وقصة إسلامه - رضي الله عنه - رواها ابن إسحاق بقوله: "وكان إسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب، وكانت عند سعيد بن زيد ... (1) " وذكر القصة المشهورة في إسلامه وفيها: أنه قد خرج متوشحًا سيفه يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقيه رجل فأخبره بإسلام أخته وزوجها فأتاهما وسألهما عما سمع من كلامهما قبل دخوله، ثم ضَرْبه أخته، وقراءته لما كان معهم وكانت سورة (طه) ودخول الإِسلام قلبه.
وفي رواية يونس بن بُكير عن ابن إسحاق قال: "ثم إن قريشًا بعثت عمر بن الخطاب وهو يومئذ مشرك في طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دارٍ في أصل الصفا، ولقيه النحام، وهو نُعيم بن عبد الله بن أسد ... قال: وأسلم قبل ذلك، وعمر متقلد سيفه ... (2) " وذكر القصة.
وقصة إسلامه - رضي الله عنه - على شهرتها فإن لم تروَ- حسب علمي - بسند صحيح موصول. وقد ذكر الشيخ محمَّد بن رزق الطرهوني -حفظه الله - ثمانية طرق لها وهي -باختصار- كالتالي:
1 - ابن عساكر قال: أخبرنا أبو بكر محمَّد بن عبد الباقي ... عن سعيد بن يحيى بن قيس بن عيسى عن أبيه ... ورواه عبد العزيز الجرمي في فوائده من الطريق نفسه إلا أنه قال: عن أبيه عن عمر.
2 - ابن سعد والدراقطني والحاكم والبيهقي في الدلائل وابن عساكر، من طرق عن إسحاق بن يوسف الأزرق قالة أخبرني القاسم بن عثمان البصري عن أنس قال: "خرج عمر متقلّد السيف ... " وقال (*): رجاله ثقات إلا القاسم، قال
__________
(1) الروض الأنف (3/ 265).
(2) السيرة، تحقيق محمَّد حميد الله، ص 160.
(*) الطرهوني.
عنه البخاري: له أحاديث لا يتابع عليها، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه، وقال الدراقطني: ليس بالقوي، وذكره ابن حبان (الثقات).
3 - ابن إسحاق. (وهو ما ذُكر أول البحث)
4 - البزار عن إسحاق بن إبراهيم الحُنيني عن أسامة بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده ...
5 - ابن عائذ في مغازيه قال: أخبرني الوليد بن مسلم قال: حدثني عمر بن محمَّد قال: حدثني أبي محمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر ... وقال (*): وهذا إسناد صحيح في غاية الصحة إلا أنه مرسل.
6 - أبو نُعيم في (الدلائل) وفي (الحلية) من طريق محمَّد بن عثمان بن أبي شيبة عن عبد الحميد بن صالح عن محمَّد بن أبان عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن أبان بن صالح عن مجاهد عن ابن عباس قال: سألت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأي شيء سُميت الفاروق، (فذكر قصة إسلام حمزة - رضي الله عنه - وإسلامه هو بعده بثلاثة أيام) وقال (*): وهذا إسناد ضعيف من أجل إسحاق بن أبي فروة. تركه جماعة وضعفه آخرون ... ومحمد بن أبان هو الجعفي فيه أيضًا كلام ولكنه يسير
7 - الطبراني عن ثوبان، قال الهيثمي: فيه يزيد بن ربيعة الرحبي متروك، وقال ابن عدي أرجو أنه لا بأس به.
8 - عبد الرازق عن الزهري بإسناد صحيح. ا. هـ مختصرًا من السيرة الذهبية (3) ثم ذكر طريقا تاسعة نقلها عن السيوطي في (الخصائص الكبرى) وقال: ولم أقف على إسنادها.
__________
(*) الطرهوني
(3) (2/ 319 - 329)
والطريق الأول: فيه أبو بكر بن عبد الباقي قال عنه ابن عساكر: كان يُتهم بمذهب الأوائل ويُذكر عنه رقة دين، وكأن الذهبي لم يرتضِ ذلك فقال في ترجمة ابن عبد الباقي: "تكلم فيه أبو القاسم بن عساكر بكلام مردٍ فجٍّ ... " (4) ثم ذكره. ومن في السند لم أقف لهم على ترجمة حسب بحثي.
والطريق الثاني: قال الذهبي -رحمه الله- عن القاسم بن عثمان البصري: "حدث عن إسحاق الأزرق بمتن محفوظ، وبقصة إسلام عمر، وهي منكرة جدًا (5) " ونقل عن البخاري قوله: له أحاديث لا يتابع عليها.
والطريق الثالث: ساقه ابن إسحاق بدون سند.
والرابع: رواه الحاكم أيضًا وسكت عنه (6)، وقال الذهبي: واهٍ منقطع. وقال البزّار بعد روايته: "وهذا الحديث لا نعلم رواه عن أسامة بن زيد عن أبيه عن جده عن عمر إلا إسحاق بن إبراهيم الحنيني، ولا نعلم يُروى في إسلام عمر إسناد أحسن من هذا الإسناد، على أن الحنيني قد ذكرنا أنه قد خرج عن المدينة فكفّ، واضطرب حديثه (7) " وقال الهيثمي: "وفيه أسامة بن زيد بن أسلم وهو ضعيف" وعلّق ابن حجر في الحاشية بقوله: "وفيه من هو أضعف من أسامة وهو إسحاق بن إبراهيم الحنيني وقد ذكر البزار أنه تفرد به (8) ".
والخامس: مرسل.
