وأقام محمد بالمدينة بعد ذلك قرابة شهرين. ثم كانت غزوة بني المصطلق بالمريسيع، هذه الغزوة التي يقف عندها كل كاتب وكل مؤرّخ لسيرة النبيّ العربيّ؛ لا لأنها غزوة ذات قيمة، أو لأن المسلمين أو عدّوهم أبلوا فيها بلاء خارقا للعادة، بل لأن الشقاق كاد يفشو بعدها في صفوف المسلمين، فحسمه الرسول بأحسن ما يكون عزيمة وحزما، ولأن من أثرها أن تزوّج الرسول من جويرية بنت الحارث، ولأن هذه الغزوة أثمرت حديث الإفك عن عائشة حديثا كان موقفها منه، وهي لمّا تزل في السادسة عشرة، موقف إيمان وقوة تحطّمت على جنباتهما وعنت لجلالهما كل الوجوه.
فقد بلغ محمدا أن بني المصطلق، وهم فرع من خزاعة، يجتمعون في حيهم على مقربة من مكة، وأنهم يحرّضون عليه يريدون قتله وعلى رأسهم قائدهم الحارث بن أبي ضرار. ووقف محمد من أحد البدؤ على سرّ جمعهم فأسرع في الخروج ليأخذهم على غرّة، كعادته في أخذ أعدائه. وجعل لواء المهاجرين لأبي بكر، ولواء الأنصار لسعد بن عبادة. ونزل المسلمون على ماء قريب من بني المصطلق يقال له المريسيع، ثم أحاطوا ببني المصطلق ففرّ من جاؤا لنصرتهم. وقد قتل من بني المصطلق عشرة ولم يقتل من المسلمين إلا رجل يقال له هشام بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار وهو يحسبه خطأ من العدو. ولم يجد بنو المصطلق، بعد قليل من
التراشق بالنبال، مفرّا من التسليم تحت ضغط المسلمين القويّ السريع، فأخذوا أسرى هم ونساؤهم وإبلهم وماشيتهم.
,
وكان لعمر بن الخطاب في الجيش أجير يقود فرسه، فازدحم بعد انتهاء الموقعة مع أحد رجال الخزرج على الماء فاقتتلا فتصايحا، يقول الخزرجي: يا معشر الأنصار، ويقول أجير عمر: يا معشر المهاجرين.
وسمع عبد الله بن أبيّ النداء، وكان قد خرج مع المنافقين في هذه الغزوة ابتغاء الغنيمة، فثار ما في نفسه على المهاجرين وعلى محمد من حفيظة، وقال لجلسائه: «لقد كاثرنا المهاجرون في ديارنا والله ما أعدّنا وإياهم إلا كما قال الأول: «سمّن كلبك يأكلك» . أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ» . ثم قال لمن حضر من قومه: «هذا ما فعلتم بأنفسكم: أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم. أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم» . ومشى بحديثه هذا ماش إلى رسول الله بعد فراغه من عدّوه، وكان عنده عمر بن الخطاب، فهاج عمر لما سمع وقال: مر به بلالا فليقتله. هنا ظهر النبي كدأبه مظهر القائد المحنّك والحكيم البعيد النظر. إذ التفت إلى عمر وقال: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس وقالوا إن محمدا يقتل أصحابه؟
لكنه قدر في الوقت نفسه أنه إن لم يتخذ خطّة حازمة فقد يستفحل الأمر. لذلك أمر أن يؤذن في الناس بالرحيل في ساعة لم يكن يرتحل المسلمون فيها، وترامى إلى ابن أبيّ ما بلغ النبي عنه، فأسرع إلى حضرته ينفي ما نسب إليه، ويخلف بالله ما قاله ولا تكلّم به. ولم يغير ذلك من قرار محمد الرحيل شيئا، بل انطلق بالناس طيلة يومهم حتى أمسوا، وطيلة ليلتهم حتى أصبحوا، وصدر يومهم الثاني آذتهم الشمس. فلما نزل الناس لم يلبثوا حين مسّت جنوبهم الأرض أن وقعوا من فرط تعبهم نياما، وأنسى التعب الناس حديث ابن أبي وعادوا بعد ذلك إلى المدينة ومعهم ما حملوا من غنائم بني المصطلق وأسراهم وسبيهم، ومعهم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار قائد الحي المهزوم وزعيمه.
