يحل في كل عام شهر ربيع الأول؛ محملًا بذكرى مولد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو النبي الخاتم شفيع أمته يوم الدين، ورحمة العالمين.
ولا يختلف اثنان من المسلمين، على حقيقة أن محبة النبي مقيمة في النفس، أي ليست موسمية، ولا ترتبط بيوم بعينه، وأن حقيقة الاحتفال بسيرة محمد لا يكون حقيقة إلا باتباع سنته العطرة والاقتداء به قولًا وعمًلا، وترك ما نهى عنه، مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم « لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليهِ من والدِه وولدِه والناسِ أجمعينَ»[البخاري: 15] وقول الله تعالى: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ }[الأحزاب: 6]
لكن دعونا نتأمل حال الكون حين خرج نور محمد للوجود، وكيف كان المسلمون يستدعون ذكرى المولد النبوي عبر عصور مختلفة، وما الذي نفعله لإحياء سنة الحبيب محمد في حياتنا؟
ولد النبى صلى الله عليه وسلم في شعب أبي طالب بمكة المكرمة، يوم الاثنين، وقت طلوع الفجر، فى عام الفيل، فى السنة الثالثة والخمسين (53) قبل الهجرة النبوية الشريفة، وهذا هو الراجح بين علماء السيرة والحديث، ويوافق ذكرى مولده يوم 22 من إبريل عام 572 ميلادية، وذلك فى فصل الربيع. وقال الإمام محمد بن إسحاق مؤرخ السيرة النبوية أنه ولد في 12 ربيع الأول [ابن هشام، السيرة النبوية ، 1/158]
ويدل لولادته مع طلوع الفجر: قول جده عبد المطلب: "ولد لى الليلة مع الصبح مولود" [الحافظ الدمشقي، جامع الآثار ومولد المختار، 2/492]
وأجمعت كتب السيرة على أن ولادته صلى الله عليه وسلم كانت يوم الاثنين، وكان صلى الله عليه وسلم يصومه شكراً لله؛ ولمَّا سئل عن ذلك؟. قال: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَىَّ فِيهِ» [رواه مسلم: 1162]
ولم تكن ليلة مولده صلى الله عليه وسلم كأية ليلة من ولادات بني البشر. وقد وردت هذه الأحداث والأحاديث العائدة لها كاهتزاز عرش كسرى، وانطفاء النار بفارس بعد أن دامت ألف عام، وغيرها. [ابن كثير: البداية والنهاية، 2/265]
وذكرت الروايات أن أمه آمنة بنت وهب لم تجد في حملها ما تجده النساء عادة من ألم وضعف، بل كان حملًا سهلًا يسيرًا مباركًا، كما روي أنها سمعت هاتفًا يهتف بها قائلًا:"إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع على الأرض فقولي: إني أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، وسميه محمدًا"ولما وضعته أمه خرج معه نور أضاء ما بين المشرق والمغرب، حتى أضاءت منه قصور بصرى بأرض الشام وهو المولود بمكة.
وقد ولد - صلى الله عليه وسلم - يتيمًا فقيرًا، فقد توفي والده عبد الله أثناء حمل أمه آمنة بنت وهب فيه. وأذهبته أمه على عادة تلك الأيام للرضاعة في بني سعد، ورأت مرضعته العجب والبركة، فعلمت ببركته وشأنه. [الرحيق المختوم للمباركفوري نقلا عن سيرة ابن هشام 1/128]
ومن حكمة الله أن كان يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم مختلفًا عليه؛ وقال الإمام الألباني أن الأقوال في مولده بدون أسانيد، إلا من قال إنه في الثامن من ربيع الأول، وهي رواية التابعي الجليل مالك، وذهب جمهور العلماء أن مولده صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر من ربيع الأول [صحيح السيرة النبوية ص13]
وفي حديث صحيح أن أبا لهب وهو أحد رؤوس الكفر، قد رأى أهله في منامهم أنه يخفف عنه العذاب يوم الاثنين، وقد أعتق جاريته ثويبة ابتهاجًا بمولد محمد ابن أخيه، وكان لا يدري بأمر نبوته. [رواه البخاري:5101]
قال ابن الأثير: إن الملوك السنيين احتفوا بمولد المصطفى في مكة والمدينة، وتقدم احتفال هؤلاء قبل دخول ابن جبير وكوكبري في مدينة إربيل والموصل، وكان المظفر كوكبري والٍ صالح عينه صلاح الدين الأيوبي 586 .
