...
اختلف أهل المغازي في هذه السرية، فذكر ابن هشام أنها من زياداته على سيرة ابن إسحاق1، فاستدرك عليه السهيلي ذاكرا أن ذلك وهم منه، فإن ابن إسحاق قد روى الخبر في ذلك بسند متصل إلى عمرو بن أمية2، وكذلك ساق الخبر الطبري عن ابن إسحاق3 مما يدل على وجودها في أصل السيرة، ولكن الطبري يذكر قبل ذلك –وعقب حديثه عن الرجيع وقصة صلب خبيب بن عدي رضي الله عنه ومن غير طريق ابن إسحاق- رواية مختصرة عن عمرو بن أمية أيضا يذكر فيها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وحده عينا إلى قريش"4، وأنه في أثناء ذلك أنزل خبيبا من خشبته.
وقد روى البيهقي مثل ذلك5، ثم من خلال سياقهما لأحداث هذه السرية تبرز لنا قصة عمرو مع جثة خبيب، ولكن بتفصيل أكثر6.
وينفرد الواقدي بزيادة ذكر فيها أن سبب بعث عمرو بن أمية كان ردًّا على إرسال أبي سفيان أعرابيًّا لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم7، وتابعه في ذلك ابن سعد8.
__________
1 انظر ابن هشام، سيرة (4/633) ، وانظر ما قاله ابن كثير، بداية (2/73) ، والزرقاني، شرح (2/178) .
2 السهيلي، الروض (2/263) ، وفي سنده إلى عمرو: جعفر بن عمرو بن أمية لم أجد له ترجمة، وإنما وجدت عند الرازي: "جعفر بن عمرو بن جعفر بن عمرو، روى عنه إبراهيم بن إسماعيل، قاله علي بن المديني". الرازي عبد الرحمن بن المنذر، الجرح والتعديل (2/542) ، فربما يكون هو أو غيره، والله أعلم.
3 الطبري، تاريخ (541) ، ولكن في سنده جعفر بن الفضل بن الحسن لم أعثر على ترجمتة أيضا.
4 الطبري، تاريخ (541-542) ، وقد روى هذا الخبر –أيضا- خليفة بن خياط، تاريخ (76) ، وأحمد، البنا، الفتح الرباني (22/132) ، والطبراني، الهيثمي، مجمع (5/321) ، والبيهقي، دلائل (3/332) . وقد ذكر الديار بكري في تاريخ الخميس (1/458) ، والشامي، سبل (6/73) ، نقلا عن أبي يوسف في كتابه اللطائف، والحلبي، سيرة (3/161) : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الزبير والمقداد لإنزال خبيب من خشبته، فليتأمل ذلك.
5 البيهقي، دلائل (3/333) .
6 الطبري، تاريخ (2/544) ، والبيهقي، دلائل (3/366) .
7 انظر رواية الواقدي عند البيهقي، سنن (9/213) ، ودلائل (3/333) حيث لم ترد هذه الرواية في كتاب المغازي المحقق.
8 ابن سعد، طبقات (2/93) .
أما بقية أحداث القصة فتكاد تكون متفقًا عليها عندهم، مما يجعلنا نعتقد أنها قصة واحدة رويت بطرق مختلفة، وإن كان خليفة بن خياط قد فرق بين الحادثين، ولكنه أشار إلى هذه السرية إشارة عابرة1.
وكما اختُلِفَ في مهمة السرية اختُلِفَ أيضا في تاريخها، فالطبري وابن هشام وتابعهما البيهقي وابن القيم2 جعلوها بعد حادثة الرجيع مباشرة، أما خليفة فذكرها بعد بئر معونة، ولكنه جعلها من السرايا التي كانت سنة خمس3، وأرَّخ لها ابن حجر بعد وقعة بني النضير حكاية عن الواقدي4، ولكن الواقدي في روايته المنقولة عنه لم يذكر لها تاريخا، وتابعه كاتبه ولكنه ذكرها بعد سرية كرز بن جابر إلى العرنيين التي أرَّخ لها في شوال سنة ست5.
