بفتح الفوقية وضم الموحدة مخففة لا ينصرف على المشهور.
قال النووي: وتبعه الحافظ: للتأنيث والعلمية ورد بأن علة منعه كونه على مثال الفعل، كتفول والمذكور والمؤنث في ذلك سواء.
وتصرف على إرادة الموضع في حديث كعب، ولم يذكرني صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك.
قال الحافظ: بغير صرف للأكثر، وفي رواية تبوكا على إرادة المكان. ا. هـ. وبه يرد قول البرهان أنه بالصرف في جميع نسخ البخاري، وأكثر نسخ مسلم "مكان معروف" قال الحافظ: بينه وبين المدينة من جهة الشام أربع عشرة مرحلة، وبينه وبين دمشق إحدى عشرة مرحلة، وكذا قال غيره، وتوقف فيه البرهان بأنه سارها مع الحجيج في اثنتي عشرة مرحلة ولا وقفة؛ لأنهم جدوا في السير "وهو نصف طريق المدينة إلى دمشق" كما في الفتح ومراده على التقريب بدليل ما تراه من ضبطه ما بينهما بالمراحل، وصريحه قدم تسمية المكان بذلك، ويوافقه قول الفتح وقعت تسميتها بذلك في الأحاديث الصحيحة منها في مسلم أنكم ستأتون غدا عين تبوك، وكذا أخرجه أحمد والبزار من حديث حذيفة، وقيل: سميت بذلك لقوله صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين سبقاه إلى العين ما زلتما تبوكانها منذ اليوم.
قال ابن قتيبة: فبذلك سميت العين تبوك والبوك كالنقش، والحفر والحديث المذكور رواه مالك ومسلم بغير هذا اللفظ عن معاذ أنهم خرجوا معه صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنكم ستأتون غدا إن
وهي غزوة العسرة، وتعرف بالفاضحة لافتضاح المنافقين فيها.
وكانت يوم الخميس في رجب سنة تسع من الهجرة بلا خلاف، وذكر البخاري لها بعد حجة الوداع لعله خطأ من النساخ.
__________
شاء الله تعالى عن تبوك فمن جارها فلا يمس من مائها، فجئناها وقد سبق إليها رجلان والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء، فذكر الحديث في غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه ويديه بشيء من مائها، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء كثير فاستقى الناس انتهى كلام الفتح.
قال الشامي: دل صريح هذا الحديث على أن تبوك اسم لذلك الموضع الذي فيه العين المذكورة النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا القول قبل أن يصلها بيوم "وهي غزوة العسرة" كما قاله البخاري وغيره.
قال الحافظ: بمهملتين الأولى مضمومة، بعدها سكون مأخوذ من قوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117] وفي حديث الشيخين قول أبي موسى في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك.
عن ابن خزيمة عن ابن عباس قيل لعمر حدثنا عن شأن ساعة العسرة، قال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فأصابنا عطش الحديث، "وتعرف بالفاضحة لافتضاح المنافقين فيها، بما نزل فيهم من الآيات الدالة على كذبهم، كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة: 81] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} [التوبة: 49] ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِمَانِكُمْ} [التوبة: 66] .
وتفصيل ذلك بطول "وكانت يوم الخمسين، " كما رواه البخاري والنسائي عن كعب بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم خرج يوم الخميس في غزوة تبوك، وكان يحب أن يخرج يوم الخميس.
وفي رواية للبخاري أيضا عنه قلما كان يخرج إذا خرج في سفر إلا يوم الخميس، زاد النسائي جهاد أو غيره في رجب سنة تسع مع الهجرة، قبل حجة الوداع بلا خلاف، زاد الحافظ وعند ابن عائذ عن ابن عباس: أنها كانت بعد الطائف بستة أشهر، وليس مخالفا لقول من قال في رجب إذا حذفنا الكسور؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دخل المدينة من رجوعه من الطائف في ذي الحجة.
"وذكر البخاري لها" وضعا "بعد حجة الوداع" قال الحافظ: خطأ "لعله خطأ من النساخ، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم، كما رواه أحمد في حديث كعب ويونس في زيادات المغازي من مرسل الحسن، وابن عقبة من مرسل الزهري، فلعل البخاري تعمد تأخيرها إشارة إلى ذلك، ولم يفصح به لكونه ليس على شرطه، كما هو دأبه فيما هو كذلك، فختم بها كتاب المغازي الذي ترجم به أولا.
وكان حرا شديدا، وجدبا كثيرا فلذلك لم يور عنها كعادته في سائر الغزوات.
وفي تفسير عبد الرزاق عن معمر عن ابن عقيل قال: خرجوا في قلة من الظهر وفي حر شديد، حتى كانوا ينحرون البعير فيشربون ما في كرشه، من الماء، فكان ذلك عسرة في الماء وفي الظهر وفي النفقة، فسميت غزوة العسرة.
وسببها أنه بلغة عليه الصلاة.
__________
وذكر غير المغازي إنما هو تتميم، فاتكل على المعلوم من أنها قبلها، مع أنه لم يلتزم ترتيبا هذا ما ظهر لي، فإن انقدح وإلا فما البخاري بأولى بالخطأ مني، "وكان" زمن خروجه حرا شديدا، وعند ابن عقبة عن الزهري جدبا قيظا شديدا في ليالي الخريف "وجدبا" بفتح الجيم، وإسكان المهملة وموحدة قحطا "كثيرا، فلذلك لم يور" بشد الراء لم يستر ويكن "عنها"، والتورية ذكر لفظ يحتمل معنيين أحدهما أقرب من الآخر، فيتوهم إرادة القريب، وهو يريد البعيد، والمتكلم صادق، لكن الخلل وقع من فهم السامع، خاصة وأصله من ورى الإنسان، كأنه ألقى البيان وراء ظهره "كعادته في سائر" باقي "الغزوات" التي قبل هذه لئلا يتفطن العدو، فيستعد للدفع كما رواه البخاري ومسلم في حديث كعب بن مالك قال: لم يكن صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، غزاها في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا، وغزا عدوا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوتهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، وللبخاري في الجهاد عنه: كان صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة إلا ورى بغيرها، ولا خلف بينهما بحمل القلة على النفي المطلق، المنتهى، إلى العدم للرواية الأولى خصوصا، والمخرج متحد وجلي بشد اللام، كما قال الزركشي، والحافظ والدماميني أي أظهر، وجوز الأخيران تخفيفها.
