ولستُ أُبالي حين أُقْتَلُ مُسلمًا ... على أي شْقٍّ كان لله مصرعي
وذاك في ذات الإله وإن يَشَأ ... يُبارِك على أوصالِ شِلْوٍ مُمَزَّع
خُبيب بن عدي رضي الله عنه.
البخاري، الصحيح (5/41) .
__________
1 الرَّجيع: بفتح أوله، وبالعين المهملة في آخره –ماء لهذيل بناحية الحجاز على صدر الهدأة، والرجيع: ماء يعرف اليوم باسم الوطية، يقع شمال مكة على قرابة سبعين كيلا، قبيل عسفان إلى اليمن، في طرف شامية ابن حمادي من الشمال، بسفح حرة بني جابر الجنوبي، وشامية ابن حمادي هي أسفل الهدة، والهدة وادٍ يمر شمال مكة، وعلى يمين الجادة إلى عسفان، والرجيع اليوم من ديار حرب، لبشر خاصة منهم.
انظر اين هشام، سيرة (3/170) ، والبكري، معجم (2/641) ، والبلادي، معجم (138) ، ومعالم مكة (113) .
نتيجة للتحركات المعادية التي ظهرت على الأعراب في أعقاب غزوة أحد، وتحسبًا من هجوم قرشي مباغت، بعث رسول الله صص دورية قوتها عشرة أفراد1 بقيادة عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح رضي الله عنه2.
__________
1 وقع ذلك عند البخاري وغيره من أهل الحديث.انظر البخاري، الصحيح (5/40-41) وابن حجر، فتح (6/66، 7/387) ، وأبا داود، سنن (3/115-117) ، وعبد الرزاق المصنف (5/353) ، وابن أبي شيبة، المصنف (14/455) ، وأحمد. المسند، البنا، الفتح الرباني (21/61) .
بينما اختلف أهل المغازي في ذلك، فمنهم من وافق أهل الحديث كابن سعد الذي جزم بأنهم كانوا عشرة سمي منهم سبعة فقط هم: عاصم بن ثابت، ومرثد بن أبي مرثد، وعبد الله بن طارق، وخبيب بن عدي، وزيد بن الدُّثنة، وخالد بن أبي البكير، ومعتب بن عبيد. ابن سعد، طبقات (2/55) .
وقال ابن حجر معلقا على عدم تسمية الثلاثة الباقين: فلعل الثلاثة الآخرين كانوا أتباعا لهم فلم يحصل الاعتناء بتسميتهم. فتح الباري (7/380) . وتردد الواقدي في روايته فذكر أنهم سبعة، ثم قال: ويقال كانوا عشرة وأميرهم مرثد بن أبي مرثد، ويقال: أميرهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح.
الواقدي: مغازي (1/354-355) .
وجزم ابن إسحاق بأنهم ستة، وذكر أن أميرهم مرثد بن أبي مرثد، سيرة (3/169) .
أما موسى بن عقبة فكانت عنه روايتان: رواية وافق فيها ابن إسحاق، وأخرى لم يذكر فيها سوى أربعة سماهم. انظر البيهقي. دلائل (3/326-327) .
وذكر ابن سيد الناس أنه شاهد في كتاب الطبري: "ذيل المذيل" قصيدة لحسان يرثي فيها أصحاب الرجيع الستة:
أَلاَ ليتني فيها شَهِدتُ ابنَ طارق ... وزيدًا وما تُغني الأماني ومرثدًا
ودافعت عن حبي حبيبٍ وعاصمٍ ... وكان شفاءً لو تداركتُ خالدًا
ابن سيد الناس. عيون (1/59-60) .
وأيَّد بعض المتأخرين من أهل المعازي روايات الصحيح باعتبارها أصح إسنادا.
انظر السهيلي، الروض (6/184) ، والمقريزي، إمتاع (1/174) . بينما رجع ابن حجر أن قائد السرية عاصم بن ثابت بناء على رواية الصحيح، ولكنه ذكر في موضع آخر أن البعض حاول الجمع بين رواية الصحيح ورواية أهل المغازي بأن أمير السرية مرثد، وأمير العشرة عاصم، بناء على التعدد. انظر ابن حجر. فتح (7/380) .
