فدلّت الرسالة المحمدية بذلك على أنّ موقف الإنسان من هذا العالم موقف السيد الكريم ممّا سخّر له، وموقف المتوّج بتاج الخلافة الإلهية من كل ما هو مستخلف فيه، فالإنسان مكلّل بإكليل الجلال والعظمة، لا يفوقه شيء من موجودات الكون، والكون كلّه دون الإنسان، وهو نقطة دائرة العالم، وإنسان عينه، والغاية من خلق العالم، ولأجله جعلت الدّنيا.
ومما يثير العجب أن يركع الإنسان لمخلوق، أو يسجد لما هو دونه، أو يعبد شيئا خلقه الله له، وكيف يفعل الإنسان ذلك؛ وقد كرّمه ربه، وشرّفه، وفضله على جميع ما في العالم تفضيلا؟!
ولما جهل الإنسان قدر نفسه جعل يرفع رجالا من أمثاله فوق درجاتهم، ويحلّ أناسا في مكانة رفيعة لا يستحقونها، وقد كان يبلغ الأمر بالإنسان إلى أن يعبد الإنسان. أما رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم فقد عرّفت الناس بأقدارهم، وأنزلتهم منازلهم، وأعطت كلّ ذي حقّ حقه، فلم تنقص من حقّه شيئا، ولم ترفع أحدا من الناس فوق مكانته التي يستحقّها، فكما لم تحطّ عزيزا عن عزته الجدير بها؛ لم ترفع أحدا فوق المقام اللائق به، وبذلك دلّت الإنسان على شرفه وعلائه، وعلّمته أنّه مهما كان رفيعا، وذا سلطة وبأس؛ فإنه لن تبلغ به رفعته أن يعبد كما كان يريد الفراعنة أن يعبدوا، ومهما كان طاهرا عابدا متبتلا؛ فلا ينبغي لإنسان أن يركع له، أو يرجو منه ما لا يرجى إلا من الله، أو يخشاه كخشية الله، ومهما حاز من المال الكثير، والثراء العظيم؛ فليس له أن يستعلي بذلك على إخوانه من خلق الله. إنّ رسالة
محمّد صلّى الله عليه وسلم قد قطعت الفساد، واجتثت الشرّ من أصولهما، وأعلنت في الناس بوضوح وجلاء هذه الحقيقة: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران: 64] .
وأذاعت في العالم عن الأنبياء أنفسهم، وهم أسمى مراتب البشر أنّهم لا ينبغي لأحد منهم أن يقول للناس كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران: 79] .
ليس في عالم الشهادة أرفع قدرا من الأنبياء، ولا في عالم الغيب أعلى درجة من الملائكة، ومع ذلك لا يجوز أن يتخذ الناس أحدا من الأنبياء، أو الملائكة معبودين لهم وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً «1» [آل عمران: 80] .
فالرسالة المحمّدية رفعت مكانة الإنسان، وقد كانت منحطة من قبل، فصار لا يخضع، ولا يحني رأسه لغير الله، ولا يسجد إلا له، ولا يمدّ يده سائلا غيره؛ إذ لا معطي لمن منعه الله، ولا مانع لمن أعطاه الله وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف: 84] ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام: 57] ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الفرقان: 2] .
الإسلام وعقيدة التّوحيد:
ثمّ تأملوا أمر التوحيد بعد علمكم بأنّ الرسالة المحمدية رفعت درجة الإنسان، وعرفته بقدر نفسه، إنّ هذه الرسالة أوضحت حقيقة التوحيد، ورفعت عن وجهه الحجب الكثيفة، وأزاحت عنه ظلمات الشرك، فتجرّد من كلّ ما نسجته حوله أيدي الأوهام الباطلة، والعقائد الفاسدة، فليس في تعاليم الإسلام ما يدلّ على أنّ الله أشرك قيصر معه في الحكم، وأنّ قيصر حاكم مثله، فالإسلام محض الحكم كلّه لله، ليس لأحد فيه من نصيب، فله الحكم في السموات والأرض، وله الأمر فيهما.
__________
(1) سورة آل عمران: الآية: 80.
سادتي! إنّ الإنسان وقد اعتزّ بالخلافة الإلهية على الأرض، وارتشف كأس المحبّة لله وحده، هل يعقل أن يسجد بعد ذلك لغير الله، وهل يخامر قلب المؤمن بالله أيّ خوف من الظلمة، أو النور، ومن المياه، والرياح.
وهل يخشى ملكا عظيما، أو يوجس في نفسه خيفة من صحارى واسعة، أو جبال شامخة، أو أرض رحبة، أو بحار زاخرة، حتى يسجد لها، أو يدعو لها خوفا، أو طمعا، إنّ المؤمن لا يخشى إلا الله، ولا يبالي بغير الله، ولا يطمع في ثراء ثريّ، ولا يرجو غني إلا من الله الغنيّ عن كل شيء.
انظروا إلى تعاليم الإسلام كيف بلغت بالإنسان ذروة الشرف، وسنام المجد. وتأمّلوا كيف رفعت الرسالة المحمّدية المستوى البشريّ، ووجّهت المجتمع الإنسانيّ نحو الحق والخير.