وزعم العيني أنه خطأ، وفي تفسير عبد الرزاق" ابن همام الحافظ الثقة، الصنعاني المشهور "عند شيخه معمر" بن راشد الأزدي مولاهم البصري، نيل اليمن الحافظ، الثقة الثبت، كلاهما من رجال الكتب الستة، "عن" عبد الله بن محمد "بن عقيل" بتفح العين وكسر القاف، فنسبه لجده ابن أبي طالب الهاشمي أبي محمد المدني أمه زينب بنت على صدوق، مات بعد الأربعين ومائة "قال: خرجوا في قلة من الظهر" مع كثرتهم "وفي حر شديد حتى كانوا ينحرون البعير، فيشربون ما في كرشه من الماء" حتى أغاثهم الله ببركته صلى الله عليه وسلم، كما يأتي، "فكان ذلك عسرة" شدة "في الماء، وفي الظهر وفي النفقة، فسميت غزوة العسرة" أي الشدة والضيق.
"و" اختلف في سببها فقال ابن سعد وشيخه الواقدي وغيرهما: "سببها أنه بلغه عليه الصلاة
والسلام من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم تجمعت بالشام مع هرقل. فندب صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج وأعلمهم بالمكان الذي يريد؛ ليتأهبوا لذلك.
وروى الطبراني من حديث عمران بن الحصين قال: كانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل: إن هذا الرجل الذي خرج يدعي النبوة هلك، وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم، فبعث رجلا من عظمائهم وجهز معه أربعين ألفا. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن للناس قوة.
وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام فقال: يا رسول الله، هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها،
__________
والسلام من الأنباط" قال الحافظ: نسبة إلى استنباط الماء واستخراجه ويقال: إن النبط ينسبون إلى نبيط بن هانب بن أميم بن لاوذ بن سام بن نوح، "الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة، أن الروم" جمع رومي، نسبة إلى جدهم روم بن عيص بن إسحاق، وغلب عليهم اسم أبيهم، فصار كاسم القبيلة، كما في النور، "تجمعت بالشام مع هرقل" بكسر الهاء، وفتح الراء، وسكون القاف على المشهور، ويقال: بكسر الهاء، والقاف وسكون الراء علم على قيصر أعجمي، لا ينصرف للعلمية والعجمة، وبقية هذا القول، وأن هرقل رزق أصحابه لسنة، وأجلبت معهم لخم وجذام وعاملة وغسان وغيرهم من منتصرة العرب، وجاءت مقدمتهم إلى البلقاء، ولم يكن لذلك حقيقة، "فندب صلى الله عليه وسلم" لما بلغه ذلك "الناس إلى الخروج، وأعلمهم بالمكان الذي يريد؛ ليتأهبوا لذلك" أي يكونوا على أهبة وإعداد لما يحتاجونه في السفر والحرب.
"وروى الطبراني" بسند ضعيف في سببها "من حديث عمران بن حصين" الخزاعي الصحابي ابن الصحابي "قال كانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل أن هذا الرجل الذي خرج يدعي النبوة هلك وأصابتهم سنون" جمع سنة بالفتح قحط "فهلكت أموالهم" أسقط كالفتح من رواية الطبراني، فإن كنت تريد أن تلحق دينك فالآن، "فبعث" هرقل "رجلا من عظمائهم" يقال له قباذ، كما في نفس رواية الطبراني، كما في الفتح "وجهز معه أربعين ألفا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن للناس قوة" قدرة على الذهاب لتلك الأرض، لفقد الظهر والنفقة، لا الضعف كما هو ظاهر.
"وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام، فقال:" لما علم بذلك, وبحثه صلى الله عليه وسلم على النفقة والحملان "يا رسول الله هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها" جمع حلس بكسر فسكون كساء
ومائتا أوقية -يعني من ذهب- قال: فسمعته يقول: يقول: "لا يضر عثمان ما عمل بعدها" وروى عن قتادة أنه قال: حمل عثمان في جيش العسرة على ألف بعير وسبعين فرسا.
__________
تحت البرذعة "ومائتا أوقية، قال" عمران: "فسمعته" صلى الله عليه وسلم "يقول: "ولا يضر عثمان ما عمل بعدها".
يحتمل أن نفي الضرر لعدم وقوع زلة فهو إشارة إلى أن الله منعه منها ببركة إنفاقه في سبيل الله وأنه صلح أن يغفر له ما عساه يكون ذنبا إن وقع ولا يلزم من الصلاحية وجوده وقد أظهر الله صدق رسوله، فإن لم يزل على أعمال أهل الجنة حتى فارق الدنيا.
قال الحافظ وحديث عمران أخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبد الرحمن بن خباب بنحوه، وقيل سببها ما رواه أبو سعد في الشرف والبيهقي في الدلائل وابن أبي حاتم ويونس في زيادات المغازي من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بني غنم أن اليهود قالوا: يا أبا القاسم إن كنت صادقا فالحق بالشام فإنها أرض المحشر وأرض الأنبياء، فغزا تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ} [الإسراء: 76] .
