قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَمْشِي بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِهِ: أَحَدُهُمَا الْفَضْلُ بْنُ الْعَبّاسِ، وَرَجُلٌ آخَرُ، عَاصِبًا رَأْسَهُ، تَخُطّ قَدَمَاهُ، حَتّى دَخَلَ بَيْتِي.
قَالَ عُبَيْدُ اللهِ، فَحَدّثْت هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدَ اللهِ بْنَ الْعَبّاسِ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَنْ الرّجُلُ الْآخَرُ؟ قَالَ: قُلْت: لَا، قَالَ: عَلِيّ بْنُ أَبِي طالب.
[شِدّةُ الْمَرَضِ وَصَبّ الْمَاءِ عَلَيْهِ]
ثُمّ غُمِرَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَاشْتَدّ بِهِ وَجَعُهُ، فَقَالَ هَريقُوا عَلَيّ سَبْعَ قِرَبٍ مِنْ آبَارٍ شَتّى، حَتّى أَخْرُجَ إلَى النّاسِ فَأَعْهَدُ إلَيْهِمْ. قَالَتْ:
فَأَقْعَدْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ، ثُمّ صَبَبْنَا عَلَيْهِ الْمَاءَ حَتّى طَفِقَ يَقُولُ:
حَسْبُكُمْ حَسْبُكُمْ.
[كَلِمَةٌ لِلنّبِيّ وَاخْتِصَاصُهُ أَبَا بَكْرٍ بِالذّكْرِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ الزّهْرِيّ: حَدّثَنِي أَيّوبُ بْنُ بَشِيرٍ: أَنّ رَسُولَ اللهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَرَجَ عَاصِبًا رَأْسَهُ حَتّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمّ كَانَ أَوّلُ مَا تَكَلّمَ بِهِ أَنّهُ صَلّى عَلَى أَصْحَابِ أُحُدٍ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، فَأَكْثَرَ الصّلَاةَ عَلَيْهِمْ، ثُمّ قَالَ:
إنّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللهِ خَيّرَهُ اللهُ بَيْنَ الدّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللهِ.
قَالَ: فَفَهِمَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَعَرَفَ أَنّ نَفْسَهُ يُرِيدُ، فَبَكَى وَقَالَ: بَلْ نَحْنُ نَفْدِيك بِأَنْفُسِنَا وَأَبْنَائِنَا، فَقَالَ: عَلَى رِسْلِك يَا أَبَا بَكْرٍ، ثُمّ قَالَ: اُنْظُرُوا هَذِهِ الْأَبْوَابَ اللّافِظَةَ فِي الْمَسْجِدِ، فَسُدّوهَا إلّا بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَانَ أَفْضَلَ فِي الصّحْبَةِ عِنْدِي يَدًا مِنْهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُرْوَى: إلّا بَابَ أَبِي بَكْرٍ.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الرحمن بن عَبْدِ اللهِ، عَنْ بَعْضِ آلِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلّى: أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، قَالَ يَوْمئِذٍ فِي كَلَامِهِ هَذَا: فَإِنّي لَوْ كُنْت مُتّخِذًا مِنْ الْعِبَادِ خَلِيلًا لا تخذت أبا بكر خليلا، ولكن صحبة وإخاه إيمَانٍ حَتّى يَجْمَعَ اللهُ بَيْنَنَا عِنْدَهُ.
[أَمْرُ الرّسُولِ بِإِنْفَاذِ بَعْثِ أُسَامَةَ]
وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اسْتَبْطَأَ النّاسَ فِي بَعْثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ فِي وَجَعِهِ، فَخَرَجَ عَاصِبًا رَأْسَهُ حَتّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَقَدْ كَانَ النّاسُ قَالُوا فِي إمْرَةِ أُسَامَةَ: أَمّرَ غُلَامًا حَدَثًا عَلَى جِلّةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ، ثُمّ قَالَ: أَيّهَا النّاسُ، أَنْفِذُوا بَعْثَ أُسَامَةَ، فَلِعَمْرِي لَئِنْ قُلْتُمْ فِي إمَارَتِهِ لَقَدْ قُلْتُمْ فِي إمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَإِنّهُ لَخَلِيقٌ لِلْإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ لَخَلِيقًا لَهَا.
قَالَ: ثُمّ نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَانْكَمَشَ الناس فى جهازهم، واستعزّ بِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَعُهُ، فَخَرَجَ أُسَامَةُ، وَخَرَجَ جَيْشُهُ مَعَهُ حَتّى نَزَلُوا الْجُرْفَ، مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى فَرْسَخٍ، فَضَرَبَ بِهِ عَسْكَرَهُ، وَتَتَامّ إلَيْهِ النّاسُ، وَثَقُلَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فَأَقَامَ أُسَامَةُ وَالنّاسُ، لِيَنْظُرُوا مَا اللهُ قَاضٍ فِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[وَصِيّةُ الرّسُولِ بِالْأَنْصَارِ]
وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَ الزّهْرِيّ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ:
أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ يَوْمَ صَلّى وَاسْتَغْفَرَ لِأَصْحَابِ أُحُدٍ، وَذَكَرَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا ذَكَرَ مَعَ مَقَالَتِهِ يَوْمئِذٍ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ اسْتَوْصُوا بِالْأَنْصَارِ خَيْرًا، فَإِنّ النّاسَ يَزِيدُونَ، وَإِنّ الْأَنْصَارَ عَلَى هَيْئَتِهَا لَا تَزِيدُ، وَإِنّهُمْ كَانُوا عَيْبَتِي الّتِي أَوَيْت إلَيْهَا، فَأَحْسِنُوا إلَى مُحْسِنِهِمْ، وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ: ثُمّ نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ بَيْتَهُ، وَتَتَامّ به وجعه، حتى غمر.