ومما يجدر ذكره أن مرثدا ورد ذكره في شعر حسان بن ثابت الذي نقله ابن إسحاق كقائد لأصحاب السرية، ولكن ابن هشام ذكر أن أكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان. انظر ابن هشام، سيرة (3/183) .
2 هو عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب لأمه، من السابقين الأولين من الأنصار، يكنى أبا سليمان، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عاصم بن ثابت وعبد الله بن جحش. وشهد عاصم بدرا وأحدا وثبت يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولَّى الناس، وبايعه على الموت، وكان من الرماة المذكورين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قتله وقتل أصحابه يوم الرجيع في صفر على رأس ستو وثلاثين شهرا من الهجرة.
ابن سعد. طبقات (3/462-463) ، وابن حجر، إصابة (2/244) .
وقد اختلفت الروايات في تحديد واجب السرية، فرواية الصحيح تذكر أن السرية كانت استطلاعية، كما يفيده اللفظ "عينًا"1، بينما تذكر بعض الروايات أنها كانت عبارة عن دورية قتال هدفها بنو لحيان2، ويكاد يجمع أهل المغازي على أن مهمة السرية كانت تعليمية بحتة3، وينفرد الواقدي منهم بتوضيح سبب ذلك4.
وقد حاول بعض المتأخرين الجمع بين الروايات وجعل م
همة السرية ازدواجية مع إمكانية ذلك5، فهي استطلاعية لرصد نشاط قريش والأعراب
__________
1 انظر البخاري. الصحيح (5/40) ، ابن حجر. فتح (6/166، 7/387) .
كما أخرج البيهقي رواية عن الواقدي بمثل ذلك. انظر البيهقي، دلائل (3/323) .
2 أخرجه أبو نعيم عن عروة من طريق ابن لهيعة. دلائل (3/323) .
كما أخرجه بطريق أخرى عن بريدة بن سفيان الأسلمي. دلائل (2/509) .
كما أخرجه من نفس الطريق البيهقي، دلائل (3/331) وبريدة هذا قال عنه ابن حجر: ليس بالقوي وفيه رفض. ابن حجر، تقريب (121) .
3 روى ذلك ابن إسحاق مفصلا. انظر ابن هشام، سيرة (3/169) ، والبيهقي، دلائل (3/328) .
كما أخرجه البيهقي عن موسى بن عقبة. انظر البيهقي، دلائل (3/327) .
ورواه كل من الواقدي، مغازي (1/354) ، وابن سعد من طريقين أحدهما من طريق ابن إسحاق والأخرى من طريق الزهري عن عمرو بن أسيد مرسلا. ابن سعد، طبقات (2/55) ورواه البلاذري، أنساب (375) ولكنه يضيف أنهم بُعثوا مزكَّين ومعلمين في وقت واحد، وابن حزم، جوامع (176) ، وابن عبد البر، درر (168) .
4 يذكر الواقدي في روايته أنه تم التمهيد لهجوم بني لحيان الغادر على أصحاب السرية بتآمرهم مع عضل والقارة وذلك انتقاما لمقتل زعيمهم خالد بن سفيان الهذلي. انظر الواقدي، مغازي (2/354) .
ويذكر البغوي في تفسير قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207] رواية بصيغة التمريض عن ابن عباس والضحاك أنها نزلت في سرية الرجيع، وذلك أن كفار قريش بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة بإسلامهم وطلبوا منه معلمين يفقهونهم في الدين. البغوي، معالم التنزيل (1/180-181) .
وهذه الرواية على ضعفها البالغ لا تتفق مع سياق الأحداث قبلها، فأُحد كانت قريبة العهد وذكراها لا زالت عالقة في الأذهان، والوضع متوتر بين الطرفين ويتطلب الحذر واليقظة منهما، فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لينخدع بمثل هذه السهولة بدعوى قريش. وإن كان حريصا على إسلامهم متمنيا ذلك. والله تعالى أعلم.
