...
بعد أن نجحت سرية المغاوير الخزرجية باغتيال أبي رافع زعيم يهود خيبر بعد حُيي بن أخطب اختارت اليهود رجلا شجاعًا منهم ليكون أميرا عليهم.
اختلفت المصادر التاريخية في اسمه واسم أبيه، فمنها ما سماه أُسير بن زارم1، وقيل: ابن رزام2، ويقال: ابن رقرام3، ولكن الأكثر على أنه اليُسير بن رزام4.
وما أن تقلد اليسير مهام منصبه كزعيم اختير تقديرًا لشجاعته حتى أصرَّ على أن يثبت لهم أنه أهل لهذا الاختيار فقرر إكمال مهمة سلفه والقيام بمحاولة جديدة لحشد اليهود وحلفائهم غطفان وتوجيه طاقاتهم لمباغتة المسلمين في عقر دارهم5.
ولكن عين رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنام عن أعداء الإسلام المتربصين ولا تغفل عن تحركاتهم العدوانية ضد قاعدته الحصينة.
حيث وصلته الأخبار من أحد عيونه في خيبر بنوايا اليُسير ونشاطاته المشبوهة ضد المسلمين كما يذكر الواقدي6.
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يستوثق من تلك الأخبار، فيذكر ابن سعد
__________
1 سماه كذلك الواقدي، مغازي (2/566) ، وتابعه كاتبه ابن سعد، طبقات (2/92) .
2 ذكر ذلك ابن هشام في زياداته، سيرة (3/618) .
3 ورد اسمه هكذا في الإصابة. ابن حجر، إصابة (2/306) ، ولعل ذلك تصحيف رزام؛ لأن كتاب الإصابة المتداول غير محقق علميًّا وتكثر فيه التصحيفات.
4 وقع ذلك في روايات عروة. انظر أبا نعيم، دلائل (2/517) ، وابن سيد الناس، عيون (2/164) ، وفي روايات الزهري. انظر البيهقي، دلائل (4/294) ، وباقشيش، مرويات (2/431-432) ، وفي رواية ابن إسحاق. انظر ابن هشام، سيرة (3/618) .
5 يذكر الواقدي أنه قام في اليهود فقال: إنه والله ما سار محمد إلى أحد من اليهود إلا بعث أحدا من أصحابه فأصاب منهم ما أراد، ولكني أصنع ما لا يصنع أصحابي، فقالوا: ما عسيت أن تصنع ما لم يصنع أصحابك؟، قال: أسير في غطفان فأجمعهم، فسار في غطفان، فجمعها، ثم قال: يا معشر اليهود، نسير إلى محمد في عقر داره، فإنه لم يُغز أحد في داره إلا أدرك منه عدوه بعض ما يريد، قالوا: نعم ما رأيت، الواقدي، مغازي (2/566) .
6 ذكر الواقدي في روايته عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجة بن حسيل الأشجعي، فاستخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وراءه فقال: تركت أسير بن رزام يسير إليك في كتائب اليهود. الواقدي، مغازي (2/566-567) .
أنه أرسل (دورية استطلاع منطقة) 1 صغيرة إلى خيبر قوتها ثلاثة أفراد بإمرة قائد خيبر بمنطقة خيبر وأهلها هو عبد الله بن رواحة رضي الله عنه2.
انطلقت الدورية في رمضان ووصلت خيبر سرًّا وهناك وزع القائد أفرادها على حصونها الرئيسية-الشق، والنطاة، والكتيبة.
فدخلوا مع الناس يسمعون منهم ويرون بأعينهم حال أهل خيبر وما يتكلمون به، خلال أيام رجعوا بعدها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقرير مفصل يؤكد المعلومات السابقة، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ثانية إلى خيبر، ولكن هذه المرة على رأس3 فرقة مغاوير تطوعية قوتها ثلاثون رجلا من بينهم عبد الله بن أنيس رضي الله عنه4 للإفادة من شجاعته وخبرته في هذا المجال.
