وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس تواضعًا، ومن تواضعه الأمثلة الآتية:
_________
(1) مسلم 4/ 2001، برقم 2588.
(2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 16/ 142.
(3) مسلم مع النووي 16/ 173، برقم 2620، ولفظه "فمن ينازعني عذبته".
,
ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة فقد كان متواضعًا في دعوته للناس.
المثال الثاني: وصف أبي مسعود لتواضعه صلى الله عليه وسلم: عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فكلَّمه فجعل ترعُد فرائصُهُ فقال له: هوِّن عليك نفسك فإني لستُ بِمَلِكٍ، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد» وزاد الحاكم في روايته عن جرير بن عبد الله: ". . . في هذه
_________
(1) البخاري مع الفتح 11/ 340، برقم 6501.
البطحاء"، ثم تلى جرير {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] (1).
فعلى جميع الناس أن يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان متواضعًا في دعوته مع الناس، فكان يمر بالصبيان فيسلم عليهم، وتأخذه بيده الأمة فتنطلق به حيث شاءت، وكان في بيته في خدمة أهله، ولم يكن ينتقم لنفسه قط، وكان يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب الشاة لأهله، ويعلف البعير، ويأكل مع الخادم، ويجالس المساكين، ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما، ويبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه ولو إلى أيسر شيء، فكان متواضعًا من غير ذلة، جوادًا من غير سرف، رقيق القلب رحيمًا بكل مسلم خافض الجناح للمؤمنين، لين الجانب لهم (2) صلى الله عليه وسلم.
_________
(1) ابن ماجه، برقم 3312، والحاكم 2/ 466، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 3/ 128، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 4/ 497، برقم 1876، سورة ق، الآية: 45.
(2) انظر: مدارج السالكين لابن القيم 2/ 328 - 329.
المثال الثالث: تفضيله صلى الله عليه وسلم للأنبياء على نفسه: «وقال له رجل: يا خير البرية! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك إبراهيم عليه السلام» (1) وقال صلى الله عليه وسلم: «ما ينبغي لأَحدٍ أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متَّى» (2).
ولاشك أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والمرسلين، وسيد الناس أجمعين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد الناس يوم القيامة» (3) وقال صلى الله عليه وسلم: (4).
ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم: أنه لم يكن له بوَّابٌ يحجبه عن الناس (5) وكان يرقي المرضى ويدعو لهم، ويمسح رأس الصبي ويدعو له (6) وكان يشفع لأصحابه، ويقول: «اشفعوا
_________
(1) مسلم، برقم 1369.
(2) البخاري، برقم 4630، ومسلم، 4/ 1846، برقم 2376.
(3) البخاري، برقم 3340 و3361 و4712، ومسلم، برقم 194.
(4) أبو داود برقم 4763 وصححه الألباني، 3/ 138.
(5) البخاري، برقم 1283.
(6) البخاري، برقم 7210.
تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء» (1) وقال لأنس رضي الله عنه: يا بُنَيَّ على سبيل الملاطفة والتواضع (2).
ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم: «أن رجلًا كان يَقمُّ المسجد أو امرأة سوداء، فماتت أو مات ليلًا، فدفنه الصحابة، ففقدها النبي صلى الله عليه وسلم أو فقده، فسأل عنها أو عنه، فقالوا: مات، قال: "أفلا كنتم آذنتموني" فكأنهم صغَّروا أمرها أو أمره، فقال: "دلُّوني على قبرها" فدلوه فصلى عليها ثم قال: "إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل ينوِّرها لهم بصلاتي عليهم» (3).
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: «خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أفٍّ قط، وما قال لشيء صنعته لم صنعته؟ ولا لشيء تركته لم تركته؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خُلُقًا. . .» (4).
_________
(1) البخاري، برقم 1432، ومسلم، برقم 2627.
(2) مسلم، برقم 2151، 2152.
(3) مسلم، برقم 956.
(4) البخاري بنحوه برقم 6038، والترمذي بلفظه في الشمائل كما تقدم تخريجه.
