توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان قد علم من طريق الوحي بقرب أجله، فودع الناس في حجة الوداع، وكانت قلوب الصحابة واجفة هلعة خشية أن يكون أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اقترب، ولكن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، فلما أشيع عن وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم اضطرب الصحابة جميعاً لهول الكارثة، وزلزلت المدينة زلزالها، وطاشت عقول كثير من كبار الصحابة والسابقين الى الاسلام، فمنهم من عقل لسانه، ومنهم من أقعد عن الحركة، ومنهم وهو عمر من شهر سيفه ينهى الناس أن يقولوا: إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم مات، ويزعم أنه غاب، وسيرجع اليهم، ولكن أبا بكر وحده هو الذي كان ثابت الجأش، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مسجى على فراشه، فقبله وقال له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما أطيبك حياً وميتاً! أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبداً، يا رسول الله اذكرنا عند ربك.
ثم خرج أبو بكر الى الناس، فخطب فيهم وقال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً، فان محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله، فان الله حيٌّ لا يموت، ثم تلا قوله تعالى: ?وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً، وسيجزي الله الشاكرين? [آل عمران: 144]. فلما تلاها أبو بكر أفاقوا من هول الصدمة، وكأنهم لم يسمعوها من قبل، قال أبو هريرة: قال عمر: فوالله ما هو الا أن سمعت أن أبا بكر تلاها فعقرت - أي دهشت وتحيرت - حتى وقعت الى الأرض وما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات.
وهنا درسان بالغان:
أولهما: أن الصحابة دهشوا لموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لكأن الموت لا يمكن أن يأتيه، مع أن الموت نهاية كل حي، وما ذلك إلا لحبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حباً امتزج بدمائهم وأعصابهم، والصدمة بفقد الأحباب تكون على قدر الحب، ونحن
نرى من يفقد ولداً أو أباً كيف يظل أياماً لا يصدق أنه فقده، وأي حب في الدنيا يبلغ حب هؤلاء الصحابة الأبرار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد هداهم الله به، وأنقذهم من الظلمات إلى النور، وغير حياتهم، وفتح عقولهم وأبصارهم، وسما بهم إلى مراتب القادة العظماء، ثم هو في حياته مربيهم وقاضيهم ومرشدهم يلجؤون اليه في النكبات، ويسترشدونه في الحوادث، ويأخذون منه خطاب الله لهم وحديثه اليهم وتعليمه لهم، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم انقطع ذلك كله، فأي صدمة أبلغ من هذه الصدمة وأشدها أثراً.
ثانيهما: أن موقف أبي بكر دل على أنه يتمتع برباطة جأش وقوة أعصاب عند النكبات لا يتمتع بها صحابي آخر. وهذا ما جعله أولى الناس بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أثبت ذلك في حركة الردة في جزيرة العرب.