"ولما دخل صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الأربعاء" الذي انصرف فيه من الخندق لسبع بقين من ذي القعدة، قاله ابن سعد، وكان المصنف لم يترجم لها لاتصالها بغزوة الخندق حتى كأنها بيان لبعض تعلقاته؛ لأنهم ظاهروا الأحزاب، فكانوا من جملتهم "هو وأصحابه ووضعوا السلاح".
قال ابن إسحاق: وكان الظهر.
جاء جبريل عليه السلام معتجرا بالعمامة من استبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج.
وفي البخاري من حديث عائشة أنه لما رجع صلى الله عليه وسلم ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل
__________
"جاء جبريل علي السلام معتجرا بالعمامة" وهو أن يلفها على رأسه، ويرد طرفها على وجهه، ولا يعمل منها شيئا تحت ذقنه، كما في النهاية، وتبعه الشامي ونحوه في القاموس.
وقال ابن فارس: اعتجر الرجل لف العمامة على رأسه فلم يقيده، فإما أن يحمل عليه، أو هو قول ثان، "من استبرق" ضرب من الديباج غليظ، وتصغيره أبيرق قاله البرهان.
قال ابن سعد: وكانت سوداء وأرخى منها بين كتفيه "على بغلة" بيضاء عليها رحالة، "عليها قطيفة ديباج"، هكذا لفظ ابن إسحاق عن الزهري، ورحالة، بكسر الراء، وخفة الحاء المهملة، سرج من جلود لا خشب فيها، تتخذ للركض الشديد، والجمع رحائل، والقطيفة كساء له خمل، وكانت حمراء كما روي عن الماجشون، وديباج بكسر الدال، وقد تفتح، فارسي معرب، والإضافة بيانية على معنى من، وفي لفظ: بغلة شهباء، وآخر فرس أبلق، وجمع بأن الدابة ليست من دواب الدنيا، فبعض الرائين تصورها بغلة، وبعضهم فرسا، فأخبر كل بما تصور، وبعض أمعن نظره، فقال بلقاء لكونها ذات لونين، وبعض لم يمعنه، ورأى غلبة البياض، فقال شهباء أو بيضاء.
"وفي البخاري" في الجهاد والمغازي "من حديث عائشة، أنه لما رجع صلى الله عليه وسلم" من الخندق، كما في رواية للبخاري أيضا، أي: إلى المدينة، "ووضع السلاح، واغتسل" للتنظيف من آثار السفر، وعليه بوب البخاري الغسل بعد الحرب، وظاهره أنه فرغ من غسله، وبه صرح كعب بن مالك عند الطبراني وغيره بسند صحيح، أنه اغتسل واستجمر، وكذا الواقدي، وقال: ودعا بالمجمرة ليتبخر، وقد صلى الظهر.
وعند ابن عقبة فأخذ يغسل رأسه، وقد رجل أحد شقيه، ويحتمل أنه أتم الغسل، وأخذ يرجل رأسه مكانه، والمحمرة عنده "أتاه جبريل" جواب لما، وللبخاري في الجهاد فأتاه بالفاء وهي زائدة قاله القرطبي، ويؤيده رواية المغازي هذه الأولى، وفي الرواية الثانية في المغازي لما رجع من الخندق، وضع السلاح واغتسل فأتاه جبريل.
قال الحافظ: فهذا يبين أن الواو في الجهاد زائدة في قوله: ووضع السلاح، هو أولى من دعوى زيادة الفاء لكثرة مجيء زيادة الواو، وللواقدي أنه وقف موضع الجنائز، وللطبراني والبيهقي عن كعب بن مالك، أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من طلب الأحزاب، وجمع عليه اللامة، واغتسل
فقال: قد وضعت السلاح، والله ما وضعناه. واخرج إليهم.. وأشار إلى بني قريظة.
وعند ابن إسحاق: إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فزلزل بهم
__________
واستجمر تبدى له جبريل فنادى عذيرك من محارب، فوثب فزعا بفتح العين المهملة، وكسر الذال المعجمة، وسكون التحتية وفتح الراء، أي: من يعذرك فعيل بمعنى فاعل، وللطبراني والبيهقي عن عائشة قالت: سلم علينا رجل، ونحن في البيت، فقام صلى الله عليه وسلم فزعا، فقمت في أثره، فإذا بدحية الكلبي، فقال: "هذا جبريل يأمرني أن أذهب إلى بني قريظة"، فكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه جبريل، وللبخاري أيضا، وهو أي: جبريل، ينفض رأسه من الغبار، وله في الجهاد، وقد عصب رأسه الغبار، "فقال: قد وضعت السلاح" بحذف همزة الاستفهام الثابتة في ابن إسحاق، ولفظه: أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: "نعم" قال: "والله" نحن "ما وضعناه".
وعند ابن سعد من مرسل يزيد بن الأصم: وضعت السلاح، ولم تضعه ملائكة الله، "واخرج إليهم".
وعند ابن سعد من مرسل حميد بن هلال فقال: يا رسول الله انهض إلى بني قريظة، فقال: "إن في أصحابي جهدا، فلو أنظرتهم أياما"، قال: انهض إليهم فلأضعضعنهم، وأسقط المصنف من حديث البخاري قال: قل لي: أين، قال: ههنا، "وأشار" زاد الكشميهني بيده "إلى بني قريظة" بضم لقاف، وفتح الراء، وسكون التحتية، وبالظاء المعجمة فتاء تأنيث.
قال السمعاني: اسم رجل نزل أولاده قلعة حصينة بقرب المدينة فنسبت إليهم، وقريظة والنضير أخوان من أولاد هارون، وذكر عبد الملك بن يوسف أن بني قريظة كانوا يزعمون أنهم من ذرية شعيب نبي الله.
