(غزوة ذي قرد) بغين معجمة: موضع على بريد من المدينة في طريق الشام، وبها ضيعة لسيدنا الزّبير رضي الله عنه، قال في «شرح المواهب» : (بيعت في تركة الزّبير بألف ألف وست مئة ألف، أضيفت إليها الغزوة؛ لأنّ اللّقاح التي سيأتي أنّ المشركين أغاروا عليها كانت بها) .
(ف) بعد غزوة لحيان (غزوة الغابة، وهي) أي: اسمها أيضا (ذو قرد) بفتح القاف والراء، وبالدال المهملة، وهو ماء على نحو بريد من المدينة ممّا يلي بلاد غطفان، وسميت بذلك؛ لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم وصل إليها وصلّى بها.
وكانت قبل خيبر بثلاثة أيام، كما هو عند الإمام البخاريّ، وخيبر بعد الحديبية بنحو عشرين يوما، وفي «صحيح مسلم» نحوه، قال الحافظ ابن حجر: (ما في
وناشهم سلمة بن الأكوع ... وهو يقول اليوم يوم الرّضّع
الصحيح من التاريخ لغزوة ذي قرد أصح ممّا ذكره أصحاب السّير، يعني: من أنّها سنة ستّ في ربيع الأوّل، أو في جمادى الأولى، أو في شعبان قبل الحديبية) «1» .
سبب هذه الغزوة:
ثمّ أشار للغزوة مع بيان سببها فقال: (خرج) صلى الله عليه وسلم (في إثر) بكسر الهمزة؛ أي: أثر- بفتحها- كما في «المختار» (لقاحه) بوزن كتاب، جمع لقحة: القريبة العهد بالنّتاج والولادة.
وكانت عشرين لقحة ترعى بالغابة، وكان أبو ذرّ فيها، وابنه وامرأته، فأغار عليها عيينة بن حصن الفزاريّ في أربعين فارسا من غطفان، فاستاقوها، وقتلوا ذرّا ابن أبي ذرّ، وكان راعي اللقاح، وأسروا المرأة.
فخرج عليه الصّلاة والسّلام لذلك (وجد) معطوف على قوله: (خرج) أي: خرج، وأسرع في السير في خمس مئة، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وخلّف سعد بن عبادة في ثلاث مئة يحرسون المدينة.
,
(وناشهم) أي: تناول المغيرين (سلمة) بن وهب (بن الأكوع) وقيل: سلمة بن عمرو بن الأكوع، واسم الأكوع:
__________
(1) وكانت هلال ذي القعدة سنة ست.
سنان بن عبد الله بن قشير بن خزيمة الأسلميّ، يكنى أبا إياس، بايع تحت الشجرة، قيل: إنّه الذي كلّمه الذئب، كان شجاعا، فاضلا، راميا يسبق الفرس، روى عنه ابنه إياس، ومولاه يزيد بن أبي عبيد، وقال إياس: ما كذب أبي قطّ، مات بالمدينة سنة أربع وسبعين، استلب يومئذ وحده قبل أن تلحق به الخيل من العدوّ ثلاثين بردة، وثلاثين درقة، وقتل منهم بالنبل كثيرا، فكلّما هربوا.. أدركهم، وكلّما راموه.. فاتهم (وهو يقول: اليوم يوم الرضّع) جمع راضع؛ أي: اللئيم، أي: اليوم يوم حين اللئام- بفتح حاء حين- أي: يوم هلاكهم، والراضع: هو الذي رضع اللؤم من ثدي أمه، فصار سجيته التي لا تفارقه، أو الذي يرضع ما بين أسنانه حرصا على الشبع؛ ليستكثر من التجشع، يعني: أنّ سلمة كان إذا رماهم.. يقول:
خذها وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضّع
روى البخاري ومسلم عن سلمة: (خرجت قبل أن يؤذّن بالأولى «1» ، وكانت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ترعى بذي قرد، قال: فلقيني غلام لعبد الرّحمن بن عوف، فقال:
أخذت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: من أخذها؟ فقال: غطفان وفزارة. قال: فصرخت ثلاث
__________
(1) يعني: صلاة الصبح، وفي «مسلم» : (أنّه تبعهم من الغلس إلى غروب الشمس) اهـ
صرخات: يا صباحاه! قال: فأسمعت ما بين لابتي المدينة، ثم اندفعت على وجهي- أي: لم ألتفت يمينا ولا شمالا- وكان شديد العدو- حتى أدركتهم وقد أخذوا يستقون من الماء، فجعلت أرميهم بنبلي، وكنت راميا، وأقول:
أنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرّضّع
فأرتجز، حتى استنقذت اللّقاح منهم، واستلبت منهم ثلاثين بردة.