يقول عمرو بن أمية رضي الله عنه: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قتل خبيب وأصحابه وبعث معي رجلا من الأنصار6، فقال: ائتيا أبا سفيان بن حرب فاقتلاه"7 كانت (نقلية هذه الدورية) عبارة عن بعير واحد لعمرو بن أمية كان يحمل صاحبه عليه لعلة كانت برجله، حيث انطلقا في مسير اقترابي حذر حتى وصلا إلى بطن وادي يأجج8 القريب من مكة. وهناك عقلا
__________
1 خليفة بن خياط، تاريخ (76-77) ، ولكنه يذكر في مكان آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل" عمرو بن أمية بهدية إلى أبي سفيان بن حرب بمكة". تاريخ (98) .
2 انظر الطبري، تاريخ (2/542) ، وابن هشام، سيرة (4/633) ، والبيهقي، دلائل (3/333) ، وابن القيم، زاد (2/109) ، وانظر قول الشافعي في سنن البيهقي (9/213) .
3 ابن خياط، تاريخ (77) .
4 ابن حجر، إصابة، ترجمة سلمة بن أسلم بن حريش (2/63) .
5 ابن سعد، طبقات (2/93) .
6 سماه ابن هشام جبار بن صخر الأنصاري (4/633) بينما سماه الواقدي وكاتبه: سلمة بن أسلم بن حريش. البيهقي، دلائل (3/332-335) . ابن سعد، طبقات (2/94) .
7 من رواية الطبري عن ابن إسحاق، تارخ (2/543) .
8 وادي يأجج: بفتح أوله وإسكان ثانيه، بعده جيمان، الأولى مفتوحة وقد تكسر.
قال أبو عبيد: يأجج واد يصب من مطلع الشمس إلى مكة قريب منها ويعرف اليوم باسم (ياج) وهو وادٍ من أودية مكة يمر شمال التنعيم، فيصب في مر الظهران، تسميه عامة أهل مكة وادي بئر مقيت، وقد أصبح قسمه الذي يمر به الطريق من مكةإلى المدينة المنورة معمورا وبه بساتين ضعيفة، البكري، معجم (4/1385) ، والبلادي، معالم مكة التاريخية والأثرية (325) .
بعيرهما في فناء شعب من شعابه، وقال عمرو لصاحبه: "انطلق بنا إلى دار أبي سفيان، فإني محاول قتله! فانظر فإن كانت محاولة، أو خشيت شيئا فالحق ببعيرك فاركبه، والحق بالمدينة فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، وخل عني، فإني رجل عالم بالبلد جريء عليه، نجيب الساق"1.
ودخلا مكة على حين غفلة من أهلها، وكان عمرو قد أعدَّ خنجرًا حاد النصل لقتال أبي سفيان، فقال له الأنصاري: "هل لك أن نبدأ فنطوف بالبيت أسبوعا2 ونصلي ركعتين"3.
فرد عليه عمرو: "أنا أعلم بأهل مكة منك إنهم إذا أظلموا رشوا أفنيتهم، ثم جلسوا بها، وأنا أعرف بها من الفرس الأبلق4"5 ولكن الأنصاري أصرَّ على رأيه فما زال بعمرو حتى طاف بالبيت سبعا، وصليا ركعتين، ثم خرجا فمرَّا على مجلس من مجالس قريش، فعرف رجل منهم عمرو بن أمية6 "فصرخ بأعلى صوته: هذا عمرو بن أمية"7 فتبادرتهما أهل مكة "وقالوا: تالله ما جاء بعمرو خيرٌ والذي يُحلف به ما جاءها قط إلا لشر"8. وكان عمرو فاتكًا ذائع الصيت في الجاهلية فحشد أهل مكة جمعهم وخرجوا يشتدون في أثره وأثر صاحبه، وهو يقول له: "النجاء، هذا والله الذي كنت أحذر، أما الرجل فليس إليه سبيل فانج بنفسك"9. وخرجا يشتدان حتى
__________
1 من رواية الطبري عن ابن إسحاق. تاريخ (2/543) .