[شَأْنُ اللّدُودِ]
قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَاجْتَمَعَ إلَيْهِ نِسَاءٌ مِنْ نِسَائِهِ: أُمّ سَلَمَةَ، وَمَيْمُونَةُ، وَنِسَاءٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ، مِنْهُنّ أَسَمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَعِنْدَهُ الْعَبّاسُ عَمّهُ، فَأَجْمَعُوا أَنْ يَلُدّوهُ، وَقَالَ الْعَبّاسُ: لَأَلُدّنّهُ. قَالَ: فَلَدّوهُ، فَلَمّا أَفَاقَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، قَالَ: مَنْ صَنَعَ هَذَا بِي؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، عَمّك، قَالَ:
هَذَا دَوَاءٌ أَتَى بِهِ نِسَاءٌ جِئْنَ مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الْأَرْضِ، وَأَشَارَ نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ؛ قَالَ: وَلِمَ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ عَمّهُ الْعَبّاسُ: خَشِينَا يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَكُونَ بِك ذَاتُ الْجَنْبِ فَقَالَ: إنّ ذَلِكَ لَدَاءٌ مَا كَانَ اللهُ عَزّ وَجَلّ لِيَقْذِفَنِي بِهِ، لَا يَبْقَ فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ إلّا لُدّ إلّا عَمّي، فَلَقَدْ لُدّتْ مَيْمُونَةُ وَإِنّهَا لَصَائِمَةٌ، لِقَسَمِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، عُقُوبَةً لَهُمْ بِمَا صَنَعُوا بِهِ.
[دُعَاءُ الرّسُولِ لِأُسَامَةَ بِالْإِشَارَةِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ السّبّاقِ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ أَبِيهِ أُسَامَةَ بْنِ زيد، قَالَ: لَمّا ثَقُلَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَبَطْتُ وَهَبَطَ النّاسُ مَعِي إلَى الْمَدِينَةِ، فَدَخَلْت عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أُصْمِتَ فَلَا يَتَكَلّمُ، فَجَعَلَ يَرْفَعُ يَدَهُ إلَى السّمَاءِ ثُمّ يَضَعُهَا عَلَيّ، فَأَعْرِفُ أَنّهُ يَدْعُو لِي.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وقال ابن شهاب الزهرى: حدثنى عبيد بن عبد الله ابن عُتْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مَا أَسْمَعُهُ يَقُولُ: إنّ اللهَ لَمْ يَقْبِضْ نَبِيّا حَتّى يُخَيّرْهُ. قَالَتْ: فَلَمّا حُضِرَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ آخِرُ كَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا وَهُوَ يَقُولُ: بَلْ الرّفِيقُ الْأَعْلَى مِنْ الْجَنّةِ، قالت:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فقلت: إذا والله لا يختارنا، وعرفت أنه الذى كَانَ يَقُولُ لَنَا: إنّ نَبِيّا لَمْ يُقْبَضْ حتى يخيّر.
[صَلَاةُ أَبِي بَكْرٍ بِالنّاسِ]
قَالَ الزّهْرِيّ: وَحَدّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنّ عَائِشَةَ قَالَتْ:
لَمّا اُسْتُعِزّ بِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلّ بِالنّاسِ.
قَالَتْ: قُلْت: يَا نَبِيّ اللهِ، إن أبا بكر رَجُلٌ رَقِيقٌ، ضَعِيفُ الصّوْتِ، كَثِيرُ الْبُكَاءِ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، قَالَ: مُرُوهُ فَلْيُصَلّ بِالنّاسِ. قَالَتْ: فَعُدْت بِمِثْلِ قَوْلِي، فَقَالَ: إنّكُنّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ فمروه فليصلّ بالناس، قالت: فو الله مَا أَقُولُ ذَلِكَ إلّا أَنّي كُنْت أُحِبّ أَنْ يُصْرَفَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعَرَفْت أَنّ النّاسَ لَا يُحِبّونَ رَجُلًا قَامَ مَقَامَهُ أَبَدًا، وَأَنّ النّاسَ سَيَتَشَاءَمُونَ بِهِ فِي كُلّ حَدَثٍ كَانَ، فَكُنْت أُحِبّ أَنْ يُصْرَفَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زمعة بن الأسود ابن الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، قَالَ: لَمّا اُسْتُعِزّ بِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا عِنْدَهُ فِي نَفَرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: دَعَاهُ بَلَالٌ إلَى الصّلَاةِ، فَقَالَ: مُرُوا مَنْ يُصَلّي بِالنّاسِ. قَالَ: فَخَرَجْت فَإِذَا عُمَرُ فِي النّاسِ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ غَائِبًا؛ فَقُلْت:
قُمْ يَا عُمَرُ فَصَلّ بِالنّاسِ. قَالَ: فَقَامَ، فَلَمّا كَبّرَ، سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ، وَكَانَ عُمَرُ رَجُلًا مِجْهَرًا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَيْنَ أَبُو بَكْرٍ؟ يَأْبَى اللهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ، يَأْبَى اللهُ ذلك والمسلمون.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قَالَ فَبُعِثَ إلَى أَبِي بَكْرٍ، فَجَاءَ بَعْدَ أَنْ صَلّى عُمَرُ تِلْكَ الصّلَاةَ، فَصَلّى بِالنّاسِ.
قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَمَعَةَ: قَالَ لى عمر: ويحك، ماذا صنعب بِي يَا بْنَ زَمَعَةَ، وَاَللهِ مَا ظَنَنْت حِينَ أَمَرْتنِي إلّا أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَك بِذَلِكَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا صَلّيْت بِالنّاسِ. قَالَ: قُلْتُ: وَاَللهِ مَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَلَكِنّي حِينَ لَمْ أَرَ أَبَا بَكْر رَأَيْتُك أَحَقّ مَنْ حَضَرَ بِالصّلَاةِ بِالنّاسِ.
