...
الفصل الأول: "السرايا ذات المهمات الخاصة"
وتشتمل: سرايا تعقبيَّة – وهي:
1) سرية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى الخرَّار.
2) سرية كرز بن جابر رضي الله عنه لمطاردة المفسدين من الأعراب.
3) سرية حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه لمطاردة هبَّار بن الأسود وصاحبه.
4) سرية أبي عامر الأشعري رضي الله عنه إلى أوطاس.
وبعوث تعليمية، ودعوية –وهي:
1) بعث الرجيع.
2) بعث بئر معونة.
3) بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى بني جذيمة –دعوية.
وسرايا ذات مهمات أخرى –مثل:
1) سرية عبد الله بن غالب الليثي إلى بني الملوح –تأديبية.
2) سرية أبي قتادة بن ربعي إلى بطن أضم –تحويلية.
مقدمة
وتتوالى البعوث والسرايا النبوية على اختلاف مهماتها وأهدافها والتي تصب جميعا في بوتقة واحدة وهي بوتقة العقيدة، وتصهر لصالح خدمة الدعوة الإسلامية، كان منها سرايا تعقيبية اختلفت أهدافها وظروفها، منها ما كان لمطاردة الفارين من وجه العدالة مثل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لتعقُّب كرز بن جابر الفهري وأصحابه الذين أغاروا على سرح المدينة. ويمضي الزمن وتشاء قدرة الخالق عز وجل أن يكون المُتَعَقَّب متعقِّبًا، فهذا كرز بن جابر رضي الله عنه بعد أن يسلم يقود سرية مطاردة لتعقب المفسدين في الأرض من عكل وعرينة الذين قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم وفروا بلقاحه فيظفر بهم كرز رضي الله عنه ويقدِّمهم للعدالة الشرعية.
وكان منها سرية بعثها النبي صلى الله عليه وسلم لمطاردة هبَّار بن الأسود وصاحبه اللذين تعرضا لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي أعقاب هزيمة هوازن وثقيف في حنين يجهِّز رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية مطاردة تعقُّبية بقيادة أبي عامر الأشعري رضي الله عنه ويأمرهم بمطاردة فلول الهاربين من ميدان المعركة والقضاء عليهم قبل تجمعهم مرة ثانية حيث ينجح في مهمته ويستشهد في أرض المعركة.
وقد كانت هذه السرايا التعقُّبية في أغلب الأحيان عبارة عن دوريات
صغيرة القوة خفيفة الحركة، أوكلت إليها مهمات سريعة، وكان يتم تجهيزها بسرعة ومن أماكن مختلفة في بعض الأحيان من ميادين القتال، وقد تنجح هذه الدوريات في أهدافها القصيرة المدى (الوقتية) وربما لا تحقق ذلك، ولكنها على الراجح كانت تحقق الأهداف البعيدة المدى والتي يتمثل بعضها في إثارة الرعب في صفوف الأعداء وإشعارهم بيقظة المسلمين التامة لهم، وردع كل من تسول له نفسه الاعتداء على أي فرد من المسلمين في المستقبل، كما أن في دوريات المطاردة الميدانية بالغ الأثر في القضاء المبرم على فلول الأعداء الهاربين من أمام المسلين حتى لا يستطيعوا التحشد ثانية ضد المسلمين.
عندما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعقُّبه كرز بن جابر1 الذي أغار على سرح المدينة2، واستاقه معه –وادي سفوان من ناحية بدر3، وقد فاته كرز بالسرح، استنتج صلى الله عليه وسلم بذكائه العسكري المعروف أنه لن يستطيع اللحاق به بقوات قد تكون بطيئة الحركة نوعا ما في سيرها الاقترابي، لذلك جهَّز على الفور "دورية تعقُّبية"4 صغيرة، قوتها "ثمانية رهط من المهاجرين"5 وأسند القيادة فيها إلى رجل من أصحابه، معروف عنه سرعة البديهة في المناورة، وقد سبق له أن حقق نجاحا ملموسا على مستوى السرايا الاعتراضية
__________
1 كرز بن جابر حسل بن لاحب بن حبيب بن عمرو بن سفيان بن محارب بن فهر القرشي الفهري، كان من رؤساء المشركين قبل أن يسلم، استشهد في الفتح.
انظر ابن حجر، إصابة (3/290-291) .
2 السرح: المال السائم. (القاموس: سرح) .
3 سميت تلك الغزوة ببدر الأولى. انظر ابن هشام، سيرة (2/601) .
4 اختلف أهل المغازي في مهمة هذه السرية، وهل كانت اعتراضية أم تعقبية؟
فالواقدي وكاتبه ابن سعد ذكرا أن هذه السرية كانت اعتراضية. انظر الواقدي، مغازي (1/11) ، وابن سعد، طبقات (2/4) .
ولم يوضح ابن إسحاق مهمتها. انظر خليفة، تاريخ (62) ، وابن هشام، سيرة (2/600) ، والبيهقي، دلائل (2-13-14) .
أما ابن حزم، وابن عبد البر: فقد ذكرا أن هذه السرية كانت لتعقُّب كرز بن جابر الذي أفلت من النبي صلى الله عليه وسلم. انظر ابن حزم، جوامع (104) ، وابن عبد البر، درر (106) .
وفي اعتقادي أن ذلك هو الصواب، بناء على الوقت الذي خرجت فيه السرية وقوتها الصغيرة المناسبة لهذه المهمة التي لا تتطلب عددا كبيرا من القوات لأجل خفة الحركة في المسير الاقترابي، وابن حزم وابن عبد البر لم يوضحا مصدر معلوماتهما عن هذه السرية، ولكن غالب الظن أن مصدرهما هو مغازي موسى بن عقبة، الذي كثيرا ما يلخصان قوله. والله تعالى أعلم.
5 من رواية ابن إسحاق. انظر ابن هشام، سيرة (2/600) .
وقد اختلف في قوة السرية أيضا، فابن إسحاق وابن حزم وابن عبد البر: ذكروا أنهم كانوا ثمانية رهط فقط. ابن حزم، جوامع (104) ، وابن عبد البر، درر (106) .
أما الواقدي وابن سعد فقد ذكرا أن عددهم يتراوح ما بين العشرين إلى الواحد والعشرين فردا. انظر الواقدي، مغازي (1/11) ، وابن سعد، طبقات (2/7) .
وقد اتفق الجميع على أنهم كانوا جميعا من المهاجرين ليس فيهم أنصاري واحد.
التي سبقت هذه السرية، ذلكم هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه و"عقد له لواء أبيض حمله المقداد بن عمرو البهراني1"2.
وفي الحال3 انطلقت الدورية في إثر كرز بن جابر ومن معه لعلها تلحق بهم قبل أن يدخلوا منطقة نفوذ قريش وحلفائها الواقعة بعد الخرَّار الذي حذَّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجاوزته. ولكن كرزًا تمكن من الإفلات أيضا فلم يستطع سعد الإمساك بهم حتى منطقة "الخرَّار من أرض الحجاز"4 التي رجع منها.
__________
1 المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة البهراني، ثم الكندي، ثم الزهري حالف أبوه كندة، وتبناه الأسود بن عبد يغوث الزهري فنسب إليه، صحابي مشهور من السايقين، ولم يثبت أنه كان ببدر فارس غيره، هاجر الهجرتين وشهد بدرا والمشاهد بعدها، مات سنة ثلاث وثلاثين وهو ابن سبعين سنة. انظر ابن حجر، إصابة (3/454) ، وتقريب (545) .
2 من رواية ابن سعد، طبقات (2/7) .
3 اختلف أقوال أهل المغازي في تحديد تاريخ هذه السرية حيث جعلها الواقدي وكاتبه ابن سعد في السنة الأولى، وبالتحديد في شهر ذي القعدة على رأس تسعة أشهر من الهجرة. انظر الواقدي، مغازي (1/11) ، وابن سعد، طبقات (2/7) .
أما ابن إسحاق وابن حزم وابن عبد البر فأرَّخوا لها في السنة الثانية على خلاف بينهم في الشهر الذي أُرسلت فيه، فابن إسحاق ذكرها بعد غزوة العشيرة التي أرَّخ لها في جمادى الأولى. انظر ابن هشام، سيرة (2/599-600) . وقد خالفه ابن حزم وابن عبد البر، فذكرا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثها خلال غزوة بدر الأولى. انظر ابن حزم، جوامع (104) ، وابن عبد البر، درر (106) .
وذكر ابن هشام في زيادات السيرة عن بعض أهل العلم: "أن بعث سعد هذا كان بعد حمزة". وابن هشام، سيرة (2/600) .
وبتحليل الأقوال السابقة نرى أن الواقدي وكاتبه قد جعلا هذه السرية مع السريتين اللتين قبلها في السنة الأولى، وفي أشهر متتالية هي رمضان، شوال، وذي القعدة، وكان الهدف منها دائما عير قريش.
وإذا تمعَّنا في هذا القول جيدا عرفنا أنه يستلزم منه أن تكون هناك حركة قوافلية متتابعة إلى الشام بحيث تكون هناك أكثر من قافلة في الشهر؛ لأن الرحلة للقافلة في ذلك الوقت تستغرق شهرين ذهابا وإيابا من مكة إلى الشام، فهل يعقل أن تقدم قريش على إرسال هذا الكم من القوافل والحالة الأمنية لطريقها مهددة من قبل المسلمين؟
لذا فأنا أميل إلى قول من جعلها في السنة الثانية وخلال غزوة بدر الأولى، لأن ذلك يتناسب مع واجبها الذي انطلقت لأجله وهو تعقُّب كرز والسرح كما ذكرنا سابقا.
4 من رواية ابن إسحاق. انظر ابن هشام، سيرة (2/600) .
والخرَّار –بفتح أوله وتشديد ثانيه وبعده راء أخرى على وزن فعَّال- ماء لبني زهير وبني بدر، وهو واد بالحجاز يصب على الجحفة، وفيه آبار عن يسار الجحفة قريب من خمِّ، يقع شرق رابغ على قرابة خمسة وعشرين كيلاً. انظر ابن سعد، طبقات (2/7) ، والبكري، معجم ما استعجم (2/492) ، والبلادي، معجم معالم السيرة (112) .
امتثالاً لأمر القائد الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم1.
__________
1 الخبر رواه ابن إسحاق بلا سند، وذكره بعد غزوة العشيرة.
انظر خليفة، تاريخ (62) ، وابن هشام، سيرة (2/600) ، والبيهقي، دلائل (3/13-14) .
كما رواه ابن حزم، جوامع (104) ، وابن عبد البر، درر (106) بلا سند أيضا، وذكراها بعد بدر الأولى.
وقد اعتمدتُ روايتهما لمناسبتها لسياق الأحداث مع الإفادة من بعض المعلومات التي وردت في المصادر الأخرى.
وروى الواقدي وابن سعد الخبر بسياق يختلف كثيرا من حيث التاريخ، والهدف، والقوات المشاركة.
انظر الواقدي، مغازي (1/11) ، وابن سعد، طبقات (2/7) .
هذا وقد أوضحت هذا الاختلاف مع الترجيح فيما مضى –والله تعالى أعلم.