5 قال الزرقاني: ويجمع بأنه لما أراد بعثهم عيونا، وافق مجيء النفر في طلب من يفقههم، فبعثهم في الأمرين. الزرقاني، شرح (2/65) . وقال الدكتور أكرم ضياء العمري بعد سياقه لرواية ابن إسحاق: ولكن البخاري يقول: إن مهمة الوفد استطلاعية في حين يذكر ابن إسحاق أنهم معلمون، ويمكن الجمع بين المهمتين. المجتمع المدني (88) .
المتزايد عقب أُحد وتحركاتهم المشبوهة، وتعليمية تلبيةً لرغبة بعض الأعراب الذين أظهروا الإسلام وطلبوا بعض المعلمين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفقهوهم في الدين
ومع اتفاق أهل المغازي في مهمة هذه السرية اختلفوا في تحديد تاريخها، فمنهم من ذكرها بعد أُحد ضمن أحداث السنة الثالثة الهجرية1.
ومنهم من حددها بشهر صفر على رأس ستة وثلاثين شهرًا، يعني في بداية السنة الرابعة2.
وحددها البعض بمنتصف شهر صفر آخر السنة الثالثة3.
وعلى كل حال انطلقت الدورية في مسير اقترابي حذر كما تذكر بعض الروايات4 "حتى إذا كانوا بالهدأة5- وهو بين عسفان ومكة- ذُكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان6 فنفروا لهم قريبا من مائتي رجل7، كلهم رام، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرًا –تزودوه- من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فاقتصوا آثارهم8.
__________
1 ذكر ذلك ابن إسحاق مرسلا عن شيخه عاصم. انظر ابن هشام، سيرة (3/169) .
ورواه البخاري تعليقا. انظر ابن حجر، فتح (7/378) .
2 انظر الواقدي، مغازي (1/354) ، وابن سعد، طبقات (2/55) ، والبلاذري، أنساب (375) ، وذكرها ابن الأثير في أحداث السنة الرابعة. ابن الأثير علي بن أبي أكرم، الكامل في التاريخ (2/167) .
3 مثل ابن حزم، جوامع (176) ، وابن عبد البر، درر (168) .
4 في رواية أبي معشر في مغازيه: "وكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار". أورد ذلك عنه ابن حجر، فتح (7/381) .
5 الهدأة: قال البلادي: الهدة واد بمر شمال مكة، وعلى يمين الجادة إلى عسفان. البلادي: معجم (138) .
6 قال ابن حجر: لحيان هو ابن هذيل نفسه، وهذيل هو ابن مدركة بن إلياس بن مضر. وزعم الهمداني النسابة أن أهل بني لحيان من بقايا جرهم دخلوا في هذيل فنسبوا إليهم. فتح الباري (7/381) . وانظر الكلبي، جمهرة (130) .
7 في رواية إبراهيم بن موسى: "تبعوهم بقرب من مائة رام". ابن حجر، فتح (7/378) .
وقد حاول ابن حجر الجمع بين الروايتين بأن تكون المائة الأخرى غير رماة. فتح الباري (7/381) .
8 من رواية شعيب في الجهاد. انظر ابن حجر، فتح (6/166) .
فلما رآهم عاصم انسحب بأصحابه إلى مكان مرتفع تجنبا للاشتباك المباشر –الذي كان فيه القضاء التام عليهم- فاللحيانيون يفوقونهم في العدد والعدة بكثير.
وما أن وصل القوم حتى أحاطوا بهم، ثم أخذوا يفاوضونهم على الاستسلام المشروط بالأمان إن هم نزلوا إليهم دون مقاومة، ولكن عاصم بن ثابت رضي الله عنه قائد السرية رفض ذلك العرض بشدة معطيا من نفسه القدوة لأصحابه وهو يقول: "أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كاف ر، اللهم أخبر عنا نبيك"1.