المبحث الحادي عشر
حلمه وعفوه صلى الله عليه وسلم
بلغ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حلمه، وعفوه في دعوته إلى الله - تعالى - الغاية المثالية، والدلائل على ذلك كثيرة جدًّا، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي:
المثال الأول: مع من قال: هذه قسمة ما عُدِلَ فيها: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «لما كان يوم حنينٍ آثر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أُناسًا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عُيَينة مثل ذلك، وأعطى أُناسًا من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة، قال رجل: والله إن هذه القسمة ما عُدِلَ فيها، وما أُريدَ بها وجه الله، فقلت: والله لأُخْبَرِنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم. فأتيته فأخبرته، فقال: فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟! رحم الله موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» (1).
_________
(1) البخاري مع الفتح بلفظه، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلَّفة قلوبهم وغيرهم من الخُمس 6/ 251، برقم 3150، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلّفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه 2/ 739، برقم 1062.
وهذا من أعظم مظاهر الحلم في الدعوة إلى الله - تعالى - وقد اقتضت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم تلك الغنائم بين هؤلاء المؤلَّفة قلوبهم، ويُوكِلَ من قلبه ممتلئ بالإيمان إلى إيمانه (1).
المثال الثاني: مع من قال: كُنَّا أَحَقَّ بهذا: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «بعث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى رسول الله من اليمن بذهيبة (2) في أديم مقروظ (3) لم تحصل من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن بدر (4) وأقرع بن حابس، وزيد الخيل (5) والرابع إما علقمة (6) وإما عامر بن الطفيل،
_________
(1) انظر: فتح الباري، شرح صحيح البخاري 8/ 49.
(2) أي: ذهب. انظر: فتح الباري 8/ 68.
(3) مدبوغ بالقرظ. انظر: فتح الباري 8/ 68.
(4) وهو عيينة بن حصن بن حذيفة، نسب لجده الأعلى. الفتح 8/ 68.
(5) زيد الخيل بن مهلهل الطائي، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - زيد الخير، بالراء بدل اللام. انظر: فتح الباري 8/ 68.
(6) ابن علاثة العامري، أسلم وحسن إسلامه، واستعمله عمر على حوران، فمات بها في خلافته. انظر: فتح الباري 8/ 68.
فقال رجل من أصحابه: كُنَّا نحن أحقُّ بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحًا ومساء؟ " قال: فقام رجل غائر العينين، مُشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مُشمِّر الإزار، فقال: يا رسول الله! اتق الله، قال: "ويلك، أولستُ أحقُّ أهل الأرض أن يتقي الله؟ " قال: ثم ولى الرجل، قال خالد بن الوليد: يا رسول الله! ألا أضرب عنقه؟ قال: "لا، لعله أن يكون يصلي" فقال خالد: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لم أُومر أن أَنقُب قلوب الناس ولا أشقَّ بطونهم". قال: ثم نظر إليه وهو مُقَفٍّ فقال: "إنه يخرج من ضئضيء هذا قوم يتلون كتاب الله رطبًا لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّميَّة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» (1).
_________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب، وخالد بن الوليد= = - رضي الله عنهما - إلى اليمن 8/ 67 برقم 4351، ومسلم، في كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم 2/ 741، برقم 1064.
وهذا من مظاهر حلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخذ بالظاهر ولم يؤمر أن ينقب قلوب الناس، ولا أن يشق بطونهم، والرجل قد استحق القتل واستوجبه؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله؛ لئلا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه ولاسيما من صلَّى (1).
المثال الثالث: مع الطفيل بن عمرو رضي الله عنه: من مواقف الحلم ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الطفيل بن عمرو الدوسي - رضي الله عنه -، فقد أسلم الطفيل - رضي الله عنه - قبل الهجرة في مكة، ثم رجع إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فبدأ بأهل بيته، فأسلم أبوه وزوجته، ثم دعا قومه وعشيرته إلى الله - عز وجل - فأبت عليه وعصت، وأبطؤوا عليه، فجاء الطفيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر له أن دوسًا هلكت وكفرت وعصت وأبت.
