(سرية القُرَّاء)
وفي منظر رائع لا يتصوره العقل البشري المُجَرَّد عن الإيمان تتحقق إحدى معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، فما أن وجد الرجل مسَّ الرمح في جوفه حتى صاح وهو ينضح ماء الحياة على وجهه ورأسه فَرِحًا: الله أكبر، فزت وربِّ الكعبة.
__________
1 بئر معونة: بفتح أوله، وضم ثانيه، بعده واو ونون –هو ماء لبني عامر بن صعصعة، وهي بين ديار بني عامر، وحرة بني سليم، وهي إلى الحرة أقرب، وهي بلحف أبلى، وأبلى سلسلة جبلية سوداء تقع غرب المهد إلى الشمال، وتتصل غربا بحرة الحجاز العظيمة، وهي اليوم ديار مطير، ولم تعد سليم تقربها.
انظر ابن هشام، سيرة (3/184) ، والبكري، معجم (4/1245) ، والبلادي، معجم (53) .
استمرارا لمنهجية نشر الإسلام ورسالته، ورغم ما أصاب الدعوة في صميم عملها بفقدان عدد من خيرة فرسانها في الرجيع، فقد واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بث الدعاة ونشر الدعوة إلى الله في كل مكان في الجزيرة العربية، حيثما وجد بصيصًا من الأمل لقبولها وانتشارها، "إذ لا بدَّ من تبليغ دعوة الإسلام مهما غلت التضحيات"1.
فلما قدم عليه صلى الله عليه وسلم وفد من قبائل رعل وذكوان وعُصية السلمية، وذكروا أن فيهم إسلاما وطلبوا منه معلمين يفقهونهم في الدين، ويعينونهم على المشركين من قومهم بزعمهم2.
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجهيز بعثة تعليمية قوامها سبعون معلمًا3 من خيرة
__________
1 أكرم العمري، المجتمع المدني (89) .
2 جمعا بين رواية قتادة في البخاري التي تقول: "فزعموا أنهم أسلموا واستمدوا على قومهم"، ورواية مسلم ولفظها "فقالوا: ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة".
انظر ابن حجر، فتح (7/386) ، والنووي على مسلم (13/46) .
وقد أجمع أهل المغازي كالزهري، وابن عائذ، وابن إسحاق، وابن سعد، والبلاذري، وابن حزم، على أن مهمة البعث تعليمية بحتة. انظر عبد الرزاق، المصنف (5/382-383) ، وابن هشام، سيرة (3/184) ، والواقدي، مغازي (2/346-347) ، وابن سعد، طبقات (2/51-52) ، والبلاذري، أنساب (375) ، وابن حزم، جوامع (178-179) ، والبيهقي، دلائل (3/338-339-343) ، وابن حجر، فتح (7/386-387) .
بينما اختلفت بقية الروايات في تحديد مهمة البعث. انظر رواية أبي معمر، وحفص، وعبد الأعلى، عند البخاري، فتح الباري (3/348، 7/385-386-389) ، وروايات أحمد، البنا، الفتح الرباني (21/63-65) ، وابن عبد البر، درر (170) ، والبيهقي، دلائل (3/345، 346، 348، 349، 350) .
3 أجمع أهل الحديث على ذلك بناء على اتحاد مصدرهم في الروايات.
انظر روايات البخاري عند ابن حجر، فتح (6/18، 7/385-386-389) ، والنووي على مسلم (13/47) ، وأحمد، البنا، الفتح الرباني (3/297، 21/63-64) .
بينما اختلف أهل المغازي في ذلك فمنهم من وافق أهل الحديث كابن سعد في رواية، طبقات (2/52) ، والطبري، تاريخ (2/546-549-550) ، وابن عبد البر في رواية، درر (170) ، والبيهقي، دلائل (3/343-344-350) . وجزم ابن إسحاق أنهم كانوا أربعين سمى منهم: المنذر بن عمرو المعنق ليموت، والحارث بن الصمّةـ وحرام بن ملحان، وعروة بن أسماء، ونافع بن بديل، وعامر بن فهيرة. انظر ابن هشام، سيرة (3/183) . وتردد الواقدي بين العددين ثم رجَّح أنهم كانوا أربعين. الواقدي، مغازي (346-347) .