قال: وجاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم والناس، فقلت:
يا نبيّ الله؛ إنّي قد حميت القوم الماء وهم عطاش، فابعث إليهم الساعة، فقال: «يا ابن الأكوع؛ ملكت فأسجح» «1» قال: ثمّ رجعنا ويردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته، حتى دخلنا المدينة) اهـ
وقال في «شرح المواهب» عن مسلم وابن سعد: (قال يعني سلمة-: (فأقبلت أرميهم بنبلي وأرتجز، فألحق رجلا منهم، فأمكنه سهما في رجله، فيخلص السهم إلى كعبه، فما زلت أرميهم وأعقرهم، فإذا رجع إليّ فارس منهم.. أتيت شجرة فجلست في أصلها ثمّ رميته، فعقرت به، فإذا تضايق الجبل فدخلوا في مضايقه.. علوت الجبل فرميتهم بالحجارة،
__________
(1) أسجح- بهمزة قطع فسين ساكنة ثم جيم وبعدها حاء- بمعنى: سهل، والسجاحة: السهولة، والمعنى: قدرت فاعف.
وفرض الهادي له سهمين ... لسبقه الخيل على الرّجلين
واستنقذوا من ابن حصن عشرا ... وقسم النّبيّ فيهم جزرا
فما زلت كذلك حتى ما خلق الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بعير.. إلّا خلّفته وراء ظهري، ثمّ أتبعهم أرميهم، حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحا؛ يتخففون منها.
فأتوا مضيقا، فأتاهم عيينة ممدّا لهم، فجلسوا يتغدّون، وجلست على رأس قرن، فقال: من هذا؟ قالوا: لقينا من هذا البرح- الشدة والأذى- ما فارقنا السّحر حتى الآن، وأخذ كل شيء في أيدينا، وجعله وراء ظهره، فقال عيينة: لولا أنّه يرى وراءه طلبا.. لترككم، ليقم إليه أربعة منكم، فصعدوا في الجبل، فقلت لهم: أتعرفونني؟ فقالوا: ومن أنت؟! قلت: ابن الأكوع، والذي أكرم وجه محمّد؛ لا يطلبني رجل منكم فيدركني، ولا أطلبه فيفوتني، فقال رجل منهم:
أظن، فرجعوا، فما برحت مكاني، حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم) اهـ
(وفرض الهادي) صلى الله عليه وسلم (له) أي:
لسلمة بن الأكوع (سهمين) سهم الراجل والفارس (لسبقه الخيل على الرجلين) قال سلمة: (فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم الراجل والفارس جميعا) .
أمر عيينة بن حصن:
(واستنقذوا) أي: استخلص أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم (من) عيينة (ابن حصن) المعروف بالأحمق
المطاع في قومه، الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «إنّ شر الناس من ودعه الناس اتقاء شره» .
وقال فيه: «أداريه؛ إنّي أخشى أن يفسد علي خلقا كثيرا» .
وقال فيه: «إنّا لنبشّ في وجوه قوم، وإنّ قلوبنا لتلعنهم» .
ودخل يوما المسجد، فكشف ثيابه، وبال فيه، فصاح المسلمون، فقال لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم:
«لا تزرموه» أي: لا تقطعوا عليه بوله، فأمر بماء فصبّ على البول.
ودخل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بغير إذن، فلمّا قال له: «أين الإذن؟» قال: ما استأذنت على أحد قبلك من مضر، وقال: ما هذه الحميراء التي معك يا محمد؟ قال:
«هي عائشة بنت أبي بكر» فقال: طلّقها، وأنا أنزل لك عن أجمل منها، أم البنين بنت حذيفة، في أشياء كثيرة تذكر من جفائه.
(عشرا) من اللّقاح، وكانت عشرين؛ أي: ونجا العدوّ بعشر، كذا قاله الناظم تبعا لأصله، وقال الواقدي وابن سعد، وذكره في «المواهب» عنهما، وهو مخالف لقول سلمة في «الصحيحين» : (إنّه استنقذ جميع اللّقاح) قال الشاميّ: (وهو المعتمد لصحة سنده) .
