اعلم أن الصواب الذي عليه أهل الحق [أن] رؤية الله سبحانه وتعالى ممكنة غير مستحيلة عقلا، وأجمعوا أيضا على وقوعها في الآخرة، وإن المؤمنين يرون الله تعالى. وزعمت طوائف من أهل البدع أن الله تعالى لا يراه أحد من خلقه، وأن رؤيته مستحيلة عقلا. وهذا الذي قالوه خطأ صريح وجهل قبيح.
وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ومن بعدهم من سلف الأمّة على إثبات رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة للمؤمنين. ورواها أحد وعشرون صحابيا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وآيات القرآن العظيم فيها مشهورة، واعتراضات المبتدعة عليها، لها أجوبة مذكورة في كتب المتكلمين من أهل السّنّة.
وأما رؤية الله تعالى في الدنيا فممكنة عقلا وسمعا، ومذهب أهل الحق أن الرؤية قوة يجعلها الله تعالى في خلقه، ولا يشترط فيها اتصال الأشعّة ولا مقابلة المرئي ولا غير ذلك.
ولكن جرت العادة في رؤية بعضنا بعضا بوجود ذلك على جهة الاتفاق لا على سبيل الاشتراط.
وقد قرّر أئمتنا المتكلمون ذلك بالدلائل الجليّة، ولا يلزم من رؤية الله تعالى إثبات جهة الله- تعالى عن ذلك- بل يراه المؤمنون لا في جهة، كما يعلمون أنه لا في جهة. وبيان الدليل العقلي على جوازها بطريق الاختصار أن الباري سبحانه وتعالى موجود، وكل موجود يصحّ أن يرى، فالباري عزّ وجلّ يصحّ أن يرى. أما الصغرى فظاهرة، وأما الكبرى، فلأن الحكم يدور مع علّته وجودا وعدما. وقد تبيّن أن الموجود هو العلّة لصحة الرؤية، ولا يلزم من جوازها وقوعها وعدم تعلّقها، إنما هو لجري عادته تعالى بعدم خلقها فينا الآن، مع جواز خلقها فينا، إذ هي غير مستحيلة وهنا أبحاث محلّها الكتب الكلامية.
وبيان الدليل الشّرعي على جوازها في الدنيا أن موسى بن عمران، رسول الله وكليمه، العارف به سأل الله سبحانه وتعالى الرؤية، فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:
143] مع اعتقاده أنه تعالى يرى، فسألها. وفي هذه الآية دليلان. الأول: محال أن يجهل نبيّ ما يجوز على الله تعالى وما لا يجوز عليه، بل لم يسأل إلا جائزا غير محال، لاستحالة سؤال المحال من الأنبياء، ولكن وقوعه ومشاهدته من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ومن
أعلمه إياه وأطلعه عليه، فقال له تعالى غير ناف للجواز: «لن تراني» ، دون لن أرى المؤذنة بنفيه أي لن تطيق ولا تحتمل رؤيتي الآن لتوقّفها على معدّ لها في الرائي لم يوجد فيك بعد.
ومثّل له مثالا بما هو أقوى من نبيّه موسى صلى الله عليه وسلم وأثبت، وهو الجبل في قوله: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي [الأعراف: 143] .
وهذا هو الدليل الثاني: وبيانه أنه تعالى علّق رؤية موسى إياه تعالى باستقرار جبل المناجاة في مكانه وقت التجلي له، والشيء المعلّق بالممكن ممكن، إذ معنى التعليق الإخبار بثبوت المعلّق عند ثبوت المعلّق به. وعلى هذا فالشرطية خبرية إذا كان الجزاء في الأصل خبريّا كما هنا. فثبت إمكان الرؤية ضرورة أن الله تعالى أخبر بوقوعها على بعض التقادير، والمحال لا يقع على شيءٍ من التقادير أصلا، وإذا ثبت الإمكان انتفى الامتناع وبالعكس وهنا أبحاث محلها الكتب الكلامية. وقول موسى صلى الله عليه وسلم: تُبْتُ إِلَيْكَ، أي من الإقدام على سؤالي إياه في الدنيا ما لم تقدّره لي. وقيل: إن قوله تُبْتُ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] إنما كان لما غشيه من شدة ما أفضى به إلى أن صعق، كما تقول من فعل جائر عراك منه مشقّة: تبت عن فعل مثله.
وقال القاضي أبو بكر الهذلي، في قوله تعالى: لَنْ تَرانِي [الأعراف: 143] أي ليس لبشر أن يطيق النّظر إليّ في الدنيا وإن من نظر إلى في الدنيا مات، أي في الحال، بشهادة صعق موسى إذ رأى الجبل» وقال القاضي: «وقد رأيت لبعض السلف والمتأخرين أن رؤيته تعالى في الدنيا ممتنعة، لا من حيث ذاتها، لثبوت جوازها فيها بما مرّ، وإنما امتنعت فيها لضعف تراكيب أهل الدنيا وقواهم، وكونها متغيّرة عرضة للآفات من نوائب مقلقلة ونواكب للأكباد معلقة تنذر بالموت والفناء، فلم تكن لهم قوة على الرؤية في الدنيا. فإذا كان في الآخرة وركّبوا تركيبا آخر ورزقوا قوى ثابتة باقية وأتمّت أنوار أبصارهم وقلوبهم حصل بذلك قوّة على الرؤية في الآخرة» .
وقد رأيت نحو هذا للإمام مالك بن أنس رحمه الله قال: «لم ير في الدنيا لأنه باق ولا يرى الباقي بالفاني. فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارا باقية رئي الباقي بالباقي» وهذا الذي قاله الإمام مالك كلام حسن مليح، وليس فيه دلالة على الاستحالة إلا من حيث ضعف القدرة، فإذا قوّى الله تعالى من شاء أقدره على حمل أعباء الرؤية في حقه في أي وقت كان.