بينما شذّت بعض الروايات في ذلك، ففي رواية عند الطبراني وأخرجها الهيثمي، مجمع (6/125) تقول إنهم كانوا عشرة. وذكر ابن عبد البر في رواية أخرى: أنهم كانوا ثلاثين. ابن عبد البر، درر (170) بينما رجع كل من السهيلي، الروض (6/201) ، والعامري، بهجة (1/223) روايات المحدثين.
وحاول ابن حجر الجمع بين القولين بأن: الأربعين كانوا رؤساء وبقية العدة أتباعا ووهَّم من قال: ثلاثين. فتح الباري (7/386) .
الصحابة ومثقفيهم حتى إنهم كانوا يسمون القرَّاء لمثابرتهم على التحصيل العلمي حيث كانوا "يقرأون القرآن، ويتدارسون بالليل ويتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة والفقراء"1.
وأسند القيادة إلى المنذر بن عمرو الساعدي رضي الله عنه2، كما ذكر أهل المغازي3، ثم وجههم إليهم.
وفي شهر صفر من السنة الثالثة، أو الرابعة على خلاف بين أهل المغازي4
__________
1 من رواية ثابت عن أنس عند مسلم. انظر النووي على مسلم (13/47) ، وانظر ابن حجر، فتح (7/385) .
2 هو المنذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة الأنصاري الخزرجي الساعدي، قال ابن أبي خيثمة: سمعت سعد بن عبد الحميد بن جعفر يقول: المنذر بن عمرو عقبي، بدري، نقيب استشهد يوم بئر معونة. وكذا قال ابن إسحاق، وثبت أنه استشهد يوم بئر معونة في صحيح البخاري، وسمى المنذر بن العوام على اسمه، وكان يلقب المعنق ليموت.
وقال البغوي: ليست له رواية. ابن حجر، إصابة (3/460-461) .
3 انظر ابن هشام، سيرة (3/184) ، والواقدي، مغازي (2/346-347) ، وابن سعد، طبقات (2/15-52) ، والبلاذري، أنساب (375) ، وابن حزم، جوامع (178-179) ، والبيهقي، دلائل (3/339-342) . وهناك روايتان ألمحتا بشكل غير مباشر على أن القيادة كانت تحت تصرف حرام بن ملحان رضي الله عنه. انظر رواية موسى بن إسماعيل عند البخاري، فتح الباري (7/386) ، ورواية العباس بن الوليد عند الطبري، تاريخ (2/550) .
وشذَّ ابن عقبة بجعله مرثد بن أبي مرثد الغنوي في رواية البيهقي، دلائل (3/34) ، وذلك وهم منه رحمه الله، فإن مرثدًا كما ذكر أهل المغازي ومنهم هو، كان قد استشهد في الرجيع.
4 ذلك بناء على اختلافهم المشهور في تحديد بداية التاريخ الهجري، فالواقدي، مغازي (2/346) ، وابن سعد، طبقات (2/51) ، وابن حزم، جوامع (179-180) جعلوها في السنة الثالثة، بينما أرَّخ لها ابن إسحاق، والبلاذري بالسنة الرابعة. انظر ابن هشام، سيرة (3/183) ، والبلاذري، أنساب (375) .
وقال ابن كثير: وأغرب مكحول رحمه الله حيث قال: إنها كانت بعد الخندق.
ابن كثير، بداية (4/73) ، وذكر الزرقاني: أن بعضهم جعلها في المحرم، وقدَّمها على بعث الرجيع. الزرقاني، شرح (2/74) .
انطلقت البعثة في مسيرها الاقترابي بحذر يتقدمهم دليل من أهل المنطقة كما تذكر رواية مرسلة عن عروة1.
حتى إذا ما وصلوا بئر معونة –وهي منطقة تماس حدودية بين أراضي قبيلة بني عامر وحرة بني سليم- عسكروا بإزائها، ومن هناك بعثوا حرام بن ملحان رضي الله عنه2 أحد أفراد البعثة إلى الأعراب في مهمة استطلاعية وتمهيدية لمهمة البعثة الأساسية، وذلك بمبادرة منه تطوعية إذ قال لهم: "أتقدمكم فإن أمَّنوني حتى أبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلاَّ كنتم مني قريبا"3. فتقدم نحو البيوت بعد أن أمَّنوه حيث وجه خطابه لهم –كما وقع في رواية عن أنس رضي الله عنه فيها بعض الضعف4 "يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله إليكم أني أشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فآمنوا بالله ورسوله"5.
