وهذا النشيد من أشهر مايتعلق بالهجرة النبوية المباركة.
فقد أخرج البيهقي في (الدلائل) بسنده عن ابن عائشة قال: لما قدم عليه السلام المدينة جعل النساء والصبيان يقلن: (1)
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
ورواه في موضع آخر من (الدلائل) في باب: تلقي الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قدم من غزوة تبوك، ثم قال: قلت: وهذا يذكره علماؤنا عند مقدمه المدينه من مكة، وقد ذكرناه عنده، لا أنه لما قدم المدينة من ثنية الوداع عند مقدمه من تبوك، والله أعلم، فذكرناه أيضًا ها هنا (2) ".
وأعلّه الحافظ العراقي بكونه معضلًا (3)؛ لأن راوي القصة عبيد الله بن عائشة (وهو من شيوخ الإِمام أحمد) مات سنة 228 هـ. فبينه وبين القصة مفاوز.
قال الحافظ ابن حجر - رضي الله عنه - في (الفتح): "وأخرج أبو سعيد في (شرف المصطفى) ورويناه في (فوائد الخلعي) من طريق عبيد الله بن عائشة منقطعًا: لما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة جعل الولائد يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنية الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
وهو سند معضل، ولعل ذلك كان في قدومه من غزوة تبوك (4) ".
__________
(1) دلائل النبوة، باب من استقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه .. ، ص 506، وزيادة: أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع، من زيادة رزين، قاله الصالحي (سبل الهدى والرشاد، 3/ 271).
(2) "الدلائل" باب تلقي الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم من غزوة تبوك (5/ 266).
(3) تخريج أحاديث إحياء علوم الدين، دار العاصمة، الطبعة الأولى (3/ 1327).
(4) فتح الباري (7/ 261، 262).
وقد أخرج البخاري -رحمه الله- في صحيحه قال: حدثنا عبد الله بن محمَّد قال: حدثنا سفيان عن الزهري عن السائب بن يزيد: "أذكر أني خرجت مع الصبيان نتلقى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الثنية الوداع مقدمه من غزوة تبوك (5) ". قال الحافظ ابن حجر: "فأنكر الداودي هذا وتبعه ابن القيم وقال: ثنية الوداع من جهة مكة لا من جهة تبوك، بل هي مقابلها كالمشرق والمغرب، قال: إلا أن يكون هناك ثنية أخرى في تلك الجهة، والثنية ما ارتفع من الأرض. وقيل: الطريق في الجبل. قلت: لا يمنع كونها جهة الحجاز أن يكون خروج المسافر إلى الشام من جهتها، وهذا واضع كما في دخول مكة من ثنية والخروج منها من أخرى، وينتهي كلاهما إلى طريق واحدة. وقد روينا بسند منقطع في (الحلبيات (*)) قول النسوة لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة: "طلع البدر علينا من ثنيات الوداع " فقيل: كان ذلك عند قدومه في الهجرة، وقيل: عند قدومه من غزوه تبوك (6) "
كذا نسب الحافظ ابن حجر إلى ابن القيم أنه قال: ثنية الوداع من جهة مكة لا من جهة تبوك: وكلام ابن القيم مخالف لذلك تمامًا، فقد قال -رحمه الله-: "فلما دنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة، خرج الناس تلقيه، وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
__________
(5) كتاب المغازي، باب كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر (8/ 126 فتح).
(*) كذا في الأصل وهو خطأ مطبعي، والصواب: الخلعيات.
(6) فتح الباري (8/ 128، 129).
وبعض الرواة يهم في هذا ويقول: إنما كان ذلك عند مقدمه إلى المدينة من مكة، وهو وهم ظاهر، لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام، لايراها القادم من مكة إلى المدينة، ولايمر بها إلا إذا توجّه للشام .. (7) ".
وجاء سبب تسمية ثنية الوداع بذلك وأنها من جهة تبوك في حادثة أخرى، في تحريم نكاح المتعة. قال الحافظ ابن حجر: "وأخرجه الحازمي من حديث جابر، قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة تبوك، حتى إذا كناّ عند العقبة مما يلي الشام جاءت نسوة كناّ تمتعنا بهن يطفن برحالنا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا ذلك له، فغضب وقام خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه، ونهى عن المتعة، فتوادعنا يومئذ فسميت ثنية الوداع (8) ". والحديث "لا يصح فإنه من طريق عباد بن كثير، وهو متروك (9) ".
قال الشيخ الألباني-رحمه الله-: "على أن القصة برمّتها غير ثابتة (10) ".
