استقر المهاجرون في المدينة المنورة، ودخل أغلب الأوس والخزرج في الإسلام، وتحولت المدينة كلها إلى مجتمع متكامل، خال من الصراع، بعيد عن الضلال والضياع واستسلم الجميع لحكم الله تعالى، وأنزلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم بما يليق به، فحكموه في كل ما عن لهم، وأخذوا برأيه في سائر ما وجههم إليه, وبذلك ظهر المجتمع الإسلامي بخصائصه، ومزاياه التي بعث الرسول صلى الله عليه وسلم لإيجادها في واقع الحياة، ولقد قدم هذا المجتمع صورة فريدة في دنيا الناس، لم تسبق، ولم تلحق، لقد صنع من الضعفاء قوة، ومن الفقر غنى، ومن التشرذم والضياع رجالا عرفوا الحقيقة، وتمسكوا بها، فعاش الحق لهم وسار بهم، وصاروا أمثولة رائعة، ومثالا تجريبيًا لمن يريد حياة الكرامة والعزة والرقي.
ومسلمو اليوم أحوج الناس إلى معرفة هذا المجتمع العظيم ليتأسوا به فهم خلوفه، وهو سلفهم ... وكل ما هم فيه من هوان وضياع يجب أن يعيدهم إلى ماضيهم الخالد عساهم أن يتذكروا، وعساهم أن ينتفعوا.
إن عوامل صناعة المجتمع المدني بعد الهجرة ليست أمورًا فوق الطاقة، ولكنها أمور تحتاج إلى الصدق معها، ولا بد فيها من إيمان يستلزم العمل بها، وإلى معرفة واضحة لمجموعة من الأشياء التي لا بد منها في الحياة الإسلامية وهي:
- معرفة الله تعالى معرفة تؤكد حقه على العبيد، وحق العبيد عليه ليقوم الناس بما عليهم، وينالوا ما لهم.
- تقرير مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، ومعرفة دور ما تركه من وحي في النشاط، والخلق، والسلوك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستقبل الوحي ليبقى فكرة مجردة، وإنما حولها بالإيمان إلى طاقة عملية، وحركة شاملة في أعمال الناس وأخلاقهم، وصبغ صلى الله عليه وسلم بما أنزل عليه كل الحياة في المدينة المنورة، لتتأسى به كل المجتمعات بعد ذلك.
- ضرورة التزام الإنسان بتعاليم الإسلام، وبخاصة الإنسان المسلم ... حتى لا يتحول الإسلام إلى فكرة للتثقيف المجرد، وليبق الدين كما كان في مجتمع المدينة، قواعد للسلوك، وضوابط للعمل، ومنهجًا يسير الأحياء، وينظم الحياة في كافة جوانبها، وحتى نستفيد بمجتمع المدينة المسلم نحاول الوقوف على ملامحه الرئيسية التي بها كان مجتمعًا إسلاميًا، وصار أسوة للناس أجمعين.
وأهم العناصر التي ظهرت في هذا المجتمع ما يلي:
,
استمر الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس في مكة ثلاثة عشر عامًا، مكتفيًا خلالها بالدعوة إلى العقيدة؛ لأنها أساس البناء الإسلامي، والركيزة الكبرى لإقامة المجتمع المسلم.
إن التنشئة الصحيحة تعتمد على العقيدة لاتصالها بالجانب الباطني في الإنسان ومن المعلوم أن الإنسان يتميز عن سائر الكائنات بهذا الجانب الهام، إذ به يتم التصور ويكون التصديق, وأي عمل خارجي ظاهر يحتاج إلى قرار باطني والإنسان الحر يعمل بما يؤمن به، ويتفق ظاهره مع باطنه دائمًا والمنافقون والضعفاء والمرضى والأرقاء هم الذين يفعلون عكس ما ينطقون، ويبطنون غير ما يظهرون وهذا حال يأباه دين الله تعالى.
إن الإنسان يقوده عقله، وهو الذي يسهل أمام صاحبه الصعب بعد اقتناعه ورضاه، وكثيرًا ما رأيناه من يقدم على إفناء الجسد وهو به راض سعيد، بصدور القرار من باطن مؤمن بفعل صاحبه.
لقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي المسلمين بالعقيدة حتى صفت نفوسهم، وسكن الإيمان قلوبهم، وصاروا عبيدًا للمعبود، واستسلموا لربهم الخالق العظيم، وحينئذ أتتهم الشريعة جزءًا جزءًا حسب أحوالهم، وحاجاتهم فأسرعوا إلى التطبيق، والالتزام العملي الدقيق.
لم يحدث مرة أن ترددوا في تنفيذ أمر أمروا به أو توقفوا عن ترك عمل أمروا بتركه ولو كان العمل هو حاجتهم، وكل نشاطهم.
والإيمان بالعقيدة هو الذي كون الجماعة الإسلامية الأولى في مكة قبل الهجرة.