قال الحافظ: وهو محتمل، وأن شعيبا كان من بني جذام القبيلة المشهورة وهو بعيد جدا، ا. هـ.
"وعند ابن إسحاق" عن شيخه الزهري: "إن الله يأمرك يا محمد بالسير إلى بني قريظة،" فاذهب كما أمرك الله، "فإني عامد إليهم" فهو علة لمقدر "فزلزل بهم" حصونهم، فالمفعول محذوف لرواية ابن إسحاق: أن جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم.
وعند ابن سعد من مرسل حميد بن هلال: فأدبر جبريل ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار في زقاق بني غنم من الأنصار بفتح الغين المعجمة وسكون النون، بطن من الخزرج.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا فأذن من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة.
وعند ابن عائذ: قم فشد عليك سلاحك، فوالله لأدقنهم دق البيض على الصفا، وبعث مناديا ينادي يا خيل الله اركبي.
وعند الحاكم والبيهقي: وبعث عليا على
__________
وفي البخاري عن أنس لكأني أنظر إلى الغبار في زقاق بني غنم موكب جبريل حين سار إلى بني قريظة.
روى كما قال المصنف وغيره بنصب موكب بتقدير انظر، والجر بدل من الغبار، والرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا موكب وهو نوع من السير، وجماعة الفرسان، أو جماعة يسيرون برفق ا. هـ.
"فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا"، أي: مناديا. قال البرهان: لا أعرفه، وقال الشامي: هو بلال، ومثله في الفتح ناسبا لابن إسحاق ولعله في رواية غير البكائي إذ روايته "مؤذنا، فأذن من كان سامعا مطيعا، فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة، وعند ابن عائذ" بسنده عن جابر، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه، مرجعه من طلب الأحزاب إذ وقف عليه جبريل، فقال: ما أسرع ما حللتم والله ما نزعنا من لامتنا شيئا منذ نزل العدو، "قم فشد عليك سلاحك، فوالله لأدقنهم دق البيض"، كذا في نقل المصنف عنه، ومثله في الفتح والذي في العيون عن ابن عائذ كدق البيض، "على الصفا" وليس المراد أنه يقتلهم، وإن كان ظاهر اللظف لكونه خلاف الواقع، بل المراد ألقى الرعب في قلوبهم حتى يصيروا كالهالكين، ثم أزلزلهم، فأنزلهم من حصونهم، فتقتلهم فيصيروا كالبيض على الصفا، فعبر عن اسم السبب بالمسبب، وقد كان ذلك وبقية حديث هذا ثم ولى فأتبعته بصري، فلما رأينا ذلك نهضنا.
"و" روى ابن عائذ أيضا من مرسل قتادة، قال: "بعث" صلى الله عليه وسلم "مناديا" قال البرهان: لا أعرف اسمه، وقال الشامي: هو بلال. "ينادي: يا خيل الله اركبي".
قال العسكري وابن دريد هو على المجاز والتوسع أراد: يا فرسان خيل الله اركبي، فاختصره لعلم المخاطب ما أراده، وتعقبه شيخنا، بأنه لا يناسب قوله اركبي، فالأظهر أنه نزل الخيل منزلة المقاتلين حتى كأنها هي التي يوجد منها الفعل، فخاطبها بطلب الركوب منها، والمقصود أصحابها، فلما عبر بالخيل راعى لفظها، فأسند الفعل إليها، أو أنه سمى أصحاب الخيل خيلا مجازا لعلاقة المجاورة.
"وعند الحاكم والبيهقي" من طريق أبي الأسود عن عروة، "وبعث عليا" أميرا "على"
المقدمة، وخرج صلى الله عليه وسلم في أثره.
وعند ابن سعد: ثم سار إليهم في المسلمين، وهم ثلاثة آلاف والخيل ستة وثلاثون فرسا، وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة.
واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فيما قال ابن هشام.
ونزل عليه الصلاة والسلام على بئر من آبار بني قريظة
__________
الجماعة "المقدمة" على الجيش بكسر الدال مثقلة، من قدم اللازم، بمعنى تقدم، "وخرج صلى الله عليه وسلم في أثره" بكسر الهمزة، وسكون المثلثة ويجوز فتحها، وحكي تثليث الهمزة كما في السبل، أي: لم يتأخر في خروجه عنه.
"وعند ابن سعد، ثم سار إليهم في المسلمين وهم ثلاثة آلاف" أي: جملة الخارجين أعم من كونهم معه، أو قبله، أو بعده "والخيل ستة وثلاثون فرسا، وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة" ذكره تتميما لكلام ابن سعد وإن قدمه أول كلامه، "واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم" عبد الله، أو عمرا "فيما قال ابن هشام" بيان للعز، ولا احتراز عن قول آخر، ولبس صلى الله عليه وسلم الدرع والمغفر والبيضة، وأخذ قتادة بيده، وتقلد القوس، وركب فرسه اللحيف، بضم اللام وفتحها.
قال القاموس: كأمير وزبير وحاؤه مهملة، ويروى بالجيم وبالخاء المعجمة رواه البخاري، ولم يتحققه، والمعروف بالحاء المهملة، قاله ابن الأثير.
وللطبراني عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم لما أتى بني قريظة ركب على حمار عري يقال له يعفور، والناس حوله فإن صحا، فيمكن أنه ركب الفرس بعض الطريق والحمار بعضها.
