(ثمّ) بعد غزوة المريسيع وإقامته صلى الله عليه وسلم بالمدينة رمضان، وشوّالا (الحديبية) - بضم الحاء، وفتح الدال المهملتين، وسكون التحتية، وكسر الموحدة، وتخفيف الياء الثانية، وقد تشدّد: بئر بقرب مكة، على تسعة أميال منها، سمّي المكان باسمها- خرج صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين لهلال ذي القعدة، كما عند ابن سعد، سنة ست
بلا خلاف كما قال في «البداية» و (ساق البدنا) بإسكان الدال وبضمها على اللغتين المشار إليهما في قول بعضهم:
وكلّ فعل بسكون العين ... كاليسر والعسر ونحو الأذن
فضمّ عينه يرى اتباعا ... لفائه عن أسد قد شاعا
وفعل كعنق وطنب ... تسكينه إلى تميم انسب
وهو جمع بدنة: ما يهدى إلى البيت الحرام من إبل وبقر.. وكانت سبعين بدنة فيها جمل أبي جهل الذي غنمه الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر كما سيأتي.
,
وسبب خروجه: أنّه رأى صلى الله عليه وسلم في منامه، أنّه دخل البيت هو وأصحابه آمنين محلّقين رؤوسهم ومقصّرين، فخرج من المدينة المنوّرة يسوق البدن (معتمرا) وزائرا للبيت الحرام ومعظما له، لا يريد قتالا، كما قال:
(وما بحرب اعتنى) أي: وما قصد بذلك الخروج حربا.
وحين خروجه صلى الله عليه وسلم استخلف على المدينة المنوّرة نميلة بن عبد الله الليثي، وعلى الصّلاة ابن أم مكتوم.
ومن سوى المخلّفين استنفرا ... عرمرما وصدّ عن أمّ القرى
,
(ومن سوى) بكسر السين وبضمها مضاف إلى قوله (المخلّفين) وهم: جهينة ومزينة، ومن كان حول المدينة من الأعراب، تخلّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورغبوا بأنفسهم عن نفسه، وهو متعلق بقوله: (استنفرا) أي: إنّه صلى الله عليه وسلم استنفر من غير المخلفين جيشا (عرمرما) أي: كثيرا عدده أربع عشرة مئة، أو خمس عشرة مئة.
قال ابن إسحاق: (واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب، وهو يخشى من قريش الذي صنعوا أن يعرضوا له بحرب، أو يصدّوه عن البيت، فأبطأ عليه كثير من الأعراب، وخرج صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدي، وأحرم بالعمرة؛ ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنّه إنّما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له) وخرجت معه أم سلمة من نسائه.
أمّا المخلّفون.. فإنّهم لمّا تثاقلوا في الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. قالوا: أنذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة، وقتلوا أصحابه، فنقاتلهم؟
واعتلّوا بالشغل بأهاليهم وأموالهم، وأنّه ليس لهم من يقوم بذلك، فأنزل الله تعالى تكذيبهم في اعتذارهم بقوله تعالى:
يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً.
خبر بسر بن سفيان الخزاعي عن قريش وصدّهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن مكة:
ولمّا خرج وقد أحرم بالعمرة من ذي الحليفة- كما في الصحيح من رواية الزّهري- سار، حتى إذا كان بعسفان..
لقيه بسر بن سفيان الخزاعي- وكان بعثه عينا- فقال:
يا رسول الله؛ هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل «1» قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى، يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم أبدا عنوة، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم، قد قدّموها إلى كراع الغميم «2» .
وقال ابن سعد: (قدّموا مئتي فارس عليها خالد بن الوليد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ويح قريش، لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب؟! فإن هم أصابوني.. كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم.. دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا.. قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟! فوالله؛ لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به، حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة» ) «3» .
__________
(1) جمع عائذ، وهي: الناقة حديثة النتاج، والمطافيل: الأمّهات التي معها أطفالها، يريد أنّهم خرجوا بذوات الألبان من الإبل ليتزوّدوا ألبانها، ولا يرجعوا حتى يناجزوا محمّدا وأصحابه في زعمهم. اهـ سهيلي
(2) موضع بين مكة والمدينة أمام عسفان بثمانية أميال وعسفان من مكة على مرحلتين.
(3) السالفة: صفحة العنق وهو كناية عن الموت.
وما انثنى بالجيش حتّى اقعنسست ... عن مكّة ناقته إذ حبست
وهذا الذي أشار له الناظم بقوله: (وصدّ عن أم القرى) أي: منعته لذلك كفار قريش عن دخول مكة المشرفة.
ولما كان قوله: (وصدّ ... ) إلخ يشعر بأنّه عليه الصّلاة والسّلام لمّا صدّ رجع في الحال إلى المدينة.. دفع هذا بقوله:
(وما انثنى) أي: ما انعطف عليه الصّلاة والسّلام راجعا (بالجيش) الذي خرج معه، بل ظلّ سائرا، وقال: «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟» (حتى اقعنسست) رجعت (عن) دخول (مكة ناقته) العضباء، ويقال لها: الجدعاء، والقصواء «1» (إذ حبست) بالبناء للمجهول: أي: لأنّ الله تعالى حبسها عن ذلك.
__________
(1) من القصو وهو: قطع طرف الأذن، ولم تكن ناقته عليه الصّلاة والسّلام بذلك، وإنّما هي ألقاب على المشهور، قال في «روض النهاة» : (وهي التي أخذها من أبي بكر رضي الله عنه بمكة، فهاجر عليها، وكان أبى عن أخذها إلّا بالثمن، وهي إذا ذاك رباعية، وكانت صهباء، قيل: إنّها من جمال بني قشير، فلمّا دخل صلى الله عليه وسلم المدينة.. أراد كل من قبائل الأنصار النزول عليه، ويقول: «دعوها؛ فإنّها مأمورة، حتى بلغت موضع إرادته تعالى، فبركت قريبا من مكانها الأول، وألقت جرانها بالأرض، وأرزمت، فنزل عنها صلى الله عليه وسلم، ثمّ لم تزل عنده، ولا يحمله حين ينزل الوحي عليه غيرها وربما بركت من ثقل الوحي- إلى أن قبض صلى الله عليه وسلم، فامتنعت من الأكل والشرب حزنا عليه إلى أن ماتت. وذكر القاضي في «الشفاء» : (أنّها كانت تكلمه، وأنّ العشب يأتيها يبادرها في المرعى، وتجتنبها الوحوش فيه، وتناديها: إنّك لمحمّد) وأشار إلى ذلك في «قرة الأبصار» بقوله:
ثمّ حمار اسمه يعفور ... والناقة القصوا فقط مأثور
وهي التي امتطى بلا امتراء ... نبينا في الهجرة الغراء
-
تجنّب الرسول صلّى الله عليه وسلّم لقاء قريش:
قال ابن إسحاق عند قوله عليه الصّلاة والسّلام: «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم؟» : (فحدّثني عبد الله بن أبي بكر: أنّ رجلا من أسلم قال: أنا يا رسول الله، قال: فسلك بهم طريقا وعرا أجرل- كثير الحجارة- بين شعاب «1» ، فلمّا خرجوا منه وقد شقّ ذلك على المسلمين، وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: «قولوا: نستغفر الله ونتوب إليه» فقالوا ذلك، فقال: «والله؛ إنّها للحطّة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها» ) .
قال ابن شهاب: (فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: «اسلكوا ذات اليمين، بين ظهري الحمض»
__________
وكان لا يحمله إن نزلا ... عليه وحي غيرها ونقلا
أنّ اسمها الجدعاء والعضباء ... فقد ترادفت لها الأسماء
قال شارحها الشيخ أحمد المأمون اليعقوبي: (وفي «ذخائر العقبى» : «تبعث الأنبياء على الدواب، ويحشر صالح على ناقته العضباء، ويحشر أبناء فاطمة على ناقته العضباء، وأحشر أنا على البراق، ويحشر بلال على ناقة من نوق الجنة» أخرجه الحافظ السلمي، ولا معنى لقول الناظم: «فقط» لأنّه يوهم أن ليس له من الإبل إلّا القصواء، مع أنّه ذكر بعد أنّ له عشرين لقحة) اهـ
(1) قلت: لعلّ الطريق الوعر الأجرل الذي سلكه نبينا عليه الصّلاة والسّلام بهم، هو الطريق المشهور بالغائر الذي كانت تسلكه القافلة بالزوار على الجمال، وقد سلكناه بفضل الله تعالى عام زيارتنا لسيد الوجود في الذهاب والإياب سنة (1329 هـ) لا أحرمنا الله من زيارته مرات وكرات، أمين.
فاستنزل النّاس ولا ماء لهم ... فاستنبطوا بالسّهم ما أعلّهم
بفتح الحاء المهملة، وإسكان الميم، وبالضاد المعجمة:
اسم موضع، في طريق تخرجه على ثنية المرار- بكسر الميم، وتخفيف الراء: طريق في الجبل، يشرف على الحديبية- مهبط الحديبية من أسفل مكة، قال: فسلك الجيش ذلك الطريق: فلمّا رأت قريش قترة الجيش- غباره- قد خالفوا عن طريقهم.. رجعوا راكضين إلى قريش، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا سلك في ثنيّة المرار.. بركت ناقته، فقال الناس: خلأت الناقة- أي: حرنت وبركت بلا علة- فقال صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت، وما هو لها بخلق. ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطّة- خصلة- يسألونني فيها صلة الرحم.. إلّا أعطيتهم إياها» ) .
ثمّ قال للناس: «انزلوا» قالوا له: يا رسول الله؛ ما بالوادي ماء ننزل عليه، فأخرج سهما من كنانته- جعبته التي فيها النبل- فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل به في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه، فجاش بالرّواء- فار بالريّ، كما في رواية- حتى ضرب الناس بعطن- مبرك الإبل حول الماء- وهذا ما أشار له الناظم بقوله:
(فاستنزل الناس ولا ماء لهم) أي: فطلب من أصحابه النزول، وأمرهم به في مكان، والحال أنّه لا ماء لهم به غير الماء القليل المعبّر عنه بالثّمد الذي نزحوه فلم يبقوا منه شيئا
(ف) لذلك (استنبطوا) أي: استخرجوا (بالسهم) الذي انتزعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من كنانته وأعطاه لناجية بن جندب الأسلميّ، وهو الذي سلك بهم الطريق، وسماه صلى الله عليه وسلم: ناجية، لما نجا من قريش، وكان قبل يسمى ذكوان، وهو أيضا سائق بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما) أي: الماء الكثير الذي (أعلّهم) أي: سقاهم به، والعلل: الشربة الثانية بعد الشربة الأولى، خلاف النّهل؛ فإنّه الشربة الأولى.
روى الإمام البخاريّ في «صحيحه» من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم الطويل، يصدّق كل منهما حديث صاحبه: (أنّه عليه الصّلاة والسّلام قال- أي:
لكفار قريش الذين يريدون صدّه عن البيت-: «لا يسألوني خطّة يعظمون فيها حرمات الله.. إلا أعطيتهم إيّاها» ثمّ زجرها- أي: راحلته التي بركت- فوثبت، فعدل عنهم، حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء «1» يتبرّضه الناس تبرّضا «2» ، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثمّ أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله؛ ما زال يجيش بالرّي حتى صدروا عنه) اهـ
__________
(1) حفرة فيها ماء قليل.
(2) يأخذونه قليلا قليلا.
,
وفي هذه القصة معجزة ظاهرة، وآية باهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تكثير الماء.
وفيها: بركة سلاحه صلى الله عليه وسلم، وما ينسب إليه.
قال في «شرح المواهب» : (وجواز التشبيه «1» من الجهة العامة وإن اختلفت الجهة الخاصة؛ لأنّ أصحاب الفيل كانوا على باطل محض، وأصحاب هذه الناقة كانوا على حق محض، لكن جاء التشبيه من جهة إرادة الله منع الحرم مطلقا، أمّا من أهل الباطل.. فواضح، وأمّا من أهل الحق.. فللمعنى المتقدم، وهو أنّ الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة وصدّتهم قريش.. لوقع بينهم القتال المفضي إلى سفك الدماء ونهب الأموال، كما لو قدّر دخول الفيل، لكن سبق في علم الله أنّه سيدخل في الإسلام خلق منهم، ويستخرج من أصلابهم ناس يسلمون ويجاهدون.
وفيها: ضرب المثل، واعتبار من بقي بمن مضى.
واستدلّ بعضهم بهذه القصة لمن قال من الصوفية: علامة الإذن التيسير وعكسه.
قال ابن بطّال وغيره: (وفيه جواز الاستتار عن طلائع
__________
(1) أي: بقصة الفيل.
وعلّهم أيضا بهذي الغزوة ... ما كان عن صبابة في ركوة
المشركين، ومفاجأتهم بالجيش؛ طلبا لغرّتهم، والسفر وحده للحاجة، والتنكب عن الطريق السهل إلى الوعر للمصلحة، والحكم على الشيء بما عرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ عليه غيره، وإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها لا ينسب إليها، ويردّ على من نسبه إليها، ومعذرة من نسبه إليها ممّن لا يعرف صورة حاله؛ لأنّ خلاء القصواء لولا خارق العادة لكان ما ظنه الصحابة صحيحا، ولم يعاتبهم صلى الله عليه وسلم على ذلك لعذرهم، والتصرف في ملك الغير بالمصلحة بغير إذنه الصريح إذا سبق عنه ما يدل على الرضا بذلك؛ لأنّهم زجروها بغير إذن ولم يعاتبهم) اهـ من «الفتح»
ثمّ أراد الناظم رحمه الله تعالى أن يذكر ما جرى في هذه الغزوة من المعجزات من هذا النوع، ومعجزاته صلى الله عليه وسلم تزيد على رمل عالج، فقال تغمّده الله برحمته، وأجزل عليه من رضوانه ومثوبته.
معجزة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بفوران الماء من بين أصابعه:
(وعلّهم) أي: سقاهم النّبيّ صلوات الله وسلامه عليه كثيرا (أيضا بهذه الغزوة ما) أي: الماء الكثير الذي (كان عن صبابة) بضم الصاد: بقية الماء (في ركوة) بتثليث الراء المهملة، وهي: إناء صغير للماء من جلد كالإبريق.
وجمعوا له بقايا الزّاد ... فخوّلوا منها سوى المعتاد
وأشار بهذا البيت إلى ما في الصحيح من حديث سالم بن أبي الجعد عن جابر رضي الله عنه قال: (عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة يتوضّأ منها، فأقبل الناس نحوه، وقالوا ليس عندنا إلّا ما في ركوتك، فوضع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يده في الرّكوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضّأنا، فقلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مئة ألف..
لكفانا، كنا خمس عشرة مئة) .
قلت: وهذه المعجزة كما لا يخفى أعظم من معجزة سيدنا موسى عليه الصّلاة والسّلام إذ نبع له الماء من الحجر؛ لأنّه معتاد، قال تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ الآية، وأمّا خروجه من لحم ودم.. فلم يعهد قال الشاعر:
إن كان موسى سقى الأسباط من حجر ... فإن في الكفّ معنى ليس في الحجر
,
(وجمعوا) أي: الصحب الكرام وسادة الأنام (له) أي: لرسول الملك العلام (بقايا الزاد فخوّلوا) بصيغة الماضي المجهول؛ أي: أعطوا (منها) أي: من هذه الآية (سوى المعتاد) ، وذلك أنّه لما رجع عليه الصّلاة والسّلام من الحديبية، قال بعض الصحابة: يا رسول الله؛ قد أجهدنا وفي
الناس ظهر، فانحره لنأكل من لحومه، وندّهن من شحومه، ونحتذي من جلوده، فقال عمر: لا تفعل يا رسول الله؛ فإنّ الناس لم يكن فيهم ظهر أمثل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ابسطوا نطاعكم وأعباءكم» ففعلوا، ثمّ قال: «من كان عنده بقية من زاد أو طعام.. فلينشره» ودعا لهم، فقال:
«قربوا أوعيتكم» فأخذ ما شاء الله، ثمّ قال: «فهل من وضوء؟» فجاء رجل بإداوة فيها نطفة من ماء، فأفرغها في قدح، فتوضّؤوا كلهم.
هكذا ذكر هذه القصة في «روض النّهاة» ووقع مثلها في غزوة تبوك.
وذكر ابن كثير في «تاريخه» في موضع تكثير الطعام في السفر عن الحافظ أبي بكر البزّار بسنده إلى خنيس الغفاريّ:
أنّه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تهامة، حتى إذا كنا بعسفان.. جاءه أصحابه فقالوا: يا رسول الله؛ جهدنا الجوع، فأذن لنا في الظّهر أن نأكله، قال: «نعم» فأخبر بذلك عمر بن الخطاب، فجاء رسول الله، فقال:
يا نبي الله: ما صنعت؟ أمرت الناس أن ينحروا الظهر، فعلام يركبون؟ قال: «فما ترى يا بن الخطاب؟» قال: أرى أن تأمرهم أن يأتوا بفضل أزوادهم، فتجمعه في ثوب، ثمّ تدعو لهم، فأمرهم، فجمعوا فضل أزوادهم في ثوب، ثمّ دعا لهم، ثمّ قال: «ائتوا بأوعيتكم» فملأ كل إنسان وعاءه، ثم أذّن بالرحيل، فلما جاوز.. مطروا، فنزل ونزلوا معه،
وكم قليل غير ذاك كثّرا ... وكم قليب بالمعين فجّرا
وبايعوه بيعة الرّضوان ... إذ قيل قد عدوا على عثمان
وشربوا من ماء السماء، فجاء ثلاثة نفر، فجلس اثنان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب الآخر معرضا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم عن النّفر الثلاثة؟ أمّا واحد: فاستحى من الله، فاستحى الله منه، وأمّا الآخر: فأقبل تائبا، فتاب الله عليه، وأمّا الآخر: فأعرض، فأعرض الله عنه» .
قلت: فالذي يظهر أنّ المراد بهذه الغزوة هي الحديبية؛ لأنّها التي مطروا فيها، وقوله: (حتى إذا كنا بعسفان) مشعر برجوعهم من الحديبية، فيوافق ما ذكره صاحب «الروض» والله أعلم.
(وكم) : هي للتكثير، فمدخولها مجرور (قليل غير ذاك) أي: كثير من الماء القليل سوى ما تقدم لك (كثّرا) ببركته صلى الله عليه وسلم، وبوضع يده الشريفة فيه (وكم قليب) وهو: البئر (بالمعين) بفتح الميم؛ أي: بالماء الكثير الجاري، قال الله تعالى: فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (فجّرا) أي: أسيل، حتى قال الإمام النوويّ: (إنّ تكثير الماء ببركته صلى الله عليه وسلم أحاديثه بلغت مبلغ التواتر) .
,
(وعقروا) أي: عقر كفار قريش (جمله) عليه الصّلاة والسّلام، والذي تولى عقره عكرمة بن أبي جهل، كما في
وكان ممّن بعثوه يسترد ... نبيّنا مكرز عروة الحرد
«شرح المواهب» وقد أسلم بعد رضي الله عنه، ونسب الناظم ذلك إليهم؛ لرضاهم به (الثعلب) أي: المسمى بذلك (إذ أرسله) أي: الجمل (تحت) خراش بن أميّة (الخزاعي المغذ) بالميم المضمومة والغين المعجمة المكسورة؛ أي:
المسرع في سيره إلى قريش؛ ليعلمهم بأنّه صلى الله عليه وسلم إنّما قدم معتمرا، وكانوا أرادوا قتل خراش فمنعتهم الأحابيش، فخلّوا سبيله، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما لقي.
قال ابن إسحاق: (وحدّثني بعض أهل العلم: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أميّة الخزاعيّ، فبعثه إلى قريش بمكة، وحمله على بعير له يقال له الثعلب، ليبلغ أشرافهم عنه أنّه إنّما جاء معتمرا، فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرادوا قتله، فمنعته الأحابيش، فخلّوا سبيله، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
بعث قريش سفراءهم إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم:
ثمّ أراد الناظم أن يسمي بعض السفراء الذين بعثتهم قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليردوه عن دخول البيت الحرام، فقال:
(وكان ممّن بعثوه) أي: كفار قريش (يسترد نبينا) أي:
يطلب ردّ نبينا عن دخول مكة، وفاعل يسترد قوله: (مكرز) بكسر الميم، وهو ابن حفص من بني عامر بن لؤيّ.
قال في «الإصابة» : (لم أر من ذكره في الصحابة إلّا ابن حبّان بلفظ يقال: له صحبة) وقد تقدم في غزوة بدر.
قال ابن إسحاق: (فلمّا رآه- يعني مكرزا- رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا قال: «هذا رجل غادر» فلمّا انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلّمه.. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا ممّا قال لبديل وأصحابه، فرجع إلى قريش وأخبرهم بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم) اهـ
وكان بديل بن ورقاء الخزاعي «1» قد أتاه في رجال من خزاعة فكلّموه، وسألوه ما الذي جاء به، فأخبرهم عليه الصّلاة والسّلام: «أنّه لم يأت يريد حربا، وإنّما جاء زائرا للبيت ومعظّما لحرمته» .
واعلم: أنّ مقتضى ما في «سيرة ابن إسحاق» أنّ بعث قريش لمكرز بعد بعث بديل، كما أنّهم بعثوا بعد مكرز الحليس الحارثيّ، ثمّ عروة بن مسعود، خلافا لما يوهمه كلام الناظم هنا.
نعم؛ صحّ: أنّ سهيلا جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبل انصراف مكرز من عنده، ويجمع بين هذا وبين ما يأتي من رواية ابن إسحاق، بأنّ مكرزا رجع إلى قريش، فأخبرهم
__________
(1) وقد أسلم يوم الفتح بمر الظهران، وشهد حنينا والطائف وتبوك، وقيل: أسلم قبل الفتح.
بقوله صلى الله عليه وسلم، ثمّ جاء مع سهيل في الصلح هو وحويطب، كما رواه الواقديّ وابن عائذ، فكأنّ مكرزا سبق سهيلا في المجيء، فكلّم المصطفى، فجاء سهيل.
وأمّا (ثمّ) في رواية ابن إسحاق، في قوله: (ثمّ بعثوا الحليس، ثمّ بعثوا عروة) فإنّما هي للترتيب الذّكري، فلا تعارض رواية الصحيح، وإلّا.. فما في الصحيح أصحّ، ذكر هذا الجمع العلّامة الزّرقاني.
فقوله (عروة) معطوف بحذف العاطف، وهو ابن مسعود بن معتّب الثّقفيّ «1» (الحرد) : العزيز المنيع، وهو بوزن نمر.
__________
(1) قال الحافظ: (هو عروة بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف الثقفي، عم والد المغيرة بن شعبة، وأمه سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف، أخت آمنة، وكان أحد الأكابر من قومه، له اليد البيضاء في تقرير الصلح، وهو مستوفى في «البخاري» وترجمه ابن عبد البر بأنّه شهد الحديبية، وهو كذلك، لكن في العرف: إذا أطلق على الصحابي أنّه شهد غزوة كذا.. يتبادر أنّ المراد أنّه شهدها مسلما، فلا يقال: شهد معاوية بدرا؛ لأنّه لو أطلق ذلك.. ظن من لا خبرة له- لكونه عرف أنّه صحابي- أنّه شهدها مع المسلمين، وعند مسلم من حديث جابر مرفوعا: «عرض علي الأنبياء ... » فذكر الحديث، قال: «ورأيت عيسى، فإذا أقرب من رأيت به شبها عروة بن مسعود» . وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب وأبو الأسود عن عروة، وكذلك ذكره ابن إسحاق، يزيد بعضهم على بعضهم: (أنّ أبا بكر لمّا صدر من الحج سنة تسع قدم عروة بن مسعود الثقفي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية ابن إسحاق: أنّه اتبع أثر النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا انصرف من الطائف، فأسلم، واستأذنه أن يرجع إلى قومه، فقال: «إنّي أخاف أن يقتلوك» قال: لو وجدوني نائما.. ما أيقظوني، فأذن له فرجع، فدعاهم إلى الإسلام، ونصح لهم، فعصوه، وأسمعوه من الأذى، فلمّا كان من السحر.. قام على-
والحارثيّ المتألّه الّذي ... هو لهم بردّ أحمد بذي
,
(و) كذا ممّن بعثوه (الحارثي) وهو: الحليس بالتصغير- ابن علقمة، سيد الأحابيش ورأسهم، منسوب إلى الحارث بن عبد مناة؛ لأنّه أحد بنيه (المتألّه) أي:
المعظّم لأمر الله؛ كالحجّ والعمرة ونحو ذلك ممّا بقي من دين سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصّلاة والسّلام، ووصفه أيضا بقوله: (الذي هو) أي: الحارثيّ (لهم) أي: كفار قريش (بردّ) أي: بسبب ردهم (أحمد) صلى الله عليه وسلم (بذي) بفتح الباء: خبر عن (هو) أي: طويل اللسان بالكلام على قريش؛ فإنّه قال لهم- في كلام سيأتي-: والذي نفس الحليس بيده؛ لتخلّنّ بين محمّد وما جاء له، أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد.
__________
غرفة له فأذن، فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله، فلمّا بلغ ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «مثل عروة مثل صاحب ياسين؛ دعا قومه إلى الله فقتلوه» وقيل لعروة: ما نرى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلي، فليس فيّ إلّا ما في الشهداء الذين قتلوا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم. وروى أبو نعيم من طريق داوود بن عاصم عن عروة بن مسعود، وهو جده: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضع عنده الماء، فإذا بايع النساء.. يمس أيديهنّ فيه) وهذا منقطع، وفي الإسناد إلى داوود ضعف أيضا. وروى ابن منده من طريق إبراهيم بن محمّد بن عاصم عن أبيه، عن حذيفة، عن عروة بن مسعود الثقفي قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لقّنوا موتاكم: لا إله إلّا الله؛ فإنّها تهدم الخطايا» إسناده ضعيف أيضا، أورده العقيلي في ترجمة إبراهيم بن محمّد بن عاصم، ولكن لم أر فيه الثقفي.
ولا بأس أن ننقل هنا لفظ ابن هشام في «تلخيصه للسيرة النبوية» لابن إسحاق؛ إذ به يتّضح تماما كلام الناظم.
,
قال ابن هشام: (قال الزهريّ في حديثه: فلمّا اطمأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي في رجال من خزاعة، فكلموه وسألوه ما الذي جاء به، فأخبرهم: أنّه لم يأت يريد حربا، وإنّما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته، ثمّ قال لهم نحوا ممّا قال لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش، فقالوا: يا معشر قريش؛ إنّكم تعجلون على محمّد؛ إنّ محمّدا لم يأت لقتال، وإنّما جاء زائرا لهذا البيت، فاتّهموهم وجبّهوهم وقالوا: وإن كان جاء زائرا لا يريد قتالا، فو الله؛ لا يدخلها علينا عنوة، ولا تحدّث بذلك عنّا العرب أبدا.
قال الزّهري: وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مسلمها ومشركها، لا يخفون عنه شيئا كان بمكة قال:
,
ثمّ بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف، أخا بني عامر بن لؤيّ، فلمّا رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم
مقبلا.. قال: «هذا رجل غادر «1» » فلمّا انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلّمه.. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا ممّا قال لبديل وأصحابه، فرجع إلى قريش، فأخبرهم بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
,
ثمّ بعثوا إليه الحليس بن علقمة، أو ابن زبّان، وكان يومئذ سيد الأحابيش، وهو أحد بني الحرث بن عبد مناة بن كنانة، فلمّا رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. قال: «هذا من قوم يتألّهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه» فلمّا رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله.. رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إعظاما لما رأى، فقال لهم ذلك، فقالوا له: اجلس؛ فإنّما أنت أعرابيّ لا علم لك.
قال ابن إسحاق: فحدّثني عبد الله بن أبي بكر: أنّ الحليس غضب عند ذلك، وقال: يا معشر قريش؛ والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيصدّ عن بيت الله من جاء معظّما له؟! والذي نفس الحليس بيده؛ لتخلّنّ بين محمّد وبين ما جاء له، أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل
__________
(1) وصفه بالغدر؛ لما ذكره الواقدي: (أنّه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية، فخرج في خمسين رجلا، فأخذهم محمّد بن مسلمة وهو على الحرس، وانفلت مكرز، فكأنّه صلى الله عليه وسلم أشار إلى ذلك) اهـ
واحد، قال: فقالوا لي: مه، كفّ عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
,
قال الزّهري في حديثه: ثمّ بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بن مسعود الثقفي فقال: يا معشر قريش؛ إنّي قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمّد إذ جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنّكم والد وأنّي ولد- وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف- وقد سمعت بالّذي نابكم، فجمعت من أطاعني من قومي، ثمّ جئتكم حتى آسيتكم بنفسي، قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتّهم، فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس بين يديه، ثمّ قال: يا محمّد؛ أجمعت أوشاب الناس، ثمّ جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم؟ إنّها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، وايم الله؛ لكأنّي بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا، قال: وأبو بكر الصدّيق رضي الله عنه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد، فقال: امصص بظر اللات، أنحن ننكشف عنه؟! قال: من هذا يا محمّد؟ قال: «هذا ابن أبي قحافة» قال: أما والله؛ لولا يد كانت لك عندي..
لكافأتك بها، ولكن هذه بها، قال: ثمّ جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلّمه، قال:
والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد، قال: فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ألّا تصل إليك، قال:
فيقول عروة: ويحك ما أفظّك وما أغلظك! قال: فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عروة: من هذا يا محمّد؟ قال هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة، قال: أي غدر، وهل غسلت سوأتك إلّا بالأمس؟
قال ابن هشام: أراد عروة بقوله هذا أنّ المغيرة بن شعبة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلا من بني مالك من ثقيف، فتهايج الحيّان من ثقيف بنو مالك رهط المقتولين، والأحلاف رهط المغيرة، فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية، وأصلح بذلك الأمر.
قال ابن إسحاق: قال الزّهري: فكلّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ممّا كلّم به أصحابه، وأخبره أنّه لم يأت يريد حربا.
,
فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضّأ إلّا ابتدروا وضوئه، ولا يبصق بصاقا إلّا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلّا أخذوه، فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش؛ إنّي قد جئت كسرى
ولم تزل بينهم المراجعه ... حتّى أتى سهيلهم فاسترجعه
في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشيّ في ملكه، وإنّي والله؛ ما رأيت ملكا في قوم قطّ مثل محمّد في أصحابه، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا، فروا رأيكم) .
بعث قريش سهيلا إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم للصلح:
(ولم تزل بينهم) أي: كفار قريش (المراجعة) أي:
مراجعة الرسل في شأن رد المسلمين عن البيت، وصدهم (حتى أتى) إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم (سهيلهم) أي:
سهيل بن عمرو، أخو بني عامر بن لؤي رسولا من قبل قريش، وكان من ساداتهم، وأسلم يوم الفتح بعد، وحسن إسلامه رضي الله عنه، وتقدمت ترجمته في غزوة بدر (فاسترجعه) أي: فطلب من النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن البيت هذا العام؛ لأنّ قريشا لمّا بعثت سهيلا قالت له: اذهب إلى هذا الرجل فصالحه، ولا يكن في صلحه إلّا أن يرجع عنا عامه هذا، فو الله؛ لا تحدّث العرب عنا أنّه دخلها علينا عنوة أبدا.
قال الشهاب في «المواهب» : (قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة بن عبد الله أنّه لمّا جاء سهيل.. قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «قد سهل لكم من أمركم» وهذا من الفأل الحسن الذي كان عليه الصّلاة والسّلام يعجبه) .
قال الناظم في منظومة الأنساب:
وكان لا يعتاف إلّا أنّه ... يعجبه الفأل إذا عنّ له
يعني: كان صلى الله عليه وسلم لا يتطيّر ولا يتشاءم، إلّا أنّه يعجبه الفأل الحسن إذا عرض له.
وحاصل القول هنا: أنّه لمّا انتهى سهيل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم.. جرى بينهما القول، وأطال سهيل الكلام، حتى أسفر المقال عن الصلح، على أن يوضع الحرب بينهم عشر سنين، كما في رواية ابن إسحاق، وهو المعتمد، وأن يؤامر بعضهم بعضا، وأن يرجع عنهم عامهم هذا، ودعا الرسول صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن يكتب كتاب الصلح.
,
فأمر عليه الصّلاة والسّلام عليا أن يكتب: (بسم الله الرّحمن الرّحيم) فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب:
(باسمك اللهمّ) فقال صلى الله عليه وسلم: «اكتب:
باسمك اللهمّ» فكتبها، ثمّ قال: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله سهيل بن عمرو» فقال سهيل: لو شهدت أنّك رسول الله.. لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن
عمرو «1» ، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهنّ الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على أنّه من أتى محمّدا من قريش بغير إذن وليّه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممّن مع محمّد لم يردوه عليه، وأنّ بيننا عيبة مكفوفة «2» ، وأنّه لا إسلال «3» ولا إغلال، وأنّه من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد وعهده دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم.. دخل فيه..» «4» وأنّك ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنّه إذا كان عام قابل.. خرجنا عنك، فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثا، معك سلاح الراكب:
السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها.
__________
(1) في رواية البخاري ومسلم من حديث البراء: فقال صلى الله عليه وسلم لعلّي: «امحه» فقال: ما أنا بالذي أمحاه، وهي لغة في امحه- بضم الحاء- قلت: وهذا أصل لمن يرى أنّ سلوك الأدب مقدم على امتثال الأمر. ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أرني مكانها» فأراه مكانها، وكتب: محمّد بن عبد الله، وفي رواية البخاري في باب عمرة القضاء من حديث البراء: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب- وليس يحسن أن يكتب- فكتب هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبد الله. وإسناد الكتابة إليه صلى الله عليه وسلم على سبيل المجاز، أو هو السبب الآمر، وخالف الباجي في ذلك، وردّ عليه الأئمّة الأعلام. انظر «عيون الأثر» في هذا المقام.
(2) قال السهيلي: (أي: صدورا منطوية على ما فيها لا تبدي عداوة، وضرب العيبة مثلا، قال صلى الله عليه وسلم: «الأنصار كرشي وعيبتي» فضرب العيبة مثلا لموضع السر وما يعتد به من ودّهم) اهـ
(3) الإسلال: السرقة والخسّة ونحوها، وهي السلة، قالوا في المثل: الخلة تدعو إلى السلة. والإغلال: الخيانة، يقال: فلان مغل الإصبع؛ أي: خائن اليد. اهـ «روض» .
(4) عند ذلك بادرت خزاعة فقالت: نحن في عقد محمّد وعهده، وبادرت بنو بكر فقالت: نحن في عقد قريش وعهدهم.
لولا نبيّ الرّحمة الموفّق ... للرّشد في آرائه لمزّقوا
حكمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في إمضاء هذه الشروط:
هذه شروط الصلح الذي وقع الاتفاق عليه بين الفريقين ذكره ابن إسحاق في «سيرته» وفيه من الفوائد الظاهرة، والثمرات الباهرة، التي عادت على المسلمين، وظهرت للنبي، وخفيت على غيره.. ما سيتلى عليك قريبا إن شاء الله تعالى:
منها: حفظ المستضعفين في مكة من المسلمين، وحقن دمائهم؛ لاختلاطهم بالكفار كما أشار إلى هذا الناظم بقوله:
(لولا نبيّ الرحمة) صلى الله عليه وسلم (الموفّق) من ربه عزّ وجلّ (للرّشد) والإقامة على طريق الاستقامة والهدى (في آرائه) السديدة، التي لا يحوم الخطأ حولها؛ من قبوله عليه الصّلاة والسّلام الصلح من قريش (لمزقوا) أي: لمزقهم المسلمون، ومزقوا من كان بمكة من المؤمنين المستضعفين المحبوسين بها، قال الله تعالى: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً.
يذكر الله تعالى: أنّه لولا كراهة أن تهلكوا أناسا مؤمنين بين الكافرين غير عالمين بهم، فيصيبكم بذلك معرّة ومكروه.. لما كفّ أيديكم عنهم، لكن كفّها ليدخل بذلك الكفّ المؤدي إلى الفتح بلا محذور في رحمته الواسعة من يشاء.
أسلم بعد عوده بالعظما ... أكثر ممّن كان قبل أسلما
ومن فوائده أيضا: إسلام كثير من كفار قريش باختلاطهم بالمسلمين، ومجيئهم إلى المدينة معقل الإيمان والإسلام، وحسن سيرته، وأعلام نبوته الباهرة، إلى غير ذلك، ممّا جعلهم يدخلون في دين الله أفواجا، فصلّى الله على هذا الرسول العظيم الذي منحه الربّ الكريم من الرحمة ما جعله ينظر إلى وجوه المصالح والحكم لأمته، وجزاه الله خير ما جازى نبيا عن أمّته.
وعلم المؤمنون بعد ذلك أن صدّهم عن البيت ورجوعهم كان في الظاهر هضما، وفي الباطن عزّا لهم وقوة، فأذلّ الله المشركين من حيث أرادوا العزّة، وقهروا من حيث أرادوا الغلبة، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ.
وإلى هذه الفائدة أشار الناظم رحمه الله بقوله:
(أسلم) وانقاد لأمره ودينه صلى الله عليه وسلم (بعد عوده) أي: بعد رجوعه «1» من الحديبية واجتماعه
__________
(1) فالعود: الرجوع، ومنه: العود أحمد، ومنه: العود محمود؛ أي: الابتداء بالمعروف والإعادة إليه أكسب للحمد، قاله أعرابي اسمه خراش، خطب بنت عم له اسمها الرباب، فرده أبوها، فأضرب عنها زمانا، ثمّ أقبل حتى انتهى إلى حلتهم- أي: منزلهم- متغنيا بأبيات منها:
ألا ليت شعري يا رباب متى أرى ... لنا منك نجحا أو شفاء فأشتفي
فسمعت ما قال وحفظته، وبعثت إليه: أن قد عرفت حاجتك، فاغد خاطبا، ثم قالت لأمها: هل أنكح إلّا من أهوى، وألتحف إلّا من أرضى؟ قالت نعم. قالت: فأنكحيني خراشا، فقالت على قلة ماله؟! قالت: إذا جمع المال السيء الفعال.. فقبحا للمال، فأصبح فسلّم عليهم، وقال: العود أحمد، والمرأة ترشد، والورد يحمد. فأرسلها مثلا.
وفسّروا بذلك الفتح المبين ... وفيه إبقاء على المستضعفين
(ب) أصحابه الأبطال (العظما) بالمدينة المنوّرة، وفاعل (أسلم) قوله: (أكثر ممّن كان قبل) أي: قبل الصلح (أسلما) بألف الإطلاق.
وممّن أسلم في هذه الهدنة: عمرو بن العاصي، وخالد بن الوليد، وعبد الرّحمن بن أبي بكر، وطلحة بن عثمان، وغيرهم من قريش، وبه فسّر قوله تعالى: لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ.
(وفسّروا بذلك) أي: بإسلام الكثير في الهدنة (الفتح المبين) المشار إليه بقوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً في الصحيح عن البراء بن عازب: (تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرّضوان) .
قال الشهاب القسطلّانيّ في «المواهب» : (روى سعيد بن منصور، بإسناد صحيح إلى الشعبي، في قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قال: صلح الحديبية) .
وممّن فسّر الفتح هنا بالحديبية: ابن عباس، وأنس، والبراء بن عازب، قال ابن عبّاس وأنس والبراء: (الفتح هنا: فتح الحديبية، ووقوع الصلح) .
قال الحافظ: (فإنّ الفتح في اللغة: فتح المغلق، والصلح كان مغلقا حتى فتحه الله، وكان من أسباب فتحه:
صدّ المسلمين عن البيت، فكانت الصورة الظاهرة ضيما للمسلمين، والباطنة عزّا لهم؛ فإنّ الناس للأمن الذي وقع
وبعثوا جمل عمرو بن هشام ... هديا وإنكاء إلى البيت الحرام
فيهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلّا خفية، فظهر من كان يخفي إسلامه، فذلّ المشركون من حيث أرادوا العزّة، وقهروا من حيث أرادوا الغلبة) .
وقال ابن إسحاق: (وقال الزّهري: ما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنّما كان القتال حيث التقى الناس، فلمّا كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة.. فلم يكلّم أحد يعقل في الإسلام شيئا إلّا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر) .
والدليل على قول الزّهري: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مئة في قول جابر بن عبد الله، ثمّ خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف.
ومن فوائد هذا الصلح: ما أشار له بقوله:
(وفيه) أي: العود من غير قتال (إبقاء) للحياة (على) المؤمنين (المستضعفين) بمكة، قال ابن عباس رضي الله عنه: (أنا وأمّي من المستضعفين) .
(وبعثوا) أي: المسلمون (جمل) أبي جهل (عمرو بن هشام) واسمه: العصيفير، برته من فضة، وهي بضم الباء
ونحروا وحلقوا وحملت ... شعورهم للبيت ريح قد غلت
وفتح الراء المخففة: حلقة تجعل في أنف البعير، وهذا الجمل سلب من أبي جهل يوم قتل ببدر، ولم يزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو عليه، ويضرب في لقاحه، إلى أن أهداه في هذا اليوم إلى البيت الحرام؛ إغاظة لكفار قريش، كما قال الناظم (هديا وإنكاء) من أنكى بمعنى: أغاظ، ويتعلق ببعثوا قوله: (إلى البيت الحرام) وذلك أنّهم إذا رأوه.. تذكروا سيدهم أبا جهل وقتله يوم بدر، ورأوا جمل سيدهم يتصرف فيه قاتله كيف شاء.
قال ابن إسحاق: (قال عبد الله بن أبي نجيح: حدّثني مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى عام الحديبية في هداياه جملا لأبي جهل، في رأسه برة من فضة، يغيظ بذلك المشركين) .
,
(ونحروا وحلقوا) أي: بعد فراغهم من الصلح وكتابة الكتاب.. أمرهم عليه الصّلاة والسّلام أن ينحروا ويحلقوا.
قال في «شرح المواهب» : (ففي «البخاريّ» في الشروط: فلمّا فرغ من الكتاب.. قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «قوموا فانحروا، ثمّ احلقوا رؤوسكم» فو الله؛ ما قام رجل منهم حتى قال ذلك مرات، فلمّا لم يقم أحد..
دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، وفي رواية ابن إسحاق: فقال لها: «ألا ترين إلى الناس؟! إنّي أمرتهم
بالأمر فلا يفعلونه» فقالت: يا رسول الله؛ لا تلمهم؛ فإنّهم قد دخلهم أمر عظيم، ممّا أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح، ورجوعهم بغير فتح) .
وفي رواية أبي المليح: (فاشتدّ ذلك عليه، فدخل على أمّ سلمة، فقال: «هلك المسلمون؛ أمرتهم أن يحلقوا وينحروا فلم يفعلوا» قال: فجلا الله عنهم يومئذ بأم سلمة رضي الله عنها، فقالت: يا نبيّ الله؛ أتحب ذلك؟ اخرج، ثمّ لا تكلم منهم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج، فلم يكلم منهم أحدا حتى نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلمّا رأوا ذلك.. قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا.
قال ابن إسحاق: (بلغني أنّ الذي حلقه يومئذ خراش بن أميّة بن الفضل الخزاعي) وكانت البدن سبعين، وحلق رجال يومئذ، وقصّر آخرون، فقال صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله المحلّقين» قالوا: والمقصّرين، قال: «يرحم الله المحلقين» قالوا: والمقصّرين، قال: «والمقصّرين» قالوا: لم ظاهرت الترحّم للمحلّقين دون المقصّرين؟ قال:
«لم يشكّوا» رواه ابن إسحاق أيضا عن ابن عباس.
قيل: كان توقف الصحابة رضوان الله عليهم بعد الأمر؛ لاحتمال أنّه للندب، أو لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح، أو تخصيصه بالإذن لهم في دخول مكة العام لإتمام نسكهم، وساغ ذلك لهم؛ لأنّه زمان وقوع النسخ.
ويحتمل أنّ صورة الحال أبهتتهم، فاستغرقوا في الفكر؛ لما لحقهم من الذل عند نفوسهم مع ظهور قوتهم، واعتقادهم القدرة على قضاء نسكهم بالغلبة، أو لأنّ الأمر المطلق لا يقتضي الفور.
ويحتمل مجموع هذه الأمور لمجموعهم، أو فهموا أنّه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتحلل؛ أخذا بالرخصة في حقهم، وأنّه هو يستمر على الإحرام؛ أخذا بالعزيمة في حق نفسه، فأشارت عليه أم سلمة بالتحلل؛ لينفي هذا الاحتمال، وعرف صوابه ففعله، فلمّا رأوه.. بادروا إلى فعل ما أمرهم به؛ إذ لم يبق غاية ينتظرونها، ونظيره ما وقع لهم في غزوة الفتح من أمره لهم بالفطر في رمضان فأبوا، حتى شرب فشربوا. اهـ
قال السهيلي: (ولم يكن المقصّر يومئذ من أصحابه إلّا رجلين: عثمان بن عفّان، وأبا قتادة الأنصاريّ، كذلك جاء في مسند حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه) .
,
قلت: وفي هذه القصة فوائد:
منها: جواز تحليل المحرم الذي هو متلبّس بحرمات الإحرام غيره بالحلق أو التقصير؛ فإنّ الصحابة رضي الله عنهم كانوا محرمين بالعمرة، وحلّل بعضهم لبعض بذلك.
ومنها: فضل الحلق على التقصير.
ومنها: فضل المشاورة؛ لمشاورته عليه الصّلاة والسّلام لأم سلمة، وكان عليه الصّلاة والسّلام كثير المشاورة، لقوله تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ومعلوم: أنّ ذلك فيما لم ينزل فيه وحي، وأنّ المشاورة تطييب لقلوبهم.
ومنها: مشاورة المرأة الفاضلة، وفضل أم سلمة، ووفور عقلها، وأنّها كانت رضي الله عنها سببا في زوال غضبه عليه الصّلاة والسّلام- من أصحابه الذين لم يبادروا امتثال أمره لما ذكر، حتى قال إمام الحرمين: (لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلّا أم سلمة) واستدرك عليه بعضهم ببنت سيدنا شعيب عليه الصّلاة والسّلام في أمر موسى؛ أي: حيث قالت: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ إلّا أن يحمل قول إمام الحرمين على هذه الأمّة المحمّدية، والعلم عند الله تعالى.
,
ثمّ أراد الناظم أن يذكر كرامة وقعت للصحابة تدل على قبول الله عمرتهم فقال:
(وحملت شعورهم للبيت) الحرام (ريح) عاصف؛ إشعارا بتمام عمرتهم وبقبولها، وجبرا لخواطرهم (قد غلت)
أي: جاوزت الحدّ، والمراد: شدة هبوبها «1» .
عُمَره صلى الله عليه وسلم:
ومن أجل هذا عدت هذه العمرة من عمره عليه الصّلاة والسّلام البالغة أربعا.
أوّلها: هذه.
والثّانية: عمرة القضية في السنة التي بعدها، وهي السنة السّابعة، ويقال لها أيضا: عمرة القصاص؛ لأنّ فيها نزلت آية الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ.
والثّالثة: عمرة الجعرّانة عام حنين، منصرفه منها سنة ثمان.
والرّابعة: عمرته عليه الصّلاة والسّلام التي قرنها بحجّة عام الوداع، وفي الصحيح: كان صلى الله عليه وسلم يقول في إحرامه حينئذ: «لبّيك اللهمّ حجّا وعمرة» وإلى ذلك أشار سيدي عبد العزيز الفاسيّ في نظمه «قرّة الأبصار» بقوله:
وحجّ حجّتين ثم الفرضا ... واعتمر الأربع قالوا أيضا
__________
(1) روى ابن سعد من مرسل يعقوب الأنصاري قال: (لمّا صدّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وحلقوا بالحديبية، ونحروا.. بعث الله ريحا عاصفا احتملت شعورهم، فألقتها في الحرم؛ أي: جبرا لهم في صدهم عن البيت) زاد أبو عمر: (فاستبشروا بقبول عمرتهم) .
وأغلظوا في الصّلح حتّى أبرما ... ومنه ردّ من أتاه مسلما
وقال مالك: ثلاثا اعتمر ... وحجّ مفردا فحقّق الخبر
وكلّهنّ كنّ في ذي القعدة ... على الّذي صحّحه من عدّه
شروط الصلح ظاهرها ضيم وباطنها عزّ للمسلمين:
ثمّ أراد الناظم أن يذكر بعض ما تضمّنه كتاب الصّلح من الشروط القاسية، التي ظاهرها ضيم على الإسلام والمسلمين، وباطنها العزّ والحكمة البالغة والسّداد، علم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمضاه، فقال:
(وأغلظوا) أي: شدّد كفّار قريش (في) شأن (الصّلح) بينهم وبين المسلمين (حين أبرما) أي: أحكم الصلح، والألف لإطلاق القافية.
(ومنه) أي: الإغلاظ (ردّ من أتاه) أي: رد النّبيّ صلى الله عليه وسلم الذي يأتي من ناحية قريش (مسلما) إلى قريش، ومن جاء قريشا ممّن تبعه عليه الصّلاة والسّلام لم يردّوه إليه، ولم يذكر الناظم هذه الجملة الثانية؛ لأنّه لا إغلاظ فيها؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يصنع شيئا إذ ذاك بمن ارتدّ عن دينه، ورغب عنه إلى غيره.
فمن جاءنا يا مرحبا بمجيئه ... ومن فاتنا يكفيه أنّا نفوته
على أنّه لم يثبت فيما أعلم أنّ أحدا من المسلمين خرج إلى قريش مرتدّا بعد أن خالطت بشاشة إيمانه قلبه، وأمّا من جاء مسلما.. فهو في رحب وسعة، وسيجعل الله له فرجا ومخرجا، كما يأتي قريبا.
أمر أبي جندل بن سهيل «1» :
ففي «صحيح الإمام البخاري» : (فبينما هم كذلك وفي رواية ابن إسحاق: فإنّ الصحيفة لتكتب- إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف- يمشي مشيا بطيئا- في قيوده وقد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال أبوه سهيل: هذا يا محمّد أوّل ما أقاضيك عليه أن تردّه إليّ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّا لم نقض الكتاب بعد» قال: فو الله؛ إذن لا أصالحك على شيء أبدا، قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «فأجزه لي» قال:
ما أنا بمجيز ذلك، قال: «بلى، فافعل» قال: ما أنا بفاعل، قال مكرز: بلى قد أجزناه لك، قال أبو جندل: أي معشر المسلمين؛ أردّ إلى المشركين وقد جئت مسلما؟! ألا ترون ما قد لقيت؟! وكان قد عذّب في الله عذابا شديدا) .
زاد ابن إسحاق: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«يا أبا جندل؛ اصبر واحتسب؛ فإنّا لا نغدر، وإنّ الله جاعل
__________
(1) اسم أبي جندل: العاصي بن سهيل بن عمرو.
لك فرجا ومخرجا» فوثب عمر يمشي إلى جنبه ويقول:
اصبر؛ فإنّما هم المشركون، وإنّما دم أحدهم كدم الكلب ويدني منه قائم السيف- يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف، فيضرب به أباه، قال: فضنّ الرجل بأبيه، ونفذت القضية) اهـ
قلت: وذلك لما في علم الله تعالى أنّه يسلم بعد ذلك أبوه سهيل، ويحسن إسلامه؛ حتى يتبوّأ المقام المحمود يوم وفاته عليه الصّلاة والسّلام، ويخطب فيهم بمكة خطبة كخطبة أبي بكر بالمدينة، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
قال في «الإمتاع» : (عن أبي بكر رضي الله عنه: لقد نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجة الوداع قائما عند النحر يقرب إلى رسول الله بدنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينحرها بيده، ودعا الحلاق فحلق رأسه، فأنظر إلى سهيل يلتقط من شعره، وأراه يضعه على عينيه، وأذكر إباءه أن يقر يوم الحديبية بأن يكتب «بسم الله الرّحمن الرّحيم» وإباءه أن يكتب أنّ «محمّدا رسول الله» فحمدت الله الذي هداه للإسلام) فصلوات الله وبركاته على نبيّ الرّحمة الذي هدانا الله به، وأنقذنا به من الهلكة.
,
ولغلظ ذلك الشرط قام سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه، فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: قلت: ألست نبيّ الله
حقّا؟ قال: «بلى» قلت: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال: «بلى» زاد البخاري في (الجزية) و (التفسير) : (أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟
قال: «بلى» قلت: فلم نعطي الدّنيّة في ديننا إذن؟ قال:
«إنّي رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري» قلت:
أو ليس كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: «بلى، أفأخبرتك أنّا نأتيه العام» قلت: لا، قال: «فإنّك آتيه، ومطوّف به» قال: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر؛ أليس هذا نبيّ الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحقّ، وعدوّنا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدّنيّة في ديننا إذن؟ قال أبو بكر: أيّها الرجل؛ إنّه رسول الله، ليس يعصي ربّه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فو الله إنّه على الحق، قلت: أو ليس كان يحدّثنا أنّا سنأتي البيت فنطوف به؟
قال: بلى، أفأخبرك أنّا نأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه، ومطوّف به.
قلت: وفي هذه القصة ما يدل على فضل أبي بكر ومزيد علمه ومعرفته بأحوال المصطفى صلى الله عليه وسلم، وموافقته له في جواب عمر حرفا بحرف، مع أنّه لم يسمع مقالته عليه الصّلاة والسّلام لعمر.
ولعلم عمر بمكانة أبي بكر، وفضله العلميّ، وأنّه أكمل الصحب.. لم يسأل أحدا غيره بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال الشهاب في «المواهب» : (قال العلماء: لم يكن سؤال عمر- رضي الله عنه- وكلامه شكّا في الدين، حاشاه! بل طلبا لكشف ما خفي عليه من المصلحة، وحرصا على إذلال الكفار وظهور الإسلام، كما عرف من خلقه وقوته في نصر الدين وإذلال المبطلين، وأمّا جواب أبي بكر بمثل جواب النّبيّ صلى الله عليه وسلم.. فهو من الدلائل الظاهرة على عظيم فضله وبارع علمه، وزيادة عرفانه ورسوخه، وزيادته في كل ذلك على غيره) .
وقال الزرقاني: (ألا ترى أنّه صرّح في الحديث: أنّ المسلمين استنكروا الصلح المذكور، وكانوا على رأي عمر، فلم يوافقهم أبو بكر، بل كان قلبه على قلب النّبيّ صلى الله عليه وسلم سواء؟) اهـ
,
وممّن خرج مسلما من قريش في هذا العهد إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة: أبو بصير- بالتكبير- واسمه: عتبة بن أسيد الثقفي، فأرسلوا في طلبه رجلين:
خنيس بن جابر من بني عامر، ومولى يقال له: كوثر، فقالوا: العهد الذي جعلته لنا، فدفعه إلى الرجلين. زاد ابن إسحاق: (فقال: أتردني إلى المشركين يفتنونني عن ديني ويعذبونني؟! قال: «اصبر واحتسب؛ فإنّ الله جاعل لك فرجا ومخرجا»
زاد أبو المليح- كما في «شرح المواهب» -: (فقال له عمر: أنت رجل وهو رجل، ومعك السيف) اهـ
فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله؛ إنّي لأرى سيفك هذا جيدا، فاستلّه الآخر، فقال: أجل والله؛ إنّه لجيد، لقد جربت، ثمّ جربت، وفي رواية: لأضربنّ به في الأوس والخزرج يوما إلى الليل، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه أبو بصير حتى برد، وفرّ الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو فقال صلى الله عليه وسلم:
«لقد رأى هذا ذعرا» فلمّا انتهى إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم.. قال: قتل والله صاحبكم صاحبي، وإنّي لمقتول، فجاء أبو بصير وقال: يا نبي الله؛ قد أوفى الله ذمّتك، قد رددتني إليهم، ثمّ أنجاني الله منهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «ويل أمه مسعر حرب» وهي رواية الصحيح، وفي رواية ابن إسحاق: «محشّ حرب «1» لو كان معه رجال» .
ثمّ خرج أبو بصير حتى نزل العيص، من ناحية ذي المروة على ساحل البحر، بطريق قريش التي كانوا يأخذون عليها إلى الشام، وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: «ويل أمّه مسعر حرب، لو كان معه رجال» فخرجوا إلى أبي بصير، فاجتمع
__________
(1) موقد حرب ومسعرها.
وهم عليهم بعد ردّهم وبال ... إذ أخذوا الطّرق على صهب السّبال
إليه منهم قريب من سبعين رجلا، وكانوا قد ضيّقوا على قريش، لا يظفرون بأحد منهم إلّا قتلوه، ولا تمر بهم عير إلّا اقتطعوها، حتى كتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله بأرحامها إلّا آواهم، فلا حاجة لهم بهم، فآواهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدموا عليه المدينة.
وإلى ما جرى في هذه القصة أشار الناظم بقوله:
(وهم) أي: المستضعفون من المسلمين، وضمير الجمع يعود على (من) في قوله: «ومنه ردّ من أتاه مسلما» ؛ نظرا للمعنى. (عليهم) أي: على كفار قريش، الذين أغلظوا في الصلح بذلك الشرط القاسي.
وقوله: (بعد ردّهم) أي: رد المستضعفين من المدينة، حال؛ لأنّه نعت لنكرة تقدم عليها وهي قوله: (وبال) الواقع خبرا للمبتدأ؛ أي: هم وبال، أي: سبب للوبال والشدة، والفشل بعد ردهم؛ لأنّهم قطعوا مادّتهم وميرتهم من طريق الشام كما قال الناظم: (إذ أخذوا الطرق على صهب السّبال) هو شعر يخالط بياضه حمرة، والسبال: طرف ما على الشارب من الشعر، والمراد هنا الأعداء؛ أي: أخذ المستضعفون الطريق على أعدائهم كفار مكة.
قال في «تاج العروس» للسيد مرتضى: (ومن المجاز:
الأعداء صهب السبال، وسود الأكباد وإن لم يكونوا كذلك، قال:
وانتدبوا لقوله في النّدب ... سيّدهم هذا محشّ حرب
جاؤوا يجرّون الحديد جرّا ... صهب السبال يبتغون شرّا
وإنّما يريدون: أنّ عداوتهم لنا كعداوة الروم، والروم صهب السبال والشعر، وإلّا.. فهم عرب، وألوانهم:
الأدمة، والسمرة، والسواد، وقال ابن قيس الرّقيات:
فظلال السّيوف شيّبن رأسي ... واعتناقي في القوم صهب السّبال
ويقال: أصله للروم؛ لأنّ الصهوبة فيهم، وهم أعداء لنا، كذا في «لسان العرب» ونقله الجوهريّ عن عبد الملك بن قريب الأصمعيّ) .
(وانتدبوا) أي: انتدب المستضعفون من المسلمين؛ أي: أجابوا وسارعوا (لقوله) عليه الصّلاة والسّلام (في النّدب) الظريف النجيب «1» (سيّدهم) بالجر: بدل من الندب، والمراد به أبو بصير، كما تقدم (هذا محشّ) بكسر الميم (حرب) أي: موقدها، لو كان معه رجال، فهذا القول منه عليه الصّلاة والسّلام في أبي بصير، هو الذي حملهم على انضمامهم إليه بذلك الموضع، على طريق تجارتهم بالشام،
__________
(1) قال في «القاموس وشرحه» : (ندبه إلى الأمر كنصر: دعاه وحثّه، والندب: أن يندب قوما إلى حرب أو أمر أو معونة؛ أي: يدعوهم إليه، فينتدبون له؛ أي: يجيبون ويسارعون، وقال أيضا: الندب: الرجل الخفيف في الحاجة، والسريع الظريف العجيب» ) مادة (ندب) .
واستعطفوا خير الورى بالرّحم ... في صرفهم إليه عن أرضهم
لا يظفرون بأحد من كفار قريش إلّا قتلوه، ولا تمر بهم عير إلّا اقتطعوها، حتى كتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله بالرّحم أن يؤويهم إليه بالمدينة، ففعل صلى الله عليه وسلم، وقد أشار الناظم إلى هذا بقوله:
(واستعطفوا خير الورى) صلى الله عليه وسلم؛ أي:
طلب كفار قريش منه العطف (بالرّحم في صرفهم إليه) بالمدينة المنوّرة (عن أرضهم) أي: أرض قريش التي يمرون عليها في تجارتهم إلى الشام.
قال السّهيليّ: (أمّا لحوق أبي بصير بسيف البحر- بكسر السين؛ أي: ساحله، وتقدم تعيين المكان، وهو العيص- ففي رواية معمر عن الزّهري: أنّه كان يصلّي بأصحابه هنالك، حتى لحق بهم أبو جندل بن سهيل، فقدموه؛ لأنّه قرشيّ، فلم يزل أصحابه يكثرون حتى بلغوا ثلاث مئة، وكان أبو بصير كثيرا ما يقول هناك:
الحمد لله العليّ الأكبر ... من ينصر الله فسوف ينصر
فلمّا جاءهم الفرج من الله تعالى، وكلمت قريش النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يؤويهم إليه لما ضيقوا عليهم.. ورد كتاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بصير في الموت يجود بنفسه، فأعطي الكتاب، فجعل يقرؤه ويسرّ به، حتى قبض والكتاب على صدره، فبني عليه هناك مسجد، يرحمه الله) .
وممّا قاله أبو جندل أيام وجوده مع أبي بصير بسيف البحر:
أبلغ قريشا عن أبي جندل ... أنّا بذي المروة فالسّاحل
في معشر تخفق أيمانهم ... بالبيض فيها والقنا الذّابل
يأبون أن تبقى لهم رفقة ... من بعد إسلامهم الواصل
أو يجعل الله لهم مخرجا ... والحقّ لا يغلب بالباطل
فيسلم المرء بإسلامه ... أو يقتل المرء ولم يأتل
وبعد موت أبي بصير قدم أبو جندل مع ناس من أصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع باقيهم إلى أهليهم.
,
بقي الكلام على النساء المسلمات المهاجرات، فإن قلنا:
إنّهنّ يدخلن في هذا الصلح؛ لقوله كما في رواية البخاريّ:
(ولا يأتيك منّا أحد) - والصيغة تعمّ الرجال والنساء- فتقول:
نسخ ذلك فيهنّ، أو خصّص ذلك العموم بهنّ؛ فقد صح: أنّه جاءت نسوة منهنّ: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مهاجرة،
فدخلت على أم سلمة بالمدينة، فأعلمتها أنّها جاءت مهاجرة، وتخوّفت أن يردها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا دخل رسول الله على أم سلمة.. أعلمته، فرحب بأم كلثوم وسهّل، فجاء في طلبها أخواها: الوليد وعمارة ابنا عقبة، فأراد النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يردها للعهد، فقالت:
يا رسول الله؛ أتردني على المشركين؟ ويحلّون مني ما حرّم الله، ويفتنوني عن ديني؟ فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
فلم يردّها، وتزوجها زيد بن حارثة، فقتل عنها، ثم خلف عليها الزّبير، فولدت له زينب، ثمّ خلف عليها عبد الرّحمن بن عوف، فولدت له: محمّدا، وإبراهيم، وإسماعيل، وحميدا، وكلهم روى الحديث.
وفي «البخاري» : (ولا نعلم امرأة من المسلمين ارتدّت إلى الكفار) .
,
واعلم: أنّ مدة إقامتهم بالحديبية بضعة عشر يوما، وقيل أكثر من ذلك، ثمّ قفل بهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم يريد
و (سورة الفتح) لدى القفول ... أنزلها الله على الرّسول
المدينة، وفي نفوس أصحابه بعض شيء من عدم الفتح الذي كانوا لا يشكّون فيه، ولولا إيمانهم»
الصحيح، وثقتهم بهذا النبيّ الأمين.. لما رجعوا، فأنزل الله تعالى (سورة الفتح) كما قال الناظم:
(وسورة الفتح) وهي: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ إلى آخرها (لدى القفول) أي: عند الرجوع إلى المدينة، بجبل على بريد من مكة، يقال له:
ضجنان «2» ، بوزن سكران (أنزلها الله) بتمامها (على
__________
(1) حتى قال عمر رضي الله عنه- كما في «طبقات ابن سعد» -: (لقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة على صلح، وأعطاهم شيئا، لو أنّ نبي الله أمّر عليّ أميرا فصنع الذي صنع نبي الله.. والله؛ ما سمعت له ولا أطعت، وكان الذي جعل لهم: أنّ من لحق من الكفار بالمسلمين.. يردونه، ومن لحق بالكفار.. لم يردوه) اهـ
(2) عند هذا الجبل واد كان عمر بن الخطاب يرعى فيه إبلا لوالده، روي عنه أنّه قال في انصرافه من حجته التي لم يحج بعدها: (الحمد لله، ولا إله إلّا الله، يعطي من يشاء ما يشاء، لقد كنت بهذا الوادي- يعني ضجنان- أرعى إبلا للخطاب، وكان فظّا غليظا يتعبني إذا قصرت، وقد أصبحت وأمسيت، وليس بيني وبين الله أحد أخشاه) ثمّ تمثل فقال:
لا شيء ممّا نرى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويفنى المال والولد
لم تغن عن هرمز يوما خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له ... والجن والإنس فيما بينها ترد
أين الملوك التي كانت لعزتها ... من كل أوب إليها وافد يفد
حوض هنا لك مورود بلا كذب ... لا بد من ورده يوما كما وردوا
وكان عمر رضي الله عنه يستعذب الشعر الفحل، ويستشهد به، وقد أوصى بالاعتداد به، فقال: (رووا أولادكم الشعر.. تتهذب طباعهم، وترق ألسنتهم) وفيه تشجيع للأدب البريء، وكان له نظر في الشعراء، قال يوما لبعض جلسائه: (من أشعر الناس؟) فأجاب-
الرسول) صلى الله عليه وسلم؛ إعلاما بأنّ عهد الحديبية هو الفتح المبين، وتسلية لهم، وتذكيرا لهم بنعمه عزّ وجلّ.
ولمّا نزلت جمع عليه الصّلاة والسّلام الناس، وقرأ عليهم: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً الآية.. فقال رجل:
يا رسول الله؛ أو فتح هو؟ قال: «إي والذي نفسي بيده؛ إنّه لفتح» .
قال في «شرح المواهب» : (روى موسى بن عقبة في حديثه عن الزّهري، وأخرجه البيهقيّ عن عروة قال: أقبل النّبيّ صلى الله عليه وسلم راجعا، فقال رجل من أصحابه:
ما هذا بفتح؛ لقد صددنا عن البيت، وصدّ هدينا، وردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من المؤمنين كانا خرجا إليه، فبلغه ذلك صلى الله عليه وسلم، فقال: «بئس الكلام! بل هو أعظم الفتح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم، ويسألوكم القضية، ويرغبوا إليكم في الأمان، ولقد رأوا منكم ما كرهوا، وأظهركم الله عليهم، وردّكم سالمين مأجورين، فهو أعظم الفتوح، أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد، وأنا أدعوكم في أخراكم؟
أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظنونا؟» فقال المسلمون: صدق الله ورسوله، هو أعظم
__________
- كل بما عنده، فقال: (أشعرهم من يقول: من ومن) يعني زهير بن أبي سلمى. اهـ
الفتوح، والله يا نبيّ الله؛ ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم بالله وبأمره منا.
قال في «الإمتاع» : (فلمّا دخل صلى الله عليه وسلم عام القضية، وحلق رأسه.. قال: «هذا الذي وعدتكم» فلمّا كان يوم الفتح.. أخذ المفتاح، وقال «ادعوا إليّ عمر بن الخطاب» فقال: «هذا الذي قلت لكم» فلمّا كان في حجة الوداع.. وقف بعرفة فقال: «أي عمر؛ هذا الذي قلت لكم» قال: أي رسول الله: ما كان فتح في الإسلام أعظم من صلح الحديبية» .
وهنا انتهى كلام الناظم على الحديبية وعقد الصلح.