[الْيَوْمُ الّذِي قَبَضَ اللهُ فِيهِ نَبِيّهُ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ الزّهْرِيّ: حَدّثَنِي أَنَسُ بْنُ مالك: أنه لما كان يوم الاثنين الذى قبض الله فيه رسوله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، خَرَجَ إلَى النّاسِ، وَهُمْ يُصَلّونَ الصّبْحَ، فَرَفَعَ السّتْرَ، وَفَتَحَ الْبَابَ، فَخَرَجَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ على باب عائشة، فكاد المسلمون يفتنون فِي صَلَاتِهِمْ بِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ رَأَوْهُ فَرَحًا بِهِ، وَتَفَرّجُوا، فَأَشَارَ إلَيْهِمْ أَنْ اُثْبُتُوا عَلَى صَلَاتِكُمْ؛ قَالَ: فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سُرُورًا لَمّا رَأَى مِنْ هَيْئَتِهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ، وَمَا رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَسَنَ هَيْئَةً مِنْهُ تِلْكَ السّاعَةَ، قَالَ: ثُمّ رَجَعَ وَانْصَرَفَ النّاسُ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَفْرَقَ مِنْ وَجَعِهِ، فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ إلَى أَهْلِهِ بِالسّنْحِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ سَمِعَ تَكْبِيرَ عُمَرَ فِي الصّلَاةِ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أين أبو بكر؟ يَأْبَى اللهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ. فَلَوْلَا مَقَالَةٌ قَالَهَا عُمَرُ عِنْدَ وَفَاتِهِ، لَمْ يَشُكّ الْمُسْلِمُونَ أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنّهُ قَالَ عِنْدَ وَفَاتِهِ: إنْ أَسْتَخْلَفَ فَقَدْ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنّي، وَإِنْ أَتَرَكَهُمْ فَقَدْ تَرَكَهُمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنّي. فَعَرَفَ النّاسُ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَسْتَخْلِفْ أَحَدًا، وَكَانَ عُمَرُ غَيْرَ مَتّهُمْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ:
لَمّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاصِبًا رَأْسَهُ إلَى الصّبْحِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلّي بِالنّاسِ، فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفَرّجَ النّاسُ، فَعَرَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنّ النّاسَ لَمْ يَصْنَعُوا ذَلِكَ إلّا لِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فَنَكَصَ عَنْ مُصَلّاهُ، فَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ظَهْرِهِ، وَقَالَ: صَلّ بِالنّاسِ، وَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى جَنْبِهِ، فَصَلّى قَاعِدًا عَنْ يَمِينِ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمّا فَرَغَ مِنْ الصّلَاةِ أَقْبَلَ عَلَى النّاسِ، فَكَلّمَهُمْ رَافِعًا صَوْتَهُ، حَتّى خَرَجَ صَوْتُهُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ، يَقُولُ: أَيّهَا النّاسُ، سُعّرَتْ النّارُ، وَأَقْبَلَتْ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللّيْلِ المظلم، وإنى والله ما تَمَسّكُونِ عَلَيّ بِشَيْءِ، إنّي لَمْ أُحِلّ إلّا مَا أَحَلّ الْقُرْآنُ، وَلَمْ أُحَرّمْ إلّا مَا حَرّمَ الْقُرْآنُ.
قَالَ: فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ كَلَامِهِ، قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ:
يَا نَبِيّ اللهِ إنّي أَرَاك قَدْ أَصْبَحْتَ بِنِعْمَةِ مِنْ اللهِ وَفَضْلٍ كَمَا نُحِبّ، وَالْيَوْمُ يَوْمُ بِنْتِ خَارِجَةَ، أَفَآتِيهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمّ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ إلَى أهله بالسّنح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[شَأْنُ الْعَبّاسِ وَعَلِيّ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَ الزّهْرِيّ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ يَوْمئِذٍ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ عَلَى النّاسِ مِنْ عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النّاسُ:
يَا أَبَا حَسَنٍ، كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ؟ قَالَ: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللهِ بَارِئًا، قَالَ، فَأَخَذَ الْعَبّاسُ بِيَدِهِ، ثُمّ قَالَ: يَا عَلِيّ، أَنْتَ وَاَللهِ عَبْدُ الْعَصَا بَعْدَ ثَلَاثٍ، أَحْلِفُ بِاَللهِ لَقَدْ عَرَفْت الْمَوْتَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، كَمَا كُنْت أَعْرِفُهُ فِي وُجُوهِ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَانْطَلِقْ بِنَا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ فِينَا عَرَفْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا، أَمَرْنَاهُ فَأَوْصَى بِنَا النّاسَ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَلِيّ: إنّي وَاَللهِ لَا أَفْعَلُ، وَاَللهِ لَئِنْ مُنِعْنَاهُ لَا يُؤْتِينَاهُ أَحَدٌ بَعْدَهُ.
فَتُوُفّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشْتَدّ الضّحَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
[سِوَاكُ الرّسُولِ قُبَيْلَ الْوَفَاةِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عروة، عن عائشة، قَالَ: قَالَتْ: رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حِينَ دَخَلَ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَاضْطَجَعَ فِي حِجْرِي، فَدَخَلَ عَلَيّ رَجُلٌ مِنْ آلِ أَبِي بَكْرٍ، وَفِي يَدِهِ سِوَاكٌ أَخَضَرَ. قَالَتْ: فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهِ فِي يَدِهِ نَظَرًا عَرَفْت أَنّهُ يُرِيدُهُ، قَالَتْ: فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُحِبّ أَنْ أُعْطِيَك هَذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
السّوَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَأَخَذْته فَمَضَغْته لَهُ حَتّى لَيّنْته، ثُمّ أَعْطَيْته إيّاهُ، قَالَتْ: فَاسْتَنّ بِهِ كَأَشَدّ مَا رَأَيْته يَسْتَنّ بِسِوَاكٍ قَطّ، ثُمّ وَضَعَهُ، وَوَجَدْت رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عليه وسلم يثقل فى حجرى، فذهبت أنظر فى وجهه، فإذا بصره قد شخص، وَهُوَ يَقُولُ: بَلْ الرّفِيقُ الْأَعْلَى مِنْ الْجَنّةِ، قَالَتْ:
فَقُلْت: خُيّرْت فَاخْتَرْت وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ. قَالَتْ: وَقُبِضَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ أبيه عباد. قال: سمعت عائشة تَقُولُ: مَاتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي وَفِي دَوْلَتِي، لَمْ أَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا، فَمِنْ سَفَهِي وَحَدَاثَةِ سِنّي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبِضَ وَهُوَ فِي حِجْرِي، ثُمّ وَضَعْت رَأْسَهُ عَلَى وِسَادَةٍ، وَقُمْت ألْتَدِمُ مَعَ النّسَاءِ، وَأَضْرِبُ وجهى.