ولكن الأعراب كانوا أشدَّ كفرا ونفاقا وغدرا، فتنفيذا لخطة التآمر الدنيئة التي دبروها مع قائدهم عامر بن الطفيل العامري، وبينما حرام "يحدثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أومأوا إلى رجل منهم فطعنه فأنفذه"6، وفي منظر رائع لا يتصوره العقل البشري المجرَّد عن الإيمان، تتحقق إحدى معجزات النبي صلى الله عليه وسلم7، فما أن وجد الرجل مسَّ الرمح في جوفه حتى صاح وهو ينضح ماء
__________
1 وفيها: "وبعث معهم المطلب السلمي ليدُلَّهم على الطريق". انظر ابن حجر، فتح (7/390) .
2 هو حرام بن ملحان بن مالك بن زيد بن حران بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، شهد بدر، وأحدا، وبئر معونة، وقتل يومئذ شهيدا وليس له عقب، وهو خال أنس بن مالك.
انظر ابن سعد، طبقات (3/514) ، وابن حجر، إصابة (1/319) .
3 من رواية حفص في البخاري. ابن حجر، فتح (6/19) ، ورواية عند أحمد، البنا، الفتح الرباني (21/64) .
4 لأن في سندها محمد بن مرزوق، وعمرو بن يونس لم أعثر على ترجمتهما، وعكرمة بن عمار العجلي صدوق يعلط. انظر ابن حجر، تقريب (396) .
5 انظر الطبري، تاريخ (2/549) .
6 من رواية حفص. ابن حجر، فتح (6/19) .
7 أخرج الترمذي، والنسائي، وابن ماجة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم =
الحياة على وجهه ورأسه فرحا "الله أكبر، فزت وربِّ الكعبة"1.
ذلك المشهد العظيم والذي لم يعهده المشركون من قبل، جعل قاتله يسلم2 متعجبا من رَدَّة الفعل التي لم يك أحد من الحاضرين يتوقعها من رجل يلفظ أنفاسه الأخيرة.
لم يكتف الأعراب بذلك بل تبعوا أثره حتى وجدوا أصحابه فأحاطوا بهم من كل جانب ودافع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عقيدتهم السمحة التي جاءوا لنشرها بين من غدروا بهم، ولكن هول المفاجأة وكثرة الأعراب المستعدين لخيانتهم المدبَّرة سلفا لم تتح لهم الفرصة في قتال متكافىء، فسقطوا شهداء على أرض بئر معونة إلاّ رجلا أو رجلين منهم3، حيث سطروا بدمائهم الزكية ملحمة من أروع الملاحم الجهادية في تاريخ الإسلام بعد أن كسبوا رضوان الله عليهم.
فهذا الروح الأمين عليه السلام يخبر "النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد لقوا ربهم فرضي عنهم وأرضاهم"4، قال أنس رضي الله عنه: "فقرأنا فيهم قرآنا ثم إن ذلك
__________
= "ما يجد الشهيد من مسِّ القتل إلاَّ كما يجد أحدكم مسَّ القرصة".
انظر الألباني، صحيح سنن الترمذي (2/133) ، وصحيح سنن النسائي (2/665) ، وصحيح سنن ابن ماجة (12/131) . وقال عنه الألباني: حسن صحيح.
1 من رواية حيان في البخاري. انظر ابن حجر، فتح (7/386) .
2 وقع في رواية أحمد عن أنس: "فلما كان بعد ذلك، إذا أبو طلحة يقول لي: هل لك في قاتل حرام. قلت له: ما له فعل الله به وفعل. قال: مهلاً فإنه قد أسلم".
البنا، الفتح الرباني (21/65) وقال عنه: سنده صحيح ورجاله رجال الصحيحين. وقال ابن حجر: لم أعرف اسم الرجل الذي طعنه، ووقع في السيرة لابن إسحاق ما ظاهره أنه عامر بن الطفيل. لكن وقع في الطبراني من طريق ثالث عن أنس: أن قاتل حرام أسلم، وعامر مات كافرا. ابن حجر، فتح (7/388) .
3 أورد أهل المغازي اسميهما، فعند ابن إسحاق: أنه عمرو بن أمية، ورجل من الأنصار من بني عمرو بن عوف. وقال ابن هشام: هو المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح.
