بخاء معجمة وتحتانية وموحدة بوزن جعفر ذكر أبو عبيد البكري أنها سميت باسم رجل من العماليق نزلها وهو خيبر أخو يثرب ابنا قانية بن مهلايل، واقتصر عليه الروض والفتح وغيرهما، وقيل: الخيبر بلسان اليهود الحصن ولذا سميت خيابر أيضا.
ذكره الحازمي "وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع" ونخل كثير "على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام" هكذا في الفتح فتبعه المصنف هنا.
وفي الإرشاد: والثمانية برد أربعة مراحل.
وقال الشامي: على ثلاثة أيام من المدينة على يسار الحاج الشامي، ولعله بالسير السريع أو
قال ابن إسحاق: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في بقية شهر المحرم سنة سبع، فأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة إلى أن فتحها.
وقيل: كانت في آخر سنة ست، وهو منقول عن مالك، وبه جزم ابن حزم.
قال الحافظ ابن حجر: والراجح ما ذكره ابن إسحاق، ويمكن الجمع بأن من أطلق سنة ست بناه على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي وهو ربيع الأول.
وأغرب ابن سعد وابن أبي شيبة فرويا من حديث أبي سعيد الخدري: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر لثمان عشرة من رمضان، وإسناده حسن، لكنه خطأ ولعلها كانت إلى حنين فتصحفت. وتوجيهه: بأن غزوة حنين كانت ناشئة عن غزوة الفتح، وغزوة الفتح خرج صلى الله عليه وسلم فيها في رمضان جزما.
__________
على التقريب فلا ينافي أنها أربعة بالسير المعتدل، ويؤيده قول التهذيب على نحو أربعة أيام أو هو بحسب الاختلاف في الميل أو الأربعة بالنظر إلى داخل السور، والثلاثة بالنظر إلى خارجه.
"قال ابن إسحاق": أقام صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع من الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم، ثم "خرج صلى الله عليه وسلم في بقية المحرم" إلى خيبر "سنة سبع"، وذكر ابن عقبة عن الزهري أنه أقام بالمدينة عشرين ليلة أو نحوها، وعند ابن عائذ عن ابن عباس: أقام بعد الرجوع إلى المدينة عشر ليال.
وفي مغازي التيمي أقام خمسة عشر يوما "فأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة" موزعة على حصونها "إلى أن فتحها" في صفر هكذا في نقل الفتح عن ابن إسحاق. "وقيل: كانت في آخر سنة ست" حكاه ابن التين عن ابن الحصار "وهو منقول عن مالك" الإمام "وبه جزم ابن حزم".
"قال الحافظ ابن حجر" وهذه الأقوال متقاربة، "والراجح" منها "ما ذكره ابن إسحاق" قال في زاد المعاد: وهو قول الجمهور، "ويمكن الجمع بأن من أطلق سنة ست بناه على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي وهو ربيع الأول" وهو ابن حزم، ولذا جزم أن خيبر سنة ست لكن الجمهور على أن التاريخ وقع من المحرم.
قال الحافظ وأما ما ذكره الحاكم، وابن سعد عن الواقدي أنها في جمادى الأولى فالذي رأيته في مغازي الواقدي أنها كانت في صفر، وقيل: في ربيع الأول "وأغرب ابن سعد، وابن أبي شيبة فرويا من حديث أبي سعيد الخدري" قالا: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر لثمان عشرة من رمضان، وإسناده حسن لكنه خطأ ولعلها كانت إلى حنين فتصحفت" لتقارب اللفظين، "وتوجيهه" مع أن حنينا لست خلت من شوال أو لليلتين بقيتا من رمضان "بأن غزوة حنين كانت ناشئة عن غزوة الفتح وغزوة الفتح خرج صلى الله عليه وسلم فيها في رمضان جزما", فيصح
قال: وذكر الشيخ أبو حامد في التعليقة: أنها كانت سنة خمس، وهو وهم، لعله انتقال من الخندق إلى خيبر.
وكان معه عليه الصلاة والسلام ألف وأربعمائة راجل ومائتا فارس، ومعه أم سلمة زوجته.
وفي البخاري من حديث سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع النبي إلى خيبر فسرنا ليلا، فقال رجل من
__________
إطلاقه على غزوة حنين بجعلها من غزوة الفتح، لكونها ناشئة عنها والخروج من المدينة لهما واحد.
"قال" الحافظ ابن حجر "وذكر الشيخ أبو حامد في التعليقة أنها كانت سنة خمس وهو وهم ولعله انتقال من الخندق إلى خيبر", وأجاب البرهان بأنه أسقط سنة الهجرة، أي وقطع النظر عن سنة الغزوة.
قال الحافظ: وذكر ابن هشام أنه استعمل على المدينة نميلة بنون مصغر ابن عبد الله الليثي، وعند أحمد والحاكم عن أبي هريرة أنه سباع بن عرفطة وهو أصح. انتهى.
ويمكن الجمع بأنه استخلف أحدهما أولا ثم عرض ما يقتضي استخلاف الآخر، كما مر نظيره "وكان معه عليه الصلاة والسلام ألف وأربعمائة راجل ومائتا فارس".
هذا مخالف لما عند ابن إسحاق أن عدة الذين قسمت عليهم خيبر ألف سهم وثمانمائة سهم برجالهم وخيلهم, الرجال ألف وأربعمائة والخيل مائتا فرس لكل فرس سهمان ولفارسه سهم. انتهى.
فإن لم يكن ما في المصنف مصحفا بزيادة الألف في راجل وفارس، فلا ينافي ما مر من الخلاف في عدد أهل الحديبية.