وأقبلت إمرأة الغفاري ... قتيل نهب إبل المختار
(وقسم النّبيّ) صلى الله عليه وسلم (فيهم) أي: في أصحابه (جزرا) جمع جزور، لكل مئة جزور ينحرونه، وكانوا خمس مئة.
,
قال الحافظ: وفي القصة من الفوائد:
جواز العدو الشديد في الغزو، والإنذار بالصياح العالي، وتعريف الشجاع بنفسه ليرعب خصمه، واستحباب الثناء على الشجاع ومن فيه فضيلة، لا سيّما عند الصنع الجميل؛ ليستزيد منه، ومحلّه حيث يؤمن الافتتان.
وفيه جواز المسابقة على الأقدام، ولا خلاف في جوازها بغير عوض، أمّا بالعوض.. فالصحيح: لا يصح.
وفيه عظيم عناية الله تعالى بهذا الحبيب العظيم حيث أوجد الله له من أصحابه من يغني عن الخيل في بعض المواطن ويسبقها.
وفيه ما كان عليه أصحابه البسلة الأمجاد؛ في القيام بالتضحية بالنفس والنفيس خير قيام، فجزاهم الله عنا وعن الإسلام خير الجزاء.
,
(و) لما وصل النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة (أقبلت إمرأة) بقطع الهمزة المكسورة للوزن، واسمها ليلى كما في
وهي على راحلة من ذي الإبل ... قد نذرت إهلاكها حين تصل
«أبي داوود» وهي زوج أبي ذرّ (الغفاريّ) رضي الله عنه (قتيل) بمعنى: مقتول (نهب) مصدر بمعنى اسم الفاعل؛ أي: مقتول القوم الناهبين (إبل) أي: لإبل (المختار) صلى الله عليه وسلم.
وفي كلامه نظر؛ فإنّه إذا كان الغفاريّ أبا ذر.. فكيف يصفه بأنّه مقتول للذين أغاروا على اللّقاح، فإنّ المعروف عند أهل السير: أنّ المقتول هو ابن أبي ذرّ، واسمه ذرّ، ولم يقل أحد: إنّ المقتول أبو ذرّ؟
(وهي على راحلة) أي: والحال أنّ تلك المرأة جاءت راكبة على راحلة (من ذي) أي: من هذه (الإبل) التي أخذها العدو، وهي البيضاء، وخبر المبتدأ جملة قوله: (قد نذرت إهلاكها حين تصل) إلى المدينة سالمة من العدوّ.
روى مسلم وأبو داوود عن عمران بن الحصين رضي الله عنه: أنّهم أوثقوا المرأة، وكانوا يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم، فانفلتت ذات ليلة من الوثاق، فأتت الإبل، فإذا دنت من البعير رغا، فتتركه حتى انتهت إلى العضباء فلم ترغ، فقعدت في عجزها ثم زجرتها فانطلقت، وعلموا بها، فطلبوها فأعجزتهم. اهـ
وقال ابن إسحاق: (وأقبلت امرأة الغفاريّ على ناقة من إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قدمت عليه فأخبرته الخبر، فلمّا فرغت.. قالت: يا رسول الله؛ إنّي قد نذرت لله
أن أنحرها إن نجّاني الله عليها، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ قال: «بئسما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك أن تنحريها، إنّه لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا تملكين، إنّما هي ناقة من إبلي، ارجعي إلى أهلك على بركة الله» ) .
قال العبد الضعيف كان الله له: أخرج أبو داوود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك» انظر «نصب الراية» للزيلعي، واحتجّ به بعض العلماء على أن لا طلاق إلّا بعد النكاح ولو عيّن المطلقة.
ثناء الرسول صلّى الله عليه وسلّم على أبي قتادة:
وقال صلى الله عليه وسلم حين فرغوا من أمرهم: «خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالنا اليوم سلمة بن الأكوع» .
وممّا صنعه بهم أبو قتادة الحارث بن ربعي: أن قتل مسعدة بن حكمة الفزاري رئيس المشركين يومئذ، أو حبيب بن عيينة بن حصن، وسجّاه ببرده، فاسترجع الناس، وقالوا: قتل أبو قتادة، فقال صلى الله عليه وسلم: «ليس بأبي قتادة، ولكنه قتيله، وضع عليه برده؛ لتعرفوه فتخلّوا عن قتيله وسلبه» فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسه وسلاحه.