كما ذكر ابن إسحاق: أن كعب بن زيد أخا بني دينار بن النجار ارتثَّ (أي رفع وبه جراح) من بين القتلى فعاش حتى قُتل يوم الخندق شهيدا. أما الواقدي فذكر أنهما: الحارث بن الصمَّة، وعمرو بن أمية، المغازي (2/348) .
4 من رواية حفص عند البخاري. ابن حجر، فتح (6/19) .
رفع "بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا"1.
فيا لها من منزلة عظيمة تتوق إليها نفس كل مسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أصحابه بمصيرهم، ويصف أنس رضي الله عنه شدّة تأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمصابهم: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد على شيء قط ما وجد على أصحاب سرية بئر معونة، أصحاب سرية المنذر بن عمرو، فمكث شهرا يدعو على الذين أصابوهم في قنوت صلاة الغداة"23.
ومن الطبعي أن يتأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمصابهم، فقد كانوا من خيرة أصحابه، ومن فرسان الدعوة المعدودين، وقد كان فقدهم في وقت كانت دعوة الإسلام بحاجة ماسَّة لخدماتهم، كما أن الطريقة التي تم فيها قتلهم تعصر القلب ألمًا وحزنًا عليهم، فهي طريقة شائنة لم تتح لهم الفرصة في قتال فروسي مشرف.
"إن هذه النازلة ملأت قلوب المسلمين غيظا، وهم لم يضيقوا بخسائرهم فحسب، بل الذي أحرج مشاعرهم في هذه الحادثة أنها كشفت عمَّا تخبئه
__________
1 من رواية عبد الأعلى عند البخاري. ابن حجر، فتح (7/385) .
2 من رواية عبد الرزاق بسند صحيح عن أنس، المصنف (5/384) .
وأخرج البخاري نحوه عن أنس من طريق أبي النعمان. ابن حجر، فتح (6/272) . ومسلم أيضا. انظر النووي على مسلم (5/179) .
3 الخبر صحيح متفق عليه، فقد أخرجه البخاري في صحيحه في مواضع عدة، انظر ابن حجر، فتح (2/490، 6/19-31-272، 7/386-388-389) .
وأخرجه مسلم في صحيح. انظر صحيح مسلم بشرح النووي (5/178-179، 13/47) .
كما أخرجه الإمام أحمد في مسنده. انظر البنا، الفنح الرباني (21/*63-64-65) .
وروى الخبر بطرق مرسلة. انظر عبد الرزاق، المصنف (5/382-383) ، وخليفة بن خياط، تاريخ (76-77) ، وابن هشام، سيرة (3/183) ، والبيهقي، دلائل (3/338-339-340-341-342-343-344) .
كما أخرج الخبر من أهل المغازي غير ابن إسحاق كلّ من: الواقدي، مغازي (1/346-347-348-349-350-351-352-353) ، وابن سعد، طبقات (2/51-52-53-54) ، واليبلاذري، أنساب (375) ، وابن الأثير، الكامل (2/171-172) ، وابن حزم، جوامع (178-179-180) ، وابن عبد البر، درر (170-171-172-173) .
الوثنية في ضميرها من غلّ كامن على الإسلام وأهله، غلٍّ عاصف بكل مبادىء الشرف والوفاء"1 التي اشتهر بها العرب في الجاهلية وزادها الإسلام قوة وعزًّا، لكن حقد الوثنية الدفين على الإسلام ورجالاته طغى على هذه المبادىء في قلوب أصحابها فأعمى بصائرهم وبصيرتهم.
ومن فقه هذه القصة ما بوَّب له البخاري بقوله: باب القنوت قبل الركوع وبعده، ثم ذكر الأحاديث الخاصة بهذه القصة2.
قال ابن حجر: القنوت يطلق على معان، والمراد به هنا الدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام، قال الزين بن المنيّر: أثبت بهذا الترجمة مشروعية القنوت إشارة إلى الردّ على من رُوي عنه أنه بدعة كابن عمر، وفي الموطأ عنه: أنه كان لا يقنت في شيء من الصلوات، ووجه الردِّ عليه ثبوته من فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو مرتفع عن درجة المباح.
وهل هو قبل الركوع أو بعده خلاف؟ قال ابن حجر: ومجموع ما جاء عن أنس من ذلك أن القنوت للحاجة بعد الركوع لا خلاف عنه في ذلك، وأما لغير الحاجة فالصحيح عنه أنه قبل الركوع. وقد اختلف عمل الصحابة في ذلك، والظاهر أنه من الاختلاف المباح.
