فصل
في غزوة الطائف لما انهزمت ثقيف دخلوا حصنهم، وتهيئوا للقتال وسار رسول الله
، فنزل قريبا من حصنهم، فرموا المسلمين بالنبال رَمْيًا شَدِيدًا كَأَنَّهُ رِجْلُ جَرَادٍ، حَتَّى أُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِجِرَاحَةٍ وَقُتِلَ مِنْهُمُ اثْنَا عَشَرَ رجلا، فارتفع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَوْضِعِ مَسْجِدِ الطائف اليوم، فحاصرهم ثمانية عشر يوما أو بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَنَصَبَ عَلَيْهِمُ الْمَنْجَنِيقَ وَهُوَ أول من رمى به في الإسلام، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ أَعْنَابِ ثَقِيفٍ، فَوَقَعَ النَّاسُ فِيهَا يَقْطَعُونَ.
قَالَ ابن سعد: فَسَأَلُوهُ أَنْ يَدَعَهَا لِلَّهِ وللرحم، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنِّي أَدَعُهَا لِلَّهِ وللرحم فنادى مناديه: أيما عبد نزل إِلَيْنَا فَهُوَ حُرٌّ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ بَضْعَةَ عَشَرَ رجلا فيهم أبو بكرة، فدفع كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يمونه، فشق ذلك على أهل الطائف، ولم يؤذن له في فتحها، فأمر صلى الله عليه وسلم فأذن بالرحيل، فضج الناس من ذلك، وقالوا: ولم تفتح الطائف؟ فقال: اغدوا على القتال فغدوا، فأصابهم جراحات، فقال: إنا قافلون إن شاء الله فسروا بذلك، وَجَعَلُوا يَرْحَلُونَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يضحك، فلما استقلوا قَالَ: قُولُوا: آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ عَلَى ثَقِيفٍ. فقال: اللهم اهد ثقيفا وائت بهم» .
ثم خرج إلى الجعرانة، ودخل منها مكة محرما بعمرة، ثم رجع إلى المدينة، ولما قدم المدينة من تبوك في رمضان وفد عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ وَفْدُ ثَقِيفٍ، وَكَانَ من حديثهم أنه لما انصرف عنهم اتبعه عروة بن مسعود، فأدركه قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ فَأَسْلَمَ وَسَأَلَهُ أَنْ يرجع إلى قومه بالإسلام، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمَا يَتَحَدَّثُ قَوْمُكَ أَنَّهُمْ قَاتِلُوكَ» ، وَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ فِيهِمْ نَخْوَةَ الِامْتِنَاعِ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ، فَقَالَ عروة: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أبصارهم، وَكَانَ فِيهِمْ كَذَلِكَ مُحَبَّبًا مُطَاعًا، فَخَرَجَ يَدْعُو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يُخَالِفُوهُ لِمَنْزِلَتِهِ فِيهِمْ، فَلَمَّا أَشْرَفَ لَهُمْ عَلَى علية له ودعاهم إلى الإسلام رموه بالنبل من كل وجه، فقيل له: ما ترى في دمك؟ فقال: شهادة أكرمني الله بها، فَلَيْسَ فِيَّ إِلَّا مَا فِي الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يرتحل عنكم، وادفنوني معهم فدفن مَعَهُمْ، فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ: «إِنَّ مَثَلَهُ فِي قَوْمِهِ كَمَثَلِ صَاحِبِ يس فِي قَوْمِهِ» ثُمَّ أقامت ثقيف بعد قتله أشهرا، ثم رأوا أنهم لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِحَرْبِ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ العرب، فأجمعوا على أَنْ يُرْسِلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا
كما أرسلوا عروة، فكلموا عبد ياليل، فأبى وخشي أن يصنع به كما صنعوا بعروة فَقَالَ: لَسْتُ بِفَاعِلٍ حَتَّى تُرْسِلُوا مَعِيَ رجالا، فبعثوا مَعَهُ رَجُلَيْنِ مِنَ الْأَحْلَافِ، وَثَلَاثَةً مِنْ بَنِي مالك منهم عثمان بن عفان بن أبي العاص، فلما دنوا من المدينة ونزلوا قَنَاةً لَقُوا بِهَا الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، فَاشْتَدَّ لِيُبَشِّرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلقيه أبو بكر فقال: أقسم عليك لا تسبقني فَفَعَلَ، فَدَخَلَ أبو بكر عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فأخبره ثم خرج المغيرة إليهم، فروح الظهر معهم، فضرب عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبة في ناحية المسجد، وكان خالد بن سعيد الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان فِيمَا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إن يدع لهم اللات لا يهدمها ثلاث سنين ليسلموا بتركها من سفهائهم فأبى، فما برحوا يسألونه فأبى حتى سألوه شهرا فأبى أن يدعها شيئا مسمى، وكان فيما سألوا أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنَ الصَّلَاةِ، وَأَنْ لَا يَكْسِرُوا أوثانهم بأيديهم، فقال: «أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم عنه، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَا صلاة فيه» ، فلما أسلموا أَمَّرَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، وَكَانَ من أحدثهم سنا إلا أنه كان أحرصهم على التفقه في الدين.