أما لما تقدم من أن من ذكر القليل كألف وثلاثمائة نظر إليهم في ابتداء الخروج، ثم زادوا بعد وأما لأنه خرج لخيبر من لم يخرج في الحديبية، فقد ذكر الواقدي أنه جاء المخلفون في الحديبية ليخرجوا رجاء الغنيمة، فقال عليه السلام: "لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، فأما الغنيمة فلا". فلعله خرج معه جماعة لم يحضورا الحديبية ولم يأخذوا من الغنيمة، فلا ينافي قوله تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ} الآية، "ومعه أم سلمة زوجته" رضي الله عنها التي كانت معه في الحديبية. "وفي البخاري من حديث سلمة بن" عمرو بن "الأكوع" واسمه سنان فنسب لجده لشهرته به الأسلمي أبو مسلم، وأبو إياس شهد بيعة الرضوان ومات سنة أربع وسبعين, روى له الستة، "قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلا، فقال رجل من القوم"
القوم لعامر: عامر، ألا تسمعنا من هنيهاتك وكان عامر رجلا شاعرا، فنزل يحدو بالقوم يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء.........
__________
قال الحافظ لم أقف على اسمه صريحا، وعند ابن إسحاق من حديث نصر بن دهر الأسلمي، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مسيره إلى خيبر لعامر بن الأكوع. ففي هذا أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره بذلك. انتهى.
ويمكن الجمع بأن الرجل لما قال له لم يسرع حتى أمره صلى الله عليه وسلم ولا ينافي ذلك إتيانه بالفاء، لأن الحال أزمنة من الماضي والآتي والحاكم فيها العرف، ولا قوله من هذا السائق، لاحتمال تعدد الحدأة أو بعده فلم يحقق صوته، فجوز أنه غيره "لعامر" ابن الأكوع عم سلمة، كما في حديث نصر، وفي مسلم قال سلمة لما كان خيبر قاتل أخي قتالا شديدا إلى أن قال: فقال صلى الله عليه وسلم: "من هذا"؟. قلت: أخي.
قال البرهان: والصحيح أن "عامرا" عم سلمة، وقد ذكر مسلم بعد هذا من طريق آخر، فجعل عمي عامر يرتجز قال، ويمكن الجمع بأنه أخوه رضاعة عمه نسبا "ألا تسمعنا من هنيهاتك" بهاءين أولاهما مضمومة بعدها نون مفتوحة فتحتية ساكنة جمع هنيهة تصغير هنة كما قالوا: في تصغير سنة سنيهة, للكشميهني: هنياتك بحذف الهاء الثانية وشدة التحتية أي من أراجيزك.
وللبخاري في الدعوات من وجه آخر من هناتك بلا تصغير قاله الحافظ والمصنف، وقال: أي من أخبارك وأمورك وأشعارك فكنى عن ذلك كله، "وكان عامر رجلا شاعرا" وللكشميهني حداء "فنزل يحدو بالقوم يقول:
"اللهم لولا أنت ما اهتدينا" فيه زحاف الخزم بمعجمتين وهو زيادة سبب خفيف في أوله، قاله الحافظ.
وفي رواية ابن إسحاق: والله لولا الله. ولا خزم فيه، "ولا تصدقنا، ولا صلينا" قال في الفتح: أكثر هذا الرجز تقدم في الجهاد عن البراء، وأنه من شعر عبد الله بن رواحة، فيحتمل أن يكون هو وعامر تواردا على ما تواردا عليه بدليل ما وقع لكل منهما مما ليس عند الآخر. واستعان عامر ببعض ما سبقه إليه ابن رواحة، "فاغفر فداء" بكسر الفاء والمد، وحكى ابن التين فتح أوله مع القصر، وزعم أنه هنا بالكسر مع القصر لضرورة الوزن فلم يصب فإنه لا يتزن إلا بالمد.
قال الحافظ: وقال القاضي عياض رويناه فداء بالرفع على أنه مبتدأ، أي لك نفسي فداء
.... لك ما اتقينا
وألقين سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إنا إذا صيح بنا أتينا ... وبالصياح عولوا علينا
وفي رواية إياس بن سلمة عن أبيه عند أحمد في هذا الرجز من الزيادة:
إن الذين قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في رواية البخاري:
__________
وبالنصب على المصدر "لك ما اتقينا" بشدة الفوقية بعدها للأكثر، أي ما تركنا من الأوامر وما ظرفية وللأصيلي والنسفي: بهمزة قطع، ثم موحدة ساكنة أي ما خلفنا وراءنا مما اكتسبناه من الآثام أو ما أبقيناه وراءنا من الذنوب فلم نثبت منه.
وللقابسي: كما لقينا بلام وكسر القاف أي ما وجدنا من الماهي، ولمسلم والبخاري في الأدب: ما اقتفينا بقاف ساكنة ففوقية مفتوحة ففاء فتحتية ساكنة أي تبعنا من الخطايا من قفوت الأثر إذا تبعته، وهي أشهر الروايات في هذا الرجز.
"وألقين سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا"
هكذا في البخاري فما يقع في نسخ من تقديم وثبت ... إلخ. على ما قبله خلافه, وللنسفي: وألقي بحذف النون وبزيادة ألف ولام في السكنية وليس بموزون كما قاله الحافظ وغيره. ولو أشبعت السكينة بألف بعد الفتحة مع تحريك ياء ألقي بالفتح اتزن. "إنا إذا صيح بنا أتينا" بفوقية، أي إلى القتال أو إلى الحق. وروي بموحدة كذا في نسخة النسفي فإن كانت ثابتة، فالمعنى إذا دعينا إلى غير الحق امتنعنا, "وبالصياح عولوا علينا" أي قصدونا بالدعاء بالصوت العالي، واستعانوا علينا أي اعتمدوا.
"وفي رواية إياس بن سلمة" بن الأكوع، أبو سلمة، ويقال: أبو بكر المدني, ثقة. مات سنة تسع عشرة ومائة وهو ابن سبع وسبعين سنة، "عن أبيه عند أحمد في هذا الرجز من الزيادة: إن الذين قد بغوا علينا. إذا أرادوا فتنة أبينا" بالموحدة على الراجح لا بالفوقية، وإن صح معنى أي جئنا وأقدمنا على قتالهم؛ لأن إعادة الكلمة في قوافي الرجز عن قرب عيب معلوم عندهم, قاله عياض.