_________
(1) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري 8/ 69.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «جاء الطفيل بن عمرو الدوسي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن دوسًا قد عصت وأبت، فادع الله عليهم، فاستقبل رسول الله القبلة ورفع يديه، فقال الناس: هلكوا. فقال: اللهم اهد دوسًا وائت بهم، اللهم اهد دوسًا وائت بهم» (1).
وهذا يدل على حلم النبي صلى الله عليه وسلم وصبره وتأَ نِّيه في الدعوة إلى الله - عز وجل -؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يعجل بالعقوبة، أو الدعاء على من رد الدعوة؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم بالهداية، فاستجاب الله دعاءه، وحصل على ثمرة الصبر والتأنِّي وعدم العجلة، فقد رجع الطفيل إلى قومه، ورفق بهم،
_________
(1) البخاري مع الفتح، في كتاب الجهاد، باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم 6/ 107، برقم 2937، وفي كتاب المغازي، باب قصة دوس والطفيل بن عمرو الدوسي 8/ 101، برقم 4392، وفي كتاب الدعوات، باب الدعاء على المشركين 11/ 196، برقم 6397، ومسلم، في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل غفار وأسلم وجهينة وأشجع وتميم ودوس وطي 4/ 1957، برقم 2524، وأخرجه أحمد واللفظ له 2/ 243، 448، وانظر: البداية والنهاية 6/ 337، 3/ 99، وسيرة ابن هشام 1/ 407.
فأسلم على يديه خلقٌ كثير، ثم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر، فدخل المدينة بثمانين أو تسعين بيتًا من دوس، ثم لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، فأسهم لهم مع المسلمين (1).
الله أكبر! ما أعظمها من حكمةٍ أسلم بسببها ثمانون أو تسعون أسرة.
وهذا مما يوجب على الدعاة إلى الله - عز وجل - العناية بالحلم في دعوتهم، ولا يحصل لهم ذلك إلا بفضل الله ثم بمعرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته.
المثال الرابع: مع من أراد قتله صلى الله عليه وسلم: روى البخاري ومسلم، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قِبَلَ نجدٍ (2) فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وادٍ كثير العضاه، فنزل
_________
(1) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 1/ 346، وزاد المعاد 3/ 626، والإصابة في تمييز الصحابة 2/ 225.
(2) وقع في رواية البخاري التصريح باسمها "ذات الرقاع"، انظر: البخاري مع الفتح 7/ 426، برقم 4136.
رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرةٍ، فَعلَّق سيفه بغصنٍ من أغصانها، قال: وتفرَّق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن رجلًا أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلتًا (1) في يده، فقال لي، من يمنعنك مني؟ قال: قلت: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قال: قلت: الله، قال: فشام (2) السيف، فهاهو ذا جالس"، ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم» (3).
الله أكبر! ما أعظم هذا الخلق! وما أكبر أثره في النفس!
_________
(1) والسيف صلتاً: أي مسلولاً. انظر: شرح النووي 15/ 45.
(2) شام السيف: أي رده في غمده. انظر: المرجع السابق 15/ 45.
(3) البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد، باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة 6/ 96، 97، برقم 2910، وكتاب المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع 7/ 426، برقم 4135، ومسلم، واللفظ له، كتاب الفضائل، باب: توكله على الله - تعالى -، وعصمة الله - تعالى - له من الناس 4/ 1786، 1/ 576، برقم 843، وأحمد 3/ 311، 364. وانظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها للميداني فقد ذكر رواية مطولة عزاها لأبي بكر الإسماعيلي في صحيحه 2/ 335.
أعرابي يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم ثم يعصمه الله منه، ويمكِّنه من القدرة على قتله، ثم يعفو عنه! إن هذا لخلقٌ عظيم وصدق الله العظيم إذ يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وهذا الخلق الحكيم قد أثر في حياة الرجل، وأسلم بعد ذلك، فاهتدى به خلق كثير (1).