ومما يدل على ضعف هذه القصة: أن الروايات الصحيحة في دخوله - صلى الله عليه وسلم - طيبة عند هجرته إليها لم تذكر ولو إشارة ما يستشهد به لذلك، بل نقلت تلك الروايات ما قاله أهل المدينة عند وصوله إليها، فقد روى البخاري -رحمه الله- في صحيحه في (باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة) حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، وفيه: "فقيل في المدينة: جاء نبي الله، جاء نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فأشرفوا ينظرون ويقولون: جاء نبي الله .. (11) " وفي حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه -: " .. ثم قدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم (12) برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى جعل الإماء يقلن: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" وفي رواية: "فصعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرّق
__________
(7) زاد المعاد (3/ 551) الطبعة السادسة، 1405.
(8) فتح الباري (8/ 169).
(9) فتح الباري (8/ 170). والتلخيص الحبير (3/ 178).
(10) سلسة الأحاديث الضعيفة (2/ 63) الطبعة الثالثة، 1406.
(11) كتاب مناقب الأنصار، رقم 3911.
(12) البخاري، رقم 3925.
الغلمان والخدم في الطُرق ينادون: يا محمد، يا رسول الله. يا محمد، يا رسول الله (13) ".
,
روى الإِمام أحمد - رضي الله عنه - في مسنده قال: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا مَعْمَر قال: وأخبرني عثمان الجزري أن مِقْسمًا مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ} [الأنفال: من الآية 30] قال: "تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق، يريدون النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع الله عز وجل نبيه على ذلك. فبات عليٌّ على فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة .. فلما رأوا عليًا ردّ الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل خلط عليهم، فصعدوا في الجبل، فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسيج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن نسيج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال" (1).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وهذا إسناد حسن وهو من أجود ما روي في قصة نسج العنكبوت على فم الغار (2) ". لكنه -رحمه الله- قال في (الفصول): "ويقال - والله أعلم- إن العنكبوت سدّت على باب الغار، وان حمامتين عششتا على بابه ... (3) ". فلم يحسنّها هنا، بل يفهم من كلامه خلاف ذلك.
وحسّنها الحافظ ابن حجر في (الفتح (4)) على أنه قال عن عثمان الجزري: "فيه ضعف (5) ". وفي (التهذيب) أن أبا حاتم قال عنه: يُكتب حديثه ولايحتج به. وقال العقيلي: لا يتابع في حديثه (6).
__________
(1) المسند (5/ 87).
(2) البداية والنهاية (3/ 181).
(3) الفصول في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ص 52.
(4) 7/ 236.
(5) التقريب (2/ 13).
(6) التهذيب (7/ 145).
ولذا ضعّف الحديث الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- في تعليقه على المسند فقال: "في إسناده نظر، من أجل عثمان الجزري (7) ". وقال الشيخ الألباني -رحمه الله- بعد أن ضعّف الحديث: "ثم إن الآية المتقدمة: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} فيها ما يؤكد ضعف الحديث؛ لأنها صريحة بأن النصر والتأييد إنما كان بجنود لا تُرى، والحديث يُثبت أن نصره - صلى الله عليه وسلم - كان بالعنكبوت، وهو مما يُرى، فتأمّل. والأشبه بالآية أن الجنود فيها إنما هم الملائكة، وليس العنكبوت ولا الحمامتين، ولذلك قال البغوي في تفسيره (4/ 147) للآية: (وهم الملائكة نزلوا يصرفون وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته) ا. هـ كلام الشيخ الألباني (8).
وقال في موضع آخر: "واعلم أنه لا يصح حديث في عنكبوت الغار والحمامتين (9) ".
فتحسين الحافظيْن ابن كثير وابن حجر إنما هو لنسيج العنكبوت فقط. أما بيض حمامتين على الغار فلم أر -حسب علمي- من صحّحه. والله أعلم.
وقد أورده الهيثمي في (المجمع) بلفظ: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان ليلة بات في الغار أمر الله تبارك وتعالى شجرة فنبتت في وجه الغار .. وأمر .. العنكبوت فنسجت على وجه الغار، وأمر .. حمامتين وحشيتين فوقعتا بفم الغار، وأتى المشركون من كل فجّ .. وتقدم رجل منهم فنظر فرأى الحمامتين فرجع فقال لأصحابه: ليس في الغار شيء، رأيتُ حمامتين على فم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله فعلم أن الله تبارك وتعالى قد درأ بهما عنه، فسمّت (دعا بالخير والبركة) عليهما وفرض جزاءهما، واتخذ في حرم الله تبارك وتعالى
__________
(7) (5/ 87).
(8) سلسلة الأحاديث الضعيفة (3/ 263) وضعفها أيضًا في تعليقه على فقه السيرة، ص 163.
(9) سلسلة الأحاديث الضعيفة (3/ 339).
فرخين أحسبه قال: فأصل كل حمام في الحرم من فراخهما". ثم قال اليهثمي: "رواه البزار والطبراني وفيه جماعة لم أعرفهم (10) ".