قال الحافظ: وقع في بعض النسخ: وإن أردنا على فتنة أبينا, وهو تغير. "ونحن عن فضلك ما استغنينا" وهذا الشطر الأخير عند مسلم أيضا. "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في رواية
"من هذا السائق"؟ فقالوا: عامر بن الأكوع: قال: "يرحمه الله". قال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله، لولا أمتعتنا به. الحديث.
وفي رواية أحمد: فجعل عامر يرتجز ويسوق الركاب، وهذه كانت عادتهم إذا أرادوا تنشيط الإبل في السير نزل بعضهم فيسوقها، ويحدو في تلك الحال.
وقوله: "اللهم لولا أنت ما اهتدينا" كذا الرواية، قالوا: وصوابه في الوزن: لا هم. أو: تالله، كما في الحديث الآخر.
وقوله: "فداء لك" قال المازري:
__________
البخاري" التي فصلها بزيادة إياس: "من هذا السائق"؟ للإبل "فقالوا: عامر بن الأكوع". قال: "يرحمه الله".
وفي رواية إياس عند أحمد فقال: "غفر لك ربك"، قال: وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يخصه إلا استشهدوا بهذه الزيادة يظهر السرفي قوله: "قال رجل من القوم" هو عمر كما في مسلم ولفظه فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل "وجبت يا نبي الله لولا" أي هلا "أمتعتنا به" بفتح الهمزة أي أبقيته لنا لنتمتع بشجاعته "الحديث".
ذكر في بقيته المحاصرة ثم الفتح والنهي عن لحم الحمر واستشهاد عامر، وزعم أنه أحبط عمله وقول المصطفى كذب من قاله أن له لأجرين بما يأتي بمعناه في كلام المصنف "وفي رواية أحمد" عن إياس بن سلمة عن أبيه. "فجعل عامر يرتجز ويسوق الركاب" بكسر الراء ما يركب من الإبل، "وهذه كانت عادتهم إذا أرادوا تنشيط الإبل في السير نزل بعضهم فيسوقها ويحدو في تلك الحال", ولذا طلبوه منه وأمره به صلى الله عليه وسلم فقال: "انزل يابن الأكوع فخذ لنا من هناتك"، كما في حديث نصر عند ابن إسحاق.
"وقوله: اللهم لولا أنت ما اهتدينا، كذا الرواية" في البخاري "قالوا: وصوابه في الوزن لا هم أو تالله كما في الحديث الآخر" تبرأ منه لأن الذي فيه إنما هو الخزم بمعجمتين وهو الزيادة على أول البيت حرفا إلى أربعة، وكذا على أول النصف الثاني حرفا أو اثنين على الصحيح.
وهذا أمر لا نزاع فيه بين العروضيين ولم يقل أحد بامتناعه وإن لم يستحسنوه، وما قال أحد أن الخزم يقتضي إلغاء ما هو فيه عن أن يعد شعرا. نعم لا يعتد بالزيادة في الوزن ويكون ابتداؤه ما بعدها، فكذا ما نحن فيه قاله في المصابيح، "وقوله: فداء لك قال" الإمام الفقيه،
هذه اللفظة مشكلة، فإنه لا يقال للباري سبحانه: فديتك؛ لأن ذلك إنما يستعمل في مكروه يتوقع حلوله بالشخص، فيختار شخص آخر أن يحل ذلك به ويفديه منه. قال: ولعل هذا وقع من غير قصد إلى حقيقة معناه، كما يقال: قاله الله، ولا يريد بذلك حقيقة الدعاء عليه، وكقوله عليه الصلاة والسلام: "تربت يداك". و "تربت يمينك". وفيه كله ضرب من الاستعارة لأن المفادي مبالغ في طلب رضا المفدي حين بذل نفسه عن نفسه للمكروه، فكان مراد الشاعر: أي أبذل نفسي في رضاك.
__________
الأصولي، ذو الفنون في علوم عديدة محمد بن علي بن عمر التميمي "المازري" بفتح الزاي وكسرها نسبة إلى مازر بليدة بجزيرة صقلية. مات سنة ست وثلاثين وخمسمائة وله ثلاث وثمانون سنة.
في المعلم "هذه اللفظة مشكلة، فإنه لا يقال للباري سبحانه فديتك" لاستحالته إذ معناه، كما قال السهيلي: فداء لك أنفسنا فحذف المبتدأ لكثرة دوره في الكلام مع العلم به، "لأن ذلك إنما يستعمل في مكروه يتوقع حلوله بالشخص" المفدي "فيختار شخص آخر أن يحل ذلك به ويفديه منه", ولا يتصور ذلك في حق الله, وإنما يتصور الفداء لمن يجوز عليه الفناء أو حلول مكروه "قال" المازري مجيبا: "ولعل هذا وقع من غير قصد إلى حقيقة معناه", بل المراد المحبة والتعظيم، فجاز أن يخاطب بها من لا يجوز في حقه الفداء، ولا يجوز عليه الفناء قصدا لإظهار المحبة والتعظيم له قاله في الروض.
قال: ورب كلمة ترك أصلها واستعملت كالمثل في غير ما وضعت له، "كما يقال: قاتله الله" ما أفصحه "ولا يريد" القائل "بذلك حقيقة الدعاء عليه" بل التعجب واستعظام الأمر، وكقوله عليه الصلاة والسلام: "تربت يداك". و "تربت يمينك". يخاطب عائشة وغيرها فلم يقصد أصل معناها الذي هو افتقرت حتى لصقت يداك بالتراب بل الإنكار والزجر كقوله عليه الصلاة والسلام: "ويل أمه".
قال بديع الزمان في رسالته: العرب تطلق: تربت يمينه في الأمر إذا أهم، ويقولون: ويل أمه ولا يقصدون الذم، وكقوله عليه الصلاة والسلام في بعض الروايات: "أفلح وأبيه إن صدق". ومحال أن يقصد القسم بغير الله لا سيما برجل مات كافرا، وإنما هو تعجب من قول الأعرابي والمتعجب منه مستعظم والقسم في الأصل لما يعظم فاتسع فيه وقال الشاعر:
فإن تك ليلى استودعتني أمانة ... فلا وأبي أعدائها لا أحونها
لم يرد القسم بوالد أعدائها بل التعجب، "وفيه كله ضرب من الاستعارة؛ لأن المفادي مبالغ في طلب رضا المفدى" بضم الميم والتشديد، أي الذي جعل المتكلم نفسه فداءه "حين
وعلى كل حال فإن المعنى وإن أمكن صرفه إلى جهة صحيحة فإطلاق اللفظ واستعارته والتجوز فيه يفتقر إلى ورود الشرع بالإذن فيه.