,
وأدرك عكاشة بن محصن أو بارا وابنه عمرو بن أو بار وهما على بعير واحد، فانتظمهما بالرمح، فقتلهما جميعا.
وممّا فعله بهم سلمة بن الأكوع أن قال: يا نبي الله؛ قد حميت القوم الماء وهم عطاش، فابعث إليهم الساعة.
وفي «مسلم» : أتاني عامر بماء ولبن، فتوضأت وشربت، ثم أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي أجليتهم عنه، فإذا هو قد أخذ كل شيء استنقذته منهم، ونحر له بلال ناقته، وشوى له من كبدها وسنامها، فقلت:
يا رسول الله؛ خلّني أنتخب من القوم مئة رجل فأتبعهم فلا يبقى منهم مخبر، فضحك حتى بدت نواجذه، وقال: «أتراك كنت فاعلا؟» قلت: نعم، والذي أكرمك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ملكت فأسجح» أي: قدرت عليهم فارفق، ثمّ قال عليه الصّلاة والسّلام: «إنّهم الآن ليقرون في غطفان» يعني: أنّهم وصلوا إلى غطفان وهم يضيفونهم، فلا فائدة في البعث في الأثر؛ لأنّهم لحقوا بأصحابهم.
وفي إخباره عليه الصّلاة والسّلام بذلك معجزة؛ فإنّه جاء بعد ذلك رجل من غطفان، فقال: مرّوا على فلان الغطفاني، فنحر لهم جزورا، فلمّا أخذوا يكشطون جلدها.. رأوا غبرة، فتركوها وقالوا: أتاكم القوم، وخرجوا هرابا.
قال في «المواهب» : (وصلّى رسول الله صلى الله عليه
ومرّ في طريقه بالمالح ... بيان ذا اللّقب غير صالح
فغيّر اسمه وغيّر الإله ... صفته وبعد ذلك اشتراه
طلحة بالفيّاض سمّاه النّبي ... إذ قد تصدّق به ليثرب
وسلم بذي قرد صلاة الخوف، وأقام به يوما وليلة يتجسس الخبر، ورجع وقد غاب خمس ليال) .
,
(ومرّ) صلى الله عليه وسلم (في طريقه) في هذه الغزوة بالبئر التي تسمى (بالمالح بيان) فقال الصحب الكرام: بيان وهو مالح (ذا اللقب) يعني بيان (غير صالح، فغيّر) النّبيّ صلى الله عليه وسلم (اسمه) فقال: نعمان، وهو طيب، (وغير الإله) تبارك وتعالى (صفته) المالحة إلى صفته العذبة، بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكور، ونظير هذه المعجزة ما ذكره في «الشفاء» : (أنّه عليه الصّلاة والسّلام بزق في بئر كانت في دار أنس، فلم يكن ماء في المدينة أعذب منها) ورواه أبو نعيم، ولله در القائل:
ولو تفلت في البحر والبحر مالح ... لأصبح ماء البحر في ريقه عذبا
,
(وبعد ذلك اشتراه) أي: البئر، وفاعل اشترى (طلحة) ابن عبيد الله التّيمي الصحابي الجليل، أحد العشرة المتقدم ذكره، وترجمته في الكلام على غزوة بدر وأحد، وتصدق بها
فالطّلحات خمسة سوى العلم ... فطلحة الجود ابن عمّه الخضم
على أهل المدينة (بالفيّاض) بتشديد الياء؛ أي: الوهّاب الجواد، يتعلق بقوله: (سمّاه) أي: طلحة (النّبيّ) صلى الله عليه وسلم، فقال له عليه الصّلاة والسّلام: «أنت الفيّاض» فصار له لقبا، كما صار نعمان للبئر لقبا (إذ قد تصدق به ليثرب) أي: لأهل المدينة، وهذا سبب التسمية به، وتسمية المدينة بيثرب تسمية جاهلية، سميت باسم رجل نزلها، ولما جاء الله تعالى بالإسلام سميت طابة، وطيبة، والطّيّبة؛ لطيبها به صلى الله عليه وسلم، فتغير اسمها وصفتها.