قال الحافظ: «ووقع في صحيح مسلم ما يؤيد هذه التفرقة في حديث مرفوع فيه:
«واعلموا أنكم لن تروا ربّكم حتّى تموتوا» . وأخرجه ابن خزيمة- بخاء معجمة مضمومة فزاي مفتوحة. من حديث أبي أمامة، ومن حديث عبادة بن الصامت. فإذا جازت الرؤية في الدنيا
عقلا، فقد امتنعت سمعا. لكن من أثبتها للنبي صلى الله عليه وسلم له أن يقول إن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه» .
قال القاضي: «ولا حجة لمن استدل على منعها بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] لاختلاف التأويلات في الآية، فقد قيل: المراد بالإدراك الإحاطة، فلا نفي فيها لمطلق الرؤية، وقيل: لا تدركه أبصار الكفّار، وقيل غير ذلك: والجواب الصحيح أنه لا دلالة في هذا النفي على عموم الأوقات ولا حال من الأحوال لأنه مسكوت عنه. فمن أين أن المراد لا تدركه الأبصار في وقت من الأوقات ولا حال من الأحوال؟ بل يتعيّن الحمل على النفي بالنسبة إلى دار الدنيا جمعا بين الأدلة السمعية» .
وقال أبو العباس القرطبي في المفهم: «الأبصار» جمع محلّى بالألف واللام، فيقبل التخصيص، وقد ثبت ذلك سمعا في قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] فيكون المراد الكفّار، بدليل قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 22، 23] قال: فإذا جازت في الآخرة جازت في الدنيا لتساوي الوقتين بالنسبة إلى الرائي» انتهى.
قال الحافظ: «وهو استدلال جيد» .
وقد يستدل بهذه الآية على جواز إمكان الرؤية، إذ لو امتنعت الرؤية لما حصل التّمدّح في الآية بنفي الرؤية، ووجه الملازمة أن الممتنع منتف في حد ذاته، فلا يكون نفيه صفة مدح، لأنه ضروري كالمعدوم الممتنع الرؤية، لا يمدح بعدم رؤيته، إذ لا يكون: «المعدوم لا يرى» تمدحا، لامتناع رؤية المعدوم. وقد ثبت التمدح بنفي عدم رؤيته تعالى فتكون رؤيته ممكنة، والحاصل أن التمدح بنفي عدم الرؤية إنما يكون في إمكان رؤيته تعالى لكنه لا يرى للامتناع وتعذر الإبصار والتحجب بحجاب الكبرياء والجلال لا في أنه لا يرى لامتناع رؤيته تعالى.
لكن الصفات السلبية على هذا، صفات تمدّح، وإن جعلنا الإدراك في الآية عبارة عن الرؤية على وجه الإحاطة بجوانب المرئي وحدوده. فدلالة الآية حينئذ على جواز الرؤية بل على تحققها بالوقوع، أظهر من دلالتها على الجواز بما ذكر من التّمدّح. إذ المعنى على هذا لا تدركه الأبصار، إذ نظرت إليه على وجه الإحاطة، لأنه تبارك وتعالى، مع كونه مرئيا بالأبصار لا تدركه الأبصار على وجه الإحاطة، لتعاليه قطعا عن التناهي وعن الاتصاف بالحدود التي هي النهايات والجوانب على ما تبيّن في كتب الكلام.
والإحاطة بما لا يتناهى محال. ولهذا مزيد بيان يأتي في الكلام على حديث عائشة رضي الله عنها. ومع القول بجوازها في الدنيا، لم يحصل لبشر غير نبينا صلى الله عليه وسلم، على ما في
ذلك من الخلاف، ومن ادّعاها غيره فهو ضالّ. كما جزم بكفره الإمام موفق الدين الكواشي [ (1) ]- بالفتح والتخفيف وبالمعجمة- والإمام المهدوي [ (2) ] في تفسيريهما، والإمام جمال الدين الأردبيلي [ (3) ]- بالفتح وسكون الراء وضم الدال المهملة وكسر الموحدة وسكون التحتية- في كتاب «الأنوار» إذ قد سألها نبي الله ورسوله وكليمه موسى بن عمران، ولم تحصل له، أفتحصل لآحاد الناس؟ هذا مما يتوقف فيه.
فصل: وإذا علم ما تقرر ففي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه تبارك وتعالى ليلة المعراج مذهبان:
فنفتها عائشة وهو المشهور عن ابن مسعود، وجاء مثله عن أبي هريرة، وإليه ذهب كثيرون من المحدّثين والمتكلمين. وبالغ الحافظ عثمان عن سعيد الدارمي، فنقل فيه الإجماع، والثاني أنه رآه. وروى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن أنه كان يحلف بالله أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه.
وروى ابن خزيمة عن عروة بن الزبير إثباتها، وكان يشتد عليه إنكار عائشة لها. وبه قال سائر أصحاب ابن عباس، وبه جزم كعب الأحبار والزهري ومعمر وآخرون. وبه قال الشيخ أبو الحسن الأشعري [ (4) ] وغالب أتباعه. وجنح ابن خزيمة إلى ترجيحه بما يطول ذكره. ثم اختلفوا:
__________
[ (1) ] أحمد بن يوسف بن الحسن بن رافع بن الحسين بن سويدان الشيباني الموصلي، موفق الدين أبو العباس الكواشي:
عالم بالتفسير، من فقهاء الشافعية. من أهل الموصل. كان يزوره الملك ومن دونه فلا يقوم لهم ولا يعبأ بهم. من كتبه:
«تبصرة المتذكر» في تفسير القرآن، و «كشف الحقائق» و «تلخيص في تفسير القرآن العزيز» . توفي 680 هـ-. الأعلام 1/ 274.