قال الحافظ: إسناده حسن مع أنه مرسل انتهى.
وقيل سببها أن لله تعالى لما منع المشركين من قرب المسجد الحرام في الحج وغيره، قالت قريش: لتقطعن عنا المتاجر والأسواق وليذهبن ما كنا نصيب منها، فعوضهم الله بالأمر بقتال أهل الكتاب، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] إلى قوله: {وَهُمْ صَاغِرُون} [التوبة: 29] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] فعزم صلى الله عليه وسلم على قتال الروم؛ لأنهم أقرب الناس إليه وأولاهم بالدعوة إلى الحق لقربهم إلى الإسلام.
ابن مردويه عن ابن عباس وابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد وابن جرير عن سعيد بن جبير ويحتمل أن السبب جملة الأربعة، فليس بينها تناف.
ذكر الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم حض على النفقة والحملان في سبيل الله، فجاءوا بصدقات كثيرة، فكان أول من جاء أبو بكر الصديق بماله كله أربعة آلاف درهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "هل أبقيت لأهلك شيئا" قال: أبقيت لهم الله ورسوله، وجاء عمر بنصف ماله فسأله: "هل أبقيت لهم شيئا" قال: نعم، نصف مالي، وحمل العباس وطلحة وسعد بن عبادة، وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية إليه صلى الله عليه وسلم، وتصدق عاصم بن عدي بسبعين وسقا من تمر، وجهز عثمان ثلث الجيش حتى كان يقال: ما بقيت لهم حاجة حتى كفاهم شنق أسقيتهم انتهى. وأقل ما قيل أنه ثلاثون ألفا فيكون جهز عشرة آلاف، وقال ابن إسحاق أنفق عثمان في ذلك الجيش نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها.
"وروى عن قتادة أنه قال: حمل عثمان في جيش العسرة على ألف بعير وسبعين فرسا.
وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان بن عفان بألف دينار في كمه حين جهز جيش العسرة في حجرة صلى الله عليه وسلم، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم". خرجه الترمذي وقال: حسن غريب.
وعند الفضائلي والملاء في سيرته، كما ذكره الطبري في الرياض النضرة من حديث حذيفة: بعث عثمان -يعني في جيش العسرة- بعشرة آلاف دينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
وعن عبد الرحمن بن سمرة" بن حبيب بن عبد شمس القرشي العبشمي أبي سعيد صحابي من مسلمة الفتح، يقال: كان اسمه عبد كلال، افتتح سجستان، ثم سكن البصرة وبها مات سنة خمسين، أو بعدها، روى له الستة "قال جاء عثمان بن عفان رضي الله عنه بألف دينار في كمه حين جهز جيش العسرة" بالبناء للمفعول.
وفي رواية أحمد حين جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش العسرة "فنثرها" وفي رواية فصبها "في حجرة صلى الله عليه وسلم".
قال عبد الرحمن "فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم".
"أخرجه الترمذي: وقال حسن غريب" ورواه الإمام أحمد والبيهقي أيضا، "وعند الفضائلي والملاء"، قال الشامي في جماع فضائل أهل البيت بفتح الميم وشد اللام: عمر الموصلي كان يملأ من بئر في جامع الموصل احتسابا وكان إماما عظيما، ناسكا، زاهدا، وكان السلطان نور الدين الشهيد يشهر قوله ويقبل شفاعته، انتهى.
فوهم من ظنه الملائي فزاده ياء تعلقا بأن في اللب وغيره الملائي، بضم الميم وخفة اللام والمد، نسبة إلى بيع الملاءة التي يلتحف بها النساء، فإن هذا من الرواة لا سيرة له، وقد قال المصنف "في سيرته، كما ذكره الطبري في الرياض النضرة" في فضائل العشرة: وقد أبعد النجعة بالعز، ولغير المشاهير فقد أخرجه ابن عدي أيضا كلهم "من حديث حذيفة" بن اليمان قال: "بعث عثمان" ولفظ ابن عدي جاء عثمان "يعني في جيش العسرة بعشرة آلاف دينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال الحافظ في المناقب بعد عزوه لابن عدي: سنده واه، ولعلها كانت بعشرة آلاف درهم، فتوافق رواية ألف دينار انتهى. ولو صح أمكن أن الألف جاء بها والعشرة بعث بها لكن
فصبت بين يديه، فجعل صلى الله عليه وسلم يقول بيده ويقلبها ظهرا لبطن ويقول: "غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت، وما هو كائن إلى يوم القيامة، ما يبالي ما عمل بعدها".
ولما تأهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج قال قوم من المنافقين: لا تنفروا في الحر، فنزل قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ
__________
يمنع ذلك رواية ابن عدي بلفظ جاء المفيدة أن بعث من تعبير الرواة لاتحاد المخرج، "فصبت بين يديه، فجعل صلى الله عليه وسلم يقول بيده" أي يفعل بها، فقوله "ويقلبها" بيان للقول المذكور، والضمير عائد للدنانير بدليل قوله في الرواية التي فوقها يقلبها في حجره والحديث يفسر بعضه بعضا ظهرا لبطن، أي ما ظهر منها لما بطن تعجبا من كثرتها وسماحته بها في سبيل الله.
هذا هو المتبادر، وقال شيخنا: أي يجعل بطن يده تارة إلى السماء، وظهرها إليها أخرى، ولعله كان تارة يدعو برفع البلاء، فيجعل ظهرها إلى السماء، وتارة بطلب النصر، ونحوه فيجعل بطنها ولك الترجيح، "ويقول: "غفر الله لك يا عثمان ما أسررت، وما أعلنت، وما هو كائن إلى يوم القيامة ما يبالي ما عمل بعدها"، بشارة عظيمة بأن الله غفر له الذنوب، أي سترها عنه، فمنعه منها ببركة دعائه له، ونفقته في سبيل الله، فليس يبالي بما عمل إذ لا يقع منه إلا الخير.