[مَقَالَةُ عُمَرَ بَعْدَ وَفَاةِ الرّسُولِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَ الزّهْرِيّ: وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمّا تُوُفّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عُمْرُ بْنُ الْخَطّابِ، فَقَالَ: إنّ رِجَالًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَزْعُمُونَ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ تُوُفّيَ، وَأَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَاتَ، وَلَكِنّهُ ذَهَبَ إلى ربه كما ذهب موسى ابن عِمْرَانَ، فَقَدْ غَابَ عَنْ قَوْمِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمّ رَجَعَ إلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ قِيلَ قَدْ مات؛ وو الله لَيَرْجِعَنّ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا رَجَعَ مُوسَى، فَلَيَقْطَعَنّ أَيْدِي رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ زَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم مات.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[,
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: لَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، قَدِمَهَا وَهِيَ أَوْبَأَ أَرْضِ اللهِ مِنْ الْحُمّى، فَأَصَابَ أَصْحَابَهُ مِنْهَا بَلَاءٌ وَسَقَمٌ، فَصَرَفَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْ نَبِيّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ.
قَالَتْ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَبِلَالٍ، مَوْلَيَا أَبِي بَكْرٍ، مَعَ أَبِي بَكْرٍ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، فَأَصَابَتْهُمْ الْحُمّى، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَعُودُهُمْ، وَذَلِكَ قبل أن يضرب علينا الحجاب، وبهم مالا يَعْلَمُهُ إلّا اللهُ مِنْ شِدّةِ الْوَعْكِ فَدَنَوْتُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ فَقُلْتُ لَهُ كَيْفَ تَجِدُك يا أبت؟ فقال:
كلّ امرىء مُصَبّحٌ فِي أَهْلِهِ ... وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نعله
قَالَتْ: فَقُلْت: وَاَللهِ مَا يَدْرِي أَبِي مَا يقول. قالت: ثم دنوت إلى عامر ابن فُهَيْرَةَ فَقُلْت لَهُ كَيْفَ تَجِدُك يَا عَامِرُ؟ فَقَالَ:
لَقَدْ وَجَدْتُ الْمَوْتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ ... إنّ الْجَبَانَ حَتْفُهُ مِنْ فَوْقِهِ
كُلّ امْرِئٍ مُجَاهَدٌ بطوقه ... كالثّور يحمى جلده بروقه
يُرِيدُ: بِطَاقَتِهِ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَتْ: فَقُلْت: وَاَللهِ مَا يَدْرِي عَامِرٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مَا يَقُولُ! قَالَتْ وَكَانَ بِلَالٌ إذَا تَرَكَتْهُ الْحُمّى اضْطَجَعَ بِفِنَاءِ الْبَيْتِ. ثُمّ رَفَعَ عَقِيرَتَهُ فَقَالَ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَن لَيْلَةً ... بفجّ وَحَوْلِي إذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجِنّةٍ ... وَهَلْ يَبْدُونَ لِي شَامَةٌ وَطُفَيْلُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: شَامَةٌ وَطُفَيْلٌ: جَبَلَانِ بِمَكّةَ.
[دُعَاءُ الرّسُولِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِنَقْلِ وَبَاءِ الْمَدِينَةِ إلَى مَهْيَعَةَ]
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: فَذَكَرْتُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَمِعْتُ مِنْهُمْ، فَقُلْت: إنّهُمْ لَيَهْذُونَ وَمَا يَعْقِلُونَ مِنْ شِدّةِ الْحُمّى. قَالَتْ:
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ حَبّبْ إلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبّبْت إلَيْنَا مَكّةَ، أَوْ أَشَدّ، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدّهَا وَصَاعِهَا وَانْقُلْ وَبَاءَهَا إلَى مَهْيَعَةَ، ومَهْيَعَةُ:
الْجُحْفَةُ.
[مَا جَهَدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْوَبَاءِ]
قَالَ ابْنُ إسحاق: وذكر ابن شِهَابٍ الزّهْرِيّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي: أَنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم لَمّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ أَصَابَتْهُمْ حُمّى الْمَدِينَةِ، حَتّى جَهَدُوا مَرَضًا، وَصَرَفَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْ نَبِيّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، حَتّى كَانُوا مَا يُصَلّونَ إلّا وَهُمْ قُعُودٌ، قَالَ: فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يُصَلّونَ كَذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ: اعْلَمُوا أَنّ صَلَاةَ الْقَاعِدِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عَلَى النّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ. قَالَ: فَتَجَشّمَ الْمُسْلِمُونَ الْقِيَامَ عَلَى مَا بِهِمْ مِنْ الضّعْفِ والسّقم التماس الفضل.
[بَدْءُ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تَهَيّأَ لِحَرْبِهِ، قَامَ فِيمَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ مِنْ جِهَادِ عَدُوّهِ، وَقِتَالِ مَنْ أَمَرَهُ اللهُ بِهِ مِمّنْ يَلِيهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى بِثَلَاثَ عشرة سنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذكر نصاري نجران وما أنزل الله فيهم قَدْ تَقَدّمَ أَنّ نَجْرَانَ عُرِفَتْ بِنَجْرَانَ بْنِ زيد بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وَأَمّا أَهْلُهَا فَهُمْ: بَنُو الْحَارِثِ بْنِ كَعْبِ مِنْ مَذْحِجَ.