,
ثمّ استطرد الناظم رحمه الله تعالى باسم الفيّاض، إلى ذكر من كان من الأجواد في الإسلام يسمى طلحة فقال:
فالطّلحات خمسة سوى العلم ... فطلحة الجود ابن عمّه الخضم
(فالطلحات) بفتح اللام جمع طلحة بسكونها (خمسة سوى العلم) العلم في الأصل: السيد للقوم، والمراد به:
سيدنا طلحة بن عبيد الله المتقدم، فهم معه ستة، هو أولها.
,
(ف) ثانيها: (طلحة الجود) أي: الملقب بذلك، وهو ابن عمر بن عبيد الله بن معمر بن عثمان بن عمر بن كعب بن
وطلحة الخير وطلحة النّدى ... إلى الحسين وابن عوف أسندا
سعد بن تيم، وجده عبيد الله بن معمر من الأجواد أيضا، ذكر ابن العماد في «الشذرات» : أنّه اشترى جارية تسمى الكاملة بعشرين ألف دينار، وكانت لفتى قد أدّبها أحسن الأدب، فأملق، فباعها وهو مغرم بها، فأنشدت أبياتا منها:
عليك سلام لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلّا أن يشاء ابن معمر
فرقّ لها عبيد الله، وردها عليه وثمنها، قتل عن أربعين سنة برستاق إصطخر.
قال الحافظ: (أخرج ابن أبي عاصم والبغويّ من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن معمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أوتي أهل بيت الرفق إلّا نفعهم، ولا منعوه إلّا ضرّهم» قال البغوي: «لا أعلمه روى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم غيره، ولا رواه عن هشام إلّا حماد» .
وطلحة الجود: هو (ابن عمه) أي: ابن عم طلحة بن عبيد الله (الخضم) بوزن خدبّ مكسور الأول، مفتوح الثّاني: الكثير العطاء.
,
(و) ثالثها: (طلحة الخير) بن الحسين السّبط بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
وطلحة الدّراهم العتيق ... جدّ أبيه بالعلا حقيق
(و) رابعها: (طلحة الندى) بالقصر: الجود؛ أي:
الملقّب بذلك، وهو ابن عبد الله بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة ابن أخي سيدنا عبد الرّحمن بن عوف، كان من سراة قريش، ولي قضاء المدينة.
قال الحافظ في «التهذيب» : (قال ابن أبي خيثمة: كان هو وخارجة بن زيد بن ثابت في زمانهما يستفتيان، وينتهي الناس إلى قولهما، ويقسمان المواريث، ويكتبان الوثائق، توفي بالمدينة سنة سبع وتسعين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، وأبوه عبد الله بن عوف صحابي، أسلم يوم الفتح ولم يهاجر) .
فقوله: (إلى الحسين وابن عوف أسندا) أي: أسند طلحة الخير إلى الحسين، وطلحة الندى إلى ابن عوف، على طريق اللّفّ والنشر المرتب.
,
(و) خامسها: (طلحة الدراهم) ابن عبد الله بن عبد الرّحمن بن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، أمه عائشة بنت طلحة بن عبيد الله.
وقال في «التهذيب» : له صحبة، حكى الزّبير: أنّ عروة بن الزّبير أودعه وغيره مالا لما سافر إلى الشام، فلمّا رجع.. جحده بعضهم، وردّ ماله طلحة، فقال فيه:
فما استخبأت في رجل خبيئا ... كدين الصّدق لو ينسب عتيق
سادسها طلحتها الخزاعي ... أجودهم كلّا بلا نزاع
ذوو الأحساب أكرم ما تراه ... وأصبر عند نائبة الحقوق
وقوله: (العتيق) مبتدأ، والمراد به أبو بكر؛ لأنّه عتيق الله من النار (جد أبيه) أي: عبد الله، خبر المبتدأ.
وقوله: (بالعلا) يتعلق بقوله: (حقيق) يعني: أنّ العتيق وهو أبو بكر جد أبي طلحة، وهو حقيق بالعلا، ولا كلام.
وليس يصحّ في الأذهان شيء ... إذا احتاج النّهار إلى دليل
,
و (سادسها) أي: الطلحات، قال في «روض النّهاة» :
والضمير يعود إلى الطلحات مبتدأ، وقوله: (طلحتها) أي:
طلحة الطلحات، خبر المبتدأ، وهو طلحة بن عبد الله بن خلف بن سعد بن بياضة البصريّ (الخزاعي) يقال: لأبيه صحبة (أجودهم) أي: هو أجود الطلحات، سمي طلحة بن عبد الله بذلك؛ لأنّه كان أجودهم (كلّا بلا نزاع) أي:
لا ينازعونه في الجود، وهذا بمعنى قول بعضهم فيه: إنّه فاق في الجود خمسة أجواد، اسم كل واحد منهم طلحة.