وقال ابن هشام: حدثني من أثق به أن عثمان أنفق ألف دينار غير الإبل، والزاد وما يتعلق بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض" ومعلوم أن الألف دينار غير الإبل والزاد وما يتعلق بذلك.
وقد روى الطيالسي، وأحمد والنسائي عن الأحنف بن قيس: سمعت عثمان يقول لسعد بن أبي وقاص، وعلى، والزبير وطلحة: أنشدكم الله تعالى هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من جهز العسرة غفر الله له فجهزتهم حتى ما يفقدون خطاما ولا عقالا". قالوا: اللهم نعم.
وروى عبد الله في زوائد المسند والترمذي والبيهقي عن عبد الرحمن بن خباب بمعجمة وموحدتين الأولى ثقيلة. قال: خطب صلى الله عليه وسلم فحث على جيش العسرة فقال عثمان: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم نزل مرقاة أخرى من المنبر ثم حث فقال عثمان: عليَّ مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها ثم نزل مرقاة أخرى من المنبر ثم حث فقال عثمان: عليَّ مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتبابها ثم نزل مرقاة أخرى فحث فقال عثمان: عليَّ مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتباها قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بيده، هكذا يحركها كالمتعجب "ما على عثمان بعد هذا اليوم" أو قال "بعدها " ولما تأهب صلى الله عليه وسلم للخروج قال" كما رواه ابن إسحاق عن شيوخه "قوم من المنافقين" بعضهم لبعض "لا تنفروا" تخرجوا إلى الجهاد "في الحر" زهادة في الجهاد وشكا في الحق وإرجافا بالرسول، "فنزل قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّم
أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُون} [التوبة: 81] .
وأرسل عليه الصلاة والسلام إلى مكة وقبائل العرب يستفزهم.
وجاء البكاءون يستحملونه، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا أجد ما أحملكم عليه". وهم
__________
أَشَدُّ حَرًّا} من تبوك فالأولى أن تتقوها بترك التخلف {لَوْ كَانُوا يَفْقَهُون} ، يعلمون ذلك ما تخلفوا، فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون، فأخبر عن حالهم بالضحك القليل في الدنيا، ومقابله في الآخرة بصيغة الأمر.
وعند ابن عقبة والواقدي وغيرهما: أن قائل ذلك الجد، بفتح الجيم، وشد المهملة ابن قيس لمن معه من بني سلمة وأنه القائل ائذن لي ولا تفتني.
وقد روى الطبراني، وأبو نعيم، وابن مردويه، عن ابن عباس، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر: لما أراد صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى تبوك قال لجد بن قيس: "ما تقول في مجاهدة بني الأصفر"، فقال: إني امرؤ صاحب نساء ومتى أرى نساءهم، أفتتن فائذن لي، ولا تفتني، فأعرض عنه، وقال: "قد أذنا لك" فأنزل الله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} [التوبة: 49] .
قال ابن إسحاق: أي إن كان إنما خشي منهن، وليس ذلك به فما سقط فيه من الفتنة أكبر بتخلفه عن رسول الله، والرغبة بنفسه عن نفسه يقول وإن جهنم لمن ورائه، زاد الواقدي عن شيوخه فجاءه ابنه عبد الله وكان بدريا فلامه فقال: ما لي وللخروج في الريح والحر الشديد والعسرة إلى بني الأصفر وأنا أخالفهم في منزلي، أفأغزوهم وإني عالم بالدوائر، فألظ له ابنه وقال: لا والله ولكنه النفاق والله لينزلن فيك قرآن، فضرب بنعله وجه ولده فانصرف ابنه ولم يكلمه فنزلت الآية.
وروى ابن هشام عن عبد الله بن حارثة عن أبيه قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسًا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي يثبطون الناس عن تبوك، فبعث صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله في نفر وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم ففعل، واقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت، فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فأفلتوا، "وأرسل عليه الصلاة والسلام إلى مكة وقبائل العرب يستفزهم، وجاء البكاءون يستحملونه" يطلبون منه ما يركبون عليه، ويحملهم وكلهم معسر ذو حاجة لا يحب التخلف عن الغزو معه "فقال عليه الصلاة والسلام: "لا أجد ما أحملكم عليه" وهم" كما قال ابن عباس عند ابن جرير، وابن مردويه، وأبي نعيم، وابن إسحاق، عن شيوخه الزهري، وعاصم، ويزيد، وغيرهم، وابن جرير، عن محمد بن كعب القرظي وعند كل ما ليس عند الآخر.
سالم بن عمير، وعلبة بن زيد، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب المازني، والعرباض بن سارية، وهرم بن عبد الله، وعمرو بن عنمة، وعبد الله بن مغفل، وعبد الله بن عمرو المزني، وعمرو بن الحمام،
__________
وصرح ابن إسحاق وطائفة بأنهم سبعة والمتحصل من الجميع ما سرده المصنف تبعا لمغلطاي وحسن منه تقديم خمسة اتفق عليهم من ذكر وهم: "سالم بن عمير" ويقال: ابن عمرو ويقال: ابن عبد الله، ويقال: ابن ثابت بن النعمان الأوسي، يقال في نسبه العمري؛ لأنه من بني عمرو بن عوف، شهد العقبة وبدرا وما بعدهما ومات في خلافة معاوية.
ووقع عند ابن جرير، عن محمد بن كعب، وغيره في تسمية البكائين سالم بن عمير من بني واقف، قال في الإصابة: فيحتمل أن يكون غير الأول انتهى.
