعد عند الكلام فى الوفود فى سنة الوفود.