قال الشيخ حماد في «روض النّهاة» : (وهذا كلام
في سنة وهب ألف جاريه ... فأولدت عفاته جواريه
ألف غلام باسمه سمّى الإما ... جميعهم لمثلها فهيئما
صاحب «الغرر» «1» ، وكان الشيخ رحمه الله تعالى يشفق على نفسه من تفضيله في الجود على ابن السبط، ويعتذر عنه بأنّه إنّما نظم ما في الكتاب.
قال الحافظ ابن حجر: (سمع عثمان بن عفان وكان مع عائشة يوم الجمل) اهـ
وفي سنة (63) بعث مسلم بن زياد طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعيّ واليا على سجستان، فأقام بها طلحة إلى أن مات.
ومن مآثر جوده: ما ذكره في «الغرر» وعقده الناظم بقوله: (في سنة وهب) لزواره وقاصديه (ألف جارية) أي:
أمة (فأولدت عفاته) بضم العين جمع عاف، وهو: الزائر الطالب للمعروف.
(جواريه) بالنصب معمول لقوله: (أولدت) على نزع الخافض؛ أي: أولدت من جواريه.
(ألف غلام باسمه) أي: بطلحة (سمّى الإما) بالقصر للوزن، جمع أمة (جميعهم) بالرفع تأكيد للإماء (لمثلها
__________
(1) يعني «غرر الخصائص الواضحة، وعرر النقائض الفاضحة» للأديب المتفنن أبي إسحاق برهان الدين إبراهيم بن يحيى الكتبي، المعروف بالوطواط، المولود سنة (632) والمتوفّى سنة (718) .
فهيئما) بالهمز: أي عجبا لمثل هذه العطية من الكثرة والبركة.
وزاد في «الغرر» عن الحسن قال: (باع طلحة بن عبد الله الخزاعيّ أرضا بسبع مئة ألف درهم، فبات ذلك المال عنده ليلة، فبات أرقا؛ مخافة ذلك المال، حتى أصبح ففرقه) .
وقال الزّبيدي عن «المستقصى» : قال سحبان وائل البليغ المشهور في طلحة الطلحات «1» :
يا طلح أكرم من مشى ... حسبا وأعطاهم لتالد
منك العطاء فأعطني ... وعليّ مدحك في المشاهد
فحكّمه، فقال: فرسك الورد، وقصرك بزرنج، وغلامك الخباز، وعشرة آلاف درهم. فقال طلحة: أف لك! لم تسألني على قدري، وإنّما سألتني على قدرك وقدر قبيلتك باهلة، والله؛ لو سألتني كل فرس وقصر وغلام لي..
لأعطيتك، ثمّ أمر له بما سأل، وقال: والله؛ ما رأيت مسألة محكّم ألأم منها.
__________
(1) قوله: (سحبان وائل) لعلّه سقط لفظة (ابن) قبل (وائل) لأنّه هو الذي في عصر الإسلام، وهو البليغ الذي كان في زمن معاوية رضي الله عنه، وأمّا سحبان وائل بالإضافة.. فهو جاهلي كما نقله شيخنا في «شرح الإبتهاج» عن ابن التلمساني في «حاشية الشفاء» فلذا اقتضى التنبيه عليه.
وبعدها انتهبها الأولى انتهوا ... لغاية الجهد وطيبة اجتووا
وفيه يقول ابن قيس الرّقيّات:
رحم الله أعظما دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات
قال الخفاجي في «الطراز» في طلحة الطلحات: (ليس المراد: أنّه واحد من هؤلاء المسمّين بهذا الاسم كما يتبادر منه، وإنّما المراد: أنّه أجود الأجواد؛ لأنّ طلحة لشهرة مسماه بالجود كحاتم، فيذكر ويراد به الجواد، فالطلحات بمعنى الأجواد:
الناس أولاد علّات فمن علموا ... أن قد أقلّ فمخذول ومحقور
وهم بنو أمّ من ظنوا به نشبا ... فذاك بالعين ملحوظ ومستور)
,
ثمّ أتبع غزوة الغابة بالكلام على قصة العرنيّين- للمناسبة الظاهرة بينهما، وتبعا لليعمري، إلّا أنّه ذكر السّرية من أصلها، وهي تعرف بسرية سعيد «1» بن زيد إليهم، وهي في شوال سنة ست عند ابن سعد- فقال: (وبعدها) أي: بعد غزوة الغابة (انتهبها) أي: اللقاح المذكورة في غزوة الغابة؛
__________
(1) كذا عند ابن عقبة بالياء، وعند غيره: أنّه سعد بن زيد الأشهلي الأنصاري.
