وإذا كانت هذه هي الحقيقة التاريخية في شأن هذا النظام الذي كان قائما في بلاد العرب يظلّه علم الشرك والوثنية، فهناك أيضا حقيقة تاريخية أخرى مستمدّة من حياة الرسول. فهو قد أنفق منذ بعثه الله برسالته ثلاث عشرة سنة حسوما يدعو الناس فيها إلى دين الله بالحجة ويجادلهم بالتي هي أحسن. وهو فيما قام به من غزوات لم يكن معتديا قط، وإنما كان مدافعا عن المسلمين دائما، مدافعا عن حرّيتهم في الدعوة إلى دينهم الذي يؤمنون به ويضحّون بحياتهم في سبيله. هذه الدعوة القويّة إلى قتال المشركين على أنهم نجس، وأنهم لا عهد لهم ولا ميثاق، وأنهم لا يرعون في مؤمن إلّا ولا ذمة، وإنما نزلت بعد آخر غزوة غزا النبيّ: تبوك، فإذا حلّ الإسلام ببلاد تفشى فيها الشرك وحاول أن يقيم فيها هذا النظام الاجتماعي والاقتصادي الهدّام الذي كان قائما في شبه الجزيرة حين بعث النبيّ، فدعا المسلمون أهلها إلى ترك هذا النظام، وإلى الأخذ بما أحلّ الله وتحريم ما حرّم فلم يذعنوا، فليس من منصف إلا يقول بالثورة عليهم، وبقتالهم حتى تتم كلمة الحق، وحتى يكون الدين كله لله.
ولقد أثمر هذا الذي تلا عليّ من «براءة» وما نادى في الناس بألا يدخل الجنة كافر، وبألا يحجّ بعد العام مشرك، وبألا يطوف بالبيت عريان، خير الثمرات، وأزال كل تردّد من نفوس القبائل التي كانت ما تزال متباطئة في تلبية دعوة الإسلام.
وبذلك دخلت في الإسلام بلاد اليمن ومهرة والبحرين واليمامة، ولم يبق من يناوئ محمدا إلا عددا قليلا أخذتهم العزة بالإثم وغرّهم بالله الغرور. من هؤلاء عامر بن الطفيل الذي ذهب مع وفد بني عامر ليستظّلوا براية الإسلام، فلما كانوا عند النبيّ امتنع عامر ولم يسلم، وأراد أن يكون للنبي ندّا. وأراد النبيّ أن يقنعه كيما يسلم، فأصرّ على إبائه، ثم خرج وهو يقول: أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا قال محمد:
اللهمّ اكفني عامر بن الطفيل! وانصرف عامر يريد قومه، وإنه لفي بعض الطريق إذ أصابه الطاعون في عنقه
وقضى عليه وهو في بيت امرأة من بني سلول؛ قضى عليه وهو يردّد: «يا بني عامر! أغدّة كغدّة البعير وموتة في بيت سلوليّة!» . أمّا أربد بن قيس فقد أبى أن يسلم وعاد إلى بني عامر ولم يطل به المقام بل أحرقته صاعقة حين خرج على جمل له يبيعه. ولم يمنع إباء عامر وأربد قومهما من أن يسلموا. ومن هؤلاء بل هو شرّ منهم مكانا مسيلمة بن حبيب؛ فقد جاء في وفد بني حنيفة من أهل اليمامة وخلّفه القوم على رحاهم وذهبوا إلى رسول الله فأسلموا وأعطاهم النبيّ، فذكروا له مسيلمة، فأمر له بمثل ما أمر للقوم، وقال: أما إنه ليس بشرّكم مكانا؛ وذلك لحفظه رحال أصحابه. فلمّا سمع مسيلمة قولهم ادّعى النبوة، وزعم أن الله أشركهن مع محمد في الرسالة، وجعل يسجع لقومه ويقول لهم فيما يقول محاولا مضاهاة القرآن: «لقد أنعم الله على الحبلى. أخرج منها نسمة تسعى. من بين صفاق وحشا» : وأحلّ مسيلمة الخمر والزنا، ووضع عن قومه الصلاة، وانطلق يدعو الناس إلى تصديقه. فأمّا من عدا هؤلاء من العرب فأقبلوا يدخلون في دين الله أفواجا من أطراف شبه الجزيرة، وعلى رأسهم رجال من أعزّ الرجال من أمثال عديّ بن حاتم وعمر بن معدي كرب. وبعث ملوك حمير رسولا بكتاب منهم إلى النبي يعلنون فيه إسلامهم فأقرّهم عليه وكتب إليهم بما لهم وما عليهم في شرع الله. فلما انتشر الإسلام في جنوب شبه الجزيرة، بعث محمد من السابقين إلى الإسلام من يفقههم في دينهم ويثّبتهم فيه.