,
بلغ المسلمون المدينة، وأقام ابن أبي بها، لا تهدأ له نفس حسدا لمحمد وللمسلمين، وإن تظاهر بالإسلام بل بالإيمان؛ وإن أصر على إنكار ما نقل عنه لرسول الله عند المريسيع. أثناء ذلك نزلت سورة المنافقين وفيها قوله تعالى: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ. يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) «1»
,
هنالك حسب قوم أن في هذه الآيات قضاء على ابن أبيّ، وأن محمدا لا ريب آمر بقتله. فذهب عبد الله بن عبد الله بن أبيّ، وكان مسلما حسن الإسلام، فقال: «يا رسول الله، إنه بلغني إنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبرّ بوالده مني. وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس،
__________
(1) سورة المنافقون آيتا 7، 8.
فأقتله فأقتل رجلا مؤمنا بكافر فأدخل النار» . كذلك قال عبد الله بن عبد الله بن أبيّ لمحمد. وما أحسب عبارة من عبارته على إيجازها في قوة التعبير عن حالة نفسية تضطرب فيها أقوى العوامل في النفس أثرا: تضطرب فيها عوامل البرّ بالأب وصدق الإيمان والنخوة العربية والحرص على سكينة المسلمين حتى لا تتواتر الثارات بينهم! فهذا ابن يرى أباه سيقتل، فلا يطلب إلى النبيّ ألّا يقتله، لأنه يؤمن بأن النبيّ إنما يصدع بأمر ربه، ويوقن بكفر أبيه. وهو، من خيفة ما يقتضيه البرّ بأبيه وما تقتضيه الكرامة والنخوة أن يثأر له ممّن قتله، يريد أن يحمل على نفسه وأن يقتل هو أباه، وأن يحمل هو بنفسه إلى النبيّ رأسه، وإن قطّع قلبه وفرى كبده! وهو يجد في إيمانه بعض الغزاء عن هذا الشطط الذي يكلف نفسه، مخافة أن يدخل النار إن هو قتل المؤمن الذي يأمره النبيّ بقتل أبيه. أيّ جلاد بين الإيمان والعاطفة والخلق أشدّ من هذا الجلاد! وأية مأساة مأساة نفسيّة أفتك بصاحبها من هذه المأساة! أفتدري بم أجاب النبي عبد الله بعد أن سمع قوله: «إنّا لا نقتله بل نترفّق به ونحسن صحبته ما بقي معنا» .
,
يا لروعة العفو وجلاله! محمد يترفّق بهذا الذي يؤلب أهل المدينة عليه وعلى أصحابه، فيكون رفقه ويكون عفوه أبعد من عقوبته لو أنه أنزلها به. فقد كان عبد الله بن أبي بعد ذلك إذا أحدث الحدث يعاتبه قومه ويعنفونه ويشعرونه أن حياته بعض هبات محمد له. وتذاكر النبي مع عمر يوما شؤون المسلمين وجاء ذكر ابن أبي وما يعاتبه قومه وما يعنفونه؛ فقال محمد: كيف ترى يا عمر! أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أعظم بركة من أمري.