فخرجوا وشربوا ألبانها ... ونبذوا إذ سمنوا أمانها
أي: أخذها نهبة القوم (الأولى انتهوا) أي: وصلوا (لغاية الجهد) والمشقة.
(وطيبة) بالنصب معمول لقوله: (اجتووا) أي:
وكرهوا طيبة؛ أي: المقام بها، ولم يوافقهم هواؤها، وهم من عرينة «1» ، وعرينة: حيّ من بجيلة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكلموا بالإسلام، وكانوا مجهودين مضرورين، وقد كادوا يهلكون، وقالوا: يا رسول الله؛ إنّا كنا أهل ضرع؛ أي: ماشية وإبل، ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا مع الذود، فيشربوا من ألبانها وأبوالها.
وفي لبن اللقاح: جلاء، وتليين، وإدرار، وتفتيح للسدد؛ فإنّ الاستسقاء وعظم البطن إنّما ينشأ عن السدد وآفة في الكبد، ومن أعظم ما ينفع الكبد لبن اللقاح، لا سيّما إن استعمل بحرارته التي يخرج بها من الضرع مع بول الفصيل على حرارته التي يخرج بها. ذكر هذه الفائدة ابن برهان في «سيرته» .
(فخرجوا وشربوا ألبانها) وصحّوا، وسمنوا، ورجعت إليهم ألوانهم، حتى إذا كانوا ناحية الحرة بناحية قباء.. كفروا
__________
(1) وهم ثمانية كما في «الإمتاع» وفي «المواهب» : (هم من عكل- بضم فسكون قبيلة من تيم الرباب- وعرينة) .
فاقتصّ منهم النّبي أن مثّلوا ... بعبده ومقلتيه سملوا
بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسارا، واستاقوا الذّود كما قال: (ونبذوا) أي: طرحوا وألقوا (إذ سمنوا) بشرب اللّبن (أمانها) أي: اللقاح، والمراد أهلها، فبلغ ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فبعث في آثارهم سرية أمر عليها سعيد بن زيد.
وفي «صحيح مسلم» عن أنس: (أنّ السرية كانت قريبا من عشرين فارسا من الأنصار، وبعث معهم قائفا يقص آثارهم) .
وقال ابن سعد كما في «عيون الأثر» : (وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فبعث في آثارهم عشرين فارسا، واستعمل عليهم كرز «1» بن جابر الفهري، فأدركوهم وأحاطوا بهم، فأسروهم وربطوهم، وأردفوهم على الخيل، حتى قدموا بهم المدينة قال: كانت اللّقاح خمس عشرة غزارا، فردوها إلى المدينة، ففقد رسول الله صلى الله عليه وسلم منها لقحة، فسأل عنها، فقيل: نحروها) .
,
(فاقتص منهم النّبيّ) صلى الله عليه وسلم بأن سمر «2» أعينهم، وقطع أيديهم، وأرجلهم، وتركوا في ناحية الحرّة.
__________
(1) كرز هذا هو الذي أغار على سرح المدينة قبل أن يسلم، فهداه الله للإسلام، كما ذكر أوّل الكتاب، واستشهد يوم فتح مكة.
(2) بتخفيف الميم، وروي بشدها، قال الحافظ المنذري: (الأوّل أشهر وأوجه) اهـ
حتى ماتوا على حالهم.
وفي لفظ عند البخاري: (وسمروا أعينهم- أي:
كحلوها بالمسامير المحمية- ثمّ نبذوا في الشمس حتى ماتوا) .
وإنّما فعل صلى الله عليه وسلم بهم ذلك (أن) أي:
لأنّهم (مثّلوا بعبده) صلى الله عليه وسلم، ولفظ الأصل:
(مولاه) ، لكن وقع بلفظ العبد عند ابن إسحاق، قال:
(أصابه في غزوة بني ثعلبة) .