وعلى الرجيع حصلت ملحمة جهادية رائعة في معركة غير متكافئة، سقط خلالها الأبطال عاصم وستة من رفاقه شهداء في سبيل الله بعد أن قاوموا ببسالة شديدة، لكن إرادة الله عز وجل جعلت الهذليين الكثر والمهرة في الرمي يصطادونهم بنبالهم التي حصدوهم من كل جانب.
"وبقي خبيب وزيد، ورجل آخر2، فأعطوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم"3، ومعهم العذر في ذلك، لأن رفضهم الاستسلام هو حكم بالقضاء المبرم عليهم، ففضلوا الإبقاء على أنفسهم تحيُّزًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأملا في مدد أو نجدة تأتيهم من عنده تكون فيها قوة لاستئناف قتال يكون فيه ولو بعض التكافؤ ضد بني لحيان4، لكن اللحيانيين، وكما توقع عاصم من قبل غدروا بهم "فلما استمكنوا منهم حلُّوا أوتار قسيهم
__________
1 المصدر السابق.
2 تذكر كتب المغازي أن اسمه عبد الله بن طارق. انظر ابن هشام، سيرة (3/171) والواقدي، مغازي (2/357) ، وابن سعد، طبقات (2/56) .
3 من رواية إبراهيم بن موسى في المغازي. انظر ابن حجر، فتح (7/378) .
4 لقد صدق توقع خبيب وصاحبه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل عدَّة سرايا إلى بني لحيان وقاد بنفسه غزوة إليهم، ولكن مشيئة الله سبحانه وتعالى وقضاءه كانت قد نفذت في خبيب وصاحبه، ولا رادَّ لقضائه.
فربطوهم بها، فقال الرجل الثالث الذي معهما: هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم، فجرَّروه وعالجوه أن يصحبهم فلم يفعل، فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل1، وكان خبيب هو قَتَلَ الحارث يوم بدر2.
فمكث عندهم أسيرًا حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحد بها فأعارته، قالت: فغفلت عن صبي لي3. فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه، فلما رأيتُه فزِعت فزعة عرف ذلك مني، وفي يده الموسى فقال: أتخشين أن أقتله، ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله4
نعم هذه هي أخلاق الإسلام التي أدهشت الكفار قديما وحديثا، لأنهم تعودوا على الانتقام العشوائي، ولا غرو في ذلك إذا كانوا يستقون أخلاقهم من قانون الغاب، بينما صدر أخلاق المسلمين القرآن الذي من مبادئه {وَلا
__________
1 يذكر الواقدي في روايته أن: خبيبا ابتاعه حُجين بن أبي إهاب بثمانين مثقال ذهب، ويقال: اشتراه بخمسين فريضة (أي بعير) ، ويقال: اشترته ابنة الحارث بن عامر بن نوفل بمائة من الإبل. انظر الواقدي، مغازي (2/311) .
ووقع في رواية بريدة الأسلمي: أن خبيبا بيع لبعض الجمحيين بأمة سوداء، وجاء عقبة بن عدي أحد بني نوفل بن عبد مناف يسأله أن يبيعه إياه فيقتله مكان طعيمة بن عدي، لأنه قتله يوم بدر فأبى أن يبيعه إياه وأعطاه إياه عطية. انظر أبا نعيم، دلائل (2/510) .
2 قال ابن حجر: كذا وقع في حديث أبي هريرة واعتمد البخاري على ذلك، فذكر خبيب بن عدي فيمن شهد بدرا، وهو اعتماد متجه، لكن تعقبه الدمياطي بأن أهل المغازي لم يذكر أحد منهم أن خبيب بن عدي شهد بدرا ولا قتل الحارث بن عامر، وإنما ذكروا أن الذي قتل الحارث بن عامر ببدر خبيب بن أساف، وهو غير خبيب بن عدي، وهو خزرجي، وخبيب بن عدي أوسي. والله أعلم. ويلزم من الذي قال ذلك ردُّ هذا الحديث الصحيح فلو لم يقتل خبيب بن عدي الحارثَ بن عامر ما كان لاعتناء أبناء الحارث بأسر خبيب معنى ولا يقتله مع التصريح في الحديث الصحيح أنهم قتلوه به، لكن يحتمل أن يكون قتلوه بخبيب بن عدي لكون خبيب بن أساف قتل الحارث على عادتهم في الجاهلية بقتل بعض القبيلة عن بعض، ويحتمل أن يكون خبيب بن عدي شارك في قتل الحارث-والعلم عند الله تعالى. انظر ابن حجر، فتح (7/382) .
