[وهم قوم عبد الله بن سلّام، وكانت يوم السبت للنصف من شوّال على رأس عشرين شهراً من مهاجره صلى الله عليه وسلم، وكانوا حلفاء عبد الله بن أبي ابن سلول وعبادة بن الصامت، وغيرهما من قومهما، وكانوا أشجع يهود، وهم صاغة، وكانت الكفار بعد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام: قسم وادعهم على ألّا يحاربوه ولا يوالوا عليه عدوّه، وهم طوائف اليهود الثلاثة:
[قريظة والنّضير وبني قينقاع] وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، وهم قريش، وقسم تاركوه وانتظروا ما يؤول إليه أمره كطوائف من العرب، فمنهم من كان يحب ظهوره في الباطن كخزاعة، وبالعكس كبني بكر، ومنهم من كان معه ظاهرا ومع عدوّه وهم المنافقون.
ولمّا قدم النبي صلّى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا وادعته يهود كلّها، وكتب بينه وبينهم كتابا، وألحق كلّ قوم بحلفائهم وجعل بينه وبينهم أمانا، وشرط عليهم شروطا: منها: ألّا يظاهروا عليه عدوّا، فلما كان يوم بدر كان بنو قينقاع أول يهود نقضوا العهد، وأظهروا البغي والحسد، وقطعوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد،
فجمعهم بسوق بني قينقاع وقال: «يا معشر يهود أسلموا، فو الله إنكم لتعلمون إني رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النّقمة فأسلموا، فإنكم قد عرفتم أنّي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم»
قالوا: يا محمد إنك ترى أنّا مثل قومك، لا يغرّنّك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربتنا لتعلمنّ أنّا نحن النّاس.
قال ابن عباس فيما رواه ابن إسحاق: ما أنزلت هؤلاء الآيات إلا فيهم: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران 12، 13] أي أصحاب بدر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ فبينما هم على ما هم عليه من إظهار العداوة ونبذ العهد قدمت امرأة من العرب بجلب لها فباعت بسوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ بها لحلي، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فلم تفعل، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها من ورائها فحلّه بشوكة وهي لا تشعر، فلما قامت بدت عورتها فضحكوا منها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهوديّا.
وشدّت اليهود على المسلم فقتلوه، ونبذوا العهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، وغضب المسلمون فوقع الشرّ بينهم وبين بني قينقاع.
وأنزل الله سبحانه وتعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ [الأنفال 58]
فقال صلى الله عليه وسلم: «إنما أخاف من بني قينقاع» ،
فسار إليهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الآية، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، وكان يومئذ أبيض.
قال ابن سعد: ولم تكن الرّايات يومئذ. واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، فتحصّنوا في حصنهم فحاصرهم أشدّ الحصار، فأقاموا على ذلك خمس عشرة ليلة، حتى قذف الله في قلوبهم الرّعب، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أموالهم، وأنّ لهم النّساء والذّرّيّة، فأمر بهم فكتّفوا، واستعمل على كتافهم المنذر بن قدامة السّلمي، بفتح السين المهملة واللام.
ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لهم من حلفه مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي ابن سلول، فجعلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرّأ إلى الله تعالى ورسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله: أتولّى الله ورسوله والمؤمنين وأبرأ من حلف هؤلاء الرّجال، فقام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي ابن سلول حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد أحسن في مواليّ، وكانوا حلفاء الخزرج، فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد أحسن في مواليّ فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلفه، وكان يقال لها: ذات الفضول، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ويحك أرسلني» ، وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم قال: ويحك أرسلني، قال: والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ: أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إنى والله امرؤ أخشى الدّوائر، فقال صلى الله عليه وسلم:
«خلّوهم لعنهم الله ولعنه معهم» .
وتركهم من القتل، وأمر بهم أن يجلوا من المدينة، فخرجوا بعد ثلاث، وولّي إخراجهم منها عبادة بن الصامت، وقيل: محمد بن مسلمة، فلحقوا بأذرعات، فما كان أقلّ بقاءهم بها، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلاحهم ثلاث قسيّ: قوسا يدعى الكتوم كسرت بأحد، وقوسا يدعى الرّوحاء، وقوسا يدعى البيضاء، وأخذ درعين: درعا يقال له: الصّغديّة وأخرى فضة، وثلاثة أرماح، وثلاثة أسياف، سيف قلعيّ، وسيف يقال له:
بتّار، وآخر لم يسمّ. ووجد في منازلهم سلاحا كثيرا وآلة للصّياغة، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صفيّه والخمس، وفضّ أربعة أخماسه على أصحابه فكان أول خمس بعد بدر، وكان الذي قبض أموالهم محمد بن مسلمة، فانزل الله تعالى في شأن عبد الله بن أبيّ وفي شأن عبادة بن الصامت. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [المائدة 51، 52] أي عبد الله بن أبيّ وقوله: إنّي أخشى الدّوائر يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ:
نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ إلى قوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ [المائدة 55] وذلك لتولّي عبادة بن الصامت
من الله تعالى ورسوله والذين آمنوا، وتبرّئه من بني قينقاع وحلفهم وولايتهم وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ [المائدة 56] .