تَأْوِيلُ كُنْ فَيَكُونُ:
ذَكَرَ فِيهِ قَوْلَهُمْ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَبُوهُ يَا مُحَمّدُ، يَعْنُونَ عِيسَى، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ إلَى قوله: كُنْ فَيَكُونُ وَفِيهَا نُكْتَةٌ، فَإِنّ ظَاهِرَ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ: خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ، ثُمّ قَالَ لَهُ: كُنْ فَكَانَ، فَيَعْطِفُ بِلَفْظِ الْمَاضِي عَلَى الْمَاضِي، وَالْجَوَابُ: أَنّ الْفَاءَ تُعْطِي التّعْقِيبَ وَالتّسْبِيبَ، فَلَوْ قَالَ: فَكَانَ لَمْ تَدُلّ الْفَاءُ إلّا عَلَى التّسْبِيبِ، وَأَنّ الْقَوْلَ سَبَبٌ لِلْكَوْنِ، فَلَمّا جَاءَ بِلَفْظِ الْحَالِ دَلّ مَعَ التّسْبِيبِ عَلَى اسْتِعْقَابِ الْكَوْنِ لِلْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ مَهَلٍ، وَأَنّ الْأَمْرَ بَيْنَ الْكَافِ وَالنّونِ، قَالَ لَهُ: كُنْ فَإِذَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هُوَ كَائِنٌ، وَاقْتَضَى لَفْظُ فِعْلَ الْحَالِ كَوْنَهُ فِي الْحَالِ، فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى: إنّ آدَمَ مَكَثَ دَهْرًا طَوِيلًا «1» ، وَهُوَ طِينٌ صَلْصَالٌ، وَقَوْلُهُ لِلشّيْءِ:
كُنْ فَيَكُونُ يَقْتَضِي التّعْقِيبَ، وَقَدْ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ، وَهِيَ سِتّةُ آلَافِ سَنَةٍ «2» ، فَأَيْنَ قَوْلُهُ. كُنْ فيكون من هذا؟
فالجواب: ما قاله أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنّ قَوْلَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ: كُنْ يَتَوَجّهُ إلَى الْمَخْلُوقِ مُطْلَقًا وَمُقَيّدًا، فَإِذَا كَانَ مُطْلَقًا كَانَ كَمَا أَرَادَ لِحِينِهِ، وَإِذَا كَانَ مُقَيّدًا بِصِفَةِ أَوْ بِزَمَانِ كَانَ كَمَا أَرَادَ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ الزّمَانِ الّذِي تَقَيّدَ الْأَمْرُ بِهِ، فَإِنْ قَالَ لَهُ: كُنْ فِي أَلْفِ سَنَةٍ، كَانَ فِي أَلْفِ سَنَةٍ، وَإِنْ قَالَ لَهُ: كُنْ فِيمَا دُونَ اللّحْظَةِ كَانَ كَذَلِكَ.
تَأْوِيلُ آيَاتٍ مُحْكَمَاتٍ:
فَصْلٌ. وَذَكَرَ صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَفَسّرَ مِنْهُ كَثِيرًا، فَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:
مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ وهو مالا يَحْتَمِلُ إلّا تَأْوِيلًا وَاحِدًا، وَهُوَ عِنْدِي مِنْ أَحَكَمْت الْفَرَسَ بِحَكَمَتِهِ، أَيْ: مَنَعْته مِنْ الْعُدُولِ عن طريقه كما قال حسان:
__________
(1) من أين جاء بهذا؟
(2) لم يرد بهذا حديث صحيح، ولابن كثير تفسير لقوله تَعَالَى: وَإِنّ يَوْمًا عِنْدَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مما تعدون «أى: هو تعالى لا يعجل، فإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد بالنسبة إلى حلمه لعلمه بأنه على الانتقام قادر، وأنه لا يفوته شىء، وإن أمهل وأنظر وأملى» وهو تفسير جميل بدفع القول بأن اليوم يساوى ستة ألاف سنة، وثمت أحاديث تدل على أنها ستة أيام بأيامنا هذه. وخير للمسلم أن يقف عند الذى ذكر فى القرآن.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَنُحْكِمُ بِالْقَوَافِي مَنْ هَجَانَا
أَيْ: نُلْجِمُهُ فَنَمْنَعُهُ، وَكَذَلِكَ الْآيَةُ الْمُحْكَمَةُ لَا تُتَصَرّفُ بِقَارِئِهَا التّأْوِيلَاتُ، وَلَا تَتَعَارَضُ عَلَيْهِ الِاحْتِمَالَاتُ، وَلَيْسَ مِنْ لَفْظِ الْحِكْمَةِ، لِأَنّ الْقُرْآنَ كُلّهُ حِكْمَةٌ وَعِلْمٌ. وَالْمُتَشَابِهُ يَمِيلُ بِالنّاظِرِ فِيهِ إلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَطُرُقٍ متباينة، وقوله سبحانه: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ هَذَا مِنْ الْحِكْمَةِ وَمِنْ الْإِحْكَامِ الّذِي هُوَ الْإِتْقَانُ، فَالْقُرْآنُ كُلّهُ مُحْكَمٌ عَلَى هَذَا، وَهُوَ كُلّهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُتَشَابِهٌ أَيْضًا، لِأَنّ بَعْضَهُ يُشْبِهُ بَعْضًا فِي بَرَاعَةِ اللّفْظِ، وَإِعْجَازِ النّظْمِ، وَجَزَالَةِ الْمَعْنَى، وَبَدَائِعِ الْحِكْمَةِ، فَكُلّهُ مُتَشَابِهٌ وَكُلّهُ مُحْكَمٌ، وَعَلَى الْمَعْنَى الْأَوّلِ: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ؛ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَهْلُ الزّيْغِ يَعْطِفُونَ الْمُتَشَابِهَ عَلَى أَهْوَائِهِمْ وَيُجَادِلُونَ بِهِ عَنْ آرَائِهِمْ، وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَرُدّونَ المتشابه إلى المحكم أخذا بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَعِلْمًا بِأَنّ الْكُلّ مِنْ عِنْدِ اللهِ، فَلَا يُخَالِفُ بَعْضُهُ بَعْضًا. رَوَتْ عَائِشَةُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ قَالَ: إذَا رَأَيْتُمْ الّذِينَ يُجَادِلُون فِيهِ، فَهُمْ أولئك فاحذروهم «1» : وللسلف فى معنى
__________
(1) رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى وابن ماجة وأحمد ولفظ البخارى عن عائشة قالت: «تلا رسول الله «ص» هذه الآية (هُوَ الّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ محكمات) إلى قوله: (وما يذكر إلا أولوا الألباب) قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: فاذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى فاحذروهم»
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُحْكَمِ وَمَعْنَى الْمُتَشَابِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ، إلّا أَنّ منهم مَنْ يَرَى الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ:
وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَيَرَوْنَهُ تَمَامَ الْكَلَامِ، وَيَحْتَجّونَ بِقِرَاءَةِ ابْنِ عَبّاسٍ ويقول الرّسخون فِي الْعِلْمِ «1» ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنّ الرّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ التّأْوِيلَ، وَإِنْ عَلِمُوا التّفْسِيرَ. وَالتّأْوِيلَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ غَيْرَ التّفْسِيرِ، إنّمَا هُوَ عِنْدَهُمْ فِي مَعْنَى قوله سبحانه: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ «2» وطائفة
__________
(1) لا يعتد بمثل هذه القراآت التى لا ترد عن طريق سند صحيح قوى.