وقد اطلعت على مخطوطة في السيرة للدمياطي فلم أجد هذا الكلام فيها وأعتقد أنها في مختصر السيرة.
3 قال ابن حجر: ذكر الزبير بن بكّار أن هذا الصبي هو أبو حسين بن الحارث بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وهو جد عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين المكيّ المحدّث، وهو من أقران الزهري. فتح الباري (7/382) .
4 من رواية إبراهيم بن موسى في كتاب المغازي. انظر ابن حجر، فتح (7/378) .
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 1.
وهذه المرأة التي أسلمت فيما بعد2 ذكرت ما شاهدته من خبيب حيث تقول: "ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلاّ رزق رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين. ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أول من سنّ الركعتين عند القتل هو. ثم قال اللهم أحصهم عددا"3.
ثم قتلوه رضي الله عنه وهو يحمس نفسه بأبيات يذكر فيها غربته وتألب المشركين عليه4.
"وأما زيد بن الدثنة فاشتراه صفوان بن أمية فقتله بأبيه أمية بن خلف، قتله نسطاس مولى بني جمح"5. ويذكر ابن إسحاق بإسناد معضل أن أبا سفيان قد سأله مختبرا ثباته: "أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدا الآن في
__________
1 الأنعام (164) .
2 روى ابن حجر عن خلف في كتابه الأطراف: أن اسمها زينب بنت الحارث وهي أخت عقبة بن الحارث الذي قتل خبيبا، وقيل: امرأته، ووقع عند ابن إسحاق بسند معضل أن التي رأت القطف في يد خبيب هي ماوية مولاة حجين بن أبي إهاب، والتي حُبس في بيتها.
قال ابن حجر: فإن كان محفوظا احتمل أن يكون كلّ من ماوية وزينب رأت القطف في يده يأكله، وأن التي حُبس في بيتها ماوية، والتي كانت تحرسه زينب جمعا بين الروايتين. ويحتمل أن يكون الحارث أبا لماوية من الرضاع، ووقع عند ابن بطال: أن اسم المرأة جويرة، فيحتمل أن يكون لما رأى قول ابن إسحاق أنها مولاة حجين بن أبي إهاب أطلق عليها جويرة لكونها أمة، أو يكون وقع له رواية فيها اسمها جويرة. انظر ابن حجر، فتح (7/382) .
3 من رواية إبراهيم بن موسى. انظر البخاري، الصحيح (5/41) .
4 ورد منها بيتان في الصحيح هما:
ولست أُبالي حين أُقتل مسلمًا ... على أي شِقٍّ مان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلوٍ ممزع
5 من مراسيل عروة. وأخرجه الطبراني من طريق ابن لهيعة. انظر الطبراني، المعجم (5/261) .
مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي"1. هذه الرواية2 على ضعفها حديثيًّا إلا أننا نستأنس بها تاريخيًّا على مدى الحب المتمكن في قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له، ذلك الحب الذي لا يتزعزع حتى في أصعب اللحظات حراجة، وهكذا نراهم يفدونه بأنفسهم أن تصيبه شوكة آمنا في بيته, وهو بين يدي أعدائهم يعاينون الموت، فما أخلصها من تضحية، وما أعظمه حبًّا أدهش أعداءهم في ذلك الوقت، يقول أبو سفيان في سياق الرواية السابقة "ما رأيت من الناس أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا"3.