قال: وقد يكون المراد بقوله: "فداء لك" رجل يخاطبه، وفصل بين الكلام بذلك، ثم عاد إلى الأول فقال: ما اتقينا. وهذا تأويل يصح معه اللفظ والمعنى لولا أن فيه تعسفا اضطرنا إليه تصحيح الكلام. انتهى.
وقيل: إنه يخاطب بهذا الشعر النبي صلى الله عليه وسلم. المعنى: لا تؤاخذنا بتقصيرنا في حقك ونصرك. وعلى هذا فقوله: "اللهم" لم يقصد بها الدعاء وإنما افتتح بها الكلام. والمخاطب بقول الشاعر: "لولا أنت" النبي، لكن يعكر عليه قوله بعد ذلك:
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
فإنه دعاء لله تعالى.
ويحتمل أن يكون المعنى فاسأل ربك أن ينزل ويثبت
__________
بذل نفسه عن نفسه للمكروه، فكان مراد الشاعر أي أبذل نفسي في رضاك".
"وعلى كل حال فإن المعنى وإن أمكن صرفه إلى جهة صحيحة" كهذه الجهة المذكورة "فإطلاق اللفظ واستعارته والتجوز فيه يفتقر إلى ورود الشرع بالإذن فيه" ولم يرد فلا يحسن الجواب عنه بذلك، وقد يقال سكوت الشارع عليه وسماعه وترحمه على قائله إذن، وقد قال السهيلي: أنه أقرب الأجوبة إلى الصواب "قال" المازري جواب ثان، "وقد يكون المراد بقوله فداء لك رجل يخاطبه" المصطفى أو غيره، "وفصل بين الكلام بذلك" على سبيل الاعتراض، "ثم عاد إلى تمام الأول فقال: ما اتقينا قال: وهذا تأويل يصح معه اللفظ والمعنى لولا أن فيه تعسفا" خروجا عن سبيل الكلام، "اضطرنا" ألجأنا "إليه تصحيح الكلام انتهى" كلام المازري، "وقيل: إنه يخاطب بهذا الشعر النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى" أي معنى اغفر "لا تؤاخذنا بتقصيرنا في حقك ونصرك"، حكاه في الروض والفتح، قائلا: "وعلى هذا" لا على ما قبله لقوله، ثم عاد إلى تمام الأول ... إلخ.
فإنه ظاهر في أنه دعاء، "فقوله: اللهم لم يقصد بها الدعاء، وإنما افتتح بها الكلام" أما على الأول أنه خطاب لله تعالى، فهو دعاء لأن المعنى اللهم اغفر لنا، "و" على هذا أيضا "المخاطب بقول الشاعر: لولا أنت النبي" صلى الله عليه وسلم "لكن يعكر عليه قوله بعد، ذلك فأنزلن" الذي قدمه وألقين وهو الذي في البخاري هنا.
نعم رواه في الخندق لكن من حديث البراء بلفظ فأنزلن "سكينة علينا وثبت الإقدام إن لاقينا" العدو "فإنه دعاء لله تعالى، ويحتمل أن يكون المعنى فاسأل ربك أن ينزل ويثبت",
والله أعلم.
وقوله: "إذا صيح بنا أتينا" أي إذا صيح بنا للقتال ونحوه من المكاره أتينا ولم نتأخر عنه. وفي رواية أبينا بالموحدة بدل المثناة، أي أبينا الفرار. وقوله: "وبالصياح عولوا عليها" أي استعانوا بنا واستفزعونا للقتال. قيل: هو من التعويل على الشيء وهو الاعتماد عليه، وقيل: هو من العويل، وهو الصوت.
وقوله: "من هذا السائق؟ قالوا: عامر، قال: يرحمه الله، قال رجل من القوم: وجبت" أي: ثبتت له الشهادة وستقع قريبا، لأنه كان معلوما عندهم أن من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم هذا
__________
فلا عكر، "والله أعلم" بالمراد للشاعر وللمصطفى حين تمثل به في حفر الخندق، "وقوله إذا صيح بنا أتينا" بكسر الصاد المهملة وسكون التحتية، "أي إذا صيح بنا للقتال ونحوه من المكاره،" أي ما تكرهه النفوس "أتينا" بالفوقية.
وفي الفتح أي جئنا إذا دعينا إلى القتال أو إلى الحق. "وفي رواية أبينا بالموحدة بدل المثناة" الفوقية "أي أبينا الفرار".
وقال الحافظ: كذا رأيت في نسخة النسفي فإن كانت ثابتة فالمعنى إذا دعينا إلى غير الحق امتنعنا كذا في الفتح هنا وقال فيه في الخندق روي بالوجهين.
قال عياض: كلاهما صحيح المعنى أما الباء فمعناه إذا صيح بنا لفزع، أو حادث أبينا الفرار وثبتنا، وأما المثناة فمعناه جئنا وأقدمنا على عدونا. قال: ورواية المثناة أوجه لأن إعادة الكلمة في قوافي الرجز عن قرب عيب معلوم عندهم، والراجح أن قوله إذا صيح بنا أتينا بالمثناة، وقوله إذا أرادوا فتنة أبينا بالموحدة. انتهى.
"وقوله وبالصياح عولوا علينا، أي استعانوا بنا واستفزعونا للقتال" وفي الفتح، أي قصدونا بالدعاء بالصوت العالي واستعانوا علينا. تقول: عولت على فلان وعولت بفلان بمعنى استعنت به. "قيل: هو من التعويل على الشيء، وهو الاعتماد عليه" وهو المتبادر من عولوا بالتثقيل "وقيل: من العويل، وهو الصوت".
والمعنى أجابوا علينا بالصوت. قاله الخطابي وتعقبه ابن التين بأنه لو كان من العويل لكان أعولوا وأقره الحافظ نعم حكى المصنف أن في نسخة أعولوا فلعل كلامه عليها "وقوله من هذا السائق قالوا: عامر قال: يرحمه الله قال رجل من القوم: وجبت أي ثبتت له الشهادة" تفسير لوجبت "وستقع قريبا", وكأنه لم يكتف بأن يقول وقوله وجبت أي ثبتت ... إلخ. بل أعاده من أوله وإن قدمه قريبا لأنه جعله توطئة لقوله، "لأنه كان معلوما عندهم أن من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم هذا
الدعاء في هذا الموطن استشهد، وقوله: لولا أمتعتنا به؟ أي وددنا أنك أخرت الدعاء له بهذا إلى وقت آخر لنتمتع بمصاحبته ورؤيته مدة.
وفي البخاري من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم أتى خيبر ليلا -وكان إذا أتى قوما بليل لم يغربهم حتى يصبح- فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم
__________
الدعاء في هذا الموطن" يعني الحرب "استشهد" كما أشار إليه رواية سلمة، بل كلامه أعم من الحرب لقوله: ما استغفر لإنسان يخصه إلا استشهد كما مر قريبا، "وقوله: لولا أمتعتنا به" ليس المراد بلولا التحضيض لأنه إن كان على ماض أفادت اللوم ومعاذ الله أن يقصده أهل بيعة الرضوان الذين رضي الله عنهم، بل المراد العرض والتمني "أي وددنا أنك أخرت الدعاء له بهذا إلى وقت آخر لنتمتع بمصاحبته ورؤيته", وشجاعته "مدة". قال الحافظ والتمتع الترفه إلى مدة ومنه أمتعني الله ببقائك.
"وفي البخاري من حديث أنس" من ثلاثة طرق عنه؛ الطريق الأولى: حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن حميد الطويل عن أنس "أنه صلى الله عليه وسلم أتى خيبر ليلا" أي قرب منها، فلا يخالف رواية ابن سيرين عن أنس في الطريق الثانية عند البخاري: صبحنا خيبر بكرة، لأنه يحمل على أنهم قدموها وناموا دونها، ثم ركبوا إليها بكرة فصبحوها بالقتال.
وذكر ابن إسحاق أنه نزل بواد يقال له: الرجيع بينهم وبين غطفان لئلا يمدوهم وكانوا حلفاءهم، فبلغني أن غطفان تجهزوا وقصدوا خيبر فسمعوا حسا خلفهم، فظنوا أن المسلمين خلفوهم في ذراريهم، فرجعوا وأقاموا وخذلوا أهل خيبر. "وكان إذا أتى قوما بليل لم يغربهم" بضم التحتية وكسر الغين المعجم أي لم يسرع في الهجوم عليهم "حتى يصبح".
قال الحافظ: كذا للأكثر من الإغارة ولأبي ذر عن المستملي لم يقربهم بفتح أوله وسكون القاف وفتح الراء وسكون الموحدة، وفي الجهاد بلفظ لا يغير عليهم وهو مؤيد رواية الجمهور، وفي الأذان من وجه آخر: كان إذا غزا لم يغربنا حتى يصبح وينظر فإن سمع أذانا كف عنهم وإلا أغار، فخرجنا إلى خيبر فانتهينا إليهم ليلا فلما أصبح ولم يسمع أذانا ركب. انتهى.
وروى ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم لما أشرف على خيبر قال لأصحابه: "قفوا". ثم قال: "اللهم رب السموات وما أظللن ورب الأرضين وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها، وشر ما فيها أقدموا بسم الله". وكان يقولها لكل قرية دخلها "فلما أصبح خرجت اليهود".
زاد أحمد: إلى زروعهم "بمساحيهم" بمهملتين جمع مسحاة من آلات الحرث. قال البرهان: والميم زائدة لأنه من السحو وهو الكشف والإزالة "ومكاتلهم" بفتح الميم وكسر الفوقية جمع
فلما رأوه قالوا: محمد والله، محمد والخميس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين".
وفي رواية: فرفع يديه وقال: "الله أكبر خربت خيبر".
__________
مكتل بكسرها وفتح الفوقية هو القفة الكبيرة التي يحول فيها التراب وغيره.
قال في الروض سميت بذلك لتكتيل الشيء فيها وهو تلاصق بعضه ببعض والكتلة من التمر ونحوه فصيحة وإن أبدلتها العامة انتهى.
وحكى الواقدي إن أهل خيبر سمعوا بقصده لهم، فكانوا يخرجون في كل يوم عشرة آلاف مقاتل مسلحين مستعدين صفوفا، ثم يقولون محمد يغزونا هيهات هيهات فلا يرون أحدا، حتى إذا كان الليلة التي قدم فيها المسلمون، ناموا ولم تتحرك لهم دابة، ولم يصح لهم ديك حتى طلعت الشمس، فخرجوا بالمساحي طالبين مزارعهم فوجدوا المسلمين "فلما رأوه قالوا": جاء أو هذا "محمد والله محمد والخميس" ضبطه القاضي عياض بالرفع عطف والنصب مفعول معه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -زاد البخاري في الجهاد من هذا الطريق نفسه-: "الله أكبر خربت خيبر". أي: صارت خرابا "إنا إذا نزلنا بساحة" أي: فناء "قوم" وأصلهما الفضاء بين المنازل "فساء صباح المنذرين".
وهذا الحديث أصل في جواز التمثل والاستشهاد بالقرآن والاقتباس نص عليه ابن عبد البر وابن رشيق كلاهما في شرح الموطأ وهما مالكيان، والنووي في شرح مسلم كلهم في شرح هذا الحديث وكذا صرح بجوازه القاضي عياض والباقلاني من المالكية.
وحكى الشيخ داود الشاذلي اتفاق المالكية والشافعية على جوازه غير أنهم كرهوه في الشعر خاصة.