"وعلبة"، بضم المهملة، وسكون اللام، وفتح الموحدة وتاء تأنيث. "ابن زيد" بن عمرو بن عوف الأنصاري، "وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب" بن عمرو بن عوف الأنصاري، الأوسي، "المازني" من بني مازن بن الهنجار، شهد أحدا وما بعدها، ومات في خلافة عمر. "والعرباض" بكسر المهملة، وسكون الراء وموحدة فألف، فمعجمة.
"ابن سارية" السلمي قديم الإسلام ومن أهل الصفة، مات بعد السبعين، وهو من البكائين باتفاق من ذكرت، وعليه الواقدي وابن سعد، وحزم، وأبو عمرو "وهرم" بفتح الهاء، وكسر الراء وميم آخره، ويقال: هرمي بياء بعد الميم وقدمه جماعة "ابن عبد الله" بن رفاعة الأنصاري الواقفي، بقاف مكسورة، ثم فاء المدني، "وعمرو بن عنمة" بفتح المهملة والنون والميم وتاء تأنيث ابن عدي الأنصاري، ذكره ابن عقبة وغيره في البكائين وأهل بدر وقول الإصابة، وكذا ذكره ابن إسحاق، أي في رواية عن زياد، فلا يخالف نقله في الفتح عنه من عدم عده في البكائين، "وعبد الله بن مغفل"، بضم الميم وفتح المعجمة والفاء المشددة ابن عبد نهم، بفتح النون، وسكون الهاء وميم.
المزني من مشاهير الصحابة شهد بيعة الرضوان، مات سنة تسع وخمسين، أو ستين، أو إحدى وستين بالبصر، عده في البكائين ابن عباس وابن عقبة وابن إسحاق والقرظي.
وروى ابن سعد وغيره عنه قال: إني لأحد الرهط الذين ذكر الله {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْك} [التوبة: 92] .
"وعبد الله بن عمرو" بن هلال "المزني" حكاه ابن إسحاق قولا بدل ابن مغفل.
ورواه ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي، وابن مردويه عن مجمع بن جارية.
"وعمرو" بفتح العين "ابن الحمام"، بضم الحاء المهملة، والتخفيف ابن الجموح
ومعقل المزني، وحرمي بن مازن، والنعمان وسويد ومعقل وعقيل وسنان وعبد الرحمن وهند.
__________
الأنصاري من بني سلمة، ذكره فيهم ابن إسحاق والطبري والدولابي.
"ومعقل بفتح الميم، وسكون المهملة، وكسر القاف، ولام، ابن يسار "المزني" بايع تحت الشجرة، وهو الذي ينسب إليه نهر معقل بالبصرة حكى كونه منهم ابن سعد عن بعض الروايات.
"وحرمي" بفتح المهملة، فراء، فميم اسم بلفظ النسب "ابن" عمر، ومن بني "مازن" انفرد بعده في البكائين محمد بن كعب القرظي، كما انفرد بذكر عبد الرحمن بن زيد أبي عبلة. رواه عنه ابن جرير، قال ابن سعد: وبعضهم يقول البكاءون بنو مقرن السبعة، وهم من مزينة، فسردهم المصنف، فقال: "والنعمان" بن مقرن بن عائذ، صحابي مشهور روى له الستة، استشهد بنهاوند سنة إحدى وعشرين، وهم من زعم أنه النعمان بن عمرو بن مقرن، فذاك تابعي وهو ابن أخي هذا.
"وسويد" مقرن صحابي مشهور نزل الكوفة روى له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ويقع في النسخ والنعمان بن سويد، وهو خطأ، فالذي في نفس مغلطاي الذي هو ناقل عنه بواو العطف.
"ومعقل" بن مقرن المزني قال ابن حبان: له صحبة وقال البغوي: سكن الكوفة: وروى عنه صلى الله عليه وسلم أحاديث.
"وعقيل بفتح أوله ابن مقرن المزني ذكره البخاري في الصحابة، والواقدي فيمن نزل الكوفة منهم.
"وسنان" بن مقرن أحد الأخوة، وقال ابن سعد له صحبة وذكره غير واحد في الصحابة.
"وعبد الرحمن" بن مقرن بن عائذ المزني قال ابن سعد: له صحبة، ويقال: كان اسمه عبد عمرو، فغيره صلى الله عليه وسلم، وهذا سقط من الشامي لما عذبني مقرن سهوا، أو من الناسخ.
"وهند" لم أر له ذكرا في الصحابة نعم فيها عبد الله بن مقرن المزني أحد الأخوة.
روى عنه مجد بن سيرين وعبد الملك بن عمير، كذا قال ابن منده: ولم يخرج له شيئا، وله ذكر في الفتوح.
قال سيف في كتاب الردة: خرج أبو بكر يمشي وعلى ميمنته النعمان بن مقرن، وميسرته عبد الله بن مقرن، وعلى الساقة سويد بن مقرن، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد، فذكر قصة قتال أهل الردة انتهى.
وقد صرح في الشامية بأن السابع لم يسم فقيل: اسمه عبد الله، وقيل النعمان، وقيل
بنو مقرن، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] قال مغلطاي.
وفي البخاري، عن أبي موسى قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان لهم، فقلت يا نبي الله، إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم، فقال: "والله لا أحملكم على شيء" فرجعت.
__________
ضرار "بنو مقرن" بضم الميم وفتح القاف وكسر الراء الثقيلة.
قال الواقدي وابن نمير: كان بنو مقرن سبعة كلهم صحب النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر: ليس ذلك لأحد من العرب غيرهم.