المثال الخامس: مع زيد الحبر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعفو عند القدرة، ويحلم عند الغضب، ويحسن إلى المسيء، وقد كانت هذه الأخلاق العالية من أعظم الأسباب في إجابة دعوته والإيمان به، واجتماع القلوب عليه، ومن ذلك ما فعله مع زيد بن سعنة، أحد أحبار اليهود وعلمائهم الكبار (2).
_________
(1) انظر: فتح الباري 7/ 428، وشرح النووي على مسلم 15/ 44، وذكر ابن حجر والنووي في هذا الموضع أن اسم الأعرابي: غورث بن الحارث.
(2) انظر: هذا الحبيب يا محب ص528، وهداية المرشدين ص384.
«جاء زيد بن سعنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبه دينًا عليه، فأخذ بمجامع قميصه وردائه وجذبه، وأغلظ له القول، ونظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوجهٍ غليظٍ وقال: يا محمد، ألا تقضيني حقي، إنكم يا بني عبد المطلب قوم مُطْلٌ، وشدَّد له في القول، فنظر إليه عمر وعيناه تدوران في رأسه كالفلك المستدير، ثم قال: يا عدو الله، أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع، وتفعل ما أرى، فوالذي بعثه بالحق لولا ما أُحاذر لومه لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتُؤَدَةٍ وتَبَسُّمٍ، ثم قال: "أنا وهو يا عمر كنا أحوج إلى غيره هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التقاضي، اذهب به يا عمر فاقضه حقه، وزده عشرين صاعًا من تمرٍ"، فكان هذا سببًا لإسلامه، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وكان زيد قبل هذه القصة يقول: (لم يبق شيء من
علامات النبوة إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا)» (1).
فاختبره بهذه الحادثة فوجده كما وُصِفَ، فأسلم وآمن وصدق، وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم مشاهده، واستشهد في غزوة تبوك مقبلًا غير مدبر (2).
فقد أقام محمد صلى الله عليه وسلم براهين عديدة من أخلاقه على صدقه، وأن ما يدعو إليه حق.
المثال السادس: مع زعيم المنافقين: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد أجمع الأوس والخزرج على
_________
(1) ذكر ابن حجر في كتاب الإصابة في تمييز الصحابة هذه القصة وعزاها إلى الطبراني، والحاكم، وأبي الشيخ في كتابه أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وابن سعد، وغيرهم، ثم قال ابن حجر: ورجال إسناده موثّقون ... ومحمد بن أبي السري وثّقه ابن معين ... والوليد قد صرح بالتحديث 1/ 566. وذكره ابن كثير في البداية والنهاية، وعزاه إلى أبي نعيم في الدلائل. البداية والنهاية 2/ 310، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 240: رواه الطبراني، ورجاله ثقات.
(2) الإصابة في تمييز الصحابة 1/ 566.
تمليك عبد الله بن أُبيٍّ، ولم يختلف عليه في شرفه اثنان، ولم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين، وكانوا قد نظموا له الخرز، ليُتَوِّجوه ثم يملِّكوه عليهم، فجاءهم الله - تعالى - برسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك، فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام امتلأ قلبه حقدًا وعداوةً وبغضًا، ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكه، فلما رأى قومه أبوا إلا الإسلام، دخل فيه كارهًا مصرًا على النفاق والحقد والعداوة (1) ولم يأل جهدًا في الصَّدِّ عن الإسلام، وتفريق جماعة المسلمين، والذَّبِّ عن اليهود ومساعدتهم.
وقد ظهرت مواقفه الخبيثة في معاداته لدعوة الإسلام، ولكن عن طريق التستر والنفاق، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقابل عداوته بالعفو والصفح والحلم؛ لأنه يُظهر الإسلام؛ ولأن له أعوانًا من المنافقين، هو رئيسهم وهم
_________
(1) انظر: سيرة ابن هشام 2/ 216، والبداية والنهاية 4/ 157.