2 أي: سبعا.
3 من رواية الطبري عن ابن إسحاق. تاريخ (2/543) .
4 الأبلق: أي الفرس المحجلة، والبلق: سواد وبياض، وارتفاع التحجيل إلى الفخذين. (الصحاح، اللسان، القاموس: بلق) .
5 من رواية الطبري عن ابن إسحاق. تاريخ (2/543) .
6 أوضحت رواية الواقدي وكاتبه ابن سعد اسم هذا الرجل وهو معاوية بن أبي سفيان.
انظر البيهقي، دلائل (3/335) ، ابن سعد، طبقات (2/94) .
7 من رواية الطبري عن ابن إسحاق. تاريخ (2/94) .
8 المصدر السابق.
9 المصدر السابق.
حتى صعدا في جبل فرجعوا عنهما بعد أن أعجزوهم ثم دخلا غارا في الجبل وباتا ليلتهما فيه بعد أن استترا فيه بحجارة، فلما أصبحا غدا رجل من قريش يدعى عثمان بن مالك التميمي يجمع حشيشا لفرسه، فلم يزل يدنو منهما حتى قام على باب الغار، فقال عمرو لصاحبه: "هذا والله ابن مالك، والله إن رآنا ليُعلمن بنا أهل مكة"1، فيخرج إليه عمرو فيطعنه بالخنجر تحت ثديه، فصاح صيحة أسمع أهل مكة فأقبلوا إليه، ورجع عمرو إلى مكانه، واتبع أهل مكة الصوت مسرعين "فوجدوه وبه رمق، فقالوا: ويلك من ضربك، قال: عمرو بن أمية، ثم مات"2.
فشغلوا به عن البحث عنهما، فمكثا في الغار يومين حتى سكن عنهما الطلب، ثم خرجا، وفي التنعيم وهما في طريقهما إلى المدينة مرَّا على خشبة خُبيب فصعدها عمرو وأنزله عنها.
يقول عمرو بن أمية رضي الله عنه: "فصعدت خشبته ليلا، فقطعت الشَّرَكَ3 وألقيته فسمعت وجبته خلفي4، فالتفتُّ فلم أر شيئا5. ولكأنما ابتلعته الأرض، فلم يُرَ لخُبيب أثر حتى الساعة"6.
وأقبل عمرو يمشي نحو المدينة، وكان صاحبه قد انطلق بالبعير قبله إلى المدينة، ثم أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، ولما بلغ عمرو حرة ضجنان7 دخل
__________
1 المصدر السابق.
2 من رواية الطبري عن ابن إسحاق. تاريخ (2/543) .
3 الشرك: الحبل.
4 وجبته: صوته.
5 من رواية خليفة عن عمرو بن أمية. خليفة بن خياط، تاريخ (76) .
6 من رواية أحمد عن عمرو بن أمية. البنا، الفتح (22/132) ، وانظر الهيثمي، مجمع (5/321) ، والطبري، تاريخ (2/541-542) .
7 ضجنان: بفتح أوله وسكون ثانيه على وزن فعلان: حرة مستطيلة من الشرق إلى الغرب، ينقسم عنها سيل وادي الهدة، ويمر بها الطريق من مكة إلى المدينة بنصفها الغربي على 54 كيلاً ويعرف هذا النغف اليوم يخشم المحسنية، وكذلك الحرة تسمى حرة المحسنية. انظر البكري، معجم (3/856) والبلادي، معالم مكة (159) .