قال ابن إسحاق: وقدم صلى الله عليه وسلم عليا برايته وابتدرها الناس، فسار حتى دنا من الحصون، سمع مقالة قبيحة له عليه السلام، فرجع حتى لقيه بالطريق، فقال: لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث؟، قال: "لم أظنك سمعت منهم لي أذى"، قال: نعم، قال: "لو رأوني لم يقولوا شيئا"، فلما دنا من حصونهم قال: "يا خوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته"؟ قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا، ومر بنفر من أصحابه قبل أن يصل إليهم، فقال: "هل مر بكم أحد"؟، قالوا: مر بنا دحية بن خليفة على بغلة بيضاء، فقال: "ذاك جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم"، "ونزل عليه الصلاة والسلام على بئر من آبار بني قريظة". قال ابن إسحاق يقال لها بئر أنا.
وقال ابن هشام: بئر أنا، وفي الشامية بالضم وتخفيف النون، وقيل: بالفتح والتشديد،
وتلاحق به الناس. فأتى رجال منهم بعد عشاء الآخرة، ولم يصلوا العصر، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة، فما عابهم الله تعالى في كتابه ولا عنفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي البخاري عن ابن عمر: فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم بل نصلي، لم يرد منا ذلك
__________
وقيل: بموحدة بدل النون وقيل غير ذلك.
"وتلاحق به الناس فأتى رجال". قال البرهان: لا أعرفهم بأعيانهم، "من بعد عشاء" الصلاة "الآخرة" بالإضافة، ولعل المراد من بعد الظلام الذي تفعل فيه الصلاة الآخرة، "ولم يصلوا العصر لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين" بنون التوكيد الثقيلة "أحد العصر إلا في بني قريظة".
قال في رواية ابن إسحاق: "فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة فما عابهم،" أي: فما نسب إليهم عيبا، أي: ذنبا، "الله تعالى في كتابه ولا عنفهم به" أي: ما لامهم ولا عتب عليهم بسببه "رسول الله صلى الله عليه وسلم" لأنهم إنما أخروها لفهمهم النهي عن فعلها قبل بني قرظة، وإن خرج الوقت كما هو ظاهر اللفظ.
"وفي البخاري عن ابن عمر" قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" "فأدرك بعضهم العصر" بالنصب مفعول، ولأبي ذر بنصب بعضهم، ورفع العصر فاعل، "في الطريق، فقال بعضهم": الضمير لنفس بعض الأول، "لا نصلي حتى نأتيها" حملا للنهي على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت ترجيحا للنهي الثاني على الأول، وهو ترك تأخير الصلاة على وقتها، واستدلوا بجواز التأخير لمن اشتغل بالحرب، بنظير ما وقع في الخندق، أنهم صلوا العصر بعد غروب الشمس لشغلهم بأمر الحرب، فجوزوا عمومه في كل شغل تعلق بالحر، ولا سيما والزمان زمان تشريع قاله في الفتح.
وقال المصنف: عملا بظاهر النهي؛ لأن في النزول مخالفة للأمر الخاص، فخصوا عموم الأمر بالصلاة أول وقتها، بما إذا لم يكن غدر بدليل أمرهم بذلك.
"وقال بعضهم" نظرا إلى المعنى، لا إلى ظاهر اللفظ، "بل نصلي" حملا للنهي عن غير حقيقته وأنه كناية عن الحث والاستعجال والإسراع، "لم يرد" بضم أوله، وفتح الراء وكسرها، كما قال المصنف "منا ذلك" الظاهر بل لازمه من الحث والإسراع إلى قريظة.
قال ابن القيم: فحازوا الفضيلتين امتثال الأمر في الإسراع، وفي المحافظة على الوقت، ولا سيما ما في هذه القصة بعينها من الحث على المحافظة عليها، وأن من فاتته حبط عمله،
فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدًا منهم.
كذا وقع في جميع النسخ من البخاري: أنها العصر، واتفق عليه جميع أهل المغازي.
__________
"فذكر" بضم الذال "ذلك" المذكور من فعل الطائفتين "للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف،" لم يلم "واحدا منهم" لا التاركين ولا الفاعلين؛ لأنهم بذلوا جهدهم، واجتهدوا فلم يأثموا.
قال السهيلي وغيره فيه: أن لا يعاب من أخذ بظاهر حديث أو آية، ولا على من استنبط من النص معنى يخصصه، وفيه أن كل مجتهد في الفروع مصيب.
قال الحافظ: وليس بواضح، فإنما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه واجتهد، فيستفاد منه عدم تأثيمه.
قال السهيلي: ولا يستحيل كون الشيء صوابا في إنسان وخطأ في حق غيره، وإنما المحال الحكم في نازلة بحكمين متضادين في حق شخص واحد، والأصل فيه أن الخطر والإباحة صفات أحكام لا أعيان، فكل مجتهد وافق وجها من التأويل فهو مصيب ا. هـ.
والمشهور وعليه الجمهور أن المصيب في القطعيات واحد، وخالفه الجاحظ والعنبري وما لا قطع فيه، فالجمهور أيضا واحد.
وعن الأشعري كل مجتهد مصيب، وأن حكم الله تابع لظن المجتهد.
وقال بعض الحنفية والشافعية: هو مصيب في اجتهاده، فإن لم يصب ما في نفس الأمر فهو مخطئ، وادعى ابن المنير أن الذين صلوا إنما صلوا على دوابهم؛ لأن النزول ينافي مقصود الإسراع.
قال: فالذين لم يصلوا عملوا بالدليل الخاص، وهو الأمر بالإسراع، فتركوا عموم إيقاع العصر في وقتها إلى أن فات، والذين صلوا جمعوا بين دليلي وجوب الصلاة ووجوب الإسراع فصلوا ركبانا؛ لأنهم لو صلوا نزولا لضادوا ما أمروا به الإسراع، ولا يظن بهم ذلك مع ثقوب أذهانهم وفيه نظر؛ لأنه لم يصرح لهم بترك النزول، فلعلهم فهموا أن المراد بالأمر المبالغة في الإسراع فامتثلوه، وخصوا الصلاة من ذلك لما تقرر عندهم من تأكيد أمرها فلا يمتنع أن ينزلوا فيصلوا، ولا يكون مضادا لما أمروا به، ودعوى أنهم صلوا ركبانا يحتاج إلى دليل، ولم أره صريحا في شيء من طرق هذه القصة ا. هـ. من الفتح ملخصا، وفيه أيضا ما حاصله قوله: "لا يصلين أحد العصر"، "كذا وقع في جميع نسخ البخاري أنها العصر"، ووافقه أبو نعيم، "واتفق عليه جمع أهل المغازي".
