وفي هذه الفترة العصيبة حيث كان المسلمون يحيط بهم الضعف والخوف ويئنون من ظلم المشركين وطغيانهم، ولا يجدون ملجأ من البأساء إلا إلى الضراء. في هذه الفترة أسلم حمزة بن عبد المطلب عم الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأسلم من بعده بأيام معدودة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فكان إسلامهما فتحًا وأساسًا متينًا، أعز الله به الإسلام والمسلمين.
فأما عن إسلام حمزة: فقد كان في مبدأ أمره عن حمية واندفاع بسبب العصبية القبلية التي كانت تمتلئ بها نفوس العرب في ذلك الحين؛ ولكن لم يلبث أن شرح الله صدره للإسلام فمضى في طريق الحق لا يخشى فيه لومة لائم، وجاهد في سبيل الله حتى قضى نحبه ولقي ربه.
وقد كان إسلام حمزة في السنة السادسة من البعثة النبوية، وذلك أن أبا جهل مر بمحمد -صلى الله عليه وسلم- يومًا عند الصفا، فسبه وشتمه وأسمعه ما يكره فأعرض عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يرد عليه بكلمة، وكان حمزة رجلًا قويًا ذا ولع بالصيد ... فلما رجع من صيده في ذلك اليوم علم بما أصاب ابن أخيه من سفاهة أبي جهل، فامتلأ غضبًا وذهب إلى الكعبة ولم يقف مسلمًا على أحد ممن كان عندها، وقصد أبا جهل فهجم عليه وقال له: كيف تسب محمدًا وأنا على دينه؟ وضربه بقوسه وتحداه.
وأراد رجال من بني مخزوم أن ينصروا أبا جهل، فمنعهم حسمًا للشر، معترفًا بما وقع منه لمحمد. ثم أعلن إسلامه وعاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- على النصرة والتضحية في سبيل الله حتى نهاية حياته1.
تألمت قريش وأصابها هم عظيم بإسلام حمزة، فقد عرفت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عز وامتنع بإسلام هذا البطل.
وأما عن إسلام عمر: فقد كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في مبدأ أمره
__________
1 ذكر هذه القصة ابن إسحاق بسند ضعيف منقطع، كما عن ابن هشام 1/ 312، وأسندها البيهقي عن ابن إسحاق في "الدلائل" 2/ 213، وكذلك شيخه الحاكم 3/ 192-193.
لكن جاءت القصة من وجهين آخرين مرسلين عند الطبراني 2925، 2926 عن محمد بن كعب القرظي، والأخنس بن شريق، فتتقوى هذه المراسيل ببعضها.
من ألد أعداء الإسلام، وأشد الناس خصومة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين.
ولقد صمم يومًا على قتل الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليقضي على الدعوة الإسلامية ولكن الله أراد به الخير فشرح صدره للإسلام. ثم لم يلبث أن صار من أحب الناس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأشدهم تفانيًا في نصرة الحق وإعلاء الدين الحنيف، وإليك ما ذكره المؤرخون عن إسلامه:
خرج عمر يومًا متوشحًا بسيفه يريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلقيه نعيم بن عبد الله فقال له: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدًا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامهم وعاب دينها وسبَّ آلهتها فأقتله. فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدًا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ فقال: وأي أهل بيتي؟ قال: ابن عمك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة بنت الخطاب زوجته، فقد -والله- أسلما وتابعا محمدًا على دينه، فعليك بهما. فرجع عامدًا إلى أخته وزوجها وعندهما خباب ابن الأرت معه صحيفة فيها سورة طه يقرئهما إياها.
فلما سمع صوت عمر اختفى خباب في البيت وأخفت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب، فلما دخل قال: ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئًا. قال: بلى والله، لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدًا على دينه.
وبطش بسعيد بن زيد فقامت فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها.
فلما فعل ذلك قالت أخته وزوجها: نعم، قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك.
فلما رأى عمر ما بأخته من آثار الضرب، ندم على ما صنع، فارعوى وقال:
لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءونها، لأنظر ما هذا الذي جاء به محمد. فقالت له أخته: إنا نخشاك عليها.
قال: لا تخافي. حلف لها بآلهته ليردنها إليها إذا قرأها؟ فقالت له أخته: إنك نجس ومشرك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر. فقام فاغتسل، فأعطته الصحيفة وفيها سورة طه.
فلما قرأ منها قدرًا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه.
فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال له: يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه -صلى الله عليه وسلم- فإني سمعته وهو يقول: "اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب". فالله الله يا عمر.
فقال له عند ذلك عمر: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم؟
فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا ومعه فيه نفر من أصحابه، فأخذ عمر سيفه فتوشحه ثم عمد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فضرب عليهم الباب.
فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنظر من خلل الباب فرآه متوشحًا بالسيف، فرجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو فزع، فقال: يا رسول الله هذا عمر بن الخطاب متوشحًا السيف. فقال حمزة بن عبد المطلب: فأذن له فإن كان يريد خيرًا بذلناه له، وإن كان يريد شرًّا قتلناه بسيفه.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إئذن له". فأذن له الرجل، ونهض إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى لقيه بالحجرة، فأخذ بمجمع ردائه ثم جبذه جبذة شديدة، وقال: "ما جاء بك يابن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة".
فقال عمر: يا رسول الله جئتك لأؤمن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله.
فكبر الرسول تكبيرة عرف بها أهل البيت من أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن عمر قد أسلم1. وهكذا تم إسلام عمر في جو مليء بالإخلاص والإيمان.
ويتحدث عمر بن الخطاب عما فعله بعد ذلك فيقول: ثم جئت إلى خالي أبي جهل عمرو بن هشام -وكان شريفًا- فقرعت عليه الباب، فقال: ما هذا؟ فقلت: ابن الخطاب وقد صبأت -أي دخلت في الإسلام- فدخل وأغلق الباب دوني.
فذهبت إلى رجل من عظماء قريش وأخبرته بدخولي في الإسلام فأغلق الباب دوني ولم يصبني بسوء، فقلت: ما هذا؟ إن المسلمين يضربون وأنا لا أضرب، فقال لي رجل: أتحب أن يعلم بإسلامك؟ قلت: نعم. قال: فإذا جلس الناس في الحجر، فأتِ فلانًا فقل له، فإنه لا يكتم السر.
فجئت وقد اجتمع الناس في الحجر، فقلت لذلك الذي سماه لي الرجل: إني قد صبأت، قال: أو قد فعلت؟ قلت: نعم. فنادى بأعلى صوته: إن ابن الخطاب قد صبأ.
فتبادروا إلي فما زلت أضربهم ويضربونني. واجتمع الناس. فأجارني خالي
__________
1 قد جاءت قصة إسلام عمر من أوجه متعددة ذكرها ابن إسحاق، ونقلها عنه الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" 3/ 79-80-81.
أخرجها كذلك أبو نعيم في "دلائل النبوة" رقم 192 عن ابن عباس، عن عمر، وذكر فيها أنه أسلم بعد حمزة بثلاثة أيام، وفي سند أبي نعيم ضعف، لكنه يتقوى بطرق ابن إسحاق.
وانظر "الإصابة" 4/ 370، و"فتح الباري" 8/ 47، و"الحلية" 1/ 40، و"المواهب اللدنية" 1/ 242 وما بعدها.
أبو جهل، فرددت عليه جواره، وما زلت في نزاع وخصام مع أعداء الله حتى أعز الله الإسلام1.
وتتعدد الروايات حول إسلام عمر. ولكنها تتفق جميعًا على أن عمر خرج يريد شرًّا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو على الأقل لم يكن يريد الدخول في الإسلام ولكن الله وجهه وهداه، فكان إسلامه فتحًا ونصرًا كبيرًا وحدثًا قويًّا اهتزت له قريش خوفًا وفزعًا.
وفي الحق لقد قوي المسلمون واشتد ساعدهم بدخول حمزة وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- في الإسلام، لما كان عليه من الشجاعة والإقدام، ولما كان لهما في مكة من مكانة ممتازة، ولا سيما عمر، فقد كانت قريش تخافه وتهابه، ولذلك اهتزت قلوبهم هلعًا وضاقوا بإسلامهما ذرعًا، فسلكوا سياسة عنيفة مليئة بالأحداث الجسام للقضاء على هذه الفئة المسلمة مما أدى إلى الهجرة الثانية لبلاد الحبشة.
__________
1 قد أخرج ابن إسحاق هذه الواقعة عن عمر مع بعض اختلاف، ولفظه:
حدثني نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر قال: لما أسلم عمر قال: أي قريش أنقل للحديث. فقيل له: جميل بن معمر الجمحي. فغدا عليه، فغدوت أتبع أثره وأنظر ما يفعل، وأنا غلام أعقل كل ما رأيت، حتى جاءه فقال: أعلمت يا جميل أني أسلمت ودخلت في الإسلام.
فوالله ما راجعه، حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر، واتبعته أنا، حتى قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، ألا إن ابن الخطاب قد صبأ.
وعمر يقول من خلفه: كذب، ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. وثاروا إليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم ...
ثم ذكر بقية الخبر، وأن العاص بن وائل السهمي قال لمن اجتمع عليه: رجل اختار لنفسه أمرًا، فما تريدون، أترون بني عدي يسلمون لكم صاحبكم هكذا، فعندها تركوه، قال الحافظ ابن كثير في "البداية" 3/ 82 بعد أن ساقها من طريق ابن إسحاق: وهذا إسناد جيد قوي.