كهفًا هناك ومعه قوسه وسهمه، قال عمرو: "فبينا أنا فيه إذ دخل عليَّ رجل من بني الديل بن بكر، أعور طويل يسوق غنما له فقال: من الرجل؟، فقلت: رجل من بني بكر، قال: وأنا من بكر، ثم أحد بني الديل، ثم اضطجع معي فيه، فرفع عقيرته يتغنى ويقول:
ولست بمسلم ما دمت حيًّا ... ولست أدين دين المسلمينا
فقلت: سوف تعلم! فلم يلبث الأعرابي أن نام وغطَّ1، فقمت إليه فقتلته أسوأ قتلة قتلها أحدٌ أحدًا"2.
ثم خرج عمرو مسرعا حتى إذا بلغ وادي النقيع3 لقي جاسوسين لقريش يتحسسان الأخبار فعرفهما، فقتل أحدهما، وأسر الآخر، فقدم به المدينة، فجعل عمرو يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، ثم قال له خيرا، ودعا له بخير4.
__________
1 غط: اشتد عليه النوم. (القاموس: غط) .
2 من رواية الطبري عن ابن إسحاق. تاريخ (2/544) .
3 وادي النقيع: بفتح أوله، وكسر ثانيه، بعده ياء، وعين مهملة، موضع تلقاء المدينة، بينها وبين مكة، على ثلاث مراحل من مكة، بقرب قدس، والنقيع صدر وادي العقيق، وهو متبدي للناس ومتصيد، وهو من أفضل الأحماء التي حماها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخيل المسلمين، والنقيع وادٍ فحل من أودية الحجاز، يسيل منها الحرار التي يسيل منها وادي الفرع، ثم يتجه شمالا جاعلا جبال قدس على يساره، ويأخذ كل مياهها الشرقية، وأول النقيع مما يلي المدينة يبعد عنها قرابة 40 كيلاً جنوبا على طريق الفرع، وأقصاه على قرابة (120) كيلاً قرب الفرع.
انظر البكري، معجم (4/1323-1324) ، والبلادي، معجم (320) .
4 الخبر في مجمله أخرجه الطبري عن ابن إسحاق الذي رواه عم جعفر بن الفضل بن الحسن بن عمرو بن أمية (لم أعثر على ترجمته) عن أبيه عن جده عمرو بن أمية، وبذلك يكون في السند انقطاع إلا إذا ثبت أن الفضل سمع من جده، وفيه أيضا عنعنة ابن إسحاق. انظر الطبري تاريخ (2/542-545) .
ورواه ابن هشام بلا سند. سيرة (4/633-635) ، ورواه ابن سعد، طبقات (2/93-94) بلا سند. وأخرج الجزء الخاص بقصة إنزال خبيب عن خشبته كل من: خليفة بن خياط، تاريخ: (76) ، وأحمد بن حنبل والبنا، الفتح الرباني (22/132) ، والطبري، تاريخ (2/541-542) ، والطبراني. انظر الهيثمي، مجمع (5/321) ، والبيهقي، دلائل (3/332) ، لكن مدار رواياتهم على إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، قال عنه الهيثمي، وابن حجر: "ضعيف". انظر الهيثمي، مجمع (5/321) ، وابن حجر، تقريب (88) .=
وبذلك انتهت هذه المهمة التي وإن كانت لم تحقق هدفها الأساسي، وهو قتل أبي سفيان لأمر أراده الله ولا راد لقضائه، ولكنها حققت بعض الأهداف التي من أهمها إدخال الرعب في نفوس قريش وزعمائها على الخصوص وإعلامهم بأن المسلمين قادرون على الوصول إليهم حتى في بيوتهم.
وإن ما قام به عمرو بن أمية رضي الله عنه خلال هذه السرية إن صحت الروايات حولها يعتبر اجتهادا منه أقره عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
__________
=إذًا فالخبر لا تخلو طرقه المتعددة من الضعف، ولكنها تتعاضد فيما بينها لتكسبه نوعا من القوة مما يجعلنا نستأنس لقبوله تاريخيًّا. والله تعالى أعلم.