وجاء أن المصريين كانوا يحتفلون بالمولد النبوي قبل سنة 488 هـ [فتاوى الأزهر ، الشيخ عطية صقر، 8/255]
كان المظفر كوكبري عالمًا تقيًا شجاعًا وعاش في أوائل القرن السابع للهجرة، ثم أقر البعض احتفاله ومنهم ابن حجر العسقلاني والسيوطي وغيرهم. وكان الحافظ ابن دحية قد قدم من المغرب إلى العراق ووجد ملكها يعتني بالمولد فعمل له كتاب "التنوير في مولد البشير النذير"
لكن يعتقد بعض المؤرخين أن يكون الفاطميين الذين حكموا مصر هم أوّل من احتفل بذكرى المولد النبوي الشريف، كما احتفلوا بغيره من الموالد الدورية التي عُدت من مواسمها. وكان الفاطميون – وهم على المذهب الشيعي- يوزعون الحلوى والصدقات، ويسير موكب قاضي القضاة محملًا بها، ومتجهًا للجامع الأزهر، ثم إلى قصر الخليفة حيث تُلقى الخطب. [حسن السندوبي، تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي]
وعرف الاحتفال بالمولد شكله المنظم في عهد السلطان المظفر صلاح الدين الأيوبي؛ إذ كان يحتفل به احتفال كبيرًا في كل سنة، وكان يصرف في الاحتفال الأموال الكثيرة، والخيرات الكبيرة، حتى بلغت ثلاثمائة ألف دينار، وذلك كل سنة. وكان يصل إليه من البلاد القريبة من أربيل مثل بغداد، والموصل عدد كبير من الفقهاء والصوفية والوعّاظ، والشعراء، ولا يزالون يتواصلوا من شهر محرم إلى أوائل ربيع الأول. وكان يحتفل بالمولد سنةً في 8 ربيع الأول، وسنةً في 12 ربيع الأول، لسبب الاختلاف بتحديد يوم مولد النبي محمد. [السندوبي، مرجع سابق، بتصرف]
وأقر علماء القرون السابع والثامن للمذاهب الأربعة والسلاطين والملوك في هذا الوقت الاحتفال بالمولد، وكان الخلفاء المسلمون يقيمونها لتشمل البلاد، وقد ذكرها المقريزي في احتفالات الظاهر برقوق في مصر بين علماء المسلمين كل عام. [المواعظ والاعتبار، المقريزي، 3/167]
وكانت أسمطة الحلوى واللحوم تمتد، وينشد بعدها المنشدون في مديح النبي، ويقرأ المقرؤون من آيات القرآن الكريم، ويستمر ذلك من مغرب ليلة المولد وحتى ساعات الصباح [النجوم الزاهرة، ابن تغري بردي، 12/72]0
كان حسان بن ثابت رضي الله عنه، والملقب بشاعر الرسول، أحد الأوائل ممن تغنوا بمولد الرسول، وقال:
وَأَحسَنُ مِنكَ لَم تَرَ قَطُّ عَيني&وَأَجـمَلُ مِنكَ لَم تَلِدِ النِساءُ
خُـلِقتَ مُبَرَّءً مِن كُلِّ عَيبٍ&كَـأَنَّكَ قَد خُلِقتَ كَما تَشاءُ
وفي قصيدة الشاعر الدمشقي ابن الخياط ، إحدى عيون التراث العربي:
كل القلوب إلي الحبيب تميل &ومعى بهـذا شـــاهد ودليــــل
أما الــدليل إذا ذكرت محمدا &صارت دموع العارفين تسيل
وكان الحافظ الدمشقي بكتابه الشهير "مورد الصادي في مولد الهادي" يقول عن أبي لهب الذي يخفف عنه يوم مولد النبي:
إذا كان هـذا كافرًا جـاء ذمـه وتبت يـداه في الجحـيم مخـلدًا
أتى أنـه في يـوم الاثنين دائـمًا يخفف عنه للسـرور بأحــمدا
فما الظن بالعبد الذي طول عمره بأحمد مسرورٌ ومات موحـــدًا
وكان المصري أحمد شوقي الملقب بأمير الشعراء أحد أبدع من تغنوا بمولد الهادي محمد، في القرن الماضي، ومن قصيدته الشهيرة:
وُلِدَ الهُدى فَالكائِناتُ ضِياءُ&وَفَمُ الزَمانِ تَبَسُّمٌ وَثَناءُ
الروحُ وَالمَلَأُ المَلائِكُ حَولَهُ&لِلدينِ وَالدُنيا بِهِ بُشَراءُ
ومن روائع الشاعر السعودي المعاصر عبدالرحمن العشماوي، ويشبه النبي محمد بالهلال الذي أنار الطريق بالهدى للسائرين:
هـلّ الهـلال فكـيـف ضــلّ الـسـاري &وعـــلام تـبـقــى حــيــرة الـمـحـتـارِ
ضحك الطريق لسالكيـه فقـل لمـن & يـلـوي خـطـاه عــن الطـريـق حــذارِ
استدعاء ذكرى مولد رسول الله نشاط اجتماعي يبتغي منه خير دينيّ، فهو كالمؤتمرات والندوات الدينية التي تعقد في هذا العصر، ولم تكن معروفة من قبل. [البوطي: فتاوى عن المولد النبوي].