[ (2) ] أحمد بن عمار بن أبي العباس المهدوي التميمي، أبو العباس: مقرئ أندلسي أصله من المهدية بالقيروان. رحل إلى الأندلس في حدود سنة 408 وصنف كتبا، منها «التفصيل الجامع لعلوم التنزيل» وهو تفسير كبير للآيات، يذكر القراءات والإعراب، واختصره وسماه «التحصيل في مختصر التفصيل» توفي نحو 440 هـ-. الأعلام 1/ 184.
[ (3) ] محمد بن عبد الغني الأردبيلي، جمال الدين: نحوي. له «شرح أنموذج الزمخشري» في النحو. توفي سنة 647 هـ-.
الأعلام 6/ 211.
[ (4) ] علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى، الشيخ أبو الحسن الأشعري البصري. إمام المتكلمين، وناصر سنة سيد المرسلين، والذابّ عن الدين، والمصحح لعقائد المسلمين. مولده سنة ستين ومائتين، وقيل: سنة سبعين. أخذ علم الكلام أولا عن أبي على الجبائي شيخ المعتزلة، ثم فارقه، ورجع عن الاعتزال، وأظهر ذلك، وشرع في الرد عليهم، والتصنيف على خلافهم. وقال أبو بكر الصيرفي: وهو من نظراء الشيخ أبي الحسن، كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله الأشعري فحجرهم في أقماع السمسم.
قال الخطيب البغدادي: أبو الحسن الأشعري المتكلم، صاحب الكتب والتصانيف في الرّد على الملحدة وغيرهم من المعتزلة والرافضة، والجهمية والخوارج، وسائر أصناف المبتدعة. وهو بصري سكن بغداد إلى أن توفي. وقد جمع الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر له ترجمة حسنة، ورد على من تعرض له بالطعن، وذكر فضائله، ومصنفاته، ومتابعته في كتبه المذكورة السنة، وانتصارها لها، وذبه عنها ومن أخذ عنه من العلماء الأعلام، سمّاه «تبيين الكذب المفتري فيما نسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري» ، وهو كتاب مفيد مطبوع ومتداول بين أهل العلم توفي في سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
انظر الطبقات لابن قاضي شهبة 1/ 113، 114، وتاريخ بغداد 11/ 346 ووفيات الأعيان 2/ 446 والبداية والنهاية 11/ 187 وطبقات الشافعية للسبكي 2/ 245 وتبيين كذب المفتري ص 128 وشذرات الذهب 2/ 303 والنجوم الزاهرة 3/ 259 والجواهر المضية 1/ 353.
هل رآه بعينه أو بقلبه؟ والقولان رويا عن الإمام أحمد. وقال الإمام النووي: الراجح عند أكثر العلماء إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه ليلة المعراج، وبسط الكلام على ذلك واستدل بأشياء نوزع في بعضها كما سيأتي بيانه في ذكر أدلة المذهب الأول.
وذهب جماعة إلى الوقف في هذه المسألة ولم يجزموا بنفي ولا إثبات لتعارض الأدلة، ورجّح ذلك الإمام أبو العباس القرطبي في المفهم، وعزاه لجماعة من المحققين، وقوّاه بأنه ليس في الباب دليل قاطع. وغالب ما استدلت به الطائفتان ظواهر متعارضة قابلة للتأويل. قال:
وليست المسألة من التعظيمات فيكتفي فيها بالدلالة الظنّية، فإنما هي من المعتقدات فلا يكتفى فيها إلا بالدليل القطعي.
وقال السبكي رحمه الله في السيف المسلول: «ليس من شرطه أن يكون قاطعا متواترا بل متى كان حديثا صحيحا ولو ظاهرا وهو من رواية الآحاد، جاز أن يعتمد عليه في ذلك لأن ذلك من مسائل الاعتقاد التي يشترط فيها القطع، على أنا لسنا مكلّفين بذلك» . انتهى.
وقال القاضي في الشفاء وغيره «لا مرية في الجواز، إذا ليس في الآيات: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] ، لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي [الأعراف: 143] نصّ في المنع للرؤية، بل هي مشيرة للجواز كما تقرّر ذلك. وأما وجوب وقوعها لنبينا صلّى الله عليه وسلم، والقول بأنه رآه بعينه، فليس فيه قاطع أيضا ولا نصّ يعوّل عليه، إذ المعوّل عليه فيه على آيتي النّجم: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم: 11] وما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: 17] . والتنازع بين الأئمة فيهما مأثور، والاحتمال لهما من حيث دلالتهما على الرؤية وعدمها ممكن، لعدم صراحتهما بها، لا أثر قاطع متواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. وحديث ابن عباس أنه رآه بعينه أو بفؤاده إنما نشأ عن اعتقاد لم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعتبر فيجب العمل باعتقاد مضمّنه من رؤيته ربّه. ومثله حديث شريك عن أبي ذر في تفسير الآية بأن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى ربّه، وحديث معاذ: «رأيت ربي في أحسن صورة» [ (1) ] ، مضطرب الأسناد والمتن. وحديث أبي ذر مختلف من حديث اللفظ محتمل لأن يكون رآه أو لم يره، مشكل من حيث جعل ذاته نورا، فروي: «نور أنّى أراه» [ (2) ]- بفتح أوله وتشديد النون- أي نورا لن أراه، أي لجري العادة بأن النور إذا غشى البصر حجبه في رؤيته لما وراءه، وروي:
«نورانيّ، أي بكسر النون الثانية وتشديد التحتية» .
__________
[ (1) ] أخرجه السيوطي في اللآلئ 1/ 15 وأخرجه من طرق بنحوه الخطيب في التاريخ 8/ 152 وابن سعد في الطبقات 7/ 304 وابن الجوزي في العلل 1/ 16 وابن أبي عاصم في السنة 1/ 204.
[ (2) ] أخرجه مسلم (161) والترمذي (3282) وأحمد في المسند 5/ 157 وأبو نعيم في الحلية 9/ 61 وسيأتي بتمامه في نص المصنف رحمه الله.