وروى الخطيب البغدادي وغيره بالإسناد عن مالك أنه كان يستعمله. قال السيوطي: وهذه أكبر حجة على من زعم أن مذهب مالك تحريمه، وأما مذهبنا فأجمع أئمته على جوازه والأحاديث الصحيحة والآثار عن الصحابة والتابعين تشهد لهم، فمن نسب إلى مذهبنا تحريمه فقد فشر وأبان أنه أجهل الجاهلين. انتهى.
وهذا منه قاض بغلطه فيما أورده في عقود الجمان، "وفي رواية" للبخاري في الجهاد، فرفع يديه وقال: "الله أكبر خربت خيبر". قال الحافظ: وزيادة التكبير في معظم الطرق عن أنس وعن حميد. انتهى.
وفيه استحباب التكبير عند الحرب وتثليثه، ففي رواية للبخاري في الصلاة، فلما دخل القرية قال: الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين. قالها ثلاثا، وفي
والخميس: الجيش: سمي به لأنه مقسوم بخمسة أقسام: المقدمة والساقة والميمنة والميسرة والقلب.
ومحمد: خبر مبتدأ، أي هذا محمد.
قال السهيلي: يؤخذ من هذا الحديث التفاؤل؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لما رأى آلة الهدم تفاءل أن مدينتهم ستخرب. انتهى.
ويحتمل -كما قاله في فتح الباري- أن يكون قال: "خربت خيبر" بطريق الوحي، ويؤيده قوله بعد ذلك: "إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين".
وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح قريبا من خيبر بغلس ثم قال: "الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين".
__________
التنزيل إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا والثلاثة مبدأ الكثرة "والخميس" بلفظ اليوم "الجيش" كما فسره عبد العزيز بن صهيب، أو من دونه عند البخاري في صلاة الخوف، بدليل روايته في أوائل كتاب الصلاة بلفظ يعني الجيش "سمي به، لأنه مقسوم بخمسة أقسام، المقدمة" وسماها في حديث الحراسة، "والساقة" مؤخر الجيش، "والميمنة والميسرة" ويقال لهما: الجناحان "والقلب" وقيل من تخميس الغنيمة، وتعقبه الأزهري بأن التخميس إنما ثبت بالشرع، وقد كان أهل الجاهلية يسمون الجيش خميسا فبان أن القول الأول أولى "ومحمد خبر مبتدأ أي هذا محمد" كما عليه معظم الشراح، وأعربه المصنف أيضا فاعلا بفعل فقدر جاء محمد.
"قال السهيلي" في الروض: "يؤخذ من هذا الحديث التفاؤل لأنه عليه الصلاة والسلام لما رأى آلة الهدم" وهي المساحي والمكاتل مع أن لفظ المسحاة من سحوت إذا قشرت "تفاءل أن مدينتهم ستخرب. انتهى".
ويحتمل كما قاله في فتح الباري أن يكون قال: "خربت خيبر" بطريق الوحي ويؤيده قوله بعد ذلك: "إن إذا نزلنا بساحة قوم فساء" بئس "صباح المنذرين" صباحهم فهو إخبار بالغيب أو على جهة الدعاء عليهم، ويجوز أن يكون أخذه من اسمها كما قال البرهان.
"وفي رواية" للبخاري في هذه الغزوة من طريق ثابت وقبلها في صلاة الخوف من طريق عبد العزيز وثابت عن أنس "أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح قريبا من خيبر بغلس" في أول وقتها، "ثم قال" لما أشرف على خيبر: "الله أكبر" في رواية الطبراني ثلاثا "خربت خيبر" أخبار بالغيب عن الوحي، أو تفاؤلا باسمها أو بآلات الهدم، أو دعاء "إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين".
وقال مغلطاي وغيره: وفرق عليه الصلاة والسلام الرايات، ولم تكن الرايات إلا بخيبر، وإنما كانت الألوية.
قال الدمياطي: وكانت راية النبي صلى الله عليه وسلم السوداء من برد لعائشة رضي الله عنها.
وفي البخاري: وكان علي بن أبي طالب تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان رمدا, فقال: أنا أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم فلحق فلما بتنا الليلة التي فتحت قال: "لأعطين الراية غدا -أو: ليأخذن
__________
المخصوص بالذم محذوف أي صباحهم واللام للجنس والصباح مستعار من صباح الجيش المبيت لوقت نزول العذاب، ولما كثرت فيهم الهجوم والغارة في الصباح سموا الغارة صباحا، وإن وقعت في وقت آخر قاله البيضاوي.
"وقال مغلطاي وغيره: وفرق عليه الصلاة والسلام الرايات" فدفع رايته العقاب إلى الحباب بن المنذر، وراية لسعد بن عبادة، ولواءه وهو أبيض إلى علي، "ولم تكن الرايات إلا بخيبر وإنما كانت الألوية" كما ذكره ابن إسحاق، وكذا أبو الأسود عن عروة وقد صرح جماعة من اللغويين بترادف الراية واللواء وهو العلم الذي يحمل في الحرب.
لكن روى أحمد، والترمذي عن ابن عباس، والطبراني عن بريدة، وابن عدي عن أبي هريرة، قالوا: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض زاد أبو هريرة مكتوب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله وهو ظاهر في التغاير، فلعل التفرقة بينهما عرفية قاله الحافظ وفي المصباح لواء الجيش علمه وهو دون الراية.
"قال الدمياطي: وكانت" مستأنف في جواب سؤال نشأ من ذكر الرايات هو مم كانت رايته؟ فقال: كانت "راية النبي صلى الله عليه وسلم السوداء من برد لعائشة رضي الله عنها" والأولى سوداء بالتنكير، كما قاله الصحابة الثلاثة لأنه لم يتقدم ذكرها وكانت تسمى العقاب، "وفي البخاري" عن سلمة "وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم" في خيبر، "وكان رمدا" بكسر الميم ولابن أبي شيبة عن علي أرمد والطبراني عن جابر أرمد شديد الرمد وأبي نعيم عن ابن عمر أرمد لا يبصر، "فقال: أنا أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم" قال الحافظ: كأنه أنكر على نفسه تأخره عنه فقل ذلك، "فلحق"، زاد الكشميهني به يحتمل قبل وصوله إلى خيبر ويحتمل بعد وصوله إليها. انتهى.