(2) التأويل: تفعيل من آل يئول إلى كذا إذا صار إليه، فالتأويل: التصيير، وأولته تأويلا: إذا صيرته إليه. وتسمى العاقبة: تأويلا، لأن الأمر يصير إليها، وتسمى حقيقة الشىء المخبر به تأويلا لأن الأمر ينتهى إليه، ومنه قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ فمجىء تأويله مجىء نفس ما أخبرت به الرسل من اليوم الآخر والمعاد وتفاصيله والجنة والنار، وتسمى العلة الغائية والحكمة المطلوبة بالفعل تأويلا لأنها بيان لمقصود الفاعل، وغرضه من الفعل الذى لم يعرف الرائى له غرضه به، ومنه قول الخضر لموسى: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً. فالتأويل فى كتاب الله المراد منه: حقيقة المعنى الذى يئول إليه اللفظ، وهى الحقيقة الموجودة فى الخارج، فإن الكلام نوعان، خبر وطلب فتأويل الخبر هو الحقيقة، وتأويل الوعد والوعيد هو نفس الموعود والمتوعد به وتأويل ما أخبر الله به من صفاته العلى، وأفعاله نفس ما هو عليه سبحانه، وما هو موصوف به من الصفات العلى. وتأويل الأمر هو نفس الأفعال المأمور بها وأما التأويل فى اصطلاح أهل التفسير والسلف من أهل الفقه والحديث فمرادهم به معنى التفسير والبيان. وأما المعتزلة والجهمية وغيرهم من المتكلمين، فمرادهم بالتأويل: صرف اللفظ عن ظاهره، وهو معنى للتأويل لا يوجد فى لغة القرآن انظر ص 10 ح 1 مختصر الصواعق المرسلة للامام ابن القيم ط السلفية المكية سنة 1348 هـ وإذا كان التأويل بمعنى الحقيقة الموجودة فى الخارج وكان بالنسبة-
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَرَوْنَ أَنّ قَوْلَهُ: وَالرّاسِخُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَأَنّهُمْ عَالِمُونَ بِالتّأْوِيلِ، وَيَحْتَجّونَ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ مِنْ أَثَرٍ وَنَظَرٍ، وَاَلّذِي أَرْتَضِيهِ مِنْ ذَلِكَ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ الّذِي قَالَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَمَعْنَاهُ كُلّهُ أَنّ الكلام قدتمّ فِي قَوْلِهِ: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلّا اللهُ. والراسخون فى العلم: مبتدأ، لكن لأنقول: إنّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ. كَمَا قَالَتْ الطّائِفَةُ الْأُولَى، وَلَكِنْ نَقُولُ:
إنّهُمْ يَعْلَمُونَهُ بِرَدّ الْمُتَشَابِهِ إلَى الْمُحْكَمِ، وبالاستدلال عَلَى الْخَفِيّ بِالْجَلِيّ، وَعَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ بِالْمُتّفَقِ عَلَيْهِ، فَتَنْفُذُ بِذَلِكَ الْحُجّةُ، وَيُزَاحُ الْبَاطِلُ، وَتَعْظُمُ دَرَجَةُ الْعَالِمِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، لِأَنّهُ يَقُولُ: آمَنْت بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّي فَكَيْفَ يَخْتَلِفُ؟! وَلَمّا كَانَ الْعِلْمَانِ مُخْتَلِفَيْنِ: عِلْمُ اللهِ، وَعِلْمُ الرّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لم يجز عطف: «الراسخون» عَلَى مَا قَبْلَهُ، فَاَللهُ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ الْعِلْمَ القديم «1»
__________
- لصفات الله وأسمائه، هو نفس ما هو عليه سبحانه، وما هو موصوف به من الصفات، فإن أحدا لا يعلم شيئا من هذا، ولا يستطيعه حتى الراسخون فى العلم. أما إذا كان بمعنى التفسير والبيان، فالراسخون يعلمون، كتفسير الاستواء بعلو العلى الغفار، وإذا كان التأويل بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره بقرينة مزعومة فهو معنى باطل كأريل الاستواء بالاستيلاء، وخرج صاحب هذا التأويل فى زعمه من شنيع إلى ما هو أشد شناعة وغلظا فيها، وما فى إخبار الله عن نفسه بأنه استوى أثارة من شناعة. وإلا حكمنا على ربنا بأنه لا يحسن البيان، أو بأنه يخبر عن نفسه بما ليس لوجوده أو لمعناه حقيقة، أو يخبر عن نفسه بما فيه شناعة، وأما فى الإخبار عنه بأنه استولى ففيه ما فيه، فيه بهت الله بما لم يقله، فيه الحكم على الله بأنه غلب يوما على أمره، فالاستيلاء يفيد المغالبة، فيه الزعم بأننا أحسن بيانا من الله فى التعبير عن صفاته. ومعاذ الله جل شأنه
(1) لم يرد لا فى القرآن، ولا فى الحديث الصحيح وصف علم الله بهذه الصفة التى لا توحى إلا بالعفونة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَا بِتَذَكّرِ، وَلَا بِتَفَكّرِ، وَلَا بِتَدْقِيقِ نَظَرٍ، وَلَا بِفَحْصِ عَنْ دَلِيلٍ، فَلَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ هَكَذَا إلّا اللهُ. وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ بِالْفَحْصِ عَنْ الدّلِيلِ، وَبِتَدْقِيقِ النّظَرِ وَتَسْدِيدِ الْعِبَرِ، فَهُمْ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ إسْحَاقَ فِي الْآيَةِ.