قال الحافظ: وقد ذكر هو في ترجمة هند بن حارثة الأسلمي ما ينقض ذلك، وأخرج الطبري من طريق عبد الرحمن بن معقل بن مقرن أن ولد مقرن كانوا عشرة، نزل فيهم: {مِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} "وهم الذين قال الله تعالى فيهم": {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} [التوبة: 92] ، قلت: $"لا أجد ما أحملكم عليه"، " {تَوَلَّوْا} " انصرفوا جواب إذا، " {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيض} " تسيل: " {مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} " لأجل " {أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُون} " في الجهاد، "قاله مغلطاي" جامعا ما تفرق في الأخبار، قال الشامي: وذكر الحاكم أن فيهم حرمي بن المبارك بن النجار، وابن عائذ مهدي بن عبد الرحمن ولم أر لهما ذكرا في كتب الصحابة.
قال ابن إسحاق والواقدي: لما خرج البكاءون من عنده صلى الله عليه وسلم، وقد أعلمهم أنه لا يجد ما يحملهم عليه لقي يامين بن عمر، والنضري أبا ليلى وعبد الله بن مغفل، وهما يبكيان فقال: ما يبكيكما قالا: جئناه صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج، ونكره أن تفوتنا غزوة معه، فأعطاهما ناضحا له، وزود كل واحد منهما صاعين من تمر.
زاد الواقدي: وحمل العباس منهم رجلين وعثمان ثلاثة بعدما جهز من الجيش.
"وفي البخاري" ومسلم، "عن أبي موسى" عبد الله بن قيس الأشعري "قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان لهم" بضم الحاء المهملة وسكون الميم، أي الشيء الذي يركبون عليه ويحملهم، قاله الحافظ وغيره، "فقلت: يا نبي الله إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم، فقال: "والله لا أحملكم على شيء".
زاد مسلم والبخاري في رواية: "وما عندي ما أحملكم عليه"، وأسقط من البخاري ومسلم ما لفظه ووافقتهه وهو غضبان، ولا أشعر من شيء آخر قبل مجيئه لقوله: وافقته وقوله: لا أشعر فكأن غضبه حمله على القسم، وفيه انعقاد اليمين في الغضب، "فرجعت" إلى أصحابي" حال
حزينا من منع النبي صلى الله عليه وسلم ومن مخافة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه على فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم. فلم ألبث إلا سويعة إذا سمعت بلالا ينادي: أين عبد الله بن قيس، فأجبته، فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك. فلما أتيته قال: "خذ هاتين القرينتين وهاتين القرينتين" لستة أبعرة أبتاعهن حينئذ من سعد
__________
كوني "حزينا من منع النبي صلى الله عليه وسلم" أن يحملنا "ومن مخافة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم" غضب "في نفسه علي، فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم بالذي قال النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ألبث" بفتح الهمزة والموحدة، بينها لام ساكنة آخره مثلثة "إلا سويعة" بضم السين المهملة، وفتح الواو مصغر ساعة، وهي جزء من الزمان، أو من أربعة وعشرين جزأ من اليوم والليلة.
قال المصنف وجزم الشام بالأول "إذ سمعت بلالا ينادي أين عبد الله" رواية أبي ذر ولغيره، أي عبد الله "بن قيس، فأجبته فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك" خبر رسول، أو حال، فرسول منصوب بأجب، "فلما أتيته قال: "خذ هذين القرينين" تثنية قرين. قال الحافظ: أي الحملين المشدودين أحدهما إلى الآخر وقيل: النظيرين المتساويين "وهذين القرينين"، ولأبي ذر عن غير المستملي وهاتين القرينتين أي الناقتين فذكر، ثم أنث، فالأولى على أرادة البعير والثانية على إرادة الاختصاص لا الوصفية انتهى.
وقال المصنف والشامي: ولأبي ذر عن الحموي والمستملي هاتين القرينتين، وهاتين القرينتين أي الناقتين.
قال الحافظ: وهو إما اختصار من الراوي، أو كانت الأولى اثنين والثانية أربعة؛ لأن القرين بصدق على الواحد وعلى الأكثر فلا يخالف قوله "لستة أبعرة".
وتقدم، أي في البخاري في قدوم الأشعريين أنه صلى الله عليه وسلم أمر لهم بخمس ذود، فأما تعددت القصة، أو زادهم على الخمس واحدا انتهى.
وللبخاري أيضا بثلاثة ذود وجمع بأنها باعتبار ثلاثة أزواج والأبعرة جمع بعير يقع على الذكر والأنثى، فهو جار على كل من رواية التذكير والتأنيث "ابتاعهن".
قال الحافظ في رواية الكشميهني: ابتاعهم، وكذا انطلق بهن في روايته بهم، والصواب ما عند الجماعة؛ لأنه جمع ما لا يعقل "حينئذ من سعد" لم يتعين لي من هو سعد إلى الآن، إلا أنه يهجس في خاطري أنه سعد بن عبادة انتهى.
ففي قول المصنف قيل: هو ابن عبادة وقفة، وفي قدوم الأشعريين، فحلف أن لا يحملنا، ثم لم يلبث صلى الله عليه وسلم أن أتى بنهب إبل، فأمر لنا بخمس ذود، ولم ينبه الحافظ على الجمع بين الروايتين.
"فانطلق بهن إلى أصحابك فقل: إن الله أو إن رسول الله يحملكم على هؤلاء فاركبوهن" الحديث.
وقام علبة بن زيد، فصلى من الليل وبكى وقال: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد ورغبت فيه ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها، مال أو جسد أو عرض. ثم أصبح مع الناس. فقال صلى الله عليه وسلم: "أين المتصدق بهذه الليلة"؟ فلم يقم أحد،
__________
قال الشامي: فيحتمل أن يكون ما جاء من النهب أعطاه لسعد، ثم اشتراه منه لأجل الأشعريين، أو يحمل على التعدد "فانطلق" بكسر اللام، والجزم على الأمر، قاله المصنف بناء على قول الكوفيين الأمر مجزوم، أو مسامحة، ومراده على صورة المجزوم بناء على قول البصرة مبني "بهن".