"فلما بتنا الليلة التي فتحت" خيبر في صبحتها "قال: لأعطين الراية غدا أو" قال:
الراية غدا- رجل يحبه الله ورسوله". وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه".
__________
"ليأخذن الراية غدا رجل" قال الحافظ شك من الراوي، وفي حديث سهل بعده: "لأعطين الراية غدا". بغير شك "يحبه الله ورسوله" زاد في حديث سهل بعده: "ويحب الله ورسوله". وفي رواية ابن إسحاق: "ليس بفرار". وفي حديث بريدة: "لا يرجع حتى يفتح الله له".
وروى أبو نعيم والبيهقي عن بريدة كان صلى الله عليه وسلم تأخذه الشقيقة فلم يخرج إلى الناس، فأرسل أبا بكر فأخذ راية رسول الله ثم نهض فقاتل قتالا شديدا ثم رجع ولم يكن فتح وقد جهد، ثم أرسل عمر فأخذ الراية فقاتل أشد من الأول، ثم رجع ولم يكن فتح.
وقال الحافظ: وقع في رواية البخاري اختصار وهو عند أحمد والنسائي وابن حبان، والحاكم عن بريدة. قال: لما كان يوم خيبر أخذ أبو بكر اللواء فرجع ولم يفتح له فلما كان من الغد أخذه عمر فرجع ولم يفتح له وقتل محمود بن مسلمة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لأدفعن لوائي غدا" ... الحديث. وعند ابن إسحاق نحوه من وجه آخر أي عن سلمة وزاد.
قال سلمة: فخرج علي والله يهرول وإنا لخلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن فاطلع عليه يهودي من رأس الحصن، فقال: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب. قال: علوتم وما أنزل على موسى، وفي الباب عن أكثر من عشرة من الصحابة سردهم الحاكم في الإكليل وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل. انتهى.
وفي هذا رد على زعم ابن كثير ضعف حديث ذهاب الشيخين ولم يفتح لهما وبقية حديث سلمة هذا عند البخاري يفتح عليه فنحن نرجوها فقيل: هذا علي فأعطاه ففتح، "وفي رواية" للبخاري في مواضع عن سهل بن سعد "أنه صلى الله عليه وسلم قال: لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله" خيبر "على يديه" بالتثنية زاد البخاري في المغازي يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.
قال الحافظ: في المناقب أراد وجود حقيقة المحبة وإلا فكل مسلم يشترك مع علي في مطلق هذه الصفة وفيه تلميح بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، فكأنه أشار إلى أن عليا تام الاتباع له صلى الله عليه وسلم حتى وصفه بصفة محبة الله، ولذا كانت محبته علامة الإيمان وبغضه علامة النفاق، ففي مسلم عن علي: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق، وله شاهد من حديث أم سلمة عند أحمد قال: أي سهل فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها. يدوكون بضم الدال المهملة أي باتوا في اختلاط واختلاف.
فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجون أن يعطاها، فقال: "أين علي بن أبي طالب"؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: "فأرسلوا إليه"، فأتي به، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية.
__________
والدوكة بالكاف الاختلاط "فلما أصبح الناس غدوا" بمعجمة أتوا صباحا "على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجون" بالنون رواية أبي ذر ولغيره يحذفها. قال المصنف: حذف النون بغير ناصب ولا جازم لغة. انتهى.
"أن يعطاها" أي الراية وفي مسلم عن أبي هريرة أن عمر قال: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، وفي حديث بريدة فما منا رجل له منزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو يرجو أن يكون ذلك الرجل حتى تطاولت أنالها، "فقال: أين علي بن أبي طالب، فقالوا: "رواية أبي ذر ولغيره، فقيل: "يا رسول الله هو يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه" قال المصنف: بكسر السين أمر من الإرسال وفتحها، أي: قال سهل: فأرسلوا أي الصحابة إلى علي وهو بخيبر لم يقدر على مباشرة القتال لرمده "فأتي به" ولمسلم عن سلمة فأرسلني إلى علي فجئت به أقوده أردم قال الحافظ: فظهر منه أنه الذي أحضره، ولعل عليا حضر إليهم ولم يقدر على مباشرة القتال لرمده، فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم فحضر من المكان الذي نزل به أو بعث إليه إلى المدينة، فصادف حضوره "فبصق صلى الله عليه وسلم في عينيه" وعند الحاكم عن علي نفسه فوضع رأسي في حجره ثم بزق في ألية راحته فدلك بها عيني، والألية اللحمة التي تحت الإبهام أو باطن الكف، "ودعا له" فقال: "اللهم أذهب عنه الحر، والقر".
رواه الطبراني بالقاف أي البرد "فبرأ" قال الحافظ بفتح الراء والهمزة بوزن ضرب، ويجوز كسر الراء بوزن علم. انتى.
فالراية بالفتح فتسمح المصنف في قوله بفتح الراء وكسرها "حتى كأن لم يكن به وجع" زاد بريدة فما وجعهما علي حتى مضى لسبيله أي مات.
رواه البيهقي وللطبراني عن علي: فما رمدت ولا صدعت مذ دفع إلي النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم خيبر، وله من وجه آخر فما اشتكيتهما حتى الساعة، قال: ودعا لي فقال: "اللهم أذهب عنه الحر، والبرد". فما اشتكيتهما حتى يومي هذا.
وفي رواية يونس عن ابن إسحاق وكان علي يلبس القباء المحشو الثخين في شدة الحر فلا يبالي الحر ويلبس الثوب الخفيف في شدة البرد فلا يبالي البرد فسئل، فأجاب بأن ذلك بدعائه عليه الصلاة والسلام يوم خيبر "فأعطاه الراية". وفي حديث أبي سعيد عند أحمد فانطلق
فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: "انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدًا خير من أن يكون لك حمر النعم". الحديث.