قال القاضي: «وهذه الرواية لم تقع لنا، ولا رأيتها في أصل من الأصول، ومحال أن تكون ذاته تعالى نورا، إذا النور جسم يتعالى الله عز وجل عنه، ومن ثمّ كانت تسميته نورا بمعنى ذي النور أو خالقه. وفي الحديث الآخر:
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت نورا» .
وليس يمكن الاحتجاج بواحد منهما لإفصاحهما بأنه لم يره، فإن كان الصحيح «رأيت نورا» ، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لم ير الله تعالى، وإنما رأى نورا منعه وحجبه عن رؤية الله تعالى. وإلى قوله: «رأيت نورا» يرجع قوله: «نور أنّى أراه» ، أي كيف أراه مع كون حجابه النور المغشّي للبصر، وهذا الحديث مثل الحديث الآخر من حيث المعنى: حجابه النور، كما رواه مسلم وغيره. وقال أيضاً في الإكمال: وقف بعض مشايخنا في هذا. وقال: ليس هذا عليه دليل واضح، ولكنه جائز، ورؤية الله تعالى في الدنيا جائزة.
,
وفيه فصلان: الأول في مكانه. ففي رواية أنه كان عند البيت كما عند البخاري في باب بدء الخلق وفي باب المعراج في الحطيم، وربما قال في الحجر، والشك من قتادة كما بينه الإمام أحمد في روايته عن عفان عن همام ولفظه: «بينا أنا في الحطيم» ، وربما قال قتادة في الحجر. قال الحافظ: والمراد بالحطيم هنا الحجر، وأبعد من قال: المراد به ما بين الركن والمقام، أو ما بين زمزم والحجر. قال: وهو إن كان مختلفا في الحطيم بل هو الحجر أم لا فالمراد به هنا بيان البقعة التي وقع ذلك فيها لأنها لم تتعدد لأن القصة متحدة باتحاد مخرجها.
وفي رواية الزّهري عن أنس: «فرج سقف بيتي وأنا بمكة» ، وفي رواية الواقدي أنه:
«أسرى به من شعب أبي طالب» ، وفي حديث أم هانئ عند الطبراني أنه «بات في بيتها» ، قالت: ففقدته من الليل/ فقال: إن جبريل أتاني» . قال الحافظ: والجمع بين هذه الأقوال أنه بات في بيت أم هانئ، وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج عن سقف بيته، وأضاف البيت إليه لأنه كان يسكنه، فنزل منه منزلة المالك، وأخرجه إلى المسجد، وكان به أثر النعاس، ثم أخرجه إلى باب المسجد، فأركبه البراق. قال: وقد وقع في مرسل الحسن عند ابن إسحاق فأتاه فأخرجه إلى المسجد، وهو يؤيد هذا الجمع» . انتهى.
وقال بعضهم: ليس بين قوله: «بينا أنا في المسجد الحرام» وبين قوله: «في بيتي» وبين أم هانئ، تناف لأنه قد يكون المراد بالمسجد الحرام.
الفصل الثاني: في زمانه: الصواب الذي اتفق عليه العلماء: إن الإسراء كان بعد البعثة. أما ما وقع في رواية شريك من قوله: «جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه» ، وفيه «فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى» ، ولم يعيّن المدة التي بين المجيئين، فيحمل على أن المجيء الثاني كان بعد أن أوحى إليه، وحينئذ وقع الإسراء والمعراج، وإذا كان بين المجيئين مدة فلا فرق بين أن تكون المدة ليلة واحدة أو ليال كثيرة أو عدة سنين.
قال ابن كثير: «وهذا الحمل هو الأظهر» ، وجزم به ابن القيّم، وجرى عليه الحافظ، قال: «وبهذا يرتفع الإشكال عن رواية شريك، ويحصل به الاتفاق بأن الإسراء كان في اليقظة بعد البعثة وقبل الهجرة، ويسقط تشنيع الخطابي وابن حزم بأن شريكا خالف الإجماع في دعواه أن المعراج كان قبل البعثة» . قال الحافظ: «وأما ما ذكره بعض الشراح أنه كان بين الليلتين اللتين أتاه فيهما الملائكة سبع وقيل تسع وقيل ثلاثة عشر، فيحمل على إرادة السنين كما فهمه الشارح المذكور، وأجاب بعضهم بأن القبلية هنا هي في أمر مخصوص وليست
مطلقة، واحتمل أن يكون المعنى قبل أن يوحى إليه في شأن الإسراء والمعراج مثلا، أي أن ذلك وقع بغتة قبل أن ينذر به. ويؤيده قوله في حديث الزهري: فرج سقف بيتي. انتهى.
واختلفوا في أي سنة كان، فجزم جمع بأنه كان قبل الهجرة بسنة، وجرى عليه الإمام النووي، وبالغ ابن حزم فنقل فيه الإجماع. وقال القاضي: قبل الهجرة بخمس سنين لأنه لا خلاف أن خديجة صلّت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء، وتعقّبه ابن دحية بأن المراد بالصلاة التي صلّتها معه هي التي كانت من أول البعثة، وكانت ركعتين بالغداة وركعتين بالعشيّ، وإنما الذي فرض ليلة الإسراء الصلوات الخمس. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: «أن خديجة رضي الله عنها ماتت قبل أن تفرض الصلاة» ، رواه ابن سعد، ويعقوب بن سفيان. فالمعتمد أن مراد من قال: بعد أن فرضت الصلاة، ما فرض قبل الصلوات الخمس، إن ثبت ذلك. ومراد عائشة بقولها: مات قبل أن تفرض الصلاة، أي الخمس، فيجمع بين القولين بذلك. ويلزم منه أنها ماتت قبل الإسراء وقد حكى العسكري أنها ماتت قبل الهجرة بسبع سنين وسيأتي تحقيق ذلك في ترجمتها.
