انتظرت آمنة مجيء المراضع من بني سعد لتدفع به إلى إحداهن كعادة أشراف العرب من أهل مكة. ولا تزال هذه العادة متبعة عند أشراف مكة، إذ يبعثون أبناءهم إلى البادية في اليوم الثامن من مولدهم ثم لا يعودون إلى الحضر حتى يبلغوا الثامنة أو العاشرة. ومن قبائل البادية من لها في المراضع شهرة، ومن بينها قبيلة بني سعد. وفي انتظار المراضع دفعت آمنة بالطفل إلى ثويبة جارية عمه أبي لهب، فأرضعته زمنا، كما أرضعته من بعد عمه حمزة؛ فكانا أخوين في الرضاع. ومع أن ثويبة لم ترضعه إلا أيّاما فقد ظل يحفظ لها خير الودّ ويصلها ما عاشت؛ ولما ماتت في السنة السابعة من هجرته إلى المدينة سألن عن ابنها الذي كان أخاه في الرضاع ليصله مكانها، فعلم أنه مات قبلها.
وجاءت مراضع بني سعد إلى مكة يلتمس الأطفال لإرضاعهم. وكنّ يعرضن عن اليتامى لأنهن كنّ يرتجين البرّ من الآباء. أمّا الأيامى فكان الرجاء فيهن قليلا؛ لذلك لم تقبل واحدة من أولئك المراضع على محمد، وذهبت كلّ بمن ترجو من أهله وافر الخير.
,
على أن حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية التي أعرضت عن محمد أوّل الأمر كما أعرض عنه غيرها لم تجد من تدفع إليها طفلها؛ ذلك أنها كانت على جانب من ضعف الحال صرف الأمهات عنها. فلما أجمع القوم على الانطلاق عن مكة قالت حليمة لزوجها الحارث بن عبد العزّى: والله إني لأكره أن أرجع مع صواحبي ولم آخذ رضيعا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم ولآخذنه! وأجابها زوجها: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. وأخذت حليمة محمدا وانطلقت به مع قومها إلى البادية. وكانت تحدّث أنها وجدت فيه منذ أخذته أيّ بركة: سمنت غنمها وزاد لبنها، وبارك الله لها في كل ما عندها.
وأقام محمد في الصحراء سنتين ترضعه حليمة وتحضنه ابنتها الشّيماء؛ ويجد هو في هواء الصحراء وخشونة عيش البادية ما يسرع به إلى النموّ ويزيد في وسامة خلقه وحسن تكوينه. فلما أتمّ سنتيه وآن فصاله ذهبت به حليمة إلى أمه ثم عادت به إلى البادية، رغبة من أمه، في رواية، ومن حليمة في رواية أخرى؛ عادت به حتى يغلظ، وخوفا عليه من وباء مكة. وأقام الطفل بالصحراء سنتين أخريين يمرح في جوّ باديتها الصحو الطلق لا يعرف قيدا من قيود الروح ولا من قيود المادة.