,
حدث ذلك كله بعد أن عاد المسلمون إلى المدينة ومعهم ما معهم من السّبي والغنائم. على أن أمرا حدث لم يترك بادئ الرأي أثرا، كان له بعد ذلك حديث طويل. ذلك أنّ النبيّ كان إذا غزا أقرع بين نسائه، فأيّهن خرج سهمها خرج بها معه. وخرج سهم عائشة غزوة بني المصطلق فخرج بها. وكانت عائشة نحيفة خفيفة، فكانوا إذا جاؤا بالهودج إلى بابها خرجت إليه فأخذ الرجال به فشدّوه إلى البعير وهم لا يكادون يشعرون بها لخفّة زنتها. ولمّا فرغ النبيّ من سفره وسار ومن معه مسيرتهم الطويلة المضنية التي ذكرنا، اتّجه بعد ذلك إلى المدينة، حتى إذا كان قريبا منها نزل منزلا بات به بعض الليل ثم أذّن في الناس بالرحيل وكانت عائشة قد خرجت من خيمة النبي لبعض حاجتها والهودج موضوع أمام الخيمة في انتظار دخولها فيه. وكان لعائشة عقد انسل من عنقها وهي بعض حاجتها، فلما قامت عائدة إلى الرحيل التمست العقد فلم تجده فرجعت أدراجها تبحث عنه. ولعلّها بحثت عنه طويلا حتى وجدته. ولعلها أغفت أثناء ذلك لفرط ما نالها من التعب بعد مسيرتهم المجهدة. ورجعت إلى المعسكر لتستقلّ هودجها، فإذا القوم قد شدّوه إلى ظهر البعير وهم يحسبونها فيه، وارتحلوا وهم يحسبون أنهم حملوا معهم أشدّ أمهات المؤمنين حظوة عند النبي. ولم تجد هي في المعسكر داعيا ولا مجيبا. فلم يساورها الخوف وأيقنت أن القوم إذا افتقدوها فلم يجدوها رجعوا إليها، فخير لها أن تبقى مكانها من أن تضرب في الصحراء على غير هدى فتضلّ السبيل. ولم يساورها الخوف فالتفّت في جلبابها واضطجعت مكانها منتظرة دعوة الباحث عنها. وإنها لفي ضجعتها إذ مرّ بها صفوان بن المعطّل السّلميّ، وكان قد تخلّف عن العسكر لبعض حاجاته وكان يراها قبل أن يضرب الحجاب على نساء النبي، فلما بصر بها على هذه الحال تراجع دهشا وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلّم! ما خلّفك رحمك الله؟
فلم تجبه فقرّب هو لها البعير واستأخر عنه وقال: اركبي، فركبت. وانطلق بالبعير سريعا يطلب الناس فلم يدركهم، أن كانوا يعجلون سيرهم يريدون المدينة ليستريحوا بها من عناء السير الذي أمر به رسول الله إطفاء للفتنة التي كادت تقوم بسبب حديث ابن أبيّ. ودخل صفوان المدينة في وضح النهار بأعين الناس وعائشة على ظهر بعيره. حتى إذا كانت عند منزلها بين منازل نسوة الرسول دلفت إليه. ولا يجول بخاطر أحد أن يحدّث في أمرها قولا أو أو يثير حول تأخرها عن الركب شبهة، ولا يدور بخاطر الرسول ظنّة سوء في ابنة أبي بكر أو في صفوان المؤمن الحسن الإيمان.
وما كان لحديث أن يدور، وها هي ذي تدخل المدينة بأعين الناس في أعقاب العسكر الذين جاؤا لم يمض بين مجيئهم ومجيئها وقت يحمل على ظنّة أو يبعث إلى نفس ريبة؛ وها هي تدخل بأعين الناس صافية الجبين مشرقة الوجه، ليس في شيء من مظهرها ما يريب. فلتجر إذا شؤون المدينة كما هي وليقتسم المسلمون الأسلاب والغنائم والسبايا مما أسروا من بني المصطلق، ولينعموا بهذه الحياة الرخيّة التي تزداد على الأيام رخاء كلما زادهم إيمانهم على عدّوهم عزّا، وكلما أظفرتهم به عزيمتهم الصادقة واستهانتهم بالموت في سبيل الله وفي سبيل دينه وفي سبيل حرية العقيدة، حرية كان العرب من قبل يأبونها عليهم.