واختلفوا في أي الشهور كان [الإسراء] فجزم ابن الأثير وجمع، منهم النووي في فتاويه كما في النسخ المعتمدة، بأنه كان في ربيع الأول، قال النووي: «ليلة سبع وعشرين» . وجرى عليه جمع، وهكذا عن الفتاوى الإسنوي في المهمات، والأذرعي- بفتح أوله والراء وسكون الذال المعجمة بينهما- في التوسط، والزركشي في الخادم، والدميري في حياة الحيوان، وغيرهم. وكذا رأيته في عدة نسخ من الفتاوى وفي بعض النسخ من شرح مسلم كذلك، وفي أكثرها ربيع الآخر كما في نسخ الفتاوى. ونقله ابن دحية في الابتهاج، والحافظ في الفتح، وجمع عن الحربي. والذي نقله عنه ابن دحية في كتابيه: التنوير والمعراج الصغير، وأبو شامة في الباعث، والحافظ في فضائل رجب، ربيع الأول. وقيل: كان في رجب، وجزم به النووي في الروضة تبعا للرافعي، وقيل في رمضان، وقيل في شوال.
قال ابن عطية بعد أن حكى الخلاف والتحقيق: «أنه كان بعد شقّ الصحيفة وقبل بيعة العقبة،. قال ابن دحية: «ويمكن أن يعين اليوم الذي أسفرت عنه تلك الليلة، ويكون يوم الاثنين» . وذكر الدليل على ذلك بمقدمات حساب من تاريخ الهجرة، وحاصل الأمر أنه استنبطه، وحاول موافقة كون المولد يوم الاثنين وكون المبعث يوم الاثنين وكون المعراج يوم الاثنين وكون الهجرة يوم الاثنين وكون الوفاة يوم الاثنين. قال: فإن هذه أطوار الانتقالات النبوية وجودا ونبوة ومعراجا وهجرة ووفاة، فهذه خمسة أطوار، فيكون يوم الاثنين في حقه صلى الله عليه وسلم كيوم الجمعة في حق آدم عليه الصلاة والسلام فيه خلق وفيه أنزل إلى الأرض وفيه تاب الله عليه وفيه مات، وكانت أطواره الوجودية والدينية خاصة بيوم واحد. انتهى.
وروى ابن أبي شيبة عن جابر وابن عباس رضي الله عنهما قالا: «ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وفيه بعث وفيه عرج إلى السماء وفيه مات» . وقولهما: «وفيه عرج إلى السماء» أراد الليلة لأن الإسراء كان بالليل اتفاقا.
تنبيه: ذكر أبو الخطاب بن دحية إن الإسراء كان في الليلة التي بين الأحد والاثنين على القول بأن الليلة تتبع اليوم الذي قبلها. ثم قال: «ويدل على أن الليلة تتبع اليوم الذي قبلها أن ليلة عرفة هي التي قبلها بإجماع، وكان بعضهم يقول: ليلة السبت في ظنّ الناس هي ليلة الجمعة» . انتهى. والذي ذكره النحاة في باب التأريخ أن ليلة كل يوم هي التي قبله، لأن أول الشهر ليلة، وآخره يوم. وبذلك صرّح أئمتنا الشافعية في غير موضع من كتبهم. وليلة عرفة وإن تأخّرت عن يومها شرعا فذلك في الحكم، وهو مشروعية الوقوف في هذا الوقت المخصوص، ولا يعترض على ما سبق بقوله تعالى: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ لأن المفسّرين ذكروا فيه معنى غير هذا، فقال مجاهد،: «في قضاء الله تعالى وعلمه لا يفوت اللّيل النّهار حتى يدركه فيذهب بظلمته، وفي قضاء الله وعلمه لا يفوت النّهار الليل حتى يدركه فيذهب بضوئه» . رواه ابن المنذر.
وقال الضّحّاك: «لا يذهب الليل من ههنا حتى النهار من ههنا» . رواه ابن أبي حاتم.
وقال البغوي: «أي هما يتعاقبان بحساب معلوم لا يجيء أحدهما قبل وقته» . وقيل لا يدخل أحدهما في سلطان الآخر، فلا تطلع الشمس بالليل ولا يطلع القمر بالنهار وله ضوء. فإذا اجتمعا وأدرك كل واحد منهما صاحبه قامت القيامة، وقيل: لا يتصل ليل بليل ولا يكون بينهما نهار فاصل. والله أعلم.
الباب الخامس في كيفية الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم وهل تكررّ أم لا
وفيه فصلان: الأول: اعلم أنه لا خلاف في صحة الإسراء به صلى الله عليه وسلم. إذ هو نصّ القرآن على سبيل الإجمال، وجاءت بتفصيله وشرح عجائبه أحاديث كثيرة منتشرة عن جماعة من الصحابة يأتي ذكرهم بعد في باب مفرد، وإنما الخلاف في كيفية الإسراء، فاختلف العلماء في ذلك على أقوال: الأول وهو قول الأكثر إنه كان بالروح والجسد معا يقظة لا مناما، من مكة إلى بيت المقدس، إلى السموات العلا إلى سدرة المنتهى إلى حيث شاء العليّ الأعلى.