وقد استجاب الله عز وجل "لعاصم بن ثابت يوم أصيب، فأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه خبرهم وما أصيبوا، وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حُدثوا أنه قتل ليؤتَوا بشيء منه يعرف، وكان قد قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر4 فَبُعِثَ على عاصم مثل الظلة من الدَّبر5. فحمتهم من رسولهم، فلم يقدروا على أن يقطعوا من لحمه شيئا6.
وهكذا فقدت الدعوة إلى الله بعض فرسانها، وحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم و"المسلمون لفقدانهم عاصما وصحبه، ولمصرع أسيرهم على هذا النحو
__________
1 رواه ابن إسحاق عن شيخه عاصم بن عمرو مصرحا بالتحديث عنه.
انظر ابن هشام، سيرة (3/172) ، كما رواه الواقدي، مغازي (2/362) .
2 في سياق رواية عروة المشار إليها أعلاه أن المشركين سألوا خبيبا مثل ذلك وأجابهم بمثل جواب زيد، فإن صحَّت الروايتان كان كلّ منهما سئل عن ذلك من جانب المشركين وأجابهم بجواب واحد يمثل حبًّا طاغيًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من جانب أصحابه.
3 انظر ابن هشام، سيرة (3/172) ، والواقدي، مغازي (2/362) .
4 قال ابن حجر: لعل العظيم المذكور غقبة بن أبي معيط، فإن عاصما قتله صبرا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن انصرفوا من بدر. ووقع عند ابن إسحاق، وكذا في رواية بريدة بن سفيان: أن عاصما لما قتل أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد، وهي أم مسافع وجلاّس ابني طلحة العبدي، وكان عاصم قتلهما يوم أحد وكانت نذرت لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن الخمر في قحفه فمنعته الدَّبر. ابن حجر، فتح (7/384) .
5 جماعة النحل، وقيل: ذكور النحل، أو الزنابير. القاموس، دبر، وابن حجر، فتح (7/384) .
6 من رواية إبراهيم بن موسى. انظر البخاري، الصحيح (5/41) .
الفاجع، فقد خسروا فريقا من الدعاة الأكفاء يحتاج إليهم الإسلام في هذه الفترة من تاريخه"1.
وفي الحديث من الأحكام ما ذكره ابن حجر وغيره حيث قال: إن للأسير أن يمتنع من قبول الأمان، ولا يمكّن من نفسه ولو قُتل، أنفة من أنه يجري عليه حكم كافر، وهذا إذا أراد الأخذ بالشدة، فإن أراد الأخذ بالرخصة فله أن يستأمن، قال الحسن البصري: لا بأس بذلك، وقال سفيان الثوري: أكره ذلك.
وفي الحديث الوفاء للمشركين بالعهد، والتورع عن قتل أولادهم، والتلطف بمن أريد قتله.
وفيه الدعاء على المشركين بالتعميم، وإنشاء الشعر وإنشاده عند القتل.
ودلالة على قوة يقين خبيب وشدته في دينه.
وفيه أن الله يبتلي عبده المسلم بما شاء كما سبق في علمه ليثيبه، ولو شاء ربك ما فعلوه.
ومن فوائد الحديث استجابة دعاء المسلم وإكرامه حيًّا وميتًا، وغير ذلك من الفوائد مما يظهر بالتأمل، وإنما استجاب الله له في حماية لحمه من المشركين، ولم يمنعهم من قتله لِما أراد من إكرامه بالشهادة، ومن كرامته حمايته من هتك حرمته بقطع لحمه2.
وفي الحديث: إثبات كرامة الأولياء. وما أكرم الله به خبيبا من إطعامه له القطف من العنب في زمان وحين لا يوجد منه بمكة حبة ولا ثمرة، وهذه المكرمة شبيهة بما قصّ الله تعالى من شأن مريم:
{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} 3، وإبلاغ الله
__________
1 الغزالي، فقه السيرة (276) .
2 ابن حجر، فتح (7/384-385) .
3 آل عمران (37) .
سلامه إلى رسوله، وهما دلالتان واضحتان مثلهما جائز في إبان النبوة1.