تَبَعٌ له، فكان صلى الله عليه وسلم يحسن إليه بالمقال والفعل، ويقابل إساءته بالعفو والإحسان في عدة مواقف، منها على سبيل المثال ما يأتي:
1 - شفاعته لليهود - بنو قينقاع - عندما نقضوا العهد: نقض بنو قينقاع العهد بعد بدر بكشف عورة امرأة من المسلمين في السوق، وبقتل رجل نصرها من المسلمين (1) فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت للنصف من شوال، على رأس عشرين شهرًا من الهجرة، وحاصرهم خمسة عشر يومًا، وتحصَّنوا في حصونهم، فحاصرهم أشد الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بهم فَكُتِّفُوا، وكانوا سبعمائة مقاتل، فقام إلى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أُبيٍّ حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد، أحسن في مواليَّ، فأبطأ عليه رسول الله
_________
(1) انظر: سيرة ابن هشام 2/ 427، والبداية والنهاية 4/ 4، والرحيق المختوم ص228، وهذا الحبيب ص246.
صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، أحسن في موالي، فأعرض عنه، فأدخل يديه في جيب درع النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربع مائة حاسر، وثلاث مائة دارع (1) قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر، فوهبهم النبي صلى الله عليه وسلم له (2) وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات من أرض الشام، وقبض منهم أموالهم، وخمس غنائمهم صلوات الله وسلامه عليه (3).
فلم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، على هذه الشفاعة وعلى شدته القبيحة، بل عفى عنه صلى الله عليه وسلم.
_________
(1) الحاسر: هو الذي لا درع له، والدارع: هو لابس الدرع. انظر: المعجم الوسيط، مادة "حسر" 1/ 172، ومادة "درع" 1/ 280.
(2) انظر: سيرة ابن هشام 2/ 428، والبداية والنهاية لابن كثير 4/ 4.
(3) انظر: زاد المعاد 3/ 126، 190.
2 - ما فعله مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى معركة أحد، فلما صار بين أحد والمدينة انخزل عبد الله بن أُبيٍّ بنحو ثلث العسكر، ورجع بهم إلى المدينة فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، والد جابر - رضي الله عنهما - فوبَّخهم، وحضَّهم على الرجوع، وقال: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع، فرجع عنهم وسبهم (1).
فلم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الجرم العظيم، وتخذيل المسلمين.
3 - صدُّه الرسولَ صلى الله عليه وسلم عن الدعوة إلى الله تعالى: ركب النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة، فمر بعدو الله عبد
_________
(1) انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد 3/ 194، وسيرة ابن هشام 3/ 8، 3/ 57، والبداية والنهاية 4/ 51.
الله بن أُبَيٍّ وحوله رجال من قومه، فنزل صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس قليلًا، فتلا القرآن، ودعا إلى الله - عز وجل -، وذكَّر بالله، وحذَّر وبشَّر وأنذر، وعندما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من مقالته، قال له عبد الله بن أُبيٍّ: يا هذا، إنه لا أحسن من حديثك هذا، إن كان حقًّا فاجلس في بيتك فمن جاءك فحدِّثْهُ إيَّاه، ومن لم يأتك فلا تغته (1) ولا تأته في مجلسه بما يكره منه (2) فلم يؤاخذه النبي صلى الله عليه وسلم، وعفا عنه وصفح.
4 - تثبيته بني النضير: عندما نقض يهود بني النضير العهد بِهَمِّهِم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، بعث إليهم محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده، فبعث إليهم أهل النفاق - وعلى رأسهم عبد الله بن أُبيٍّ - أن اثبتوا وتمنَّعوا فإنا لن نسلمكم، إن
_________
(1) أي: لا تكثر عليه به وتتردد به عليه، أو لا تعذبه به. انظر: القاموس المحيط، باب التاء، فصل الغين ص200، والمعجم الوسيط مادة "غتَّ" 2/ 644.