"ووقع في مسلم أنها الظهر مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته عن شيخ واحد
ووقع في مسلم أنها الظهر مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته عن شيخ واحد وبإسناد واحد. ووافق مسلما أبو يعلى وآخرون.
وجمع بين الروايتين باحتمال أن يكون بعضهم -قبل الأمر- كان صلى الظهر، وبعضهم لم يصلها، فقيل لمن لم يصلها لا يصلين أحد الظهر، ولمن صلاها: لا يصلين أحد العصر.
__________
بإسناد واحد،" وهو حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، حدثنا جويرية أسماء، عن نافع، عن ابن عمر، فذكراه مسلم بلفظ الظهر، والبخاري بلفظ العصر.
"ووافق مسلما أبو يعلى وآخرون" كابن سعد، وابن حبان كلاهما من طريق مالك بن إسماعيل عن جويرية.
قال الحافظ ولم أره من رواية جويرية إلا بلفظ الظهر، غير أن أبا نعيم أخرجه من طريق أبي حفص السلمي عن جويرية، فقال: العصر، كذا أخرجه الطبراني والبيهقي في الدلائل بإسناد صحيح، عن كعب بن مالك، والبيهقي عن عائشة.
"وجمع بين الروايتين باحتمال أن يكون بعضهم قبل الأمر كان صلى الظهر، وبعضهم لم يصلها، فقيل: لمن لم يصلها لا يصلين أحد الظهر، ولمن صلاها لا يصلين أحد العصر، وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة، فقيل للطائفة الأولى: الظهر، وللطائفة التي بعدها: العصر".
قال الحافظ: وكلاهما جمع لا بأس به، لكن يبعده اتحاد مخرج الحديثح لأنه عند الشيخين بإسناد واحد من مبدئه إلى منتهاه، فيبعد أن يكون كل من رجال إسناده، حدث به على الوجهين، ولم يوجد ذلك، ثم تأكد عندي أن الاختلاف في اللفظ المذكور من حفظ بعض رواته، فإن سياق البخاري وحده مخالف لسياق من رواه عن عبد الله بن محمد بن أسماء، عن عمه جويرية، فذكر لفظ البخاري المذكور في المصنف بما زدته أوله، وقال: ولفظ مسلم وسائر من رواه نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن لا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة"، فتخوف ناس فوت الوقت، فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلي إلا حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت، فما عنف واحدا من الفريقين، فالذي يظهر من تغاير اللفظين أن عبد الله شيخ الشيخين لما حدث البخاري حدثه على هذا اللفظ، ولما حدث به الباقين حدثهم به على اللفظ الآخر، وهو اللفظ الذي حدثه به عمه جويرية بدليل موافقة مالك بن إسماعيل له عليه بخلاف اللفظ الذي حدث به البخاري، أو أن البخاري كتبه من حفظه، ولم يراع اللفظ كما عرف من
وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة، فقيل للطائفة الأولى: الظهر، وللطائفة التي بعدها العصر، والله أعلم.
قال ابن إسحاق: وحاصرهم عليه الصلاة والسلام خمسا وعشرين ليلة، حتى أجهدهم الحصار.
وعند ابن سعد: خمس عشرة. وعند ابن عقبة: بضع عشرة ليلة.
وقذف الله في قلوبهم الرعب. فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يؤمنوا فقال لهم:
__________
مذهبه في تجويز ذلك بخلاف مسلم، فإنه يحافظ على اللفظ كثيرا، وإنما لم أجوز عكسه لموافقة من وافق مسلما على لفظه بخلاف البخاري، لكن موافقة أبي حفص السلمي تؤيد الاحتمال الأول، وهذا من حيث حديث ابن عمر، أما بالنظر إلى حديث غيره، فالاحتمالان المتقدمان في كونه قال: الظهر لطائفة، والعصر لطائفة، مجيئهما متجه، فيحتمل أن رواية الظهر هي التي سمعها ابن عمر.
ورواية العصر هي التي سمعها كعب بن مالك وعائشة، وقيل في وجه الجمع أيضا أن يكون لأهل القوة، أو لمن كان منزله قريبا لا يصلين أحد الظهر، وقال لغيرهم: لا يصلين أحد العصر ا. هـ.
والجمع الأخير ظاهر أيضا بالنظر لغير رواية ابن عمر "والله أعلم" بما وقع في نفس الأمر.
"قال ابن إسحاق: وحاصرهم عليه الصلاة والسلام خمسا وعشرين ليلة حتى أجهدهم" أي: بلغهم "الحصار" غاية المشقة، وكونه بالألف مثله في الفتح، وروايته في ابن إسحاق، وكذا نقله اليعمري جهدهم بلا ألف، وهما بمعنى.
ففي القاموس جهد دابته، بلغ جهدها كأجهدها ا. هـ.
"وعند ابن سعد: خمس عشرة" ليلة.