و"في شوال سنة ست من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم"5 كما أرخها
__________
1 استطلاع المنطقة: مجموعة معلومات عن العدو أو الأرض أو الاثنين معا داخل الحدود المعينة، قد يستخدم عندما يكون الموقف غامضا ويتطلب استطلاعا على جبهة عريضة باهر عبد الهادي مصطلحات (16) .
2 عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرىء القيس بن عمرو بن امرىء القيس بن مالك بن الأعز بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الخزرجي، الشاعر المشهور، يكنى أبا محمد، وأمه كبشة بنت واقد بن عمرو، خزرجية أيضا، وليس له عقب، من السابقين الأولين من الأنصار، وكان أحد النقباء ليلة العقبة كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي جاء ببشارة وقعة بدر إلى المدينة، شهد بدرا وما بعدها إلى أن استشهد بمؤتة. ابن سعد، طبقات (3/525-526، 612) ، وابن حجر، إصابة (2/306) .
3 ذكر عروة في روايته أن قائد السرية هو عبد الله بن عتيك. انظر أبا نعيم، دلائل (2/517) ، والبيهقي، دلائل (4/293) .
وقد ذكر الشامي أن ذلك من رواية ابن عائذ. سبل الهدى (6/177) في حين يذكر ابن سيد الناس أنه من رواية شيخه الوليد، وأن غير الوليد قال: بعث عبد الله بن رواحة. عيون الأثر (2/164) ، قال محقق دلائل النبوة للأصبهاني: لعل الاشتباه نشأ من حيث إن سرية عبد الله بن عتيك لقتل أبي رافع كانت سبب هذه السرية. أبو نعيم، دلائل (450) .
قلت: ربما كان ذلك هو السبب، أو أن الوهم وقع من ابن لهيعة أحد رواة عروة، فإنه اختلط بعد احتراق كتبه، خاصة إذا علمنا أن ذلك الوهم وقع في روايتي أبي نعيم والبيهقي عن عروة أيضا. انظر أبا نعيم، دلائل (2/517) ، والبيهقي، دلائل (4/293) .
4 مرت ترجمته.
5 انظر الواقدي، مغازي (2/566) ، وابن سعد، طبقات (2/92) واللفظ له.
وقد أوردها البيهقي وابن القيم بعد فتح خيبر. وانظر البيهقي، دلائل (4/290-293) ، وابن القيم، زاد (3/359-360) .
قال الشامي: "قال في النور: وهو الذي يظهر؛ فإنهم قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا إليك ليستعملك على خيبر، هذا الكلام لا يناسب أن يقال: إنها قبل الفتح، والله أعلم.
قلت: كونها قبل خيبر أظهر، قال في القصة: إنه سار في غطفان وغيرهم قطعا إذ لم يصدر من يهود بعد فتح خيبر شيء من ذلك، وقول الصحابة لأسير بن رزام: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا إليك ليستعملك على خيبر لا ينافي ذلك؛ لأن مرادهم باستعماله المصالحة وترك القتال والاتفاق على أمر يحصل له بذلك، والله أعلم". الشامي، سبل (6/178) .
وكتاب النور الذي أشار إليه الشامي لم أعثر عليه، وإنما وجدت كتابا باسم نور العيون لمؤلفه ابن سيد الناس، وهو اختصار
الواقدي وكاتبه ابن سعد، بينما ذكرها خليفة ضمن السرايا التي كانت خمس1.
انطلقت السرية إلى هدفها في خيبر بعد الاتفاق على خطة استدراجية مغايرة تماما لخطة الفرقة الخزرجية التي قتلت أبا رافع، ومشابهة لخطة الأوسية التي قتلت كعب بن الأشرف، وكانت ترتكز أساسا على تقرير الدورية الاستطلاعية الذي ورد فيه معلومات دقيقة عن اليُسير وشخصيته فوضعت الخطة بناء على ذلك "فأتوه فقالوا: إنا أرسلنا إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعملك على خيبر"2.