قال القاضي وغيره: «وهو الحق وعليه تدل الآية نصّا وصحيح الأخبار إلى السموات استفاضة ولا يعدل عن الظاهر من الآية والأخبار الواردة فيه، ولا عن الحقيقة المتبادرة إلى الأذهان من ألفاظهما، إلى التأويل، إلا عند الاستحالة وتعذّر حمل اللفظ على حقيقته، وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة تؤذن بتأويل، إذ لو كان مناما لقال: سبحان الذي أسرى بروح عبده، ولم يقل: بعبده، والعبد حقيقة هو الروح والجسد، ويدل عليه قوله تعالى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: 17] أي ما عدل عن رؤية ما أمر برؤيته من عجائب الملكوت وما جاورها لصراحة ظاهرة في كونه بجسده يقظة لأنه أضاف الأمر إلى البصر، وهو لا يكون إلا يقظة بجسده بشهادة: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم: 18] . ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة خارقة للعادة تورث عدم صدقه، وإن كانت رؤيا الأنبياء وحيا، إذ ليس فيها من الأبلغية وخرق العادة ما فيه يقظة. وأيضا لو كان مناما لما استبعده الكفّار ولا كذّبوه، ولا ارتد به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به، لبعده عن ساحة العادة، ووقوعه في زمن يستبعد فيه جدا، إذ مثل هذه المنامات لا ينكر، بل لم يكن منهم ذلك الاستبعاد والتكذيب، والارتداد والافتتان إلا وقد علموا أن خبره إنما هو عن جسمه وحال يقظته» .
وقد روى البخاري في باب الإسراء من صحيحه، وسعيد بن منصور في سننه عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء:
60] هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء. زاد سعيد: «وليست رؤيا منام» .
قال الحافظ: «إضافة الرؤية للعين للاحتراز عن رؤيا القلب. وقد أثبت الله تعالى رؤيا القلب في القرآن بقوله: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم: 11] ، ورؤية العين بقوله: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: 17] . وأما ما رواه ابن مردويه عن طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الآية قال: «رأى أنه وصل مكة وأصحابه. فلما ردّه المشركون كان
لبعض الناس في ذلك فتنة» .
وما رواه ابن مردويه عن الحسن بن علي رضي الله عنهما، رفعه قال: «رأيت كأن بني أمية يتعاورون منبري هذا» ، فقال: هي دنيا تنالهم،
ونزلت هذه الآية، فكلاهما إسناد ضعيف والصحيح ما تقدّم، وجزم بما قاله ابن عباس إنها رؤيا عين ليلة الإسراء مجاهد وسعيد بن جبير والحسن ومسروق وإبراهيم وقتادة وعبد الرحمن ابن زيد وغير واحد.
تنبيه: قال ابن دحية: «جنح البخاري إلى أن ليلة الإسراء كانت غير ليلة المعراج لأنه أفرد لكل منهما ترجمة» قال الحافظ: «ولا دلالة في ذلك على التغاير عنده، بل كلامه في أول الصلاة ظاهر في اتحادهما، وذلك أنه ترجم باب: كيف فرضت الصلاة ليلة الإسراء، والصلاة إنما فرضت في المعراج، فدلّ على اتحادهما عنده، وإنما أفرد كلّا منهما بترجمة لأن كلا منهما يشتمل على قصة منفردة وإن كانا وقعا معا.
القول الثاني: إن الإسراء كان بالجسد يقظة إلى بيت المقدس وإلى السماء بالروح، ذهب إلى هذا طائفة واحتجوا بقوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء: 1] فجعل المسجد الأقصى غاية للإسراء الذي وقع التّعجب فيه من حيث أنه كان في بعض ليلة. والتّعجب فيه من الكفّار تعجّب استحالة، ومن المؤمنين تعجّب تعظيم القدرة الباهرة. ووقع التّمدّح بتشريف النبي صلى الله عليه وسلم، وإظهار الكرامة له بالإسراء إليه. ولو كان الإسراء إلى مكان زائد على المسجد الأقصى لذكره تعالى فيكون ذكره أبلغ في المدح من عدم ذكره فيه..
وأجاب الأئمة عن ذلك بأن استدرجهم إلى الإيمان بذكر الإسراء أولا، فلمّا ظهرت أمارات صدقه، وصحّت لهم براهين رسالته، واستأنسوا بتلك الآية الخارقة، أخبرهم بما هو أعظم منها، وهو المعراج، فحدّثهم النبي صلى الله عليه وسلم به، وأنزله الله تعالى في سورة النّجم. ويؤيّد وقوع المعراج عقب الأسراء في ليلة واحدة رواية ثابت عن أنس رضي الله عنه عند مسلم:
«أتيت بالبراق فركبته حتى أتيت بيت المقدس» ، فذكر القصة إلى أن قال: «ثمّ عرج بنا إلى السماء الدنيا» وحديث أبي سعيد الخدري: بالخاء المعجمة المضمومة وبالدال المهملة.
عند ابن إسحق: «فلما فرغت مما كان في بيت المقدس أتي بالمعراج» . فذكر الحديث.
القول الثالث: إن الإسراء كان بالروح وإنه رؤيا منام، مع اتفاقهم أن رؤيا الأنبياء وحي بشهادة: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات: 102] ،
وقوله صلى الله عليه وسلّم: «الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم»
[ (1) ] .
__________
[ (1) ] جزء من حديث أخرجه البخاري 6/ 670 (3570) .
واحتجّ من قال بهذا القول بقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: 60] ولو كان يقظة لقال: «الرؤية» بالتاء، وقول أنس في حديثه في رواية شريك:
«وهو نائم بالمسجد الحرام» . وذكر القصة الواردة ليلة الإسراء، ثم قال في آخرها:
«استيقظت- أي انتبهت- من منامي وأنا في المسجد الحرام» . وهذا المذهب يعزى لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فإن ابن إسحاق قال: «حدّثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أن معاوية بن أبي سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«كانت رؤيا من الله تعالى صادقة» . ويعقوب وإن كان ثقة إلا أنه لم يدرك معاوية فالحجة منقطعة.
ويعزى أيضا إلى عائشة رضي الله عنها، قال ابن إسحق: «حدّثني بعض آل أبي بكر أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقول: «ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أسري بروحه» . كذا فيما وقفت عليه من نسخ السيرة «فقد» بالبناء للمفعول. وفي الذي وقفت عليه من نسخ الشّفا للقاضي «ما فقدت» بالبناء للفاعل وإسناد الفعل إلى تاء المتكلّم.
وأجيب عن الأول بأن «الرؤيا» قد تكون بمعنى «الرؤية» في اليقظة كما نقله أبو الخطاب ابن دحية عن ابن عباس. قال الشيخ السهيلي في الروض: «وأنشدوا للراعي يصف صائدا:
وكبّر للرّؤيا وهشّ فؤاده ... وبشّر قلبا كان جمّا بلابله
وقوله: إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: 60] يدل على أنها رؤية عين، وإسراء شخص، إذا ليس في الحلم فتنة للناس من تعجّبهم تعجّب استحالة، حتى ارتدّ كثير ممن آمن. وقال الكفّار:
«يزعم محمد أنه أتى بيت المقدس ورجع إلى مكة في ليلته، والعير تطّرد إليها شهرا مقبلة وشهرا مدبرة. ولو كانت رؤيا نوم لم يستبعد أحد منهم هذا، فمعلوم أن النائم قد يرى نفسه في السماء وفي المشرق وفي المغرب فلا يستبعد منه ذلك، ويؤيد كونها يقظة ما ورد من شربه تلك الليلة الماء الذي كان لسفّار قريش، وضعوه في بعض مراحلهم في قدح وغطّوه، فأصبحوا ولا ماء فيه، فعجبوا لذلك. وإرشاد أصحاب العير الذين ندّ بعيرهم حين أنفره حسّ البراق حتى دلّهم عليه، فأخبر أهل مكة بأمارة ذلك، حتى ذكر الغرارتين السوداء والبرقاء، ووعده لقريش بقدوم العير التي أرشد أصحابها إلى بعيرهم وشرب مائهم أن يقدموا يوم الأربعاء» . كما سيأتي بيان ذلك مبسوطا في القصة. وهذا كله لا يكون إلا يقظة وقد تقدم في القول الأول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: هذه رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء فراجعه.
وأجيب عن الثاني وهو قوله: «بينا أنا بين النائم واليقظان، ثم استيقظت» بأنه لا حجة في ذلك إذ يحتمل قوله «بين النائم واليقظان» إلى آخره أنه أول وصول الملك كان وهو نائم بشهادة
حديث الحسن: «بينا أنا نائم في الحجر جاءني جبريل فهزّني بعقبه، فجلست فلم أر شيئاً فعدت لمضجعي» ، إلى أن قال: «فجرّني إلى باب المسجد فإذا أنا بدابّة»
أو أنه محمول على ابتداء الحال، ثم لما خرج إلى باب المسجد، فأركبه البراق فاستمر في يقظته. وليس في الحديث أنه كان نائما في القصة كلها. وأما قوله: «ثم استيقظت وأنا بالمسجد الحرام» ، قال الحافظ: «أن قيل بالتعدّد فلا إشكال وإلا حمل على أن معناه أقفت أي أفاق مما كان فيه من شغل البال بمشاهدة عجائب الملكوت ورجع إلى العالم الدنيوي فلم يرجع إلي عالم البشرية إلا وهو بالمسجد الحرام» .
قال ابن كثير: «ويؤيد ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه يستغرق فيه فإذا انتهى رجع إلى حالته الأولى، فكنّي عنه بالاستيقاظ كما
في حديث عائشة، حين ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الطائف فكذبوه، قال: «فرجعت وأنا مهموم فلم أستفق إلا بقرن الثعالب»
أي وهو مكان. وفي حديث أبي أسيد- بضم الهمزة وفتح المهملة- حين جاء بابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليحنكه، فوضعه على فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم. واشتغل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث مع الناس. فرفع أبو أسيد ابنه ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يجد الصبي فسأل عنه فقالوا «رفع» ، فسمّاه المنذر أحد رواته استيقاظا. وهذا الحمل أحسن من تغليط شريك.
تنبيه: قال بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم كان تلك الليلة نائم العين حاضر القلب، غمّض عينيه لئلا يشغله شيء من المحسوسات عن الله. قال القاضي: «هذا غير صحيح لأن المقام مشاهدة عجائب الملكوت بشهادة قوله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا [الإسراء: 1] ، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم: 18] ، إذ المتبادر منه رؤية العين، ولا يصح أيضاً أن تكون في وقت صلاته بالأنبياء.
وأما ما يعزى لعائشة رضي الله عنها، فلم يرد بسند يصلح للحجة بل في سنده انقطاع وارد مجهول كما تقدم. وقال أبو الخطاب بن دحية في التنوير: إنه حديث موضوع عليها.
وقال في معراجه الصغير: «قال إمام الشافعية القاضي أبو العباس بن سريج: هذا حديث لا يصح وإنما وضع ردّ الحديث الصحيح» . انتهى.
وعلى تقدير أن يكون صحيحا ورد بالبناء للمفعول فعائشة رضي الله عنها لم تحدّث عن مشاهدة لأنها لم تكن زوجة إذ ذاك، أو بالبناء للفاعل: «ما فقدت جسده الشريف» فعائشة لم يدخل بها إلا بالمدينة بالإجماع، ولا كانت وقت الإسراء في سن من يضبط الأمور، لأنها في سنة الهجرة كانت بنت ثمان سنين. فعلى القول بأن الإسراء كان قبلها بسنة تكون بنت سبع،
وعلى القول بأكثر من ذلك تكون أصغر من ذلك، وعلى قول من قال: إن الإسراء كان بعد البعث بعام لم تكن ولدت.