وقال ابن بطال: "هذا يمكن أن يكون الله جعله آية على الكفار وبرهانا لنبيه لتصحيح رسالته، فأما من يدَّعي وقوع ذلك اليوم بين ظهراني المسلمين فلا وجه له، إذ المسلمون قد دخلوا في الدين وأيقنوا بالنبوة، فأي معنى لإظهار الآية عندهم؟ ولو لم يكن في تجويز ذلك إلاّ أن يقول جاهل: إذا جاز ظهور هذه الآيات على يد غير نبي فكيف نصدقها من نبي، والفرض أن غيره يأتي بها لكان في إنكار ذلك قطعا للذريعة، إلا أن يكون وقوع ذلك مما لا يخرق عادة ولا يقلب عينا، مثل أن يكرم الله بإجابة دعوة في الحين ونحو ذلك مما يظهر فيه فضل الفاضل وكرامة الولي، ومن ذلك حماية الله تعالى عاصمًا لئلا ينتهك عدوه حرمته"2.
قال ابن حجر: "والحاصل أن ابن بطال توسط بين من يثبت الكرامة ومن ينفيها فجعل الذي يثبت ما قد تجري به العادة لآحاد الناس أحيانًا، والممتنع ما يقلب الأعيان مثلا، والمشهور عن أهل السنة إثبات الكرامات مطلقا، لكن استثنى بعض المحققين منهم كأبي القاسم القشيري ما وقع به التحدي لبعض الأنبياء فقال: ولا يصلون إلى مثل إيجاد ولد من غير أب ونحو ذلك، وهذا أعدل المذاهب في ذلك، فإن إجابة الدعوة في الحال، وتكثير الطعام والماء، والمكاشفة بما يغيب عن العين، والإخبار بما سيأتي ونحو ذلك قد كثر جدًّا حتى صار وقوع ذلك ممن ينسب إلى الصلاح كالعادة، فانحصر الخرق الآن فيما قاله القشيري، وتعيين تقييد قول من أطلق أن كل معجزة وجدت لنبي يجوز أن تقع كرامة لولي، ووراء ذلك كله أن الذي استقر عند العامة أن خرق العادة يدل على أن من وقع له من ذلك يكون من أولياء الله تعالى، وهو غلط ممن يقوله بأن الخارق قد يظهر على يد المبطل من ساحر وكاهن وراهب،
__________
1 انظر أبا نعيم، دلائل (2/511-512) .
2 انظر ابن حجر، فتح (7/383) .
فيحتاج من يستدل بذلك على ولاية أولياء الله تعالى إلى فارق، وأولى ما ذكروه أن يختبر حال من وقع له ذلك، فإن كان متمسكا بالأوامر الشرعية والنواهي، كان ذلك علامة ولايته، ومن لا فلا، وبالله التوفيق1.
وفيه أيضا مشروعية الصلاة عند القتل، قال في سياق رواية الصحيح: "فكان أول من سن الركعتين عند القتل"2
قال السهيلي: "وإنما صار فعل خبيب سُنة حسنة، والسنة إنما هي أقوال من النبي صلى الله عليه وسلم وأفعال، وإقرار؛ لأنه فعلها في حياته صلى الله عليه وسلم فاستحسن ذلك من فعله، واستحسنه المعلمون مع أن الصلاة خير ما ختم به عمل العبد"3.
قال الحلبي: "وكان ابن سيرين رحمه الله إذا سئل عن الركعتين قبل القتل قال: صلاهما خبيب رضي الله تعالى عنه وحجر، وهما فاضلان، ويعني بحجر: حجر بن عدي رضي الله تعالى عنه"4.
وقال: "واستدل أئمتنا بقصة خبيب هذه على أنه يستحب لمن أشرف على الموت أن يتعهد نفسه بتقليم أظفاره وأخذ شعر شاربه وإبطه وعانته، ولعل ذلك كان بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأقرَّه"5.
__________
1 المصدر السابق.
2 البخاري، الصحيح (5/41) .
3 السهيلي، الروض (6/192) .
4 الحلبي، سيرة (3/162) .
5 الحلبي، سيرة (3/160) .