وللكشميهني بهم بالميم والصواب الأولى، كما علم "إلى أصحابك، فقل إن الله، أو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء" الأبعرة "فاركبوهن" الحديث". بقيته فانطلقت إليهم بهن، فقلت إن النبي صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء الأبعرة، ولكني والله لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تظنوا أني أحدثتكم شيئا لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنك عندنا بالمصدق، ولنفعلن ما أحببت، فانطلق أبو موسى بنفر منهم حتى أتوا الذين سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعه إياهم، ثم أعطاهم بعد، فحدثوهم بمثل ما حدثهم به أبو موسى، "وقام علبة بن زيد" أحد البكائيين المذكورين، "فصلى من الليل" ما شاء الله "وبكى" لفظ الرواية ثم بكى "وقال: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد ورغبت فيه ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني" المسلم "فيها" في المظلمة "مال" بالجر بدل من مظلمة، ولفظ الروض أصابني بها في مال، "أو جسد، أو عرض" بأن أعفو عنه والغالب أن لا يخلو أحد من ظلم غيره له في شيء ما وبفرض أن لا ظلامة فهو مثاب على قصده الرأفة بالمسلمين.
وفي حديث أبي عيس: ولكني أتصدق بعرضي من آذاني، أو شتمني، أو لمزين فهو له حل "ثم أصبح مع الناس فقال صلى الله عليه وسلم" وفي حديث عمرو بن عوف فأمر صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى "أين المتصدق بهذه الليلة"؟ فلم يقم أحد ثم قال: "أين المتصدق" فلم يقم أحد" وكأنه لو علم بالوحي لم يبين له خصوصه، كأنه قيل له: إن رجلا من أصحابك تصدق الليلة بكذا، أو
ثم قال: "أين المتصدق بهذه الليلة"؟ فلم يقم أحد، ثم قال: "أين المتصدق فليقم"، فقام إليه فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: "أبشر فوالذي نفس محمد بيده لقد كتبت في الزكاة المقبلة". رواه يونس كما ذكره السهيلي في الروض له، والبيهقي في الدلائل.
وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم في التخلف، فأذن لهم، وهم اثنان وثمانون رجلا.
وقعد آخرون من المنافقين بغير عذر وإظهار علة،
__________
علم وأراد إذاعة فضله، ثم قال: "أين المتصدق فليقم" زاد في الروض ولا يتزاهد ما صنع هذه الليلة انتهى.
وكان علبة أراد خفاء عمله، فلم يقم في المرتين حتى أمره فلم يسمعه إلا امتثاله "فقام إليه، فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم: "أبشر فوالذي نفس محمد بيده"، أقسم له ليزيد مسرته، ويدع كربته "لقد كتبت" بالبناء للمفعول، أي صدقتك "في" عداد "الزكاة المتقبلة" فثوابها كثوابها.
"رواه يونس" عن ابن إسحاق "كما ذكره السهيلي في الروض" بلا سند، "والبيهقي في الدلائل له" قال في الإصابة: وقد ورد موصولا من حديث مجمع بن جارية، ومن حديث عمرو بن عوف عند ابن أبي الدنيا وابن شاهين.
ومن حديث علبة نفسه عند البزار قال: حث صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فذكره قال البزار: علبة هذا مشهور من الأنصار ولم نعلم له غير هذا الحديث.
ومن حديث أبي عبس، بفتح فسكون ابن جبير عند الخطيب انتهى ملخصا.
"وجاء المعذرون" جمع معذر بشد الذال.
قال البيضاوي: أما من عذر في الأمر إذا اقصر فيه موهما أن له عذرا ولا عذر له، أو من اعتذر إذا شهد العذر بإدغام في الذال ونقل حركتها إلى العين ويجوز كسر العين لالتقاء الساكنين، وضمها للإتباع لكن لم يقرأ بهما، وقرأ يعقوب المعذرون من أعذر إذا اجتهد في العذر "من الأعراب" إلى النبي صلى الله عليه وسلم "ليؤذن لهم في التخلف" وتعللوا بالجهد وكثرة العيال، "فأذن لهم" في التخلف، ولكن لم يعذرهم كما قال ابن إسحاق وغيره، أي لم يقبل عذرهم لكذبهم فيه "وهم" كما قال ابن سعد وشيخه: "اثنان وثمانون رجلا"، من بني غفار، وفي البيضاوي يعني أسد وغطفان، وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل، قالوا: إن غزونا معك اغارت طيء على أهالينا ومواشينا.
"وقعد آخرون من المنافقين بغير عذر" في نفس الأمر، "و" بغير "إظهار علة" للنبي صلى الله عليه وسلم،
جرأة على الله ورسوله وهو قوله تعالى: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 90] . واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة. قال الدمياطي: وهو عندنا أثبت ممن قال استخلف غيره. انتهى.
وقال الحافظ زين الدين العراقي، في ترجمة علي بن أبي طالب من شرح التقريب، لم يتخلف عن المشاهد إلا تبوك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خلفه على المدينة، وعلى عياله، وقال يومئذ: "أنت منى بمنزلة هارون من موسى
__________
"جراءة" بفتح الجيم والراء، كضخامة "على الله ورسوله" لعدم مبالاتهم بهما لكفرهم" وهو قوله تعالى: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 90] في إدعاء الإيمان من منافقي الأعراب عن المجيء للاعتذار.
"واستخلف على المدينة" فيما قال ابن هشام "محمد بن مسلمة" الأنصاري.