احْتِجَاجُ الْقِسّيسِينَ لِلتّثْلِيثِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ احْتِجَاجَ الْأَحْبَارِ وَالْقِسّيسِينَ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ بِقَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ:
خَلَقْنَا وَأَمَرْنَا وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، وَقَالُوا هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ تَعَالَى اللهُ عَنْ قَوْلِهِمْ، وَهَذَا مِنْ الزّيْغِ بِالْمُتَشَابِهِ، دُونَ رَدّهِ إلَى الْمُحْكَمِ نَحْوَ قَوْلِهِ:
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ و: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْعَجَبُ مِنْ ضَعْفِ عُقُولِهِمْ: كَيْفَ احْتَجّوا عَلَى مُحَمّدٍ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمّدٍ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَعْنَى مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، لِأَنّ هَذَا اللّفْظَ الّذِي احْتَجّوا بِهِ مَجَازٌ عَرَبِيّ، وَلَيْسَ هُوَ لَفْظَ التّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَأَصْلُ هَذَا الْمَجَازِ فِي الْعَرَبِيّةِ أَنّ الْكِتَابَ إذَا صَدَرَ عَنْ حَضْرَةِ مَلِكٍ كَانَتْ الْعِبَارَةُ فِيهِ عَنْ الْمَلِكِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ دَلَالَةً عَلَى أَنّهُ كَلَامُ مَلِكٍ مَتْبُوعٍ عَلَى أَمْرِهِ، وَقَوْلِهِ، فَلَمّا خَاطَبَهُمْ اللهُ تَعَالَى بِهَذَا الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَنْزَلَهُ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ فِي الْكَلَامِ، وَجَاءَ اللّفْظُ فِيهِ عَلَى أُسْلُوبِ الْكَلَامِ الصّادِرِ عَنْ حَضْرَةِ الْمَلِكِ، وَلَيْسَ هَذَا فِي غَيْرِ اللّسَانِ الْعَرَبِيّ، وَلَا يَتَطَرّقُ هَذَا الْمَجَازُ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ إلَى الْكَلَامِ الْقَدِيمِ، إنّمَا هُوَ فِي اللّفْظِ الْمُنَزّلِ، وَلِذَلِكَ نَجِدُهُ إذَا أَخْبَرَ عَنْ قَوْلٍ قَالَهُ لِنَبِيّ قَبْلَنَا، أَوْ خَاطَبَ بِهِ غَيْرَنَا نَحْوَ قَوْلِهِ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ وَلَمْ يَقُلْ: خَلَقْنَا بِأَيْدِينَا، كَمَا قَالَ: مِمّا عَمِلَتْهُ أَيْدِينَا، وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ وَحْيِهِ لِمُوسَى: وَلِتُصْنَعَ عَلى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَيْنِي وَلَمْ يَقُلْ: كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا لِأَنّهُ أَخْبَرَ عَنْ قَوْلٍ قَالَهُ لَمْ يُنْزِلْهُ بِهَذَا اللّسَانِ الْعَرَبِيّ وَلَمْ يَحْكِ لَفْظًا أَنْزَلَهُ، وَإِنّمَا أَخْبَرَ عَنْ الْمَعْنَى، وَلَيْسَ الْمَجَازُ فِي الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِعَبْدِ أَنْ يَقُولَ رَبّ اغْفِرُوا، وَلَا ارْحَمُونِي، وَلَا عَلَيْكُمْ تَوَكّلْت، وَلَا إلَيْكُمْ أَنَبْت، وَلَا قَالَهَا نَبِيّ قَطّ فِي مُنَاجَاتِهِ، وَلَا نَبِيّ فِي دُعَائِهِ لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُشْعِرَ قَلْبَهُ التّوْحِيدَ، حَتّى يُشَاكِلَ لَفْظُهُ عَقْدَهُ. الثّانِي: مَا قَدّمْنَاهُ مِنْ سَيْرِ هَذَا الْمَجَازِ، وَأَنّ سَبَبَهُ صُدُورُ الْكَلَامِ عَنْ حَضْرَةِ الْمَلِكِ مُوَافَقَةً لِلْعَرَبِ فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ مِنْ كَلَامِهَا، وَاخْتِصَاصِهَا بِعَادَةِ مُلُوكِهَا وَأَشْرَافِهَا، وَلَا نَنْظُرُ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَبِذَلِك رُوجِعُوا، يَعْنِي: بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَاحْتَجّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ خَبَرًا عَمّنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ مِنْ الْكُفّارِ إذْ يَقُولُ: رَبِّ ارجعون، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا خَبَرٌ عَمّنْ حَضَرَتْهُ الشّيَاطِينُ، أَلَا تَرَى قَبْلَهُ: وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَنْ يحضرون، فإنما جَاءَ هَذَا حِكَايَةً عَمّنْ حَضَرَتْهُ الشّيَاطِينُ، وَحَضَرَتْهُ زَبَانِيَةُ الْعَذَابِ وَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ فِي الْمَوْتِ مَا كَانَ يَعْتَادُهُ فِي الْحَيَاةِ مِنْ رَدّ الْأَمْرِ إلَى الْمَخْلُوقِينَ، فَلِذَلِكَ خُلِطَ، فَقَالَ: رَبّ، ثُمّ قَالَ: ارْجِعُونِ «1» ، وَإِلّا فَأَنْتَ أَيّهَا الرّجُلُ الْمُجِيزُ لِهَذَا اللّفْظِ فِي مُخَاطَبَةِ الرّبّ سُبْحَانَهُ: هَلْ قُلْت قَطّ فِي دُعَائِك: ارْحَمُونِ يَا رَبّ، وَارْزُقُونِ؟! بَلْ لَوْ سَمِعْت غَيْرَك يَقُولُهَا لسطوت به، وأما قول
__________
(1) سبقه إلى هذا ابن جرير الطبرى، ففيه «وإنما ابتدىء الكلام بخطاب الله جل ثناؤه، لأنهم استغاثوا به، ثم رجعوا إلى مسئلة الملائكة الرجوع والرد إلى الدنيا» ونقل عن بعض نحويى الكوفة «قيل ذلك كذلك لأنه مما جرى على وصف الله نفسه من قوله: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً فى غير مكان من القرآن، فجرى هذا على ذاك»
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْأَمْرُ عِنْدَنَا، أَوْ رَأَيْنَا كَذَا، أَوْ نَرَى كَذَا، فَإِنّمَا ذَلِكَ، لِأَنّهُ قَوْلٌ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ، وَلَوْ انْفَرَدَ بِهِ لَكَانَ بِدْعَةً، وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ تَعْظِيمًا لِنَفْسِهِ، لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الدّينِ وَالدّعَةِ.