ولم يكن عجبًا أن دار القرآن المكي كله حول بيان حقيقة العقيدة، وتوضيح أركانها، والاستدلال عليها بمختلف الأدلة لأنه بذلك صنع الأمة، وحقق في عالم الناس المجتمع الإسلامي العظيم.
فلما تمت الهجرة بدأت التشريعات تنزل، وأخذت التكاليف الإلهية تظهر، والمسلمون يسارعون إلى الطاعة والتنفيذ، ولذلك لم يكرر القرآن الكريم توجيهاته كثيرًا في أمر شرعي واحد ولم يدلل على حقيقتها، ولم يبرهن على أحقيتها، بل كان يكتفي غالبًا بمجرد الأمر أو النهي.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يترقبون الأمر ليتحول سريعًا إلى العمل، وإذا تضمن التوجيه نهيًا يظهر أثره قولا، ويختفي المنهي عنه حالا، وقد شملت التوجيهات الشرعية كافة الجوانب العملية في حياة الأفراد وسائر الناس.
وكانت مسارعة المسلمين للتلقى سببًا لتوجههم نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذون قوله وعمله، ويسألونه عما لا يعرفون، ويسمعون منه ما يريده صلى الله عليه وسلم وما ينزل عليه.
لقد تعلم الصحابة العقيدة، وآمنوا بها وهم في مكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة.
فلما تمت الهجرة بدأ الوحي يوضح الإحكام الشرعية لأفعال الناس واستمر ذلك حتى تمت الشريعة، فتم الإسلام بذلك وكمل الدين، ونزل قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} 1.
إن الأحكام الشرعية تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول:
الأحكام الشرعية المحددة المعروفة، وهي المتصلة بالعبادات المشروعة كالصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، وأحكام هذه العبادات مفصلة بأدلتها الشرعية وكذلك أحكام النكاح، والميراث، والفرق بين الزوجين، إلى غير ذلك مما ورد مفصلا في شريعة الإسلام.
ومن المعلوم أن الصلاة شرعت في ليلة الإسراء والمعراج على نحو ما سبق ذكره. وكان ذلك قبل الهجرة، ولم يتمكن المسلمون من إقامتها في جماعة، وكانوا يؤدونها
__________
1 سورة المائدة: 3.
في البيت الحرام، والكعبة محاطة بالأصنام والأوثان، فلما كانت الهجرة تأسس مسجد قباء، وهو أول مسجد بني في الإسلام يقول الله تعالى فيه: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} 1, وقد صلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه في هذا المسجد جماعة، وأقاموا به أول جمعة في الإسلام.
وبالنسبة للزكاة فقد شرعت بعد الهجرة بخمسة أشهر في إطار المواخاة التي نظمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار2.
وبالنسبة للصوم فقد شرع بعد الهجرة بثمانية أشهر بعد تحويل القبلة بشهر واحد، ومع تشريع الصوم شرعت زكاة الفطر، كما شرع الحج لما تيسر أداؤه بعد الحديبية، واستمرت أحكام هذه العبادات تنزل تباعًا، فكلما جد أمر نزل حكمه، وعندما يحتاج المسلمون لحكم جاء الوحي به.
القسم الثاني:
الأحكام الشرعية للعبادات غير المحددة وهي تشمل سائر أنشطة الإنسان في الحياة؛ لأن لكل جزئية حياتية حكم شرعي يضبطها.
وأنشطة الإنسان ليست ثابتة، ولكنها متغيرة متجددة، وللإيمان دخل فيها, فحياة الإنسان ومعايشه في تطور دائم، ولذلك قضت حكمة الله تعالى أن تنزل أحكام هذه العبادات في صورة مبادئ كلية، وقواعد عامة، حتى يتمكن العلماء من أخذ أحكام الحوادث الجديدة من القواعد والمبادئ وفق أصول علمية، وتبعًا لضوابط إسلامية لا بد منها في أي حكم مستنبط.
وفي إطار أحكام هذا القسم لا يمكن تصور مسألة ما بلا حكم شرعي إسلامي، وبذلك كان صلاح الإسلام لكل زمان ومكان.
لقد تم الإسلام في المدينة بعد الهجرة بعناصره جميعًا، وبرزت الأحكام الشرعية بجانب أحكام العقيدة، وتكامل حسنهما معًا بالأخلاق الإسلامية الكريمة.
__________
1 سورة التوبة: 108.
2 الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لابن كثير ص56.
وقد تميز الإسلام بمزايا عديدة، من أهمها ما يلي:
1- مراعاة الفطرة البشرية:
الفطرة هي الطبيعة الأولى التي خلق الله الإنسان عليها، والجبلة الحقيقية التي يتكون منها، والإسلام يراعي هذه الفطرة، وينميها، ويمكنها من مسارها الصحيح، وذلك ملحوظ في دوران كافة الأحكام الشرعية في إطار الطاقة البشرية، فلا يأمر الإسلام بمستحيل فعله، ولا ينهى عن فعل مستحيل تركه، بل كل ما جاءت به الشريعة يمكن عمله وتنفيذه، كما أن الاستقامة عليه تريح النفس، وترضيها.