"وعند ابن عقبة: بضع عشرة ليلة" ولو قدمه على ما قبله، كما في الفتح ليكون كالتفسير للبضع كان أولى، وقد جمع شيخنا في التقرير، بأنه يمكن أن مدة شدة الحصار خمس عشرة المردودة إليها رواية بضع عشرة والخمس وعشرين مدته كلها، وعطف على أجهدهم قوله: "وقذف" ألقى "الله في قلوبهم الرعب" وإطلاقه على ذلك مجاز؛ لأن حقيقة القذف الرمي بالحجارة، فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يؤمنوا، فقال لهم:" عطف على
يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني أعرض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيها شئتم. قالوا: وما هي:
قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين أنه لنبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. فأبوا.
قال: فإذا أبيتم علي هذه، فهلم فنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف، لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين
__________
عرض، "يا معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني أعرض عليكم"، أي: أذكر لكم، "خلالا".
قال الشامي: بكسر الخاء المعجمة، أي: خصالا جمع خلة، بفتح المعجمة وشد اللام، "ثلاثا فخذوا أيها شئتم، قالوا: وما هي؟ قال: نتابع" من المتابعة "هذا الرجل، ونصدقه فوالله لقد تبين" ظهر، وتحقق لكم "أنه" بفتح الهمزة "نبي مرسل" هكذا في نسخة صحيحة من ابن إسحاق.
وفي العيون عنه، وكذا في بعض نسخ المصنف أنه لنبي بزيادة لام.
فقال البرهان: بكسر الهمزة؛ لأن اللام في خبرها. قال: وكذا، "وإنه الذي" والمذكور في ابن إسحاق، والعيون للذي بلام "تجدونه في كتابكم" التوراة، "فتأمنون على دمائكم" من القتل، "وأموالكم وأبنائكم ونسائكم" من الأسر والسلب، ولم يقل فنأمن، وإن كان الظاهر المطابق لقوله قبل نتابع اقتصارا على ما يحملهم على المتابعة مما تتعلق به أنفسهم، وذكر نفسه فيها إشارة إلى رضاه به لنفسه وأنه شريكهم فيه إن فعلوه ليكون أدعى لقبول ما عرضه، "فأبوا" حيث قالوا: لا نفارق حكم التوراة، ولا نستبدل به غيره.
"قال: فإذا" حيث "أبيتم علي" بشد الياء "هذه" الخصلة، فامتنعتم بها، "فهلم" تعالوا وافقوني، "فقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا" أي: مشاة، "مصلتين".
قال الشامي: جمع مصلت بكسر اللام، وبالصاد المهملة الساكنة، أي: مجردين السيوف من أغمادها ا. هـ.
فقوله: "بالسيوف" متعلق بمحذوف ذكر تأكيدا، كأنه قيل مجردين السيوف، مقاتلين بها، وأقام الظاهر مقام المضمر لعدم تقدمه لفظا، أو هو متعلق بنخرج، وإن أخر لفظا عن مصلتين "لم نترك وراءنا ثقلا".
قال البرهان: بفتح المثلثة والقاف، ويجوز كسر الثاء، ونقاتل "حتى يحكم الله بيننا وبين
محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا ما نخشى عليه.
فقالوا: أي عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا.
فقال: إن أبيتم علي هذه فإن الليلة ليلة السبت، وعسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة.
قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا، إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ.
وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة -وهو رفاعة بن عبد المنذر- نستشيره في أمرنا.
فأرسله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم يا أبا لبابة، أترى أن ننزل
__________
محمد" غاية لنخرج أو لمحذوف، "فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا ما" وفي ابن إسحاق والعيون: نسلا، "نخشى عليه" حال من فاعل نهلك، وهو المقصود من الجواب، فلم يتحد الشرط والجزاء وبقية قوله: وإن نظهر على محمد، فلعمري لنجدن النساء والأبناء "فقالوا: أي عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا" استفهام إنكاري لرد قتلهم "فقال: إن أبيتم علي هذه، فإن الليلة ليلة السبت، وعسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا" بفتح الهمزة المقصورة وكسر الميم، أي: اطمأنوا، وسكنت قلوبهم لاعتقادهم أنا لا نحدث شيئا "فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة" بكسر الغين المعجمة وشد الراء، غفلة، "قالوا: نفسد سبتنا، ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا، إلا من قد علمت، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ" قردة وخنازير، قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة من الدهر حازما، "وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أيقنوا بالهلاك "أن ابعث إلينا أبا لبابة" الأنصاري المدني أحد النقباء عاش إلى خلافة علي، "وهو" أي: اسمه فيما صدر به السهيلي، "رفاعة" وقيل: مبشر، وقيل: بشير، "ابن عبد المنذر".
قال في التقريب: ووهم من سماه مروان، "نستشيره في أمرنا" في شأننا وحالنا، وخصوه لكون ماله وولده وعياله فيهم، "فأرسله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش" بفتح الجيم والهاء وكسرها، فزع وأسرع، "إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم" رحمهم لما رآهم عليه من الحزن والذلة، "وقالوا:" عطف على قام إليه الرجال، "يا أبا لبابة، أترى أن ننزل
على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه: إنه الذبح.
قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله.
ثم انطلق أبو لبابة على وجهه فلم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح من مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت وعاهد الله أن لا يطأ بني قريظة أبدا، ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا.
__________
على حكم محمد" وذلك أنهم لما حوصروا حتى أيقنوا بالهلكة أنزلوا شاس بن قيس، فكلمه صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا على ما نزل بنو النضير من تلك الأموال والحلقة والخروج بالنساء والذراري، وما حملت الإبل إلا الحلقة، فأبى رسول الله، فقال: تحقن دماءنا وتسلم لنا النساء والذرية، ولا حاجة لنا فيما حملت الإبل، فأبى صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكمه وعاد شاس إليهم بذلك، "قال: نعم، وأشار بيه إلى حلقه أنه" أي: حكمه فيهم، "الذبح" كأنه فهم ذلك من ترك إجابته بحقن دمائهم.
"قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله"، زاد في رواية: فندمت واسترجعت فنزلت وإن لحيتي لمبتلة من الدموع، والناس ينتظرون رجوعي إليهم، حتى أخذت من وراء الحصن طريقا أخرى، حتى جئت إلى المسجد، "ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، فلم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده" بضم العين، والميم وفتحهما، ويكون مفردا وجمعا.
قال في رواية: وكان ارتباطي إلى الأسطوانة المخلقة، أي: التي طليت بالخلوق بوزن رسول، وهو ما يخلق به من الطيب، "وقال: لا أبرح من مكاني هذا حتى" أموت، أو "يتوب الله علي" أي: ينزل توبتي، "مما صنعت، وعاهد الله أن لا يطأ" وفي نسخة: وعاهدت الله أن لا أطأ على الالتفات "بني قريظة أبدا، ولا أرى".
قال البرهان: بضم الهمزة وفتح الراء مبني للمفعول، وقال الشامي: بفتح الهمزة فإن كان رواية، فالمعنى لا أرى أحدا "في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا"، وهو يستلزم أن لا يذهب إليهم.
قال ابن هشام: وأنزل الله في أبي لبابة، فيما قال ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي قتادة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، وكان قد استبطأه، قال: أما لو جاءني لاستغفرت له، وأما إذا فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه.
قال ابن هشام: وأقام أبو لبابة مرتبطا بالجذع ست ليال، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة ثم يعود فتربطه بالجذع.
وقال أبو عمر: روى ابن وهب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر أن أبا لبابة ارتبط بسلسلة ثقيلة بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه
__________
تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] "فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، وكان قد استبطأه قال: أما لو جاءني" وأخبرني خبره "لاستغفرت له، وأما إذ فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه".
قال أبو لبابة: فكنت في أمر عظيم في حر شديد عدة ليال لا آكل فيهن شيئا، ولا أشرب، وقلت: لا أزال هكذا حتى أفارق الدنيا، أو يتوب الله علي، وأذكر رؤيا رأيتها في النوم، ونحن محاصرون بني قريظة، كأني في حمأة، أي: طين سود آسنة، أي: متغيرة، فلم أخرج منها حتى كدت أموت من ريحها، ثم رأيت نهرا جاريا، فأراني اغتسلت فيه حتى استنقيت، وأراني أجد ريحا طيبة، فاستعبرتها أبا بكر، فقال: لتدخلن في أمر تغتم له، ثم يفرج عنك، فكنت أذكر قوله وأنا مرتبط، فأرجو أن ينزل الله توبتي، فلم أزل كذلك حتى ما أسمع الصوت من الجهد ورسول الله ينظر إلي.
"قال ابن هشام" عبد الملك: "وأقام أبو لبابة مرتبطا بالجذع ست ليال تأتيه امرأته" بطلب منه، أو بلا طلب على العادة من تفقد الزوجة، ونحوها الشخص في الشدة، "في وقت كل صلاة، فتحله للصلاة، ثم يعود فتربطه بالجذع" وكان هذه الست تقيدت به فيها امرأته، وباقي البضع عشرة بنته، فلا تنافي بين هذه والآتية.
"وقالوا أبو عمر" بن عبد البر الحافظ: "روى ابن وهب" عبد الله أحد الأعلام، "عن مالك" بن أنس الإمام، "عن عبد الله بن أبي بكر" بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني، قاضيها الثقة، المتوفى سنة خمس وثلاثين ومائة عن سبعين سنة، "أن أبا لبابة ارتبط بسلسلة ثقيلة،" لفظ الرواية، كما في العيون عن أبي عمر بسلسلة ربوض، والربوض الثقيلة وهو بفتح الراء، وضم الموحدة مخففة، فواو فضاد معجمة، أي: عظيمة غليظة، "بضع عشرة ليلة حتى
فما كاد يسمع، وكاد يذهب بصره، وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة أو أراد أن يذهب لحاجة، فإذا فرغ أعادته.
وعن يزيد بن عبد الله بن قسيط: أن توبة أبي لبابة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة. قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر وهو يضحك، فقالت: قلت يا رسول الله مم تضحك، أضحك الله سنك. قال: "تيب على أبي لبابة". قالت: قلت أفلا أبشره يا رسول الله، قال: "بلى إن شئت". قال: فقامت على باب حجرتها -وذلك قبل أن يضرب عليهن الححاب- فقالت: فقلت يا أبا لبابة
__________
ذهب سمعه، فما يكاد يسمع، وكاد يذهب بصره فكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة، أو أراد أن يذهب لحاجة، فإذا فرغ" من الصلاة، أو لحاجة "أعادته". والظاهر كما قال الشامس أن زوجه كانت تحله مرة وبنته أخرى.
"و" روى ابن إسحاق "عن يزيد" بياء تحتية وزاي "ابن عبد الله بن قسيط" بقاف ومهملتين مصغر، ابن أسامة الليثي أبي عبد الله المدني الأعرج الثقة، المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومائة، وله تسعون سنة.
روى له الستة وفي غالب النسخ بإسقاط يزيد، وهو خلاف ما عند ابن إسحاق، وغيره من أنه عن يزيد، وهو الصواب، "أن توبة أبي لبابة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال ابن هشام: والآية التي نزلت في توبته قول الله عز وجل: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} ، "وهو في بيت أم سلمة،" وهذا مرسل، وقد رواه ابن مردويه بسند فيه الواقدي، موصولا عن أم سلمة، وفيه، وأنزل الله تعالى: {وَآخَرُونَ..} ويحتمل أن يزيد حمله عنها وقد يشعر به قوله.
"قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر، وهو يضحك" فرحا بالتوبة؛ لأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، "فقالت: قلت: يا رسول الله مم تضحك؟، أضحك الله سنك، قال: "تيب على أبي لبابة"، قالت: قلت:" أأترك الذهاب إليه "فلا أبشره" أم أذهب إليه فأبشره، "يا رسول الله؟، قال: "بلى" بريه "إن شئت"".
ولفظ ابن مردويه قال: "ما شئت" وكله إليها حتى لا يشق عليها بالليل.
"قال: فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب، فقالت: "ولفظ ابن مردويه: فقمت على باب الحجرة، وذلك قبل أن يضرب الحجاب، "فقلت: يا أبا لبابة
أبشر فقد تاب الله عليك. قالت: فثار الناس إليه ليطلقوه، فقال: لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده، فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه.
وروى البيهقي في الدلائل بسنده عن مجاهد في قوله تعالى: {اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة: 102] قال: هو أبو لبابة إذ قال لبني قريظة ما قال وأشار إلى حلقه إن محمدًا يذبحكم إن نزلتم على حكمه. قال البيهقي وترجم محمد بن إسحاق بن يسار أن ارتباطه كان حينئذ.
وقد روينا عن ابن عباس ما دل على أن ارتباطه بسارية المسجد كان بتخلفه عن غزوة تبوك
__________
أبشر" بهمزة قطع، "فقد تاب الله عليك، فثار" أي: نهض "الناس إليه ليطلقوه، فقال: لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده"، تعظيما له ورجاء حصول بركته حتى لا يعود لمثلها "فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح، أطلقه" زاد ابن مردويه عقب هذا: ونزلت: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} .
قال السهيلي: فإن قيل الآية ليست نصا في توبة الله عليه، أكثر من قوله: عسى الله أن يتوب عليهم، فالجواب أن عسى منه سبحانه واجبة وخبر صدق، فإن قيل القرءان نزل بلسان العرب، وعسى ليست في كلامهم بخبر، ولا تقتضي وجوبا، قلنا: عسى تعطي الترجي مع المقاربة، ولذا قال: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} ، ومعناه الترجي مع الخبر بالقرب كأنه قال قرب أن يبعثك، فالترجي مصروف إلى العبد، والخبر عن القرب، مصروف إلى الله، وخبره حق ووعده حتم، فما تضمنه من الخبر، فهو الواجب الذي هو الترجي الذي هو محال على الله انتهى باختصار.
"وروى البيهقي في الدلائل" النبوية "بسنده عن مجاهد في قوله تعالى: {اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} قال: هو أبو لبابة، إذ قال لبني قريظة ما قال"، هو من إطلاق القول على الفعل، إذ لم يصدر منه قول غير الإشارة، ولذا أتى بعطف التفسير في قوله، "وأشار إلى حلقه بأن محمدًا يذبحك إن نزلتم على حكمه".
"قال البيهقي: وترجم محمد بن إسحاق بن يسار" ضد يمين إمام المغازي "أن ارتباطه كان حينئذ" أي: حين إشارته لقريظة، "وقد روينا عن ابن عباس" من طرق عند ابن مردويه وابن جرير "ما دل" على سبيل الصراحة "على أن ارتباطه بسارية المسجد كان بتخلفه عن غزوة تبوك،
كما قال ابن المسيب قال: وفي ذلك نزلت هذه الآية.
ولما اشتد الحصار ببني قريظة أذعنوا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم فيهم سعد بن معاذ، وكان قد جعله في خيمة في المسجد الشريف لامرأة من أسلم
__________
كما قال ابن المسيب قال: وفي ذلك نزلت هذه الآية {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} ، وقد أخرجه أبو الشيخ وابن منده عن جابر بسند قوي، وعلى تقدير صحة الخبرين، فيجمع باحتمال تعدد ربطه نفسه، "ولما اشتد الحصار ببني قريظة أذعنوا"، خضعوا وذلوا ورضوا، "أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: على ما يحكم به فيهم.
قال ابن إسحاق: فقالت الأوس: قد فعلت في موالي الخزرج، أي: بني قينقاع، ما علمت فقال: ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟، قالوا: بلى، قال: فذلك إلى سعد بن معاذ.
وعند ابن عقبة فقال: اختاروا من شئتم من أصحابي، فاختاروا سعدا، فرضي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن هشام: وحدثني من أثق به، أن عليا صاح وهم محاصرون: يا كتيبة الإيمان، وتقدم هو والزبير، وقال: والله لأذوقن ما ذاق حمزة، أو لأقتحمن حصنهم، فقالوا: ننزل على حكم سعد، "فحكم فيهم سعد بن معاذ".
وفي الصحيح: فرد الحكم إلى سعد.
قال الحافظ: كأنهم أذعنوا للنزول على حكم المصطفى، فلما سأله الأنصار فيهم رد الحكم إلى سعد، كما بينه ابن إسحاق قال: وفي كثير من السير، أنهم أبوا أن ينزلوا على حكم سعد، ويجمع بأنهم نزلوا على حكمه قبل أن يحكم فيهم سعدا.
وفي حديث عائشة عند أحمد والطبراني: فلما اشتد بهم البلاء، قيل لهم انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استشاروا أبا لبابة قالوا: ننزل على حكم سعد، ونحوه في حديث جابر عند ابن عائذ، فحصل في سبب رد الحكم إلى سعد أمران: أحدهما سؤال الأوس، والآخر إشارة أبي لبابة، ويحتمل أن الإشارة أثرت توقفهم، ثم لما اشتد بهم الحصار عرفوا سؤال الأوس، فأذعنوا للنزول على حكمه صلى الله عليه وسلم واثقين بأنه يرد الحكم إلى سعد.
وفي رواية مسلم: وكانوا حلفاءه.
