هذه آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وكان رجوعه من عمرته بعد حصار الطائف في آخر ذي القعدة من سنة ثمان من مهاجره صلى الله عليه وسلم، فأقام بالمدينة ذا الحجة،
__________
(1) - ابن سعد (2/ 164) .
(2) - جوامع السيرة النبوية ص 198، وما بعدها وشرح المواهب (3/ 62) ، وتاريخ الطبرى (2/ 373) وسيرة ابن هشام (4/ 379) وزاد المعاد (3/ 526) وابن سيد الناس (2/ 215) .
والمحرم، وصفرا، وجمادى الآخرة، فلما كان في رجب من سنة تسع من الهجرة، أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزو الروم.
وكان عام تسعة هذا عام قحط وجدب ومحل، وحر شديد حيث طاب أول الثمر. وكان عليه الصلاة والسلام يورّي «1» بكل غزوة غزا ما خلا غزوة تبوك هذه فإنه تكلم في أمرها تفصيلا وتبيينا، وذلك لمشقة الأحوال فيها، وبعد الشقة وقوة عارضة العدو الشرس.
وكان الجد بن قيس أخا بني سلمة استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التأخر- وكان متهما- وهو غني شديد قوي، فإذن له عليه الصلاة والسلام، ثم أعرض عنه.
وفيه نزل قوله تعالى:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا «2» .
وفي هذه الظروف العسرة التي أحدقت بجيش المسلمين وألحقت العنت بهم، وأنحت عليهم حتى إن كثيرا منهم نفقوا واحتسبوا أنفسهم عند الله تعالى، وكان أصاب المسلمين عطش شديد وأوام قاتل.
وحث سيدنا رسول صلى الله عليه وسلم الموسرين على الخير وتجهيز المعسرين، فكان عثمان ذو النورين سباقا إلى الخير حتى أنه أنفق عشرة آلاف دينار، وقدّم ثلاثمائة بعير، بأحلاسها وأقتابها «3» ، وخمسين فرسا.
__________
(1) - يوري: لا يتكلم فيها صراحة، وإنما بأسلوب التوراة وقد ذكر مسلم في الصحيح (2769) «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قلما يريد غزوة إلا ورى بغيرها، حتى كانت هذه الغزوة» ، وكان ذلك يقصد التعمية على العدو.
(2) - التوبة (9/ 49) راجع أسباب النزول للواحدي بتحقيق السيد الجميلي ص 202، 203 وأسباب النزول للسيوطي ص 140، 141. وفيهما أن هذه الآية نزلت في جد بن قيس المنافق.
(3) - الأحلاس: جمع حلس، وهو الكساء على ظهر البعير، والأقتاب: جمع قتب، وهو رحل على قدر سنام البيعر.
ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارض عن عثمان، فإني راض عنه» .
وجاء أبو بكر- رضي الله عنه- بكل ما يملك وهو نحو أربعة آلاف درهم، ووضعة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء عمر بن الخطاب بنصف ماله.
أما تاجر الرحمن عبد الرحمن بن عوف فقد جاء بمائة أوقية من الذهب، والعباس وطلحة بن عبيد الله جاآ بمال كثير وغيرهم وغيرهم.
ثم اجتمع رجال الإسلام وكان قوامهم ثلاثين ألفا، وكان ولىّ على المدينة محمد بن مسلمة، وعلى أهله علي بن أبي طالب، وتخلف كثير من المنافقين وعلى رأسهم عبد الله بن أبي، وقالوا: كيف يغزو محمد بني الأصفر مع جهد الحال والحر والبلد الشطون البعيد.
واستأذن كثير من المنافقين، فأذن لهم صلى الله عليه وسلم، واستأذنه الضعفاء فأذن لهم أيضا وكذلك المقلّون، فأذن لهم كذلك، إلا أن الله تعالى عاتبه على ذلك بقوله تعالى:
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ «1» ثم قال في حقهم: إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ «2» .
ثم إنه سبحانه وتعالى حسر عنهم نقاب الكذب ونفى عنهم غلالة النفاق والوهل فقال يدحض أعذارهم غير الحقيقية والمنحولة بقوله تعالى: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ «3» .
__________
(1) - التوبة (9/ 43) .
(2) - التوبة (9/ 45) .
(3) - التوبة (9/ 46) قال ابن إسحاق: وجاء المعذرون من الأعراب، فاعتذروا إليه، فلم يعذرهم الله تعالى، وقد ذكر لي أنهم نفر من بني غفار.
ثم استتب برسول الله صلى الله عليه وسلم سفره، وأجمع المسير، وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية فتخلفوا عنه صلى الله عليه وسلم، ولكن الله سبحانه وتعالى الذي يعلم السر وأخفى لم يعذرهم، ودفع حجتهم، ولم يقبل عذرهم؛ لأنهم كانوا يعتذرون بباطل.
وعطش الناس عطشا شديدا؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالرى، فأمطرتهم سحابة غيداق فرووا جميعهم.
في هذه الغزوة، ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى أبا ذر يتبع أثر الجيش ويقتصه يريد اللحاق به فقال صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» .
وصالح عليه الصلاة والسلام يحنة بن رؤبة صاحب أيلة على الجزية. وأرسل خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك الكندي، صاحب دومة، الذي اقتنصه وأرسله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعفا عنه، ورده، وصالحه على الجزية.
وأقام عليه الصلاة والسلام بتبوك عشرين ليلة، لم يجاوزها ثم انصرف قافلا إلى المدينة.
وفي منصرفه صلى الله عليه وسلم أمر بهدم مسجد الضرار، ثم أمر مالك بن الدخشم أخا بني سالم، ومعن بن عدي أو أخاه عاصم بن عدي أخا بني العجلان بهدم المسجد وحرقه، فدخل مالك بن الدخشم منزله فأخرج منه شعلة نار، فأحرقا المسجد وهدماه.
وكان رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة في شهر رمضان سنة تسع.
سرية خالد بن الوليد إلى بني عبد المدان بنجران «1»
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم