كانت خطوة الرسول صلى الله عليه وسلم الثانية في المدينة إصدار وثيقة نظم بموجبها العلاقات بين المجتمع المسلم الجديد نفسه وبينه وبين الكتل البشرية التي تعايشت في المدينة وبخاصة اليهود، وقد جاء فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس ...
وأن المؤمنين لا يتركون مغرما «2» بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل، وألا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة «3» ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ولا ينصر كافرا على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض من دون الناس، وأن من تبعنا من يعود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم ... وأنه لا يجير مشرك مالا لقرشي ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن.. وأنه لا يحل لمؤمن أقر ما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثا «4» ولا يؤويه.. وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا
__________
(1) أنور الجندي: الإسلام وحركة التاريخ ص 32.
(2) المغرم: المثقل بالدين الكثير العيال.
(3) الدسيعة: الكبيرة.
(4) المحدث: المجرم.
محاربين.. لليهود دينهم وللمسلمين دينهم- مواليهم وأنفسهم- إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ «1» إلا نفسه وأهل بيته.. وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد، وإنه لا ينحجز على ثأر جرح.. وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه وأن النصر للمظلوم.. وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.. وأنه ما كان من أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله ... وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، إلا من حارب في الدين.. وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأنه من خرج أمن ومن قعد أمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم) «2» .
إن نصوص الصحيفة توافق القرآن الكريم في المبادىء العامة من حيث اعتبار المسلمين أمة واحدة من دون الناس، ومن حيث التراحم والتعاون بينهم، ومن حيث الاحتفاظ برابطة الولاء وما يترتب عليها من حقوق الموالاة، ثم من حيث مراعاة حقوق القرابة والصحبة والجوار، كذلك تحديد المسؤولية الشخصية والبعد عن ثارات الجاهلية وحميتها وفي وجوب الخضوع للقانون ورد الأمر إلى الدولة بأجهزتها للتصرف بالأمور، وفي شؤون الحرب والسلم، وأن حرب الأفراد وسلمهم إنما تدخل في الاختصاص العام فلا تحدث فرديا، كذلك معاونة الدولة في إقرار النظام والأخذ على يد الظالم وعدم نصر المحدث أو إيوائه «3» .
إن الصحيفة أعطت صفة للجماعة الإسلامية فقررت أنهم أمة واحدة من دون الناس.. وبهذا التقرير ألغى النبي الحدود القبلية أو على الأقل لم يجعل لها وجودا رسميا بالنسبة للدولة، أو بلفظ آخر ارتفع هو عن المستوى القبلي المحدد وبهذا أصبح الإسلام ملكا لمن دخل فيه، فدخل بناء على هذه القاعدة شعوب كثيرة في الإسلام دون أن يضع الرسول أمامها عقبات تحول بينها وبين الاشتراك
__________
(1) يوتغ: يهلك.
(2) ابن هشام ص 134- 138 ابن كثير 3/ 224- 226 المقدسي: البدء والتاريخ 4/ 153- 154 محمد حميد الله: مجموعة الوثائق ص 59- 62.
(3) أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية والإسلام ص 293- 394.
في حياة العالم الإسلامي «1» .
لقد أقرت الصحيفة مفهوم الحرية الدينية بأوسع معانيه وضربت عرض الحائط مبدأ التعصب ومصادرة الآراء والمعتقدات، ولم تكن المسألة مسألة تكتيك مرحلي ريثما يتسنى للرسول صلى الله عليه وسلم تصفية أعدائه في الخارج لكي يبدأ تصفية أخرى إزاء أولئك الذين عاهدهم.. وحاشاه.. إنما صدر هذا الموقف السمح المنفتح عن اعتقاد كامل بأن اليهود باعتبارهم أهل كتاب سيتجاوبون مع الدعوة الجديدة وينهدون لإسنادها في لحظات الخطر والصراع ضد العدو الوثني المشترك كما أكدت بنود الصحيفة نفسها- أو أنهم- على أسوأ الاحتمالات- سيكفون أيديهم عن إثارة المشاكل والعقبات ووضع العراقيل في طريق الدعوة وهي تبني دولتها الجديدة وتصارع قوى الوثنية التي تتربص على الحدود. لكن الذي حدث بعد قليل من إصدار الوثيقة، وطيلة سني العصر المدني، غيّر مجرى العلاقات بين المسلمين واليهود وجمد البنود المتعلقة بهم، لا لشيء إلا لأنهم اختاروا (النقض) على الوفاء، والخيانة على الالتزام، والانغلاق على مصالحهم القومية على الانفتاح على الأهداف العامة الكبيرة للأديان السماوية جمعاء.
إن إصدار الوثيقة يمثل تطورا كبيرا في مفاهيم الاجتماع السياسية، فهذه جماعة تقوم لأول مرة في الجزيرة العربية على غير نظام القبيلة وعلى غير أساس رابطة الدم، حيث انصهرت طائفتا الأوس والخزرج في جماعة الأنصار ثم انصهر الأنصار والمهاجرون في جماعة المسلمين، ثم ترابطت هذه الجماعة المسلمة مع اليهود الذين يشاركونهم الحياة في المدينة إلى أمد ولأول مرة بحكم القانون حيث ترد الأمور إلى الدولة، ومن خلال تغيير شامل وتحول سريع طوى الدستور صفحة اجتماعية طابعها القبلية، وفتح صفحة جديدة أكثر إيجابية وأقرب إلى الترابط والتكافل والوحدة الفكرية «2» .