والسادس: فيه إسحاق بن أبي فرون قال عنه الحافظ في (التقريب):
"متروك (9) "، وفيه أيضًا محمد أبان "ضعفه أبو داود وابن معين، وقال البخاري:
__________
(4) السير (20/ 25).
(5) لسان الميزان (4/ 463).
(6) المستدرك (4/ 66).
(7) البحر الزخار (1/ 403).
(8) (9/ 64 - 65).
(9) (1/ 59)
ليس بالقوي، وقال النسائي: ليس بثقة (10) " وقد ضعّف الإِمام الذهبي هذا الطريق كما في (السيرة (11)) من (تاريخ الإِسلام).
والسابع: فيه يزيد الرحبي، وهو متروك كما في (لسان الميزان (12)).
والثامن: مرسل الزهري، ومرسله -رحمه الله- شرٌّ من مرسل غيره، كما قال ذلك يحي بن سعيد القطان، وقد سبق الحديث عن مراسيل الزهري (13).
وفضلًا عن ضعف سند القصة، ففي المتن اضطراب، فمرة أن قريشًا بعثته، وفي أخرى أنه خرج ابتداءً، وفي بعضها أنه قرأ وكان كاتبًا (عن أنس عند ابن سعد والدراقطني) وفي أخرى "حتى دعا قارئًا فقرأ عليه وكان عمر لا يكتب" (مرسل الزهري).
وفي بعض الروايات أن السورة التي قرأها عمر كانت (طه) (عند ابن إسحاق، وحديث أنس) وفي البعض الآخر أن السورة كانت (الحديد) (البزار عن أسلم) وسورة الحديد مدنية.
وقد بوب الإِمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه: باب إسلام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (14)، ولم يسبق شيئًا من الروايات عن قصة إسلامه - رضي الله عنه -.
ولضعف أسانيدها فقد ذكرها شيخ الإِسلام -رحمه الله- في (الفتاوى) بصيغة التضعيف فقال: "وقد روُي أن سورة طه كانت مكتوبة عند أخت عمر، وأن سبب إسلام عمر كان لما بلغه إسلام أخته، وكانت السورة تُقرأ عندها (15) ".
وسكت عن القصة الشيخ الألباني -رحمه الله- في تعليقه على (فقه السيرة) فلم يتكلم
__________
(10) لسان الميزان (5/ 31).
(11) ص 179.
(12) 6/ 286.
(13) انظر ما سبق. في قصة ردة عبيد الله بن جحش.
(14) 7/ 177، فتح.
(15) الفتاوى (15/ 255).
عنها بتصحيح ولا تضعيف. وقال الدكتور أكرم العمري -حفظه الله -: "أما قصة استماعه القرآن يتلوه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صلاته قرب الكعبة وعمر مستخفٍ بأستارها، وكذلك قصته مع أخته فاطمة حين لطمها لإسلامها وضرب زوجها سعيد بن زيد، ثم اطلاعه على صحيفة فيها آيات، وإسلامه، فلم يثبت شيء من هذه القصص من طريق صحيحة (16) ".
وتروى قصة أخرى في سبب إسلامه - رضي الله عنه - وهي ما رواه الإِمام أحمد في مسنده قال: حدثنا أبو المغيرة قال: حدثنا صفوان قال: حدثنا شريح بن عبيد قال: قال عمر: "خرجت أتعرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن، فقلت: هذا والله شاعر، كما قالت قريش قال: فقرأ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} قال: قلت كاهن،: "قال {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ... } الآيات. قال: فوقع الإِسلام في قلبي كل موقع (17) ". قال الهيثمي: "رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات، إلا أن شريح بن عبيد لم يدرك عمر (18) " وفاته -رحمه الله- عزوه لأحمد أيضًا.
وذكر هذه القصة الإِمام الذهبي في (السيرة) وأتبعها بأخرى مشابهة لها فقال: "وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن يعلى الأسلمي عن عبد الله بن المؤمل عن أبي الزبيرعن جابر قال: كان أول إسلام عمر أن عمر قال: ضرب أختي المخاض ليلًا فخرجت من البيت فدخلت في أستار الكعبة في ليلة قرّة، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل الحِجْر وعليه تبّان، فصلى ما شاء الله، ثم انصرف، فسمعت شيئًا لم أسمع مثله، فخرج فاتبعته فقال: (من هذا) قلت عمر. قال: (يا عمر ما تدعني ليلًا ولا نهارًا) فخشيت أن يدعو علي فقلت: أشهد أن لا اله
__________
(16) السيرة الصحيحة (1/ 180).
(17) الفتح الرباني (20/ 232).
(18) مجمع الزوائد (9/ 62).
إلا الله وأنك رسول الله، فقال: (يا عمر أسرّه) قلت: لا والذي بعثك بالحق لأعلننه، كما أعلنت الشرك (19) ".
وفي سنده يحيى الأسلمي شيعي ضعيف، وابن المؤمل ضعيف أيضًا والراوي عن جابر هو أبو الزبير مدلس وقد عنعن، وروايته عن جابر في غير ما رواه الإِمام مسلم فيها ضعف.
وقد روي ابن إسحاق قصة تشبه ما سبق بسياق أطول عن عبد الله بن أبي نجيح عن أصحابه عطاء ومجاهد أو عمن روى ذلك ... وقد صرّح ابن إسحاق بالتحديث، لكن الحديث مرسل. وقال بعد أن ذكرها: "والله أعلم أي ذلك كان (20) ".
ومما ينبغي أن يُعلم أن كثرة طرق الحديث لا تزيده قوة دائمًا، بل ربما زادته ضعفًا، كما نبه على ذلك غير واحد من أهل العلم.