(2) انظر: سيرة ابن هشام 2/ 218، 219.
قُوتلتم قاتلنا معكم، وإن أُخرجتم خرجنا معكم، فقويت عزيمة اليهود، ونابذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقض العهد، فخرج إليهم حتى نزل بهم وحاصرهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم وخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام (1).
وترك النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أُبيٍّ فلم يُعاقبه على ذلك الفعل القبيح!
5 - كيدُهُ وغدره للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين في غزوة المريسيع: في هذه الغزوة قام عبد الله بن أُبيٍّ بعدة مواقف مخزية توجب قتله وعقابه، ومنها:
دَبَّر المنافقون في هذه الغزوة قصة الإفك، وتولى كبره عبد الله بن أُبيٍّ بن سلول (2).
_________
(1) انظر: سيرة ابن هشام 3/ 192، والبداية والنهاية 4/ 75، وزاد المعاد 3/ 127.
(2) انظر قصة الإفك في البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب حديث الإفك 7/ 431، برقم 4141، وكتاب التفسير، سورة النور، باب: = = {((((((((إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا (((((((((((هَذَا ((((((((عَظِيمٌ} 8/ 452، برقم 4750، ومسلم، كتاب التوبة، باب حديث الإفك 4/ 2129، برقم 2770، وزاد المعاد 3/ 256 - 268. وانظر: البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة المنافقون، باب {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ ((((((((اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا (((((((الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 8/ 648، 652، برقم 4905، وفي كتاب المناقب، باب ما ينهى عنه من دعوى الجاهلية 6/ 546، برقم 3518، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً 4/ 1998، برقم 2584، وانظر: سيرة ابن هشام 3/ 334. والحديث في البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة المنافقون، باب قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} 8/ 648، برقم 4904، = = ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم 4/ 2140، برقم 2772.
وفي هذه الغزوة قال عبد الله بن أُبيٍّ: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] (1).
وفي هذه الغزوة قال عدو الله: {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7] (2).
_________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة المنافقون، باب {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} 8/ 648، 8/ 652، 6/ 546، برقم 4905، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً 4/ 1998، برقم 63 - (2584).
(2) والحديث في البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة المنافقون، باب قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ) 8، برقم 4904، ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم 4، برقم 2772.
وقد ظهرت الحكمة المحمدية، وتجلت السياسة الرشيدة في إخماد النبي صلى الله عليه وسلم نار الفتنة، وقطع دابر الشر - بفضل الله ثم بصبره - على عبد الله بن أُبيٍّ، وتَحمُّله له، والإحسان إليه، ومقابلة هذه المواقف المخزية من هذا الزعيم المنافق بالعفو؛ لأنه هذا الرجل له أعوان، ويخشى من شرهم على الدعوة الإسلامية؛ ولأنه يظهر إسلامه، ولهذا «قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب - حينما قال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق -: دعه حتى لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه» (1).
فلو قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان ذلك منفِّرًا للناس عن الدخول في الإسلام؛ لأنهم يرون أن عبد الله بن أُبيٍّ
_________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة المنافقون، باب (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) 8، 8، 6، برقم 4905، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا 4، برقم 63 - (2584).
مسلم، ومن ثم سيقول الناس: إن محمدًا يقتل المسلمين، فعند ذلك تظهر المفاسد، وتتعطل المصالح.
فظهرت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم وصبره على بعض المفاسد خوفًا من أن تترتب على ذلك مفسدة أعظم؛ ولتقوى شوكة الإسلام، وقد أُمر بالحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر.
وقد ظهرت الحكمة لعمر بعد ذلك في عدم قتل عبد الله بن أُبيٍّ فقال: (قد والله علمت، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري) (1).
وهكذا ينبغي للدعاة إلى الله أن يسلكوا طريق الحكمة في دعوتهم اقتداء بنبيهم صلى الله عليه وسلم.
