__________
1 هذه السرية لا تدخل ضمن النطاق الجغرافي لهذا البحث ولكن بما أن ابن إسحاق قد ذكر أنها سرية استطلاعية توجهت إلى الغاية القريبة من المدينة، ثم تطورت الأحداث بعد ذلك حتى أصبحت من السرايا ذات المهمات الصعبة، وبسبب احتمال تعدد القصة أدرجتها هنا مجتهدًا توضيح أمرها، والله تعالى أعلم.
وقع الخلاف بين أهل المغازي في هذه السرية، فذكر الواقدي أنها كانت سرية (تعرُّضية) بقيادة أبي قتادة بن ربعي1 رضي الله عنه، وذكر فيها مشاركة عبد الله بن أبي حدرد رضي الله عنهما2 الذي جاء يستعين رسول الله صلى الله عليه وسلم على نكاحه، فأرسله مع هذه السرية إلى غطفان نحو نجد3 لعله يصيب مهر زوجته، وفعلاً غنموا في تلك السرية نَعَمًا كثيرة وغنما بحيث كانت سُهمَانهم اثني عشر بعيرا4، وقد أخرج الهيثمي رواية عن الإمام أحمد مشابهة تماما لرواية الواقدي5.
وكذلك أخرج الإمام مسملم في صحيحه6 رواية مشابهة غير أنه لم يذكر فيها اسم الصحابي المستعين برسول الله صلى الله عليه وسلم7، ولكن هناك بعض القرائن الدالة على وحدة القصة مثل التاريخ الذي ذكره الواقدي للسرية لا يتعارض مع
__________
1 أبو قتادة ربعي الأنصاري، مشهور أن اسمه الحارث، وجزم الواقدي وابن القداح وابن الكلبي بأن اسمه النعمان، وقيل اسمه عمرو، اختلف في شهوده بدرا، واتفقوا على أنه شهد أحدا وما بعدها، وكان يقال له: فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم. كانت وفاته بالكوفة في خلافة علي بعد أن شهد معه مشاهده، وقال خليفة: "ولاه على مكة". ابن حجر، إصابة (4/158-159) .
2 عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، أبو محمد، له ولأبيه صحبة، وقال ابن منده: لا خلاف في صحته، وقال ابن سعد: أول مشاهده الحديبية ثم خيبر، وقال ابن عساكر: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن عمر، روى عنه يزيد بن عبد الله بن قسيط، وأبو بكر محمد بن عمرو بن حزم، زابنه القعقاع، شهد الجابية مع عمر. قال المدائني والواقدي ويحيى بن سعيد وابن سعد: مات سنة إحدى وسبعين وله إحدى وثمانون سنة. ابن حجر، إصابة (2/294-296) .
3 عنون لها الواقدي بقوله (سرية خضرة أميرها أبو قتادة) .
4 انظر الواقدي، مغازي (2/777-780) .
5 انظر الهيثمي، مجمع (6/206-607) ، ولم أجد له هذه الرواية بنفس السياق في المسند، بل وجدت رواية مختصرة، فربما كانت هذه الرواية من الجزء الساقط من المسند، والله أعلم..
6 النووي على مسلم (9/210-211) .
7 اختلفت الروايات في تسمية الصحابي المستعين برسول الله صلى الله عليه وسلم فرواية ابن خياط والطبري عن ابن إسحاق، والواقدي، وابن حجر ورد اسمه عندهم (عبد الله بن أبي حدرد) ونسبته رواية ابن هشام إلى أبيه، بينما وقع اسمه في رواية أحمد، ورواية البيهقي عن ابن إسحاق (أبو حدرد الأسلمي) ولعل الخلاف وقع لكون كل منهما له صحبة، فلعله اشتبه على بعض الرواة فجعلهما واحدا، أو أن كلمة ابن سقطت من بعض النساخ فتلقفها من بعده أبو حدرد، وباعتبار أن كليهما له صحبة لم يشك في الأمر وأمضاه. والله تعالى أعلم.
إمكانية رواية أبي هريرة رضي الله عنه للخبر في الصحيح1.
كما أن منطقة عمليات السرية وهدفها الذي توجهت إليه يكاد يكون واحدا في كلا الروايتين، ففي رواية الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم بعثهم إلى بني عبس، وفي رواية الواقدي أنه بعثهم إلى غطفان نحو نجد، ومعلوم أن بني عبس من غطفان ومسكنهم في نجد2 فرواية الصحيح أخص وأدق من رواية الواقدي.
وكذلك كون المرأة من الأنصار في الروايتين، وتقارب قيمة المهر المدفوع فيهما هو مائتا درهم في رواية الواقدي، وأربع أواق في رواية الصحيح، وقد صرح ابن حجر في "الإصابة" في رواية مختصرة ولكنها مماثلة لرواية الصحيح –خاصة فيما يتعلق بقيمة المهر- أنه ابن أبي حدرد نفسه3.
فكل هذه القرائن4 تعطينا بعض الدلائل التي يمكن بواسطتها الحكم بوحدة القصة، وبالتالي ترجيح رواية الواقدي الموافقة للصحيح على رواية ابن إسحاق الضعيفة من الناحية الحديثية5 والتي يذكر فيها أن هذه السرية سرية استطلاعية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغابة6 بقيادة عبد الله بن أبي حدرد نفسه، وذلك
__________
1 لأن أبا هريرة رضي الله عنه لم يهاجر إلا بعد خيبر، والتاريخ الذي ذكره الواقدي للسرية هو شعبان سنة ثمان، كما أن ابن حجر قد ذكر أن أول مشاهد عبد الله الحديبية ثم خيبر.
2 انظر الكلبي، جمهرة النسب (414) .
3 ابن حجر، إصابة (2/295) .
4 استدل بعض أهل المغازي بقرينة واحدة هي عدد سهمان الجيش على جعل هذه السرية هي السرية التي خرج فيها ابن عمر رضي الله عنهما وجاء ذكرها في الصحيحين. انظر ابن سيد الناس، عيون (2/209) ، والشامي، سبل (6/290) ، وابن حجر، فتح (8/56) ، والزرقاني، شرح (2/284) .
5 وردت رواية ابن إسحاق بثلاث صيغ إحداها مبهمة أخرجها ابن هشام، والثانية منقطعة أخرجها البيهقي، والثالثة متصلة أخرجها عنه الطبري بسند ضعيف، فكل الروايات الثلاث لا تخلو من مقال. والله أعلم.
6 الغابة: هي أرض من مقصر جبل أحد إذا أكنع في قناة إلى الشمال، تشمل مدفع وادي النقمي في الخليل، ويمكن اعتبار الخليل كله من الغابة. البلادي، معجم (322) .
وينقل عبد القدوس الأنصاري مشاهداته عن الغابة فيذكر: أنها أرض ذات شجر متكاثف وبها شقوق هائلة غائرة في بطن الأرض، وأنه لاحظ بأطراف هذه الشقوق تقوم شجيرات الأثل والطرفاء القصيرة. عبد القدوس الأنصاري، آثار المدينة المنورة (ص 126-127) .
قلت: قد تغير حال الغابة الآن فلم تعد غابة كما كانت من قبل حيث دخل بعض أرضها في مزارع الخليل، والبعض الآخر أصبح أرضا جرداء فيها بقايا من الشجر الأثل القصير يحكي قصة الغابة المندثرة.
لاستطلاع خبر رجل من جشم بن معاوية يقال له رفاعة بن قيس –أو قيس بن رفاعة- كان قد أقبل "في بطن عظيم من جشم حتى نزل بقومه ومن معه بالغابة، يريد أن يجمع قيسًا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عبد لله بن أبي حدرد قد استعان برسول الله صلى الله عليه وسلم في صداق امرأة تزوجها وأصدقها مائتي درهم، فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعينه به، فلما أقبل هذا الرجل بقومه، استدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثه ورجلين معه في هذه السرية، وفي الغابة تطورت المهمة وباجتهاد من أصحاب السرية من الاستطلاع إلى هجوم ليلي مكثف على حاضر القوم بعد قتل صاحبهم رفاعة بن قيس فنجحوا في ذلك وفر الأعراب بنسائهم وأطفالهم وما خف من أموالهم تاركين نَعَمًا كثيرة خلفهم1.
وساق الطبري الروايتين تحت عنوان (سرية وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان أميرها أبو قتادة) 2.
أما بقية أهل المغازي فمنهم من تابع ابن إسحاق3، ومنهم من تابع الواقدي4. وفرق بنهما ابن سيد الناس، فساق روايتي ابن إسحاق والواقدي في مكانين مختلفين من كتابه باعتبار أنهما سريتان منفصلتان5.
بينما جمع الشامي كعادته بين روايات أهل المغازي وأهل الحديث، واعتبرها حادثة واحدة6.
أما الحلبي فبعد أن ساق الروايتين ذكر أن البعض اعتبرها قصة واحدة، ثم علق على ذلك بقوله: "ولا يخفى أن السياق في كل يبعد كونهما واحدة"7.
__________
1 انظر ابن هشام، سيرة (4/629) .
2 انظر الطبري، تاريخ (3/34-35) .
3 انظر خليفة بن خياط، تاريخ (185) ، والسهيلي، الروض (7/491-492) ، والبيهقي، دلائل (4/303) ، وابن القيم، زاد (2/150) ، وابن كثير، بداية (4/223-224) .
4 انظر ابن سعد، طبقات (2/132-133) ، لكنه لم يشر إلى مشاركة ابن أبي حدرد في السرية.
5 انظر ابن سيد الناس، عيون (2/209-211) .
6 انظر الشامي، سبل (6/287) .
7 انظر الحلبي، سيرة (3/206) .