شرع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ وصل إلى المدينة في بناء مسجده في المكان الذي بركت فيه ناقته، وكان هذا المكان مربدًا1 للتمر مملوكًا لغلامين يتيمين في المدينة2، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالغلامين، وطلب إليهما المريد ليتخذه مسجدًا وتحدث معهما في شرائه ...
فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله.
فأبى عليه السلام أن يقبله منها هبة، ولكنه ابتاعه منهما3. وكان فيه قبور للمشركين وبعض حفر ونخل، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالقبور فنبشت، وبالحفر فسويت، وبالنخل فقطع. ثم أمر بالبناء، وكان بناؤه باللبن4، ولكن عضادتي الباب كانتا من الحجارة، وكان سقفه من الجريد، وأعمدته من جذوع النخل، ولا يزيد ارتفاعه عن القامة إلا القليل.
وقد اشترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في حمل اللبنات والأحجار على كواهلهم، وكانوا يروحون عن أنفسهم عناء الحمل والنقل والبناء فيرددون هذا الغناء:
__________
1 المريد: موضع تجفيف التمر.
2 هما: سهل وسهيل ابنا عمرو.
3 لفظ البخاري: "فقالا: بل نعطيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويقال: بل اشتراه منهما" ولم يجزم بأحد الأمرين، لكن وقع الجزم في رواية أخرى وأنه اشترى.
4 الطوب.
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة1
وقد ضاعف من حماس الصحابة في العمل أنهم رأوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعمل بنفسه كواحد منهم ويكره أن يتميز عليهم فارتجز بعضهم هذا البيت:
لئن قعدنا والرسول يعمل ... لذاك منا العمل المضلل2
وهكذا تم بناء المسجد في جو يملؤه الإيمان وتشيع فيه الأخوة والمساواة.
ولم يكن المسجد على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- مكانا للصلوات فحسب، وإنما كان مدرسة للتعليم والتهذيب أستاذها ومعلمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطلابها هم أصحابه الأبرار -رضوان الله عليهم- وكان محكمة للقضاء بما أنزل الله، يفصل فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو من ينيبه بين المتخاصمين، وكان دارا للشورى يتداول فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون في أخص شئونهم وأمورهم، وكان مركزا لقيادة الجيش تعقد فيه الألوية للرؤساء والقواد ويزودون بالنصائح والتعليمات. وكان نزلا لاستقبال الوفود والرسل الذين توجههم الدول للقاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهكذا كانت رسالة المسجد في ذلك الوقت رسالة خير وإصلاح وتهذيب.
وقد وردت في فضل المسجد النبوي أحاديث كثيرة، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تشد الرحال إلى إلا ثلاثة
__________
1 أخرجه البخاري في صحيحه 3932 ومسلم 2/311، وغيرهما، وانظر قصة بناء المسجد في "طبقات ابن سعد" 1/ 239، و"سيرة ابن هشام" 2/ 114، "تاريخ الطبري" 2/ 395، "الدرر" لابن عبد البر 88، "البداية والنهاية" 3/ 214، "عيون الأثر" 1/ 235، "دلائل النبوة" للبيهقي 2/ 538 وما بعدها، النويري 16/ 344، "سبل الهدى" 3/ 485 "المواهب اللدنية" 1/ 316.
2 ذكر ذلك ابن إسحاق في السيرة، ونقله عنه ابن كثير في "البداية" 3/ 216.
مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى" 1.
وجاء في الصحيحين أيضا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" 2.
وقد بني بجانب المسجد حجرتان: إحداهما لسودة بنت زمعة، والأخرى لعائشة بنت أبي بكر. ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متزوجا غيرهما إذ ذاك، وكانت الحجرتان متجاورتين وملاصقتين للمسجد على شكل بنائه، ثم صارت تُبنى الحجرات كلما تزوج الرسول -صلى الله عليه وسلم- على عدد زوجاته3.
__________
1 صحيح البخاري 2/ 317، وصحيح مسلم 3/ 217.
2 صحيح البخاري 2/ 611، وصحيح مسلم 5/ 211.
3 قال الحافظ ابن كثير في البداية 3/ 220:
قال الحسن البصري: كنت أنال أطُول سقف في حجر النبي -صلى الله عليه وسلم- بيدي.
وقال السهيلي في "الروض": كانت مساكنه عليه السلام مبنية من جريد عليه طين، بعضها من حجارة مصفوفة، وسقوفها كلها من جريد، وقد حكي عن الحسن البصري ما تقدم، وكانت حُجره من شعر مربوطة بخشب من عرعر.
وفي تاريخ البخاري أن بابه كان يقرع بالأظافر فدل على أنه ليس لأبوابه حِلَق..
إلى آخر ما قال، قلت: وأما قول المؤلف لم يكن متزوجا غيرهما إذ ذاك؛ لعله يريد عاقدا عليهما، ولم يكن دخل بغير سودة.