قصة الغرانيق:
,
وفي هذه الفترة العصيبة حيث كان المسلمون يحيط بهم الضعف والخوف ويئنون من ظلم المشركين وطغيانهم، ولا يجدون ملجأ من البأساء إلا إلى الضراء. في هذه الفترة أسلم حمزة بن عبد المطلب عم الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأسلم من بعده بأيام معدودة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فكان إسلامهما فتحًا وأساسًا متينًا، أعز الله به الإسلام والمسلمين.
فأما عن إسلام حمزة: فقد كان في مبدأ أمره عن حمية واندفاع بسبب العصبية القبلية التي كانت تمتلئ بها نفوس العرب في ذلك الحين؛ ولكن لم يلبث أن شرح الله صدره للإسلام فمضى في طريق الحق لا يخشى فيه لومة لائم، وجاهد في سبيل الله حتى قضى نحبه ولقي ربه.
وقد كان إسلام حمزة في السنة السادسة من البعثة النبوية، وذلك أن أبا جهل مر بمحمد -صلى الله عليه وسلم- يومًا عند الصفا، فسبه وشتمه وأسمعه ما يكره فأعرض عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يرد عليه بكلمة، وكان حمزة رجلًا قويًا ذا ولع بالصيد ... فلما رجع من صيده في ذلك اليوم علم بما أصاب ابن أخيه من سفاهة أبي جهل، فامتلأ غضبًا وذهب إلى الكعبة ولم يقف مسلمًا على أحد ممن كان عندها، وقصد أبا جهل فهجم عليه وقال له: كيف تسب محمدًا وأنا على دينه؟ وضربه بقوسه وتحداه.
وأراد رجال من بني مخزوم أن ينصروا أبا جهل، فمنعهم حسمًا للشر، معترفًا بما وقع منه لمحمد. ثم أعلن إسلامه وعاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- على النصرة والتضحية في سبيل الله حتى نهاية حياته1.
تألمت قريش وأصابها هم عظيم بإسلام حمزة، فقد عرفت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عز وامتنع بإسلام هذا البطل.
وأما عن إسلام عمر: فقد كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في مبدأ أمره
__________
1 ذكر هذه القصة ابن إسحاق بسند ضعيف منقطع، كما عن ابن هشام 1/ 312، وأسندها البيهقي عن ابن إسحاق في "الدلائل" 2/ 213، وكذلك شيخه الحاكم 3/ 192-193.
لكن جاءت القصة من وجهين آخرين مرسلين عند الطبراني 2925، 2926 عن محمد بن كعب القرظي، والأخنس بن شريق، فتتقوى هذه المراسيل ببعضها.
من ألد أعداء الإسلام، وأشد الناس خصومة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين.
ولقد صمم يومًا على قتل الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليقضي على الدعوة الإسلامية ولكن الله أراد به الخير فشرح صدره للإسلام. ثم لم يلبث أن صار من أحب الناس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأشدهم تفانيًا في نصرة الحق وإعلاء الدين الحنيف، وإليك ما ذكره المؤرخون عن إسلامه:
خرج عمر يومًا متوشحًا بسيفه يريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلقيه نعيم بن عبد الله فقال له: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدًا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامهم وعاب دينها وسبَّ آلهتها فأقتله. فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدًا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ فقال: وأي أهل بيتي؟ قال: ابن عمك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة بنت الخطاب زوجته، فقد -والله- أسلما وتابعا محمدًا على دينه، فعليك بهما. فرجع عامدًا إلى أخته وزوجها وعندهما خباب ابن الأرت معه صحيفة فيها سورة طه يقرئهما إياها.
فلما سمع صوت عمر اختفى خباب في البيت وأخفت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب، فلما دخل قال: ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئًا. قال: بلى والله، لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدًا على دينه.
وبطش بسعيد بن زيد فقامت فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها.
فلما فعل ذلك قالت أخته وزوجها: نعم، قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك.
فلما رأى عمر ما بأخته من آثار الضرب، ندم على ما صنع، فارعوى وقال:
لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءونها، لأنظر ما هذا الذي جاء به محمد. فقالت له أخته: إنا نخشاك عليها.
قال: لا تخافي. حلف لها بآلهته ليردنها إليها إذا قرأها؟ فقالت له أخته: إنك نجس ومشرك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر. فقام فاغتسل، فأعطته الصحيفة وفيها سورة طه.
فلما قرأ منها قدرًا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه.
فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال له: يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه -صلى الله عليه وسلم- فإني سمعته وهو يقول: "اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب". فالله الله يا عمر.
فقال له عند ذلك عمر: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم؟
فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا ومعه فيه نفر من أصحابه، فأخذ عمر سيفه فتوشحه ثم عمد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فضرب عليهم الباب.
فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنظر من خلل الباب فرآه متوشحًا بالسيف، فرجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو فزع، فقال: يا رسول الله هذا عمر بن الخطاب متوشحًا السيف. فقال حمزة بن عبد المطلب: فأذن له فإن كان يريد خيرًا بذلناه له، وإن كان يريد شرًّا قتلناه بسيفه.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إئذن له". فأذن له الرجل، ونهض إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى لقيه بالحجرة، فأخذ بمجمع ردائه ثم جبذه جبذة شديدة، وقال: "ما جاء بك يابن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة".
فقال عمر: يا رسول الله جئتك لأؤمن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله.
فكبر الرسول تكبيرة عرف بها أهل البيت من أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن عمر قد أسلم1. وهكذا تم إسلام عمر في جو مليء بالإخلاص والإيمان.
ويتحدث عمر بن الخطاب عما فعله بعد ذلك فيقول: ثم جئت إلى خالي أبي جهل عمرو بن هشام -وكان شريفًا- فقرعت عليه الباب، فقال: ما هذا؟ فقلت: ابن الخطاب وقد صبأت -أي دخلت في الإسلام- فدخل وأغلق الباب دوني.
فذهبت إلى رجل من عظماء قريش وأخبرته بدخولي في الإسلام فأغلق الباب دوني ولم يصبني بسوء، فقلت: ما هذا؟ إن المسلمين يضربون وأنا لا أضرب، فقال لي رجل: أتحب أن يعلم بإسلامك؟ قلت: نعم. قال: فإذا جلس الناس في الحجر، فأتِ فلانًا فقل له، فإنه لا يكتم السر.
فجئت وقد اجتمع الناس في الحجر، فقلت لذلك الذي سماه لي الرجل: إني قد صبأت، قال: أو قد فعلت؟ قلت: نعم. فنادى بأعلى صوته: إن ابن الخطاب قد صبأ.
فتبادروا إلي فما زلت أضربهم ويضربونني. واجتمع الناس. فأجارني خالي
__________
1 قد جاءت قصة إسلام عمر من أوجه متعددة ذكرها ابن إسحاق، ونقلها عنه الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" 3/ 79-80-81.
أخرجها كذلك أبو نعيم في "دلائل النبوة" رقم 192 عن ابن عباس، عن عمر، وذكر فيها أنه أسلم بعد حمزة بثلاثة أيام، وفي سند أبي نعيم ضعف، لكنه يتقوى بطرق ابن إسحاق.
وانظر "الإصابة" 4/ 370، و"فتح الباري" 8/ 47، و"الحلية" 1/ 40، و"المواهب اللدنية" 1/ 242 وما بعدها.
أبو جهل، فرددت عليه جواره، وما زلت في نزاع وخصام مع أعداء الله حتى أعز الله الإسلام1.
وتتعدد الروايات حول إسلام عمر. ولكنها تتفق جميعًا على أن عمر خرج يريد شرًّا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو على الأقل لم يكن يريد الدخول في الإسلام ولكن الله وجهه وهداه، فكان إسلامه فتحًا ونصرًا كبيرًا وحدثًا قويًّا اهتزت له قريش خوفًا وفزعًا.
وفي الحق لقد قوي المسلمون واشتد ساعدهم بدخول حمزة وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- في الإسلام، لما كان عليه من الشجاعة والإقدام، ولما كان لهما في مكة من مكانة ممتازة، ولا سيما عمر، فقد كانت قريش تخافه وتهابه، ولذلك اهتزت قلوبهم هلعًا وضاقوا بإسلامهما ذرعًا، فسلكوا سياسة عنيفة مليئة بالأحداث الجسام للقضاء على هذه الفئة المسلمة مما أدى إلى الهجرة الثانية لبلاد الحبشة.
__________
1 قد أخرج ابن إسحاق هذه الواقعة عن عمر مع بعض اختلاف، ولفظه:
حدثني نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر قال: لما أسلم عمر قال: أي قريش أنقل للحديث. فقيل له: جميل بن معمر الجمحي. فغدا عليه، فغدوت أتبع أثره وأنظر ما يفعل، وأنا غلام أعقل كل ما رأيت، حتى جاءه فقال: أعلمت يا جميل أني أسلمت ودخلت في الإسلام.
فوالله ما راجعه، حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر، واتبعته أنا، حتى قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، ألا إن ابن الخطاب قد صبأ.
وعمر يقول من خلفه: كذب، ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. وثاروا إليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم ...
ثم ذكر بقية الخبر، وأن العاص بن وائل السهمي قال لمن اجتمع عليه: رجل اختار لنفسه أمرًا، فما تريدون، أترون بني عدي يسلمون لكم صاحبكم هكذا، فعندها تركوه، قال الحافظ ابن كثير في "البداية" 3/ 82 بعد أن ساقها من طريق ابن إسحاق: وهذا إسناد جيد قوي.
قصة الغرانيق: