رأى عليه الصلاة والسلام في نومه أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام امنين محلقين رؤوسهم ومقصرين، فأخبر المسلمين أنه يريد العمرة واستنفر الأعراب الذين حول المدينة ليكونوا معه، حذرا من أن تردّهم قريش عن عمرتهم ولكن هؤلاء الأعراب أبطؤوا عليه لأنهم ظنوا ألّا ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا، وتخلّصوا بأن قالوا: شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا، فخرج عليه الصلاة والسلام بمن معه من المهاجرين والأنصار تبلغ عدتهم ألفا وخمسمائة «2» وولى على المدينة ابن أم مكتوم «3» ، وأخرج معه زوجه أم سلمة، وأخرج الهدي ليعلم الناس أنه لم يأت محاربا، ولم يكن مع أصحابه شيء من السلاح إلّا السيوف في القراب، لأنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يرض أن يحملوا السيوف مجرّدة وهم معتمرون، ثم سار الجيش حتى وصل عسفان «4» فجاءه عينه «5» يخبره أن قريشا أجمعت رأيها أن يصدّوا المسلمين عن مكّة، وألايدخلوها عليهم عنوة أبدا، وتجهّزوا ليصدّوا المسلمين عن التقدّم، فقال عليه الصلاة والسلام: هل من رجل يأخذ بنا على غير طريقهم؟ فقال رجل من أسلم «6» : أنا يا رسول الله. فسار بهم
__________
(1) قال الخطابي أهل الحديث يقولون الحديبيّة بالتشديد وأهل اللغة بالتخفيف الحديبية: هي بئر في قرية سميت الغزوة باسمها، بينها وبين مكة مرحلة، وبينها وبين المدينة تسع مراحل. وقد كانت في ذي القعدة سنة ست بلا خلاف.
(2) روى البخاري عن البراء أنهم كانوا أربع عشرة مائة. وقاله الزهري وروى البخاري عن سعيد بن المسيب عن جابر أنهم كانوا خمس عشرة مائة وفي رواية للبخاري أنهم بضع عشرة مائة والمقصود أن هذه الروايات كلها مخالفة لما ذهب إليه ابن اسحاق من أن أصحاب الحديبية كانوا سبع مائة. ويقول ابن القيم: القلب إلى هذا أميل. وفي الصحيحين: أيضا أنهم كانوا أربعمائة وألفا.
(3) قال ابن هشام: واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي.
(4) موضع على مرحلتين من مكة. (المؤلف) .
(5) وهو بشر بن سفيان الكعبي.
(6) قال السهيلي اسمه ذكوان فسماه النبي صلّى الله عليه وسلّم ناجية حين نجا من كفار قريش، وعاش إلى زمن معاوية.
في طريق وعرة، ثم خرج بهم إلى مستو سهل يملك مكّة من أسفلها. فلمّا رأى خالد ما فعل المسلمون رجع إلى قريش وأخبرهم الخبر. ولما كان عليه الصلاة والسلام بثنيّة المرار «1» بركت ناقته. فزجرها فلم تقم، فقالوا: خلأت «2» القصواء، فقال عليه الصلاة والسلام: ما خلأت وما ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، والذي نفس محمّد بيده لا تدعوني قريش إلى خطة فيها تعظيم حرمات الله إلّا أجبتهم إليها «3» . مع أن المسلمين لو قاتلوا أعداءهم في مثل هذا الوقت لظفروا بهم. ولكن كف الله أيدي المسلمين عن قريش. وكف أيدي قريش عن المسلمين كيلا تنتهك حرمات البيت الذي أراد الله أن يكون حرما امنا يوطّد المسلمون من جميع الأقطار دعائم أخواتهم فيه، ثم أمرهم عليه الصلاة والسلام بالنزول أقصى الحديبية «4» وهناك جاء بديل بن ورقاء الخزاعي رسولا من قريش يسأل عن سبب مجيء المسلمين، فأخبره عليه الصلاة والسلام بمقصده، فلمّا رجع بديل إلى قريش وأخبرهم بذلك، لم يثقوا به لأنه من خزاعة الموالية لرسول الله كما كانت كذلك لأجداده، وقالوا: أيريد محمّد أن يدخل علينا في جنوده معتمرا تسمع العرب أنه قد دخل علينا عنوة، وبيننا وبينهم من الحرب ما بيننا؟ والله لا كان هذا أبدا ومنّاعين تطرف «5» ! ثم أرسلوا حليس بن علقمة سيد الأحابيش- وهم حلفاء قريش، - فلمّا راه عليه الصلاة والسلام قال: هذا من قوم يعظمون الهدي ابعثوه في وجهه حتى يراه، ففعلوا واستقبله الناس يلبّون، فلمّا رأى ذلك حليس رجع وقال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا، أتحجّ لخم وجذام وحمير، ويمنع عن البيت ابن عبد المطلب؟ هلكت قريش ورب البيت إن القوم أتوا معتمرين!! فلمّا سمعت قريش منه ذلك قالوا له: اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك بالمكايد، ثم أرسلوا عروة بن مسعود الثقفي «6» سيد أهل الطائف فتوجّه إلى رسول
__________
(1) مهبط الحديبية (المؤلف) (من أسفل مكة) وهو بين الجحفة ومكة.
(2) خلأت: حرنت وبركت من غير علة.
(3) رواه الإمام أحمد باختصار والبخاري وأبو داود.
(4) بئر قرب مكة سميت الأرض باسمها. (المؤلف) .
(5) ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بني عامر بن لؤي، فلما راه صلّى الله عليه وسلّم مقبلا قال: هذا رجل غادر، فلما انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكلمه قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نحو مما قال لبديل وأصحابه فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
(6) وكان أحد الأكابر من قومه، وثبت ذكره في الحديث الصحيح في قصة الحديبية، وكانت له اليد
الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: يا محمّد قد جمعت أوباش الناس «1» ثم جئت إلى أصلك وعشيرتك لتفضّها بهم! إنها قريش قد خرجت تعاهد الله ألّا تدخلها عليهم عنوة أبدا. وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك، فنال منه أبو بكر وقال: نحن ننكشف عنه؟
ويحك! وكان عروة يتكلّم وهو يمسّ لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان المغيرة بن شعبة «2» يقرع يده إذا أراد ذلك، ثم رجع عروة وقد رأى ما يصنع بالرسول صلّى الله عليه وسلّم أصحابه، لا يتوضأ وضوا إلّا كادوا يقتتلون عليه يتمسّحون به، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدّون النظر إليه فقال: والله يا معشر قريش جئت كسرى في ملكه وقيصر في عظمته، فما رأيت ملكا في قومه مثل محمّد صلّى الله عليه وسلّم في أصحابه، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا، فانظروا رأيكم، فإنه عرض عليكم رشدا فاقبلوا ما عرض عليكم، فإني لكم ناصح، مع أني أخاف ألّا تنصروا عليه «3» . فقالت قريش: لا نتكلم بهذا، ولكن نردّه عامنا ويرجع إلى قابل. ثم إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم اختار عثمان بن عفّان رسولا من عنده إلى قريش حتى يعلمهم مقصده، فتوجّه وتوجّه معه عشرة أستأذنوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم في زيارة أقاربهم، وأمر عليه الصلاة والسلام عثمان أن يأتي المستضعفين من المؤمنين بمكّة، فيبشرهم بقرب الفتح وأنّ الله مظهر دينه، فدخل عثمان مكّة في جوار أبان بن سعيد الأموي «4» فبلّغ ما
__________
البيضاء في تقرير الصلح، وفي رواية ابن اسحاق أنه أتبع أثر النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أنصرف من الطائف فأسلم، وأستأذنه أن يرجع إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام، ونصح لهم فعصوه، ثم رماه رجل من ثقيف بسهم فقتله.
(1) أوباش الناس: أي أخلاطهم.
(2) أبو عيسى أو أبو محمد، أسلم قبل عمرة الحديبية وشهدها وبيعة الرضوان. قال ابن سعد: كان يقال له: مغيرة الرأي، وشهد اليمامة وفتوح الشام والعراق، وقال الشعبي: كان من دهاة العرب. قال البغوي: كان أول من وضع ديوان البصرة، وقال ابن حبان: كان أول من سلم عليه بالامرة ثم ولاه عمر الكوفة، وأقره عثمان ثم عزله، فلما قتل اعتزل القتال إلى أن حضر مع الحكمين، ثم بايع معاوية بعد أن اجتمع الناس عليه، ثم ولاه بعد ذلك الكوفة، فاستمر على أمرتها حتى مات.
(3) قال ابن اسحق: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعا خراش بن أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش بمكّة وحمله على بعير يقال له: الثعلب، ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به جمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأرادوا قتله، فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكّة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعزّ بها مني عثمان بن عفان.
(4) كان أبوه من أكابر قريش، وله أولاد نجباء أسلم منهم قديما خالد وعمرو، ثم كان عمرو وخالد ممن
حمل، فقالوا: إن محمّدا لا يدخلها علينا عنوة أبدا. ثم طلبوا منه أن يطوف بالبيت، فقال: لا أطوف ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ممنوع، ثم إنهم حبسوه، فشاع عند المسلمين أنّ عثمان قتل، فقال عليه الصلاة والسلام حينما سمع ذلك: «لا نبرح حتى نناجزهم «1» الحرب» .
,
وعند ذلك خافت قريش وأرسلت سهيل بن عمرو للمكالمة في الصلح، فلمّا جاء قال: يا محمّد إن الذي حصل ليس من رأي عقلائنا بل شيء قام به السفهاء منا فابعث بمن أسرت، فقال: حتى ترسلوا من عندكم. وعندئذ أرسلوا عثمان والعشرة الذين معه، ثم عرض سهيل الشروط التي تريدها قريش وهي:
1- وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنوات
2- من جاء المسلمين من قريش يردونه، ومن جاء قريشا من المسلمين لا يلزمون برده
__________
هاجرا إلى الحبشة فأقاما بها، وشهد أبان بدرا مشركا فقتل بها أخواه العاص وعبيدة على الشرك ونجا هو فبقي بمكة حتى أجار عثمان زمن الحديبية، فبلغ رسالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم قدم عمرو وخالد من الحبشة فراسلا أبانا فتبعهما حتى قدموا جميعا على النبي صلّى الله عليه وسلّم فأسلم أبان أيام خيبر، وشهدها مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فأرسله في سرية، ومات النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبان بن سعيد على البحرين، ثم قدم على أبي بكر وسار إلى الشام فقتل يوم اجنادين سنة 13 هـ.
(1) نناجزهم: أي نقاتلهم.
(2) أمر عمر بقطعها زمن خلافته لما رأى تبرك الناس بها فليتأمل. (المؤلف) . وأول من بايع بيعة الرضوان هو أبو سنان الأسدي وبايع سلمة بن الأكوع ثلاث مرات.
3- أن يرجع النبي من غير عمرة هذا العام، ثم يأتي العام المقبل فيدخلها بأصحابه بعد أن تخرج منها قريش، فيقيم بها ثلاثة أيام ليس مع أصحابه من السلاح إلّا السيف في القراب والقوس
4- من أراد أن يدخل في عهد محمّد من غير قريش دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه، فقبل عليه الصلاة والسلام كل هذه الشروط. أما المسلمون فداخلهم منها أمر عظيم، وقالوا: سبحان الله! كيف نرد إليهم من جاءنا مسلما، ولا يردون من جاءهم مرتدا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إنه من ذهب منّا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم فرددناه إليهم، فسيجعل الله له فرجا ومخرجا. أما الأمر الثالث وهو صدّ المسلمين عن الطواف بالبيت فكان أشدّ تأثيرا في قلوبهم لأنّ الرسول أخبرهم أنه رأى في منامه أنهم دخلوا البيت امنين وقد سأل عمر أبا بكر في ذلك فقال رضي الله عنه: وهل ذكر أنّه في هذا العام «1» ؟ ثم كتبت شروط الصلح بين الطرفين، وكان الكاتب علي بن أبي طالب، فأملاه عليه الصلاة والسلام: بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: اكتب باسمك اللهمّ «2» فأمره الرسول بذلك، ثم قال: هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله، فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما خالفناك اكتب محمّد بن عبد الله فأمر عليه الصلاة والسلام عليا بمحو ذلك وكتابة محمد بن عبد الله، فامتنع فمحاها النبي بيده، وكتبت نسختان نسخة لقريش، ونسخة للمسلمين. وبعد كتابة الشروط جاءهم أبو جندل «3» بن سهيل يحجل في قيوده «4» ، وكاد من المسلمين الممنوعين من الهجرة، فهرب للمسلمين هذه المرة ليحموه، فقال عليه الصلاة والسلام:
اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا،
__________
(1) وفي غير رواية ابن اسحاق أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر: إني عبد الله ولست أعصيه، وهو ناصري، وأنه أتى أبا بكر فقال له مثل ما قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم فجاوبه أبو بكر مثل ما جاوبه به النبي صلّى الله عليه وسلّم حرفا بحرف، ثم قال له: يا عمر الزم غرزه (أي اتبع قوله وفعله ولا تخالفه) فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وما شككت منذ أسلمت إلا تلك الساعة.
(2) كلمة كانت قريش تقولها وأول من قالها أمية بن أبي الصلت.
(3) هو العاصي بن سهيل كان من السابقين إلى الإسلام، وممن عذب بسبب إسلامه، وذكره أهل المغازي فيمن شهد بدرا، وكان قبل مع المشركين فانحاز إلى المسلمين ثم أسر بعد ذلك، وعذب ليرجع عن دينه، ثم لما كان في فتح مكة كان هو الذي استأمن لأبيه، واستشهد باليمامة وهو ابن 38 سنة.
(4) يرفع رجله ويتريث في مشيه عليها.
إنّا قد عقدنا بين القوم صلحا وأعطيناهم وأعطونا على ذلك عهدا فلا نغدر بهم.
هذا وقد دخلت قبيلة خزاعة في عهد رسول الله ودخل بنو بكر في عهد قريش.
ولما انتهى الأمر أمر عليه الصلاة والسلام أصحابه أن يحلقوا رؤوسهم، وينحروا الهدي، ليتحللوا من عمرتهم، فاحتمل المسلمون من ذلك هما عظيما، حتى إنهم لم يبادروا بالامتثال، فدخل عليه الصلاة والسلام على أم المؤمنين أم سلمة، وقال لها: هلك المسلمون أمرتهم فلم يمتثلوا، فقالت: يا رسول الله اعذرهم، فقد حمّلت نفسك أمرا عظيما في الصلح، ورجع المسلمون من غير فتح فهم لذلك مكروبون، ولكن اخرج يا رسول، وابدأهم بما تريد، فإذا رأوك فعلت تبعوك، فتقدّم عليه الصلاة والسلام إلى هديه فنحره ودعا بالحلاق فحلق رأسه «1» ، فلما راه المسلمون تواثبوا على الهدي فنحروه وحلقوا، ثم رجع المسلمون إلى المدينة، وقد أمن كل فريق الاخر. ولما قرّ قرارهم جاءتهم مهاجرة أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط «2» أخت عثمان لأمه، فطلبها المشركون فقالت يا رسول الله:
إني امرأة وإن رجعت إليهم فتنوني في ديني فأنزل الله في سورة الممتحنة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
«3» فكانت المرأة المهاجرة تستحلف أنها ما خرجت رغبة بأرض عن أرض ولا من بغض زوج، ولا لالتماس دنيا ولا لرجل من المسلمين، وما خرجت إلا حبا لله ولرسوله، ومتى حلفت لا ترد بل يعطى لزوجها المشرك ما أنفقه عليها، ويجوز للمسلم تزوجها. وفي الاية تحريم امساك الزوجة الكافرة بل ترد إلى أهليها بعد أن يعطوا ما أنفقوا عليها وقد تمكن أبو بصير عتبة بن أسيد الثقفي «4» رضي الله عنه من الفرار إلى رسول الله، فأرسلت
__________
(1) كان الذي حلق رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك اليوم خراش بن أمية.
(2) كانت ممن أسلمت قديما وبايعت وهاجرت إلى المدينة، فتبعها أخوها عمارة والوليد ليرداها، فجاا يطلبانها فأبى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يردها إليهما، فتزوجت زيد بن حارثة، ثم تزوجها الزبير بن العوام بعد قتل زيد، فولدت له زينب، ثم فارقها فتزوجها عبد الرحمن بن عوف، فولدت له إبراهيم وحميدا، ثم مات عنها، فتزوجها عمرو بن العاص فمكثت عنده شهرا وماتت.
(3) اية 10
(4) مشهور بكنيته متفق على اسمه، ثبت ذكره في قصة الحديبية عند البخاري، ولما كتب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أبي
قريش في أثره رجلين يطلبان تسليمه، فأمره عليه الصلاة والسلام بالرجوع معهما، فقال يا رسول الله: أتردّني إلى الكفّار يفتنونني في ديني بعد أن خلصني الله منهم؟! فقال: إن الله جاعل لك ولإخوانك فرجا، فلم يجد بدّا من اتّباعه، فرجع مع صاحبيه، ولمّا قارب ذا الحليفة عدا على أحدهما فقتله، وهرب منه الاخر، فرجع إلى المدينة وقال: يا رسول الله وفت ذمتك أما أنا فنجوت، فقال له:
اذهب حيث شئت ولا تقم بالمدينة، فذهب إلى محل بطريق الشام «1» تمرّ به تجارة قريش، فأقام به، واجتمع معه جمع ممن كانوا مسلمين بمكّة ونجوا، وسار إليه أبو جندل بن سهيل، واجتمع إليه جمع من الأعراب، وقطعوا الطريق على تجارة قريش حتى قطعوا عنهم الأمداد، فأرسل رجال قريش لرسول الله يستغيثون به في إبطال هذا الشرط ويعطونه الحقّ في امساك من جاءه مسلما، فقبل منهم ذلك، وأزاح الله عن المسلمين هذه الغمّة التي لم يتمكّنوا من تحمّلها في الحديبية حينما أمرهم عليه الصلاة والسلام بردّ أبي جندل، وعلموا أن رأي رسول الله أفضل وأحسن من رأيهم حيث كان فيه أمن، تسبب عنه اختلاط الكفّار بالمسلمين، فخالطت بشاشة الإسلام قلوبهم، حتى قال أبو بكر رضى الله عنه: ما كان فتح في الإسلام أعظم من فتح الحديبية «2» . ولكن الناس قصر رأيهم عما كان بين محمد وربّه، والعباد يعجلون والله لا يعجل لعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد. وفي رجوعه عليه الصلاة والسلام من الحديبية نزلت عليه سورة الفتح وقال سبحانه في أولها: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً وفي تسميه هذه الغزوة بالفتح المبين تصديق لما قدّمنا لك عن الصديق.