تنبيه: قال في زاد المعاد: «ينبغي أن يعلم الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناما وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم. وعائشة ومعاوية لم يقولا: كان مناما، وإنما قالا: الإسراء بروحه ولم يفقد جسده. وفرق بين الأمرين، فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالا مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة، فيرى كأنه عرج به إلى السماء، أو ذهب به إلى مكة أو أقطار الأرض، وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال، والذين قالوا: عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم طائفتان: طائفة قالت عرج بروحه وبدنه، وطائفة قالت عرج بروحه ولم يفقد بدنه. وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان مناما وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أسري وعرج بها حقيقة وباشرت من جنس ما تباشر بعد المفارقة. وكان حالها في ذلك كحالها بعد المفارقة في صعودها إلى السموات سماء سماء، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة، فتقف بين يدي الله تعالى فيأمر فيها بما يشاء، ثم تنزل إلى الأرض» .
«والذي كان برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء أكمل مما يحصل للروح عند المفارقة.
ومعلوم إن هذا أمر فوق ما يراه النائم. لكن لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام خرق العوائد، حتى شقّ بطنه وهو حي لا يتألم بذلك، عرج بذات روحه المقدسة حقيقة من غير إماتة. ومن سواه: لا ينال بذات روحه الصّعود إلى السماوات إلا بعد الموت والمفارقة، إلى آخر كلامه، وسيأتي بتمامه في باب حياته صلى الله عليه وسلم في قبره.
,
,
روى الإمامان الشافعي وأحمد، وأبو داود والترمذي وحسّنه، والطحاوي [ (1) ] والبيهقي عن ابن عباس، والإمام أحمد والنسائي والدارقطني والحاكم وصححه واقره الذهبي عن جابر بن عبد الله، والدارقطني والحاكم والإسماعيلي في معجمه، وابن السّكن في صحيحه عن أنس، والدارقطني بإسناد جيد عن ابن عمر، والنسائي والحاكم وصححه واقره الذهبي عن أبي هريرة وإسحاق بن راهويه عن أبي مسعود الأنصاري، وعبد الرّزّاق وإسحاق عن أبي سعيد الخدريّ، وإسحاق عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه عن جدّه عمرو بن حزم رضي الله تعالى عنهم. قال الحافظ في المطالب: إسناده حسن، إلا إن محمد بن عمرو بن حزم لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم لصغر سنّه، فإن كان الضمير في جدّه يعود على أبي بكر توقّف على سماع أبي بكر من عمر
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمّنى جبريل عند البيت»
- ولفظ الشافعي والطحاوي والبيهقي: «عند باب البيت» - «مرّتين فصلّى بي الظّهر حين زالت الشمس، وكانت قدر الشّراك، وصلّى بي العصر حين صار ظلّ كل شي مثله، وصلّى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلّى بي العشاء حين غاب الشّفق، وصلّى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد صلّى بي الظّهر حين كان ظلّه مثله» - وفي لفظ:
«كوقت العصر بالأمس» - «وصلّى بي العصر حين كان ظلّه مثليه، وصلّى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلّى بي العشاء إلى ثلث الليل الأول، وصلّى بي الفجر فأسفر» ، ثم التفت فقال: «يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين [ (2) ] » .
هذا ما وقفت عليه في صلاة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم بالصلوات الخمس، وأما عدد ركعاتها حين فرضت فمن الناس من ذهب إلى أنها فرضت أول ما فرضت ركعتين ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر فأكملت أربعا إلا المغرب وأقلّت صلاة السّفر ركعتين. وروى ذلك عن عائشة رضي الله عنها الشعبي وميمون بن مهران ومحمد بن إسحاق. ومنهم من ذهب إلى أنها
__________
[ (1) ] منهم أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي: وإليه انتهت رياسة أصحاب أبي حنيفة بمصر. أخذ العلم عن أبي جعفر بن أبي عمران وعن أبي خازم وغيرهما. وكان شافعيا يقرأ على أبي إبراهيم المزني فقال له يوما: والله لا جاء منك شيء، فغضب أبو جعفر من ذلك وانتقل إلى أبي جعفر بن أبي عمران، فلما صنف مختصره قال: رحم الله أبا إبراهيم لو كان حيا لكفّر عن يمينه وصنف «اختلاف العلماء» و «الشروط» و «أحكام القرآن» و «معاني الآثار» . ولد سنة ثمان وثلاثين ومائتين ومات سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. طبقات الفقهاء للشيرازي 142.
[ (2) ] أخرجه الشافعي في الأم 1/ 71 وأحمد في المسند 1/ 333 وأبو داود 1/ 274 (393) والترمذي 1/ 278 (149) وابن خزيمة في صحيحه 1/ 168 (325) والدارقطني 1/ 258 (6- 9) .
فرضت أول ما فرضت أربعا إلا المغرب ففرضت ثلاثا والصبح ركعتين، وبه قال الحسن ونافع بن جبير بن مطعم وابن جرير.
ومنهم من ذهب إلى أنها فرضت في الحضر أربعا وفي السّفر ركعتين، يروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وذكر أدلّة هذه الأقوال والكلام عليها مذكور في المطولات.
وروى الشيخان وابن إسحاق عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما افترضت ركعتين ركعتين كل صلاة ثم إن الله أتمّها في الحضر أربعا وأقرّها في السفر على فرضها الأول ركعتين» .
,
قد تقدم في أبواب المعراج أن المشركين قالوا له: يا محمد، صف لنا بيت المقدس كيف بناؤه، وكيف هيئته وكيف قربه من الجبل؟ فقال لهم: «بناؤه كذا وهيئته كذا» حتى التبس عليه النعت فوضع جبريل له بيت المقدس وسألوه عن أبوابه، ولم يكن أتاها فجعل ينظر إليه ويخبرهم بها، وأبو بكر يقول: صدقت، صدقت فراجعها إن شئت.
,
وروى نعيم بن حماد في الفتن وابن مردويه بسند واه جدا عن ابن عباس رضي الله عنهما ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بعثني الله عز وجل ليلة أسري بي إلى يأجوج ومأجوج فدعوتهم إلى دين الله عز وجل وعبادته فأبوا أن يجيبوني فهم في النار مع من عصى من ولد آدم وولد إبليس» .