المثال السابع: مع ثمامة بن أثال: روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال:
_________
(1) ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 4/ 185، وانظر: شرح النووي على مسلم 16/ 139، وهذا الحبيب يا محبّ ص336.
«بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلًا قِبَلَ نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له ثمامة بن أُثال، سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ماذا عندك يا ثمامة؟ " فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم (1)
وإن تُنعم تُنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد، فقال: "ما عندك يا ثمامة؟ " فقال: ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغد، فقال: "ماذا عندك يا ثمامة؟ " فقال: عندي ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
_________
(1) معناه: أن تقتل تقتل صاحب دم يدرك قاتله به ثأره لرئاسته وفضيلته، وقيل: معناه تقتل من عليه دم مطلوب به، وهو مستحق عليه فلا عتب عليك في قتله. انظر: فتح الباري 8/ 88 ..
"أطلقوا ثمامة "، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، يا محمد! والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أُحبَّ الوجوه كلها إليَّ، والله ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إليَّ، والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليَّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ فقال: [لا والله]، ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم» (1).
(ثم خرج - رضي الله عنه - إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى
_________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال 8/ 87، برقم 4372، ومسلم - واللفظ له إلا ما بين المعكوفين فمن البخاري - في كتاب الجهاد والسير، باب ربط الأسير وحبسه وجواز المنّ عليه 3/ 1386، برقم 1764.
مكة شيئًا، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك تأمر بصلة الرحم، وإنك قد قطعت أرحامنا، وقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين الحمل) (1).
وذكر ابن حجر أن ابن منده روى بإسناده عن ابن عباس قصة إسلام ثمامة ورجوعه إلى اليمامة، ومنعه قريش عن الميرة، ونزول قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76]. (2)
وقد ثبت ثمامة على إسلامه لما ارتد أهل اليمامة، وارتحل هو ومن أطاعه من قومه فلحقوا بالعلاء بن الحضرمي فقاتل معه المرتدين من أهل البحرين (3).
_________
(1) سيرة ابن هشام 4/ 317 بتصرف يسير، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 8/ 88.
(2) وقال ابن حجر عن هذا الأثر: إسناده حسن. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة 1/ 203.
(3) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة 1/ 203.
الله أكبر، ما أحلم النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم، وما أعظمه من موقف، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتألَّف القلوب، ويلاطف من يُرجى إسلامه من الأشراف الذين يتبعهم على إسلامهم خلق كثير.
وهكذا ينبغي للدعاة إلى الله - عز وجل - أن يعظموا أمر الحلم والعفو عن المسيء؛ لأن ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حبًّا في ساعة واحدة؛ لما أسداه النبي صلى الله عليه وسلم إليه من الحلم والعفو والمنِّ بغير مقابل، وقد ظهر لهذا العفو الأثر الكبير في حياة ثمامة، وفي ثباته على الإسلام ودعوته إليه (1)؛ ولهذا قال:
أَهِمُّ بترك القول ثم يردني ... إلى القول إنعام النبي محمد
شكرتُ له فكي من الغل بعدما ... رأيت خيالًا من حسام مهند (2)
_________
(1) انظر: شرح النووي على مسلم 12/ 89، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 8/ 88.
(2) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة 1/ 203.
المثال الثامن: مع من جبذه بردائه صلى الله عليه وسلم: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذةً شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثَّرت به حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، ثم أمر له بعطاء» (1).
وهذا من روائع حلمه صلى الله عليه وسلم وكماله، وحسن خلقه، وصفحه الجميل، وصبره على الأذى في النفس، والمال، والتجاوز على جفاء من يريد تألُّفه على الإسلام؛ وليتأسى به الدعاة إلى الله، والولاة بعده في حلمه، وخلقه الجميل من الصفح، والإغضاء، والعفو، والدفع
_________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه 6/ 251، برقم 3149، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء من سأل بفحش وغلظة 2/ 730، برقم 1057.
بالتي هي أحسن (1).