وأخرجه أيضًا أبو القاسم الأصبهاني في (دلائل النبوة) من طريق عبد الرزاق، كسند الإِمام أحمد، قال: محقق الدلائل، مساعد الحميد: "في إسناده ضعف". وأعله -كمن قبله- بعثمان الجزري، ثم قال: "ثم إن في الإسناد علة أخرى لا تقل أهمية عما سبق، فقد أخرج الحديث عبد الرزاق في (المصنف) (5: 389) وفي التفسير (ل95) عن مَعْمَر به، دون ذكر ابن عباس، وينبغي أن يكون هذا هو المحفوظ عن عبد الرزاق إذ هو ثابت بهذا الأداء في مؤلفاته (11).
قال أبو تراب الظاهري-رحمه الله-: "وقد ورد أن حمامتين وحشيتين عششتا على بابه، وأن شجرة نبتت، وكل ذلك فيه غرابة ونكارة من حيث الرواية .. وفي رواية فيها غرابة ونكارة أن الحمامتين أفرختا، وأن حَمَام الحرم المكي من نسل تينك الحمامتين، وكل ذلك بأسانيد واهية (12) ".
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- معلقًا على قول أبي بكر - رضي الله عنه -: (لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا): "وفيه دليل على أن قصة نسج العنكبوت غير صحيحة، فما يوجد في بعض التواريخ أن العنكبوت نسجت على باب الغار، وانه نبت فيه شجرة، وأنه كان على غصنها حمامة .. كل هذا لا صحة له؛ لأن الذي منع المشركين من رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه أبي بكر - رضي الله عنه - ليست أمورًا حسية تكون لهما ولغيرهما بل هي أمور معنوية وآية من آيات الله عز وجل" (13).
__________
(10) مجمع الزوائد (6/ 152 - 153) وانظر: تخريج أحاديث الكشاف (2/ 76).
(11) دلائل النبوة للأصبهاني، تحقيق مساعد بن سليمان الحميد، دار العاصمة، النشرة الأولى، 1412 هـ (2/ 576)
(12) الأثر المقتفى لقصة هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ص 13.
(13) شرح رياض الصالحين، ط الأولى 1415، دار الوطن، ج 2، ص 525.
وقال -رحمه الله- في موضع آخر: "ما كان عشٌّ كما يقولون، ولا حمامة وقعت على الغار، ولا شجرة نبتت على فم الغار، ما كان إلا عناية الله عز وجل؛ لأن الله معهما (14) ".
,
ومما اشتهر في السيرة أن أسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنها - كانت تأتي بالطعام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبيها عندما كانا في الغار. قال ابن إسحاق: "وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما (1) "لكن رواية البخاري بيّنت أن أسماء - رضي الله عنها - صنعت لها الطعام في بيت أبي بكر وقبل الخروج للغار، قالت - رضي الله عنها -: "صنعتُ سفرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت أبي بكر حين أراد أن يهاجر إلى المدينة. قالت: فلم تجد لسفرته ولا لسقائه ما نربطهما به، فقلت لأبي بكر: والله ما أجد شيئًا أربط به إلا نطاقي، قال: فشقيه باثنين فاربطيه: بواحد السقاء وبالآخر السفرة، ففعلت. فلذلك سميت ذايت النطاقين (2) " وبوّب له الإِمام البخاري بقوله: "باب حمل الزاد في الُغزو".
وفي روايتها لحديث الهجرة قالت عائشة - رضي الله عنها -: "فجهزناهما أحثّ الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سُميت ذات النطاقين. قالت: ثم لحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر بغارٍ في جبل ثور .. (3) ".
أما طعامهما (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر - رضي الله عنه) في غار ثور في الأيام الثلاثة التي مكثاها في الُغار، فالظاهر أنه من تلك السفرة التي أُعدت في بيت أبي بكر - رضي الله عنه - وما كان يأتيهما به عامر بن فهيرة - رضي الله عنه -، ففي رواية البخاري الآنفة الذكر: .. "ويرعى عليهما عامر بن فُهيرة مولى أبى بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رِسل -وهو لبن مِنْحتهما
__________
(1) الروض الأنف (4/ 183).
(2) البخاري، كتاب الجهاد، باب حمل الزاد في الغزو. (6/ 129 فتح).
(3) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة. (7/ 232 فتح).
ورضيفهما - حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك كل ليلة من تلك الليالي الثلاث .. (4) "
قال الحافظ في الشرح: "قوله: (في رِسْل) .. اللبن الطري. قوله (ورضيفهما) بوزن رغيف أي اللبن المرضوف أي التي [الذي] وضعت فيه الحجارة المحمّاة بالشمس أو النار لينعقد وتزول رخاوته (5) ".
__________
(4) المصدر السابق.
(5) فتح الباري (7/ 237).