"وكان" عليه السلام "قد جعله في خيمة في المسجد الشريف" النبوي، كما دل عليه كلام ابن إسحاق خلافا لمن قال، المراد المسجد الذي كان صلى الله عليه وسلم أعده للصلاة فيه في قريظة أيام حصارهم قاله الفتح، والجملة حالية والأولى أنها مستأنفة؛ لأن التحكيم لم يكن وقت جعله في الخيمة، بل وقت كونه فيها، وكانت تلك الخيمة "لامرأة من أسلم"، كما جزم به ابن إسحاق
يقال لها رفيدة وكانت تداوي الجرحى، فلما حكمه أتاه قومه فحملوه على حمار وقد وطؤا له بوسادة من أدم -وكان رجلا جسيما- ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين
__________
وغيره، وصدر البرهان بأنها أنصارية، وفي الإصابة: الأنصارية أو الأسلمية، "يقال لها رفيدة" بضم الراء، وفتح الفاء، وسكون التحتية، وفتح الدال المهملة ثم تاء تأنيث، صحابية، "وكانت تداوي الجرحى"، وتحتسب بنفسها على من به ضيعة من المسلمين، قاله ابن إسحاق.
وروى البخاري في الأدب المفرد، بسند صحيح عن محمود بن لبيد: لما أصيب أكحل سعد يوم الخندق، فثقل حولوه عند امرأة يقال لها رفيدة، وكانت تداوي الجرحى، وكان صلى الله عليه وسلم إذا مر به يقول: "كيف أمسيت"، وإذا أصبح يقول: "كيف أصبحت" فيخبره ذكره في الإصابة، ثم قال في الكاف كعيبة بالتصغير، بنت سعيد الأسلمية.
ذكر أبو عمر عن الواقدي: أنها شهدت خيبر معه صلى الله عليه وسلم فأسهم لها سهم رجل.
وقال ابن سعد: هي التي كانت لها خيمة في المسجد، تداوي المرضى والجرحى، وكان سعد بن معاذ عندها تداوي جرحه حتى مات ا. هـ.
فهما امرأتان، وقع الخلاف فيمن تنسب إليه الخيمة منهما، وليس أحدهما اسما، والآخر لقبا، ثم عجب من الشامي في اقتصاره على قول ابن سعد، وتركه قول إمام المغازي، مع أنه لم ينفرد به، بل ورد عن محمود الصحابي بسند صحيح هذا.
وقال البخاري: فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب.
قال المصنف: وعند ابن إسحاق في خيمة رفيدة عند مسجد ا. هـ. ففهم فاهم منه أنه جعله مقابلا للبخاري، وليس كذلك، فمراده بيان اسم صاحبة الخيمة، وأن قوله ضرب مجاز عن جعل، كما عبر به ابن إسحاق، وهو ما دل عليه كلام الفتح.
"فلما حكمه أتاه قومه" الأوس، "فحملوه على حمار" لأعرابي عليه قطيفة، "وقد وطؤا له" زيادة عى ذلك، "بوسادة من أدم"، لمشقة ركوبه على القطيفة للجرح "و" لأنه "كان رجلا جسيما، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم".
زاد ابن إسحاق: وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، "فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين".
وفي البخاري عن أبي سعيد: فلما دنا من المسجد، فقيل هو تصحيف صوابه، فلما دنا
قال عليه الصلاة والسلام: "قوموا إلى سيدكم". فأما المهاجرون من قريش فيقولون إنما أراد صلى الله عليه وسلم الأنصار، وأما الأنصار فيقولون: عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين.
فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم.
__________
من النبي صلى الله عليه وسلم، كما في مسلم وأبي داود، وفيه تخطئة الراوي بمجرد الظن، فالأولى كما في المصابيح، أن المراد بالمسجد الذي أعده النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة في قريظة أيام حصارهم، قال: ولئن سلمنا أنه لم يكن ثَمّ مسجد صلاة فلا نسلم أن قوله من المسجد متعلق بقوله قريبا، بل بمحذوف، أي: فلما دنا آتيا من المسجد، فإن مجيئه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان من مسجد المدينة.
"قال عليه الصلاة والسلام: "قوموا إلى سيدكم" " وفي حديث عائشة عند أحمد: "قوموا إلى سيدكم فأنزلوه" فقال عمر. السيد هو الله. قال رجال من بني عبد الأشهل: قمنا له على أرجلنا صفين، يحييه كل رجل منا، حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "فأم المهاجرون من قريش فيقولون: إنما أراد صلى الله عليه وسلم الأنصار" لكونه سيدهم، وهو فيهم بمنزلة الصديق في المهاجرين، ففهموا أن الإضافة عهدية، "وأما الأنصار، فيقولون: عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين" أنصارا ومهاجرين، إبقاء للفظ العام على عمومه، والسيادة لا تقتضي الأفضلية.
وفي رواية: "قوموا إلى خيركم".
وفي البخاري في المناقب والمغازي: إلى سيدكم، أو خيركم، بالشك.
وله في الجهاد: إلى سيدكم بلا شك.
وفيه أيضا في المغازي، عن أبي سعيد الخدري، قال للأنصار، وكأنه من تصرف بعض الرواة لما رأى اختلاف المهاجرين والأنصار، ويدل له أنه أسقط في الجهاد والمناقب قوله للأنصار.
قال ابن إسحاق: فقاموا إليه، "فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم" فهو عطف على ما حذفه المصنف من كلام ابن إسحاق، وإلا فليس قبله ما يظهر عطفه عليه.
وفي رواية: فقالت الأوس: "قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم".
وفي رواية: فأحسن فيهم واذكر بلاءهم عندك، أي: مناصرتهم ومعاونتهم لك قبل هذا اليوم.
وعند ابن إسحاق فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، أن الحكم فيهم لما حكمت، قال