وقد اختلف العلماء هل ينطبق تعريف البدعة على الاحتفال بالمولد باعتبار أنها عادة مستحدثة لم يأت بها الصحابة والتابعون.
وفيما اتفقت هيئات العلماء بأغلب بلدان العالم الإسلامي على مشروعية الاحتفال بذكرى مولد النبي بأنواع القربات غير المحرمة ومنها إطعام الطعام وتلاوة القرآن والأذكار وإنشاد الأشعار والمدائح، وعدتها من البدع الحسنة التي يؤجر صاحبها عملًا بقول الأئمة كابن حجر والسيوطي وغيرهم [دار الإفتاء المصرية ، فتوى 140، طلب رقم 1186]
يؤكد بعض العلماء ومنهم "ابن تيمية" أن الاحتفال بالمولد يجعله يشبه الأعياد، والأعياد من الشرائع التي يجب فيها الاتباع لا الابتداع، وطالما لم يأت أصحاب النبي والتابعين بهذا الفعل، وهم الأشد حبًا لرسول الله، فلا يجب علينا التزايد عما فعلوه ... ويتابع بأن الأصل في إحياء محبة النبي ألا ترتبط بموسم أو وقت وأن تكون باتباع سنته في ظاهر أعمالنا وباطنها، وتجنب ما حذر منه" [اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، 2/123].
إن الكون من جماد وحيوان ونبات ابتهج بقدوم رسول الله، وليس البشر فحسب [مائدة الفكر الإسلامي، الشعراوي: 295] لكن من المؤسف أنه ما أكثر ما احتفل المسلمون بهذه الموالد، وما أقَل ما انتفع المرء بها ، ولو أن كُل ميلاد لرسول الله يُستقبل بإحياء شعيرة من شعائر دينه ، لَثَبَتَ دينُه فى الآفاق، ولكن يبدو أننا نكتفى من الحفاوة بالمناسبة بما يتفق أيضًا مع شهوات نفوسنا من لذيذ حلوى. [الفتاوى" للشعراوي: 475]
ولهذا فإن إحياء ليالي هذا الشهر الكريم الذي أشرق فيه النور المحمدي إنما يكون بذكر الله تعالى وشكره لما أنعم به على هذه الأمة من ظهور خير الخلق إلى عالم الوجود ولا يكون ذلك إلا في أدب وخشوع وبُعد عن المحرمات والبدع والمنكرات ومن مظاهر الشكر على حبه: مواساة المحتاجين بما يخفف ضائقتهم وصلة الأرحام [الشيخ حسنين مخلوف، فتاوى شرعية 1/131].
قال ذو النُّون المصري: "من علامة المحبَّة لله – عزَّ وجلَّ - متابعة حبيبه صلَّى الله عليه وسلَّم في أخلاقه، وأفعاله، وأوامره، وسنَّته".
وقول الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]
لكن كيف تتحول ذكرى المولد لانطلاقة ميلاد جديد نغير به حياتنا؟:
-محاسبة النفس على ما بينها وبين الله ورسوله، وإتيان الطاعات من تلاوة قرآن ودعاء وذكر وأعمال بر.
-المشاركة في أعمال الخير والتطوع عملًا بقول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}[المائدة: 32]
-العزم على السير في طريق النجاح عملًا بسنة الحبيب القائل: «مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلْمًا، سلَك اللهُ به طريقًا مِن طُرُقِ الجَنَّةِ»[أبوداود: 3641]
-الابتعاد عن كافة البدع المجافية لسنة الحبيب، ومنها: التلفظ بالنية، والتبرك بالأضرحة وبدع المولد النبوي كالتزاحم على مساجد آل البيت.
-القراءة في السيرة النبوية العطرة، لفهم حياة النبي ومنطقه والأحداث التي شارك فيها، ونشر قبسات منها بوسائط التواصل الحديثة وبين المعارف والأهل.
-إحياء السنن المهجورة تدريجيًا، ومنها ركعتي الضحى واستخدام السواك وتلاوة الأذكار الواردة عنه في كل وقت، والتنفس ثلاثًا قبل الشرب، كثرة الاستغفار في المجلس، سجدة الشكر عند حصول نعمة، وتغطية الإناء في الليل.
-لا تنس الصلاة على الحبيب محمد شفيعنا يوم الدين، والدعاء له بالمقام المحمود عند ربه، مصداقًا لقول الله : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]
-