__________
حتى فتح الله عليه خيبر وفدك وجاء بعجوتها، "فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم" بحذف همزة الاستفهام "حتى يكونوا مثلنا" مسلمين، فقال: "انفذ" بضم الفاء بعدها معجمة أي: امض "على رسلك" بكسر الراء هينتك "حتى تنزل بساحتهم" بفنائهم "ثم ادعهم" بهمزة الوصل "إلى الإسلام".
وفي حديث أبي هريرة: حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، واستدل بقوله: ادعهم إن الدعوة شرط في جواز القتال والخلاف فيه شهير فقيل: شرط مطلقا وهو عن مالك سواء من بلغتهم الدعوة أم لا قال: إلا أن يعجلوا المسلمين وقيل: لا مطلقا، وعن الشافعي مثله وعنه لا يقاتل من لم تبلغه الدعوة حتى يدعوهم، وأما من بلغته فتجوز الإغارة عليهم بغير دعاء وهو مقتضى الأحاديث، ويحمل حديث سهل على الاستحباب بدليل أن في حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم أغار على أهل خيبر لما لم يسمع النداء، وكان ذلك أول ما طرقهم، وقصة علي بعد ذلك.
وعن الحنفية تجوز الإغارة مطلقا وتستحب الدعوة، "وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه" أي في الإسلام فإن لم يطيعوا لك بذلك فقاتلهم، "فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حمر" بضم المهملة وسكون الميم "النعم" بفتح النون، والعين المهملة وهو من ألوان الإبل المحمودة، قيل: المراد خير من أن تكون لك فتتصدق بها وقيل: تقتنيها وتملكها، وكانت مما يتفاخر العرب بها, قال النووي: وتشبيه أمور الآخرة بأعراض الدنيا للتقريب إلى الإفهام، وإلا فذرة من الآخرة خير من الدنيا وما فيها بأسرها ومثلها معها، وزاد مسلم من حديث إياس ابن سلمة عن أبيه، وخرج مرحب فقال:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
فبرز له علي وهو يقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره
أكيلهم بالسيف كيل السندره
وضرب مرحبا، ففلق رأسه وقتله وكان الفتح.
قال الحافظ: وخالف في ذلك أهل السير حزم ابن إسحاق وابن عقبة والواقدي بأن الذي قتل مرحبا هو محمد بن مسلمة وكذا.
ولما تصاف القوم، كان سيف عامر قصيرا، فتناول ساق يهودي ليضربه فرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمت منه. فلما قفلوا، قال سلمة:
__________
روى أحمد بإسناد حسن عن جابر وقيل: أن ابن مسلمة كان بارزه فقطع رجليه فأجهز علي عليه، وقيل: إن الذي قتله هو الحارث أخو مرحب فاشتبه على بعض الرواة، فإن يكن كذلك وإلا فما في الصحيح مقدم على ما سواه ولا سيما قد جاء عن بريدة أيضا عند أحمد، والنسائي، وابن حبان، والحاكم. انتهى.
وقد قال ابن عبد البر: إنه الصحيح، وابن الأثير الصحيح الذي عليه أهل السير و"الحديث" أن عليا قاتله، وقال الشامي: ما في مسلم مقدم عليه من وجهين: أحدهما: أنه أصح إسنادا, الثاني: أن جابرا لم يشهد خيبر، كما ذكر ابن إسحاق، والواقدي, وغيرهما، وقد شهدها سلمة وبريدة وأبو رافع فهم أعلم ممن لم يشهدها، وما قيل: إن ابن مسلمة قطع ساقي مرحب ولم يجهز عليه ومر به علي فأجهز عليه يأباه حديث سلمة وأبي رافع. انتهى.
وذكر قاسم بن ثابت في الدلائل أن اسمه في الكتب القديمة أسد وهو حيدرة, وقيل: سمته أمه أسد باسم أبيها فلما قدم أبوه سماه عليا وقيل: لقب به في صغره، لأن الحيدرة الممتلئ لحما مع عظم بطن وكان كذلك. انتهى.
ويقال: إن عليا كاشفه بذلك لأن مرحبا رأى تلك الليلة مناما أن أسدا افترسه، فأشار بقوله حيدرة إلى أنه الأسد الذي يفترسه، فلما سمع ذلك ارتعد وضعفت نفسه.
"و" في حديث سلمة بن الأكوع السابق أوله "لما تصاف" بتشديد الفاء " القوم" للقتال "كان سيف عامر" بن الأكوع "قصيرا، فتناول" أي قصد ساق يهودية ليضربه" به، ولأحمد عن إياس بن سلمة عن أبيه، فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
فبرز إليه عامر فقال:
قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مقامر
فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر، وذهب عامر يسفل له بفتح التحتية وسكون المهملة وضم الفاء أي يضربه من أسفل، فرجع ذباب" بضم المعجمة، وبالموحدة "سيفه".
قال الحافظ: أي طرفه الأعلى, وقيل: حده "فأصاب عين ركبة عامر" أي طرف ركبته الأعلى، وفي رواية يحيى القطان فأصيب عامر بسيف نفسه ولمسلم فقطع أكحله فكانت فيها نفسه، ولابن إسحاق فكلمه كلما شديدا "فمات منه فلما قفلوا" رجعوا من خيبر "قال سلمة"
قلت يا رسول الله، فداك أبي وأمي، زعموا أن عامرا حبط عمله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب من قال، وإن له أجرين -وجمع بين إصبعيه- إنه لجاهد مجاهد". رواه البخاري أيضا.
وعن يزيد بن أبي عبيد قال: رأيت أثر ضربة بساق سلمة، فقلت: ما هذه الضربة؟ قال: هذه ضربة أصابتها يوم خيبر, فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فنفث فيه ثلاث نفثات فما اشتكيتها حتى الساعة.
__________
رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي، وللبخاري في الأدب رآني شاحبا بمعجمة ثم مهملة وموحدة أي: متغير اللون. وفي رواية إياس فأتيته وأنا أبكي.
قال: "ما لك"؟ "قلت: يا رسول الله فداك أبي وأمي زعموا أن عامرا أحبط عمله".
وفي روا