ذكر ابن العربي: أن القنوت ورد لعشرة معان فنظمها شيخنا الحافظ زين الدين العراقي فيما أنشدنا لنفسه إجازة غير مرة:
ولَفْظُ القنوت اعدُدْ معانيه تجد ... مزيدًا على عشرة معانٍ مرضية
دعاء، خشوع، والعبادة، طاعة ... إقامتها، إقراره بالعبودية
سكوت، صلاة، والقيام وطوله ... كذاك دوام الطاعة الرابح القنية3
__________
1 الغزالي، فقه السيرة (278) .
2 انظر ابن حجر، فتح (2/489-490-491) .
3 المصدر السابق.
وقال النووي: مذهب الشافعي رحمه الله: أن القنوت مسنون في صلاة الصبح دائما، وأما غيرها فله فيها ثلاثة أقوال: الصحيح المشهور أنه إن نزلت نازلة كعدو وقحط وعطش وضررٍ ظاهر في المسلمين، ونحو ذلك قنتوا في جميع الصلوات المكتوبة، وإلا فلا. والثاني: يقنتون في الحالين. والثالث: لا يقنتون في الحالين. ومحل القنوت بعد رفع الرأس من الركوع في الركعة الأخيرة.
وفي استحباب الجهر بالقنوت في الصلاة الجهرية وجهان: أصحهما يجهر ويستحب رفع اليدين فيه ولا يمسح الوجه. وقيل: يستحب مسحه. وقيل: لا يرفع اليد واتفقوا على كراهية مسح الصدر. والصحيح أنه لا يتعين فيه دعاء مخصوص، بل يحصل بكل دعاء. وفيه وجه: أنه لا يحصل إلاَّ بالدعاء المشهور: اللهم اهدني فيمن هديت.. إلى آخره، والصحيح أن هذا مستحب لا شرط له، ولو ترك القنوت في الصبح سجد السهو. وذهب أبو حنيفة، وأحمد، وآخرون إلى أنه لا قنوت في الصبح. وقال مالك: يقنت قبل الركوع. ودلائل الجمع معروفة1.
كما أن من فقه هذه القصة معرفة كيفية موت الشهيد، فقد ورد في ثنايا القصة أن حرام بن ملحان رضي الله عنه عندما طعن بالرمح لم يتألم كما هو معروف ومشاهد في مثل هذه الحالة، بل بالعكس من ذلك صاح فرحًا: الله أكبر، فزت وربِّ الكعبة.
وهذا الموقف الخارق للعادة يدعونا للتساؤل: هل يتعرض الشهيد لألم الموت؟
وتأتينا الإجابة الشافية من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، إن
__________
1 صحيح مسلم بشرح النووي (5/176) .
هو إلاّ وحي يوحى: "ما يجد الشهيد من مسِّ القتل إلاَّ كما يجد أحدكم من مسِّ القرصة" 1.
نعم فللشهيد منزلة خاصة عند الله، فجزاء الثمن الباهظ الذي يدفعه وهو روحه رخيصة في سبيل الله عز وجل لم يبخسه أعدل العادلين حقه فكافأه بست جوائز كل واحدة منها تعدل الدنيا وما فيها، فعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويحلَّى حلَّة الإيمان، ويزوَّج من الحور العين، ويشفَّع في سبعين إنسانا من أقاربه" 2.
هذا بالإضافة إلى العلامة المميَّزة المشرفة التي يأتي بها يوم القيامة. عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول- الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مجروح يجرح في سبيل الله، والله أعلم بمن يجرح في سبيله، إلاَّ جاء يوم القيامة، وجرحه كهيئته يوم جرح: اللون لون الدم، والريح ريح مسك" 3.
كما أن حياة الشهداء لا تنتهي بمجرد موتهم، بل هم أحياء يرزقون ويتنعمون عند ربهم، قال الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} 4.
__________
1 سبق تخريجه.
2 أخرجه ابن ماجه. انظر الألباني، صحيح سنن ابن ماجه (2/129) وقال عنه: صحيح.
3 أخرجه ابن ماجه، انظر الألباني، صحيح سنن ابن ماجه (2/128) وقال عنه حسن صحيح.
4 سورة آل عمران (169) .