تردد اليُسير في البداية، ولكنهم ما زالوا به يغرونه ويمنُّونه حتى طمع فيما قالوا، وشاور اليهود فخالفوه في الخروج، ولكنه أصرَّ عليه فخرج في رفقة ثلاثين يهوديًّا لحراسته ركب كل منهم مع رديف من المسلمين أفراد السرية، وحمل عبد الله بن أنيس اليُسير على بعيره.
"فلما بلغوا قرقرة ثبار3 وهي من خيبر على ستة أميال ندم اليُسير4
__________
شديد لكتابه "عيون الأثر" حيث يشير فيه للأحاديث إشارات عابرة ومختصرة جدًّا، وهو مخطوط يقع ضمن مجموعات.
1 انظر خليفة، تاريخ (77) .
2 من رواية عروة، انظر أبا نعيم، دلائل (2/517) .
3 قرقرة ثبار، قاع جنوب خيبر بين الحرة والصهباء المعروفة اليوم باسم جبل عطوة، على ستة أكيال من خيبر يقسمه الطريق إلى المدينة، ويسمى اليوم قعقران.
البلادي، معجم (253) ، وقد ذكر البكري أنها تسمى قرقرة الكدر. البكري، معجم (3/1066) .
4 في رواية الدلائل (البشير) وأظنه تصحيفا.
فأهوى بيده إلى سيف عبد الله بن أنيس، ففطن له عبد الله، فزجر بعيره، ثم اقتحم يسوق بالقوم، حتى إذا استمكن من اليُسير ضرب رجله فقطعها، واقتحم اليُسير وفي يده مخرش1 من شوحط2 فضرب به وجه عبد الله فشجه شجة مأمومة3، وانفكأ كل رجل من المسلمين على رديفه فقتله، غير رجل واحد من اليهود أعجزهم شدًّا، ولم يصب من المسلمين أحد وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق في شجة عبد الله بن أنيس فلم تقح، ولم تؤذه حتى مات45.
__________
1 بميم مكسورة فخاء معجمة ساكنة فراء مفتوحة: عصا معوجة الرأس. الصالحي، سبل (6/180) .
2 الشوحط: شجر تتخذ منه القسي. (القاموس، واللسان، والصحاح: "شحط") .
3 الشجة المأمومة: التي تبلغ أم الرأس وهي الجلدة التي تجمع الدماغ. الصحاح مادة "شج"، والصالحي، سبل (6/180) .
4 من رواية موسى بن عقبة عن الزهري. انظر البيهقي، دلائل (4/294) ، وباقشيش، مرويات (2/432) واللفظ له، وقارن مع رواية عروة، أبو نعيم، دلائل (2/517) .
5 ورد الحديث عن طريق أهل المغازي بطرق مختلفة وبروايات مرسلة، فقد رواه عروة وأخرجه عنه كل من أبي نعيم، دلائل (2/517) ، والبيهقي، دلائل (4/293) باختصار شديد، وابن سيد الناس، عيون (2/164) باختصار أيضا، كما رواه الزهري، وأخرج روايته من طريق موسى بن عقبة كل من البيهقي، دلائل (4/294) ، وباقشيش، مرويات (2/431، 432) .
ورواه ابن إسحاق بلا سند، ابن هشام، سيرة (3/618) ، وابن سعد عن جمع شيوخه، طبقات (2/92) ، ولم يروه موصولا إلا الواقدي بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواية أخرى مختصرة عن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه ورواية مختصرة أيضا عن عروة. انظر المغازي (2/566-568) ، ولكن الواقدي متروك عند المحدثين خاصة إذا انفرد، وهكذا فإن جميع مرويات الخبر لا تخلو من مقال، ولكنه قد يقوى بتعدد طرقه، وقد ذكر باقشيش أن الحديث لا ينزل عن درجة الحسن لغيره. مرويات موسى بن عقبة (2/431) .