الجود والكرم خُلقٌ عظيم وهو على عشر مراتب على النحو الآتي:
1 - الجود بالنفس وهو أَعْلى مراتب الجود.
2 - الجود بالرياسة، فيحمل الجواد جوده على الجود برياسته والإيثار في قضاء حاجات الناس.
3 - الجود براحته، فيجود بها تعبًا في مصلحة غيره.
4 - الجود بالعلم وبذله وهو من أعلى مراتب الجود، وهو أفضل من المال.
5 - الجود بالنفع بالجاه كالشفاعة وغيرها.
6 - الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه، فكل يوم تعدل فيه بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فترفع متاعه عليها أو تحمله عليها صدقة،
والكلمة الطيبة صدقة.
7 - الجود بالعرض، كمن يعفو عمن اغتابه، أو سبه، ونال من عرضه، كما فعل أبو ضمضم.
8 - الجود بالصبر، والاحتمال، وكظم الغيظ، وهذا أنفع من الجود بالمال.
9 - الجود بالخلق الحسن، والبشاشة، والبسطة، وهو فوق الجود بالصبر.
10 - الجود بترك ما في أيدي الناس عليهم فلا يلتفت إليه.
ولكل مرتبة من الجود مزيد وتأثير خاص في القلب، والله سبحانه قد ضمن المزيد للجواد والإتلاف للممسك، والله المستعان (1).
وكل أنواع الجود والكرم قد اتصف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم،
_________
(1) انظر: مدارج السالكين لابن القيم 2/ 293 - 296 بتصرف.
,
,
وهذا الموقف الحكيم العظيم يدل على عظم سخاء النبي صلى الله عليه وسلم، وغزارة جوده (2).
_________
(1) مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فقال: لا، 4/ 1806، برقم 2312.
(2) انظر: أمثلة كثيرة من كرمه وجوده في البخاري مع الفتح، كتاب بدء الوحي، باب حدثنا عبدان 1/ 30، برقم 6، وكتاب الأدب باب حسن الخلق وما يكره من البخل 10/ 455، برقم 6034، وكتاب الرقاق، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو أن عندي مثل أُحُد ذهباً 11/ 264، برقم 6445، 11/ 303، برقم 6470، وكتاب الكفالة، باب من تكفل عن ميت ديناً فليس له أن يرجع 4/ 474، برقم 2296، وكتاب التمني، باب تمني الخير، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو كان لي مثل أحد ذهباً 13/ 217، برقم 7228، ومسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - = = شيئاً قط فقال: لا، وكثرة عطائه 4/ 1805، 1806، برقم 2311 - 2314، وكتاب الزكاة، باب من سأل بفحش وغلظة 2/ 730، برقم 1056 - 1058، وباب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة 2/ 687، برقم 991.
وكان صلى الله عليه وسلم يعطي العطاء ابتغاء مرضاة الله - عز وجل - وترغيبًا للناس في الإسلام، وتأليفًا لقلوبهم، وقد يُظهر الرجل إسلامه أولًا للدنيا ثم - بفضل الله تعالى، ثم بفضل النبي صلى الله عليه وسلم ونور الإسلام - لا يلبث إلا قليلًا حتى ينشرح صدره للإسلام بحقيقة الإيمان، ويتمكن من قلبه، فيكون حينئذٍ أحب إليه من الدنيا وما فيها (1).
المثال الثاني: وصف صفوان رضي الله عنه لكرمه صلى الله عليه وسلم: روى مسلم في صحيحه «أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا غزوة الفتح - فتح مكة - ثم خرج صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين فاقتتلوا بحنين، فنصر الله دينه والمسلمين، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة. قال صفوان: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني
_________
(1) انظر: شرح النووي على مسلم 15/ 72.
وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ» (1).
وقال أنس - رضي الله عنه -: «إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها» مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال: لا، وكثرة عطائه (2).
وإذا رأى صلى الله عليه وسلم الرجل ضعيف الإيمان، فقد كان صلى الله عليه وسلم يجزل له في العطاء، قال صلى الله عليه وسلم: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه خشية أن يُكبَّ في النار على وجهه» (3) ولذلك
_________
(1) مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط فقال: لا، وكثرة عطائه 4/ 1806، برقم 2313.
(2) المرجع السابق، في الكتاب والباب المشار إليهما آنفاً 4/ 1806، برقم 58 - (2312).
(3) البخاري مع الفتح، كتاب الزكاة، باب قوله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} 3/ 340، برقم 1478، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء من يخاف على إيمانه 2/ 733، برقم 1059.
كان صلى الله عليه وسلم «يعطي رجالًا من قريش المائة من الإبل» (1).
المثال الثالث: ما فعله صلى الله عليه وسلم مع المرأة المشركة: من كرمه وأخلاقه العظيمة في ذلك ما فعله صلى الله عليه وسلم مع المرأة المشركة صاحبة المزادتين، «فإنه صلى الله عليه وسلم بعد أن أسقى أصحابه من مزادتيها، ورجعت المزادتان أشد ملاءةً منها حين ابتدأ فيها قال لأصحابه "اجمعوا لها"، فجمعوا لها - من بين عجوة ودقيقة وسويقة - حتى جمعوا لها طعامًا كثيرًا وجعلوه في ثوب، وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها، فقال لها: "اذهبي فأطعمي هذا عيالك، تعلمين والله ما رزأناك (2) من مائك شيئًا، ولكن الله هو الذي أسقانا».
وفي القصة أنها رجعت إلى قومها فقالت: «لقيت أسحر
_________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم 6/ 249، برقم 3143 - 3349.
(2) أي: لم ننقص من مائك شيئاً. انظر: فتح الباري 1/ 453.
الناس، أو هو نبي كما زعموا، فهدى الله ذلك الصرم (1) بتلك المرأة، فأسلمت وأسلموا» (2).
وفي رواية: «فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين ولا يصيبون ذلك الصرم الذي هي فيه، فقالت يومًا لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمدًا، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام» (3).
وقد كان سبب إسلام هذه المرأة أمران:
الأمر الأول: ما رأته من أخذ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مزادتيها ولم ينقص ذلك من مائها شيئًا، وهذا من
_________
(1) الصرم: أبيات مجتمعة من الناس. انظر: فتح الباري 1/ 453.
(2) البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب علامات النبوة 6/ 580، برقم 3571، وأطرافه في البخاري: برقم 344، ورقم 348، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها 1/ 476، برقم 682.
(3) البخاري مع الفتح، كتاب التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم بكفيه من الماء 1/ 448، برقم 344.
معجزات النبي صلى الله عليه وسلم التي تدل على صدق رسالته.
الأمر الثاني: كرم النبي صلى الله عليه وسلم حينما أمر أصحابه أن يجمعوا لها، فجمعوا لها طعامًا كثيرًا.
أما قومها، فقد أسلموا على يديها؛ لأن المسلمين صاروا يراعون قومها بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستئلاف لهم، حتى كان ذلك سببًا لإسلامهم (1).
وهذه الأمثلة التي سقتها ما هي إلا قطرة من بحر من كرم النبي صلى الله عليه وسلم، فما أحوجنا إلى الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والاقتباس من نوره وهديه في دعوته وفي أموره كلها، والله المستعان.
_________
(1) انظر: فتح الباري 1/ 453.
المبحث التاسع
عدله صلى الله عليه وسلم
[