إن الفطرة تجد راحتها حينما تصدق في طاعة دين الله تعالى، وتتلاءم معها وتسعد بها، وتتشوق للعمل الإسلامي إن تركته، وتبحث عنه إن بعد عنها.
إن الإسلام يعرف طريقه إلى النفس البشرية، يعرف مداخلها ومخارجها، فيسلك إليها على استقامة، ويعرف حاجاتها ومطالبها فيلبيها، ويعرف طاقاتها فيطلقها للعمل والبناء، وينمي الجوانب الإيجابية في النفس البشرية كالميل نحو الخير، وحب الأمن، وغلبة العدو، ويحارب الجوانب السلبية كسوء الخلق، والاندفاع نحو الشهوات المحرمة.
إن الإسلام نظام كامل للإنسان الذي يعيش على سطح هذه الأرض، يضع في اعتباره فطرته، وخصائصه النفسية، والعادية، والعقلية.
إن تعاليم الإسلام تلتقي مع الفطرة السوية، وتحقق لها سائر رغباتها، وتوجد معها الأمن والسعادة، وذلك لما فيها من حلول لكافة حاجات الإنسان، على وجه كامل تام.
3- الشمول:
ونعني بالشمول في الإسلام أنه يشرع للإنسان في كل حالاته، وفي مختلف قضاياه، يشرع له صغيرًا وكبيرًا، ذكرًا وأنثى، حيًا وميتًا، قويًا وضعيفًا، مريضًا وصحيحًا غنيًا وفقيرًا، حاكمًا ومحكومًا.
ويشرع له وهو فرد واحد، أو وهو في جماعة، بل ويشرع لعلاقة الجماعة مع غيرها وللأمة مع سواها.
إن الإنسان أينما كان يجد في شرع الله طلبه، ويعرف طريقه، وهو نوع من الإعجاز يشهد بربانية الشريعة، وإتيانها من عند الله تعالى.
ومن روعة هذا الشمول الاستمرارية، فهو دائم إلى يوم القيامة بلا خلل ولا نقص أبدًا لقد عاش المسلمون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم مع شريعة الله، واستقاموا على توجيهاتها بدقة، فوجدوا فيها حلا لكل قضاياهم، وتقدمًا في حياتهم فسعدوا، وعاشوا في بركات الله تنزل عليهم من فوقهم، وتأتيهم رغدًا من كل مكان.
يقول الله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} 1.
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} 2.
وقد تحقق للمسلمين ما وعدتهم به الآيات، فبعدوا بفضل الله تعالى عن الانحراف العقلي، والشقاء في الحياة، وأحاطتهم بركات الله من كل ناحية، وعاشوا آمنين سعداء.
__________
1 سورة طه: آية 123.
2 سورة الأعراف: 96.
ثانيًا: قيادة أمينة رائدة
أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيادة المجتمع الإسلامي في المدينة بمنهج الله تعالى، بعدما صار أكثر من فيها مسلمين.
وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يغذي أرواحهم بالقرآن المنزل عليه، ويقوي إيمانهم بالتقوى، ويعبدهم لله رب العالمين.
وقد تجلت عظمة القيادة في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عليه الصلاة والسلام كان يبلغهم كل ما ينزل عليه من ربه بمجرد نزوله، ويحضهم على الاهتمام بالقرآن الكريم ويقول لهم صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: الم حرف بل ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف" 1.
إن إقبال القلوب على القرآن الكريم يجعلها تعيش نوره، وتسعد بطاعته، وتعتز بهدى الله، ورضاه، لقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم كل ما نزل استجابة لأمر الله تعالى له في قوله
__________
1 زاد المعاد ج1 ص339.
سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 1.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول للناس {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 2.
لم يكتم صلى الله عليه وسلم أمرًا كلف بتبليغه، ولم يتقول على الله كلمة واحدة. وكانت أمانته بارزة لكل من عاشره فهو الأمين مع نفسه، ومع الناس، ومع الله.
وكان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على إسعاد الناس بالإسلام، وكثيرًا ما كان يتألم لانصراف البعض عن الإيمان، والتصديق.
يقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} 3.
ويقول سبحانه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} 4.
وكان الله تعالى يخفف عن الرسول حزنه وألمه لما كان يراه من بعد فريق عن الإيمان فيقول سبحانه: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} 5.
كان صلى الله عليه وسلم شديد الحب لأصحابه وأتباعه، وكثيرًا ما حذر من أي أذى يلحق بهم.
يقول صلى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه" 6.
ويقول صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي" 7.
__________
1 سورة المائدة: 67.
2 سورة الأنعام: 19.
3 سورة المائدة: 127.
4 سورة الكهف: 6.
5 سورة ق: 54.
6 صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، ج16 ص92.
7 صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، ج16 ص92.
وكان صلى الله عليه وسلم يزكي أهل التزكية منهم، ويصفه بما هو فيه، ويعلي قدره بين الناس. يقول صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر الصديق: "إن أمنّ الناس عليّ في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا" 1.
ويقول صلى الله عليه وسلم: "ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه بها، ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يدًا يكافئه الله تعالى بها يوم القيامة، وما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر، وما عرضت الإسلام على أحد إلا كانت له كبوة إلا أبا بكر، إلا أبا بكر".
ويقول صلى الله عليه وسلم عن عمر بن الخطاب: "قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم" 2.
ومن أقواله صلى الله عليه وسلم: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر.
وأشدهم في أمر الله تعالى عمر.
وأشدهم حياء عثمان.
وأقضاهم علي.
وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل.
وأفرضهم زيد بن حارثة.
وأقرؤهم أبي بن كعب.
ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح.
وما أظلت الخضراء -يعني السماء، وإظلالها تغطيتها لما تحتها- ولا أقلت الغبراء -يعني الأرض، وإقلالها حملها لما فوقها- أصدق لهجة من أبي ذر أشبه عيسى عليه السلام في ورعه" 3.
وكان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على أصحابه، رحيمًا بهم، عطوفًا عليهم، يتمنى أن لا يصيبهم أذى، فلم يأخذهم بظنه، ولم يسرع بعقوبة، أملا في مخرج لهم.
__________
1 صحيح مسلم بشرح النووي. ك فضائل أبي بكر ج15 ص150.
2 صحيح مسلم بشرح النووي فضائل عمر ج15 ص166.
3 الفتح الرباني باب فضل أبي ج22 ص370.
يروي مسلم بسنده أن ماعز بن مالك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني قد ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تطهرني فرده.
فلما كان من الغد أتاه فقال: يا رسول الله! إني قد زنيت فرده الثانية.
فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال: "أتعلمون بعقله بأسًا تنكرون منه شيئًا"؟.
فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى.
فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضًا فسأل عنه فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله.
فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم.
فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني, وإنه ردها فلما كان الغد قالت: يا رسول الله لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزًا فوالله إني لحبلى.
قال لها: "إما لا فاذهبي حتى تلدي". فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت: هذا قد ولدته. قال لها: "اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه". فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز, فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد، فسبها، فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها, فقال: "مهلا يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت" 1.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يسمح بالشفاعة في الحدود أبدًا بعد ثبوتها، والتأكد من وقوعها ولذلك لما أهم قريشا شأن المخزومية التي سرقت، وكلمه أسامة بن زيد رضي الله عنه -كطلبهم- قال له صلى الله عليه وسلم: "أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة"؟.
ثم قام فاختطب ثم قال: "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف, تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف، أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها" 2.
__________
1 صحيح مسلم كتاب الحدود باب حد الزنا ج11 ص202، 203.
2 صحيح البخاري كتاب الحدود باب كراهية الشفاعة في الحد ج10 ص273.
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يحب مع هذا درء الحدود عن المسلمين ما استطاعوا، ومن أقواله صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام إن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة" 1.
وكان صلى الله عليه وسلم يلتزم بفعل كل ما يأمر به، ويترك كل ما ينهى عنه، ويتحرك في مقدمة الجيش حين الغزو، ويقول لأصحابه ما قاله الله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} 2.
عاش صلى الله عليه وسلم بين أصحابه يربيهم بالقرآن ويدعوهم إلى الله تعالى، وقد هداه الله إلى مفاتيح القلوب بالحسنى ففتحها، واستمر يغذي نفوسهم بعظمة الإسلام، ونور الوحي حتى خرج حظ الشيطان من نفوسهم، وصاروا رجالا يعملون لله، ويوجهون الدنيا لسعادة الآخرة.
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي: لقد كان هذا الانقلاب الذي أحدثه صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين أغرب ما في تاريخ البشر، وقد كان هذا الانقلاب غريبًا في كل شيء: كان غريبًا في سرعته، وكان غريبًا في سعته وشموله، وكان غريبًا في وضوحه وقربه إلى الفهم, فلم يكن غامضًا، ولم يكن مدهشًا، ولم يكن شاذًا ككثير من الحوادث الخارقة للعادة، ولم يكن لغزًا من الألغاز يصعب إدراكه، والوقوف على أسراره وإنما كان انقلابًا قائمًا على فهم واع، وقناعة كاملة، وحب صادق متجذر في الوجدان، والضمير.
إنه حب لرسولهم الذي جاءهم من الله بدين الله يقول الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} 3.
إنه صلى الله عليه وسلم لم يدعهم لملك شخصي، أو مجد قومي، أو دنيا زائلة وإنما هداهم الله إلى الصراط المستقيم وعرفهم بطرق الخير، ووضعهم أمام حجة الله خالصة نقية، فكان منهم ما استحقه صلى الله عليه وسلم4.
__________
1 نفحات الحبيب الشفيع ص156.
2 سورة هود: 88.
3 سورة آل عمران: 164.
4 نفحات الحبيب الشفيع ص159.
ثالثًا: مؤمنون صادقون
صدق مجتمع المدينة في إيمانه بالله، وقدم أفراده صورة صحيحة عن الإسلام، وبدءوا يتلقون تعاليم الله تعالى التي جاء بها الوحي تلقيًا صحيحًا.
فلقد كانوا يهتمون بالقرآن الكريم والسنة النبوية حفظًا وفهمًا، ويحيطون بكل ما ينزل، ويعلمون ما يحمله من توجيه وأحكام، وإن غاب عنهم معنى سألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانوا يتلقون ما يأتيهم من الوحي بالعمل والتطبيق والتنفيذ، وبذلك كانوا صورة عملية للوحي المنزل، أحلوا حلاله، وحرموا حرامه بكل دقة وإخلاص.
وكان عملهم وفق تعاليم الله مصاحبًا للحب والرضى؛ لأنهم بهذا العمل يعيشون مع الشرع المحكم، ومع الله العزيز، ومع الحق المطلق الذي أنزله العليم الخبير.
وكان من إخلاصهم مع تعاليم الله أنهم طرحوا ما عداه فلم يأخذوا من مواريث فارس أو الروم، وإن تلاقى في بعض جزئياته مع تعاليم الله.
إن ما جاء من عند الله يكفيهم، وهم به سعداء، فلم يتركونه وهو الكامل إلى غيره وهو الناقص؟!!
ولم يتركونه, وقد التزموا بإسلامهم وعليهم أن يتمسكوا به؟!
ولم يتركونه، والترك يمثل خللا في إيمانهم، ونقصًا في تدينهم؟!
ولم يتركونه, وقد ثبت فضله، وتأكدت نتائجه؟!
إن تلقي هذه الجماعة المؤمنة للوحي المنزل كان قائمًا على معرفتهم بحقيقته، وإيمانهم بالواجب معه، وفهمهم لضرورة وضعه في المقام الذي هو جدير به.
إن الوحي هو كلام الله الذي نزل للناس ليكون دستور الحركة، وقانون الحياة، وهو يصور علامة فارقة بين حياة الجاهلية والحياة الإسلامية.
ولقد تلقى الصحابة الوحي بعقولهم، وأعمالهم، وسلوكهم، وأحوالهم، وصاروا به صناعة جديدة.
لم يتلفتوا معه إلى غيره مما صنعه البشر، ولو أتاهم من ممالك الأرض المشهورة -فارس والروم- لأنهم لا يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولم يخلطا الوحي بغيره لأنهم لو فعلوها لكانوا ظالمين لأنفسهم ولدينهم لأنهم حينئذ يساوون تعاليم البشر بتعاليم الله تعالى.
إنهم كانوا مع الله صادقين، وكانوا يعلمون أن أهل الباطل يعملون على إضلالهم، وإبعادهم عن الحق، في جرأة على الخير، واستهتار بالحقيقة، واستدلال قبيح يعتمد على البهتان والسوء.
إن منطق أعداء الله واضح في قيامه على الإفك، وبعده عن مسلمات العقل وبداهة الحكمة، إنها جرأة تقلب الأمور، وتجعل الحقائق أباطيل، بلا أدنى إحساس بالخجل والأسف مثل قوله تعالى عن قوم لوط إذا قال بعضهم لبعض: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} 1 فلقد جعلوا الطهارة والعفة تهمة يعاقب فاعلها بالطرد والنفي.
ومثل فرعون، وهامان، وقارون، إذ قالوا: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} 2.
ومثل قول فرعون إذا قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} 3 ومثل قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ
__________
1 سورة النمل: 56.
2 سورة طه: 63.
3سورة القصص: 38.
دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} 1 حيث نرى الآيات تبرز كلمات فرعون وهو يثبت أنه الإله، وأنه واضع الطريقة المثالية، وأن موسى عليه السلام داعية فساد, وأنه يعمل على صرف الناس عن دينهم الصحيح؟!
علمت الجماعة المؤمنة في المدينة المنورة كل هذا، وفهمت الإسلام حق الفهم ولذلك اقتصرت على الأخذ من وحي الله، وتركت ما عداه وإن تزين وتزخرف.
ولقد قدموا من أعمالهم وأخلاقهم المثاليات العوالي التي نتمنى أن نراها في دنيا المسلمين اليوم، ومن هذه الروائع:
- بايع بعض أصحابه صلى الله عليه وسلم أن لا يسأل الناس، فكان السوط يسقط من أحدهم، فينزل عن دابته فيأخذه ولا يقول لأحد: ناولنيه.
وكان من شدة حبهم وطاعتهم له صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم نهى أهل المدينة عن كلام الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، فما كان من الناس إلا أن أطاعوه صلى الله عليه وسلم، وأصبحت المدينة لهؤلاء الثلاثة غريبة، عجيبة، كأنها مدينة الأموات ليس بها من يكلمهم، أو يجيبهم، كأنها لا تعرفهم، وكأنهم في خصومة مع الجميع، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت.
يقول كعب بن مالك، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت لي نفس الأرض، فما هي الأرض التي أعرف.
ولقد مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحب الناس إليّ فسلمت عليه فوالله ما رد عليّ السلام.
فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟!
فسكت، فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم ففاضت عيني وتوليت حتى تسورت الجدار.
وكان من صدق طاعة كعب بن مالك وهو في المحنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
1 سورة غافر آية 26.
يأتيه ويقول له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك.
فيسأله: أطلقها أم ماذا أفعل؟
فيقول له الصحابي: لا، بل اعتزلها فلا تقربنها.
فيقول كعب لامرأته: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر وكان من حبه رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم وإيثاره على كل أحد في الدنيا، أن ملك غسان يخطب وده، ويستلحقه بنفسه، "وتلك محنة عظيمة" ولكنه يرفض ذلك.
ويقول كعب: بينما أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام لبيعه بالمدينة يقول: من يدلني على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له إليّ حتى جاءني فدفع إليّ كتابًا من ملك غسان، وكنت كاتبًا فقرأته، فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك.
فقلت حين قرأتها: وهذه أيضًا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرتها1.
ومن دقتهم رضي الله عنهم في طاعة شرع الله تعالى، ومسارعتهم في الامتثال أنه لما نزلت آية تحريم الخمر حرموها على أنفسهم للحظتها، يقول بريدة: بينما نحن قعود على مجلس شراب وعندنا باطية -إناء خمر- لنا ونحن نشرب الخمر حلالا، إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه، وقد نزل تحريم الخمر بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 2.
يقول بريدة: فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم، وبعض القوم شربته في يده، شرب بعضًا، وبقي بعض في الإناء، فألقوا بالآنية، ورموا ما في باطيتهم وقالوا: انتهينا
__________
1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب حديث كعب بن مالك ج8 ص86، 87.
2 سورة المائدة: 90-91.
ربنا, انتهينا ربنا! 1.
يقول أنس بن مالك: إني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانًا وفلانًا إذ جاء رجل فقال وهل بلغكم الخبر؟
فقالوا: وما ذاك.
قال: حرمت الخمر.
قالوا: أحرق هذه القلال يا أنس.
فما سألوا عنها، ولا راجعوها بعد خبر الرجل2.
وعن أبي هريرة قال: حرمت الخمر ثلاث مرات، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} 3, فقال الناس ما حرم علينا إنما قال فيهما إثم كبير، وكانوا يشربون الخمر حتى إذا كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين أم الصحابة في المغرب خلط في قراءته فأنزل الله فيه آية أغلظ منها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} 4, وكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق، ثم أنزلت آية أغلظ من ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 5 فقالوا: انتهينا ربنا.
ووصل الصدق في التسليم والخضوع إلى أن الواحد منهم كانت تتشابه لحظة ضعف
__________
1 انظر سنن النسائي ج8 ص253.
2 صحيح البخاري كتاب التفسير باب إنما الخمر والميسر ج7 ص197.
3 سورة البقرة: 219.
4 سورة النساء: 43.
5 سورة المائدة: 90، 91.
فيأتي لرسول الله مقرا بفعله لينال العقاب الذي حدده الله تعالى، وقد يكون في العقاب إزهاق روحه، وذلك كما فعل ماعز والغامدية إذ جاء للرسول وأقرا بالزنا وهما محصنان فرجمهما عليه السلام1.
إن هذا المجتمع الذي أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقيدة الإسلامية كان صورة صادقة لتعليم الإسلام وتطبيقاته، فكل من فيه صدق إيمانه، وقويت عقيدته، وعبد نفسه للمعبود العظيم.
إن الأمة الإسلامية التي أخرجت للناس قد بلغت الأوج، كانت تعمل لله، وتجاهد لله، وتسعى إلى غايتها المرموقة في حب وثقة، التفت حول نبيها التفاف التلامذة بالمعلم، والجند بالقائد، والأبناء بالوالد الحنون.
وتساندت فيما بينها، بالأخوة المتبادلة المتناصرة، فهم نفس واحدة في أجسام متعددة، ولبنات مشدودة، في بناء منسق صلب.
وأدارت علاقتها بالآخرين على العدل والبر، فليس يظلم في جوارهم بريء، أو يحرم من ألطافهم عان أو يؤاخذ أحدهم بذنب غيره، أو يعطي لواحد ما يستحقه غيره من ثواب.
وبرغم ما وقع على المؤمنين من بغي قديم، فقد جعلت الإسلام يجب ما قبله، فمن تطهر من جاهليته، وتاب إلى ربه لا ينظر أحد إلى ماضيه، بل يصير في الجماعة المسلمة عضوًا كريمًا فيها، يملأ بصالح عمله كتابه الجديد.
أما الذين بقوا يكفرون ويصدون، فلا بد من الإعداد لهم، حتى تخلص الأرض من كفرهم وصدهم.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا، إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} 2.
كانت هذه الأمة تكدح لله، وتصل مساءها بصباحها في عبادته، وقد حزمت أمرها على واحد من اثنين، إما أن تحيا لله، وإما أن تموت فيه.
__________
1 الفتح الرباني ج18 ص85 وانظر تفصيل ذلك في ص212.
2 سورة النساء الآيتان 168، 169.
ولو ذهبت توازن بين المسلمين يومئذ وبين سائر أمم العالم لرأيت عناصر الغلب والامتياز تتجمع لديهم صاعدة، على حين تفور في كيان الأمم الأخرى زلازل عنيفة، فلا غرو إذا صاروا بعد سنوات معدودات دولة فتية تقضي لربها ولنفسها ما تشاء.
وقد وضع صلى الله عليه وسلم من سلوكه مبادئ للعلاقات بين الناس لتحقيق المصلحة للجميع، وتأكيد الأمن لكل فرد.
إن التزام الأمة بتطبيق الإسلام تطبيقًا كاملا واعيًا أبرز كافة عناصر الخير في الإسلام، وحول المسلمين من جماعة همجية إلى أمة متماسكة تسير بالعدل، وتصون الحقوق، وتحفظ الكرامة الإنسانية، وتوجد الأمن والسلام والسعادة، بصورة أصلية ثابتة، وهذا الحال للأمة المسلمة جعل غير المسلمين ينظرون بحب وإعجاب إليهم، ويتمنى أن يكون مثلهم، ولذلك سارع الناس إلى اعتناق الإسلام رغبة، واقتناعًا بعدما شاهدوا تطبيقًا عمليًا بآثاره ونتائجه.
إن الجماعة المؤمنة التي صاحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشت حياتها مجاهدة في سبيل الله فتحركه إلى سائر الآفاق ومعها المصحف والسيف, واستمرت على ذلك حتى تمكنت من صناعة أمة عظيمة تنشر العدل، وتحمي السلام، وتصون الحقوق، وتضمن الكرامة لكل الناس، وقد اعترف الجميع بما نشرته من خير وإصلاح للعاملين.
رابعًا: التفاعل التام بين المسلمين والإسلام
لما تمت الهجرة إلى المدينة المنورة، صار للإسلام دولة تؤمن به، وتؤازره، وتدعو إليه وصدق المسلمون فيما عاهدوا الله عليه، فتحولت مظاهر الحياة، وكل الأنشطة وسائر المؤسسات إلى شريعة إسلامية تتحرك مع الناس وبهم في صورة عملية تعبر عن دين الله تعالى، وتؤكد التفاعل العظيم بين تعاليم الله وبين المؤمنين الصادقين.
وكان المسجد هو أول المؤسسات الدينية التي أقامها المسلمون في المدينة، فلقد أسس الرسول صلى الله عليه وسلم مسجد قباء وهو في الطريق إلى المدينة, ولما وصل إليها ونزل في دار أبي أيوب الأنصاري أسس المسجد الحرام بالمدينة، واتخذه المسلمون دار عبادتهم،
وسياستهم، ففيه كان ينزل الوحي، وفيه يجتمع الأصحاب برسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده التقى الوفود برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه تتحرك الوسائل، وينطلق الدعاة، وتجهز الجيوش.
لقد أصبح المسجد هو بيت الإسلام في المدينة، وبخاصة بعد أن شرع الله الأذان يدوي في الآفاق خمس مرات في اليوم والليلة، ويتردد صداه في الأفق البعيد.
ويعلم القاصي والداني أن أمة الإسلام عزيزة كريمة تعلن حقيقتها بصوت جهوري مكرر واضح المعالم بين معروف، فالله ربهم وهو الكبير المتعال، ومحمد هو رسولهم، والمبعوث بدين الله فيهم، وهو رائدهم إلى الفوز والفلاح، وإمامهم في الصلاة، وحياتهم هي الإسلام كله.
يقول ابن إسحاق: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها أن يجعل لها بوقًا كبوق اليهود الذين يدعون به لصلاتهم ثم كرهه، ثم أمر بالناقوس ليضرب به للمسلمين للصلاة، فبينما هم على ذلك إذ رأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه رضي الله عنه أخو الحارث بن الخزرج النداء، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله، إنه طاف بي هذه الليلة طائف؛ مر بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسًا في يده فقلت له، يا عبد الله أتببيع هذا الناقوس؟
قال: وما تصنع به؟
قلت: ندعو به إلى الصلاة.
قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟
قلت: وما هو؟
قال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.
فلما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها لرؤيا حق، إن شاء الله, فقم مع بلال فألقها
عليه، فليؤذن بها، فإنه أندى صوتًا منك".
فلما أذن بها بلال سمعها عمر بن الخطاب، وهو في بيته فخرج على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يجر رداءه، وهو يقول: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلله الحمد على ذلك" 1.
لقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فصارت الأخوة رباطًا يربط المسلم بأخيه، ويلزمه بواجبه نحوه، ويجعل العلاقة بينهما كلها حب، وبر، وتكريم، وعلت أخوة العقيدة على أخوة النسب والمصاهرة، وخلا المجتمع من أي صورة غير إسلامية في أي ناحية من نواحي الحياة وأصبح الكل يحافظ على دين الله تعالى بلا مخالفة، أو تردد، ويكتفي به كفاية يعيش بها، ويعمل لها حتى أن أهل الذمة أقروا بحق الله عليهم، واستسلموا لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاشوا بعهد الذمة آمنين في الدولة المسلمة، ولم يتمردوا على المسلمين إلا بعد أن لعب بهم الهوى، وأضلهم شيطانهم، وكان الله لهم بالمرصاد، فدل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبة أنفسهم، فكان أن طهر الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة منهم حتى صارت مدينة خالصة لله ورسوله وأخذت عناصر تنظيم المجتمع تتفاعل، وتؤدي دورها في إطار منهج الله تعالى:
- فالإسلام هو المحرك للحياة، والأحياء.
- والرسول هو رائد الخير، وقائد الناس.
- والمسلمون هم الصورة العملية لدين الله تعالى.
وبذلك قام المجتمع الإسلامي، وظهرت معالمه، واستحق أن ينزل في وصفه قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} 2.
واطلع الله على قلوب وأعمال الجماعة المؤمنة فكان معهم بالنصر، والتأييد، ويسر لهم بقدرته أمر الحياة والمعاش وخصهم بما استحقوه من العون، والتوفيق، والسداد.
__________
1 السيرة النبوية ج1 ص805.
2 سورة آل عمران الآية 110.
,
تمهيد:
سيرة النبي صلى الله عليه وسلم زاد وفير للإنسانية كلها، وللمسلمين على الخصوص.
فهو صلى الله عليه وسلم صورة شاملة للإسلام، يجمع كل حقائقه، ويوضح كافة جوانبه، جعله الله تعالى منبع العلوم والمعارف، وخصه بنزول الوحي والتنزيل، ووكله بجبريل عليه السلام يلقي إليه القرآن، ويوحي إليه بالأحاديث, وكل باحث عن شيء في الإسلام فمرجعه رسول الله، ومصدره ما أوحي إليه صلى الله عليه وسلم.
وهو صلى الله عليه وسلم تطبيق عملي للوحي المنزل، وتجسيد بشري لتعاليم الله تعالى، فعمله حجة، وسلوكه طريق، ومعاشه وحياته أسوة للناس أجمعين.
ولم يكن اهتمام علماء المسلمين بالسيرة النبوية إلا إبرازًا لمناط الأسوة والقدوة نظريًا وعمليًا، ولتبقى بين العالمين منارة هدى، ومصدر إشعاع وخير.
وحين أعانني الله تعالى على كتابة السيرة النبوية حاولت أن ألم بأحداثها جميعًا لتكون صفحة واضحة أمام من يطلع عليها لدرجة تغنيه عن أمهات الكتب، والمصادر القديمة للسيرة النبوية مع الإشارة إلى ما يستفاد من أحداثها واضعًا الحدث في صورته الناطقة بدوره في تحقيق الخير وصيانة الحقوق، وحاولت بعد ذلك أن أكتب بعض الركائز المفيدة للدعاة المعاصرين، ولكافة المسلمين، حتى لا تنقطع الأمة المسلمة عن ماضيها، وبذلك تعيش الحاضر بروح الماضي، وتعيد الماضي في صورة العصر الحديث.
وليعلم الجميع أنه لا جديد عن الدعوة إلى الله تعالى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل ما جاء بعد عصره صلى الله عليه وسلم فهو مستمد منه وراجع إليه.
وكل مسلم يبتعد عن رسول الله فهو بعيد عن الحق والصواب.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك للناس الإسلام حقيقة كاملة خالية من العوج والاضطراب وترك أمته تطبق الإسلام وتتلزم به, وعرفهم أن الفوز والفلاح في اتباع وحي الله تعالى، والالتزام الدقيق بالإسلام.
وقد أوجب الله تعالى الدعوة إلى دينه سبحانه وتعالى وكلف الأمة الإسلامة بأن تبلغ الإسلام للناس بالكيفية التي دعا بها رسول الله وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين.
وفي هذا الفصل أورد أهم الركائز المستفادة من سيرة رسول الله في المدينة المنورة وذلك في المباحث التالية:
,