"قال الدمياطي" تبعا للواقدي، "وهو عندنا أثبت ممن" أي من قول من قال: أو قائل استخلافه أثبت ممن قال استخلف غيره" عليًّا، أو سباعًا، أو ابن أم مكتوم "انتهى" كلام الدمياطي وهو في هذا الترجيح تابع لقول الواقدي الثبت عندنا محمد بن مسلمة، "و" لكن قال الحافظ زين الدين العراقي في ترجمة علي بن أبي طالب من شرح التقريب، لم يتخلف" علي "عن المشاهد" كلها، بل حضرها معه صلى الله عليه وسلم وخيبر، وإن تخلف في ابتدائها العذرة فقد حضر معظمها بحيث كان الفتح على يديه "إلا تبوك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خلفه على المدينة"، كما رواه عبد الرزاق في مصنفه بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص، ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى تبوك استخلف على المدينة علي بن أبي طالب "و" خلفه أيضا على عياله" فقال: "يا علي اخلفني في أهلي وأضرب وخذ وعظ"، ثم دعا نساءه فقال: "اسمعن لعلي وأطعن".
رواه الحاكم في الأكليل من مرسل عطاء بن أبي رباح، وأخرج ابن إسحاق عن سعد ابن أبي وقاص خلف صلى الله عليه وسلم عليًّا على أهله وأمره بالإقامة فيهم فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلفه إلا استثقالًا له وتخففًا فأخذ علي سلاحه، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو نازل بالجرف، فقال: يا نبي الله زعم المنافقون أنك إنما خلفتني؛ لأنك استثقلتني وتخففت مني، فقال: "كذبوا ولكن خلفتك لما تركت ورائي فأرجع في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي" فرجع إلى المدينة ومضى صلى الله عليه وسلم على سفره، "وقال يومئذ"، أي زمن استخلافه لما تراه أن قوله له لما لحقه بالجرف، فأراد باليوم القطعة من الزمن "أنت مني" وفي رواية لهما أيضا، "أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى".
إلا أنه لا نبي بعدي". وهو في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص. انتهى. ورجحه ابن عبد البر.
__________
قال الطيب: "مني" خبر المبتدأ ومن اتصالية ومتعلق الخبر خاص والباء زائدة، كما في قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] ، أي فإن آمنوا إيمانا مثل إيمانكم يعني أنت متصل ونازل مني منزلة هارون من موسى وفيه تشبيه، ووجه الشبه مبهم بينه بقوله، "إلا أنه لا نبي بعدي" فعرف أن الاتصال المذكور بينهما ليس من جهة النبوة، بل من جهة ما دونها وهي الخلافة، ولما كان هارون المشبه به إنما كان خليفة في حياة موسى، دل ذلك على تخصيص خلافة علي له صلى الله عليه وسلم بحياته انتهى. يعني فلا حجة فيه للشيعة في أن الخلافة لعلي، وأنه أوصى له بها، وكفرت الروافض جميع الصحابة، بتقديم غيره، وزاد بعضهم فكفر عليًّا لكونه لم يقم بطلب حقه، ولا حجة لهم في الحديث، ولا متمسك لهم به؛ لأنه إنما قال هذا حين استخلفه بالمدينة في هذه الغزوة.
قال المصنف وغيره: ويؤيده أن هارون المشبه به لم يكن خليفة بعد موسى، لوفاته قبله بنحو أربعين سنة انتهى. ومر في أحد قولي البيضاوي: الأكثر أن موسى مات قبله بسنة، وقول النور: بنحو خمسة أشهر، "وهو" أي كونه خلفه على المدينة وعلى عياله معا ظاهر ما في الصحيحين البخاري هنا، وفي المناقب ومسلم في الفضائل، والنسائي وابن ماجه كلهم "من حديث سعد بن أبي وقاص" ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليًّا فقال: اتخلفني في الصبيان والنساء قال: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي".
زاد أحمد فقال علي: رَضيت ثم رضيت، فقوله: استخلف عليًّا ظاهر في أنه على المدينة، وتأيد هذا الظاهر بورود هذه اللفظة في نفس حديث سعد في مصنف عبد الرزاق، والروايات يفسر بعضها بعضا، لا سيما والمخرج متحد، ومن ثم جزم الحافظ العراقي الذي "انتهى".
كلامه بعزوه لهما استخلافه على المدينة، "ورجحه" الإمام الحافظ "ابن عبد البر" وتبعه الحافظ ابن دحية، وقطع به المصنف في شرح البخاري؛ لأن ما في أرفع الصحيح لا معدل عنه، وأما الدمياطي فقد مر عنه أنه كان لما ألف السيرة سيريًا محضًا، يتبعهم ولو خالف الأحاديث الصحيحة، فتبع هنا الواقدي في ترجيحه، ثم العجب من الشارح أخذ ترجمة الشامي من استخلفه على أهله، ومن استخلفه على المدينة، وأتى بصدر كلامه فقط، وزعم أنه ظاهر حديث البخاري. وقضى على المصنف بالتسمح، فإنه خلفه على أهله لكن لقربه منه وعظم أمره
وقيل: استخلف سباع بن عرفطة.
وتخلف نفر من المسلمين من غير شك ولا ارتياب منهم، كعب بن مالك.
__________
إذا عرض للمدينة شيء عاون ابن مسلمة في دفعه، ولو استكمل عبارة الشامي لعلم أن الحق مع المصنف، وأنه لا تسمح في كلامه فإنه لما حكى عن الواقدي القول بأنه علي قال ما نصه. قال أبو عمرو تبعه ابن دية، وهو الأثبت قلت ورواه عبد الرزاق في المصنف بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص، ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى تبوك، استخلف على ال