وفي «المواهب» : (روى ابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال: كان للنّبيّ صلى الله عليه وسلم مولى يقال له:
يسار، فنظر إليه يحسن الصلاة، فأعتقه، وبعثه في لقاح له بالحرة، فكان بها، قال: فأظهر قوم الإسلام من عرينة، وجاؤوا وهم مرضى موعوكون قد عظمت بطونهم، وغدوا على يسار فذبحوه، وجعلوا الشوك في عينيه وهو حيّ، فبعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم في آثارهم خيلا من المسلمين، أميرهم كرز بن جابر الفهري، فلحقهم، فجاء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم) قال ابن كثير: حديث غريب جدا. وقال الزرقانيّ: (وقد رواه الطّبراني بإسناد صالح كما في «الفتح» فلو عزاه له.. لكان أولى.
(ومقلتيه) معمول لقوله: (سملوا) بفتح الميم من باب دخل؛ أي: سملوا، وفقؤوا مقلتيه، قال أنس: (إنّما سمل
رسول الله صلى الله عليه وسلم أعينهم؛ لأنّهم سملوا أعين الراعي) رواه مسلم، فيكون ما فعل بهم قصاصا، كما قال الناظم: (فاقتص) لا مثلة؛ فإنّها ما كانت ابتداء بغير جزاء.
فإن قيل: قد تركهم يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا عطشا.. قلنا: عطّشهم؛ لأنّهم عطشوا أهل بيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم تلك الليلة من لقاحهم، وقد دعا صلى الله عليه وسلم بالعطش على من عطّش آل بيته، كما رواه النسائي «1» .
وقد أشار إلى هذه السّرية الشيخ غالي بن المختار في «تبصرة المحتاج» بأبسط ممّا هنا، وسماها بسرية كرز بن جابر الفهريّ بقوله:
فنجل جابر المنيف ذو العلا ... كرز بإثر نفر عدوا على
لقاح خير مرسل وقتلوا ... غلامه ومقلتيه سملوا
وإذ بهم أتي النّبيّ قطعا ... أيديهم ونعم ما قد صنعا
وقطع الأرجل ثم سملا ... أعينهم وردّهم ممتثلا
__________
(1) وقيل: عطّشهم؛ لكفرهم بنعمة سقي ألبان الإبل التي حصل لهم الشفاء بها من الجوع والوخم.
بجانب الحرّة يستسقونا ... لما أصابهم فلا يسقونا
,
وفي هذه القصة من الفوائد:
قدوم الوفد على الإمام ونظره في مصالحهم.
ومشروعية الطب والتداوي بألبان الإبل وأبوالها، وطهارة أبوالها، وهو حجة للإمامين مالك وأحمد ومن وافقهما على طهارة بول ما يؤكل لحمه نصا في الإبل، وقياسا في غيرها؛ وذلك أنّه أمرهم بالتداوي، وقد قال عليه الصّلاة والسّلام: «إنّ الله لم يجعل شفاء أمّتي فيما حرم عليها» رواه أبو داوود وغيره.
ومن قال بنجاسة الأبوال كلها حملوا الحديث على التداوي، فلا يفيد الإباحة حالة الاختيار، وإلّا فلا حرمة كالميتة، وقد يقال: إنّ ما ذكر لم يتعين طريقا للدواء، وفي حديث ابن عباس مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إنّ في أبوال الإبل شفاء للذّربة بطونهم» ما هو صريح بأنّها حالة اختيار، وهو يمنع حمل الحديث على ما ذكر، والذرب: فساد المعدة.
ومنها: أنّ كل جسد يطب بما اعتاد، وأنّ المدينة تنفي عنها الخبث؛ مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ المدينة كالكير، تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد» .
- وقتل الجماعة بالواحد، سواء قتلوه غيلة أو حرابة، إن قلنا: إنّ قتلهم كان قصاصا.
والمماثلة في القصاص، وأنّه ليس من المثلة المنهي عنها.
ومنها: العمل بقول القائف، وهو: الذي يعرف الآثار، وللعرب المعرفة التامة في ذلك.
وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون من بعده رضي الله عنهم بالقيافة، وجعلها دليلا من أدلة ثبوت النسب، والله أعلم.