فلما توجهوا إلى بلادهم بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهم أبا سفيان والمغيرة لهدم الطاغية، فلما دخل المغيرة علاها بالمعول، وقام دونه بنو مغيث خشية أن يرمى أو يصاب كعروة، وخرجت نساء ثقيف حسرًا يبكين عليها، ولما هدمها أخذ مالها وكان ابن عروة وقارب بن الأسود قَدِمَا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قبل الوفد حين قتل عروة يريدان فراق ثقيف فأسلما، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «توليا من شئتما قالا: لا نتولى إلا الله ورسوله. قال: وَخَالَكُمَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، فَقَالَا: وَخَالَنَا أبا سفيان، فَلَمَّا أَسْلَمَ أَهْلُ الطَّائِفِ سَأَلَ ابن عروة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يقضي دين أبيه من مال الطاغية، فقال: نعم، فقال قارب: وَعَنِ الأسود يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاقْضِهِ، وعروة والأسود أَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إِنَّ الْأَسْوَدَ مَاتَ مُشْرِكًا فَقَالَ قارب بن الأسود: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَكِنْ تَصِلُ مُسْلِمًا ذَا قَرَابَةٍ - يَعْنِي نَفْسَهُ - وَإِنَّمَا الدَّيْنُ عليَّ، فقضى دين عروة والأسود من مالها» .
وفيه مِنَ الْفِقْهِ جَوَازُ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فإنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة في آخر
رمضان، وأقام بمكة تسع عشر ليلة، ثم خرج إلى هوازن وقاتلهم وفرغ منه، ثم خرج إلى الطائف فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة أو ثمان عشر في قول ابن سعد، فإذا تأملت ذلك عرفت أَنَّ بَعْضَ مُدَّةِ الْحِصَارِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ ولا بد، لكن قَدْ يُقَالُ: لَمْ يَبْتَدِئِ الْقِتَالَ إِلَّا فِي شوال، ويجاب بأنه لا فرق بين الابتداء والاستدامة.
ومنها جواز غزو الرجل وأهله معه؛ لأن مَعَهُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ أم سلمة وزينب، وَمِنْهَا جَوَازُ نَصْبِ الْمَنْجَنِيقِ عَلَى الْكُفَّارِ وَرَمْيِهِمْ بِهِ، وَإِنْ أَفْضَى إِلَى قَتْلِ مَنْ لَمْ يقاتل من النساء والذرية، ومنها قطع شجرهم إذا كان يضعفهم ويغيظهم.
ومنها أن العبد إذا أبق وألحق بالمسلمين صار حرا، حكاه ابن المنذر إجماعا، ومنها أن الإمام إذا حاصر حصنا، ورأى المصلحة في الرحيل فعل، ومنها أنه أحرم من الجعرانة بالعمرة، وهي السنة لمن دخلها من الطائف، وأما الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْجِعِرَّانَةِ لِيُحْرِمَ مِنْهَا بعمرة فلم يستحبه أحد من أهل العلم.
ومنها كمال رأفته ورحمته صلى الله عليه وسلم في دعائه لثقيف بالهدى، وقد حاربوه وقتلوا جماعة من أصحابه، وقتلوا رسوله إليهم، ومنها كمال محبة الصديق له، ومحبة التقرب إليه بكل ممكن، وهذا يدل على جواز سؤال الرجل أَخَاهُ أَنْ يُؤْثِرَهُ بِقُرْبَةٍ مِنَ الْقُرَبِ، وَأَنَّهُ يجوز له ذلك، وقول من قال: لا يجوز لا يصح، وقد آثرت عائشة عمر بدفنه في بيتها، وسألها ذَلِكَ فَلَمْ تَكْرَهْ لَهُ السُّؤَالَ، وَلَا لَهَا البذل.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِبْقَاءُ مَوَاضِعِ الشِّرْكِ بعد القدرة على إبطالها يوما واحدا فإنها شعائر الكفر، وهي أعظم المنكرات، وَهَذَا حُكْمُ الْمَشَاهِدِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى الْقُبُورِ التي اتخذت أوثانا تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَالْأَحْجَارُ الَّتِي تُقْصَدُ لِلتَّعْظِيمِ، وَالتَّبَرُّكِ وَالنَّذْرِ وَالتَّقْبِيلِ لَا يَجُوزُ إِبْقَاءُ شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الأخرى، وأعظم شركا عندها وبها وبالله الْمُسْتَعَانُ.
وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَرْبَابِ هَذِهِ الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق أو تحيي أو تميت، وَإِنَّمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ عِنْدَهَا وَبِهَا مَا يَفْعَلُهُ إخوانهم من المشركين عند طواغيتهم اليوم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم حَذو الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، وَأَخَذُوا مَأْخَذَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، وَغَلَبَ الشِّرْكُ عَلَى أَكْثَرِ النُّفُوسِ لظهور الجهل وخفاء العلم، وصار المعروف
مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا، وَالسُّنَّةُ بِدْعَةً وَالْبِدْعَةُ سُنَّةً، وَنَشَأَ فِي ذَلِكَ الصَّغِيرُ، وَهَرِمَ عَلَيْهِ الْكَبِيرُ، وَطُمِسَتِ الْأَعْلَامُ، وَاشْتَدَّتْ غَرْبَةُ الْإِسْلَامِ، وَقَلَّ الْعُلَمَاءُ، وَغَلَبَ السَّفَهَاءُ، وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَاشْتَدَّ الْبَأْسُ، وَظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ، وَلَكِنْ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنَ الْعِصَابَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِالْحَقِّ قَائِمِينَ، وَلِأَهْلِ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ مُجَاهِدِينَ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
ومنها جواز صرف الإمام أموال المشاهد في الجهاد والمصالح، وأن يعطيها للمقاتلة، ويستعين بأثمانها على مصالح المسلمين، وكذا الحكم في وقفها، وَهَذَا مِمَّا لَا يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أئمة الإسلام.
[