احْتِجَاجُهُمْ لِأُلُوهِيّةِ عِيسَى:
وَأَمّا احْتِجَاجُ الْقِسّيسِينَ بِأَنّهُ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَيَخْلُقُ مِنْ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَيَنْفُخُ فِيهِ، فَلَوْ تَفَكّرُوا لَأَبْصَرُوا أَنّهَا حُجّةٌ عَلَيْهِمْ، لِأَنّ اللهَ تَعَالَى خَصّهُ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ بِمُعْجِزَاتِ تُبْطِلُ مَقَالَةَ مَنْ كَذّبَهُ، وَتُبْطِلُ أَيْضًا مَقَالَةَ مَنْ زَعَمَ أَنّهُ إلَهٌ أَوْ ابْنُ الْإِلَهَ وَاسْتَحَالَ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا مِنْ غَيْرِ أَبٍ، فَكَانَ نَفَخَهُ فِي الطّينِ، فَيَكُونُ طَائِرًا حَيّا: تَنْبِيهًا لَهُمْ لَوْ عَقَلُوهُ عَلَى أَنّ مَثَلَهُ كَمَثَلِ آدَمَ خُلِقَ مِنْ طِينٍ، ثُمّ نَفَخَ فِيهِ الرّوحَ، فَكَانَ بَشَرًا حَيّا، فَنَفَخَ الرّوحَ فِي الطّائِرِ الّذِي خَلَقَهُ عِيسَى مِنْ طِينٍ لَيْسَ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ، الْكُلّ فَعَلَ اللهُ، وَكَذَلِكَ إحْيَاؤُهُ لِلْمَوْتَى، وَكَلَامُهُ فِي الْمَهْدِ، كُلّ ذَلِكَ يَدُلّ عَلَى أَنّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ نَفْخَةِ رُوحِ الْقُدْسِ فِي جَيْبِ أُمّهِ، وَلَمْ يُخْلَقْ مِنْ مَنِيّ الرّجَالِ، فَكَانَ مَعْنَى الرّوحِ فِيهِ- عَلَيْهِ السّلَامُ- أَقْوَى مِنْهُ فِي غَيْرِهِ، فَكَانَتْ مُعْجِزَاتُهُ رُوحَانِيّةً دَالّةً عَلَى قُوّةِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رُوحِ الْحَيَاةِ، وَمِنْ ذَلِكَ بَقَاؤُهُ حَيّا إلَى قُرْبِ السّاعَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أُبَيّ بْنِ كَعْبٍ أَنّ الرّوحَ الّذِي تَمَثّلَ لَهَا بَشَرًا هُوَ الرّوحُ الّذِي حَمَلَتْ بِهِ، وَهُوَ عِيسَى عَلَيْهِ السّلَامُ دَخَلَ مِنْ فِيهَا إلَى جَوْفِهَا. رَوَاهُ الْكَشِيّ بِإِسْنَادِ حَسَنٍ يَرْفَعُهُ إلَى أُبَيّ «1» ، وَخُصّ بِإِبْرَاءِ الأكمه والأبرص،
__________
(1) بدعة توحى إليك بأن وراءها خرفا صليبيا. فالصليبية تزعم هذا. -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَفِي تَخْصِيصِهِ بِإِبْرَاءِ هَاتَيْنِ الْآفَتَيْنِ مُشَاكَلَةٌ لِمَعْنَاهُ- عَلَيْهِ السّلَامُ- وَذَلِكَ أَنّ فِرْقَةً عَمِيَتْ بَصَائِرُهُمْ، فَكَذّبُوا نُبُوّتَهُ، وَهُمْ الْيَهُودُ وَطَائِفَةٌ غَلَوْا فِي تعظيمه بعد ما ابْيَضّتْ قُلُوبُهُمْ بِالْإِيمَانِ، ثُمّ أَفْسَدُوا إيمَانَهُمْ بِالْغُلُوّ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الْأَبْرَصِ أَبْيَضَ بَيَاضًا فَاسِدًا، وَمَثَلُ الْآخَرِينَ مَثَلُ الْأَكْمَهِ الْأَعْمَى، وَقَدْ أَعْطَاهُ اللهُ مِنْ الدّلَائِلِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ مَا يُبْطِلُ الْمَقَالَتَيْنِ «1» ، وَدَلَائِلُ الْحُدُوثِ تُثْبِتُ لَهُ الْعُبُودِيّةَ، وَتَنْفِي عَنْهُ الرّبُوبِيّةَ، وَخَصَائِصُ مُعْجِزَاتِهِ تَنْفِي عَنْ أُمّهِ الرّيبَةَ وَتُثْبِتُ لَهُ وَلَهَا النّبُوّةَ وَالصّدّيقِيّةَ، فَكَانَ فِي مَسِيحِ الْهُدَى مِنْ الْآيَاتِ مَا يُشَاكِلُ حَالَهُ، وَمَعْنَاهُ حِكْمَةٌ مِنْ اللهِ، كَمَا جَعَلَ فِي الصورة الظاهرة مِنْ مَسِيحِ الضّلَالَةِ، وَهُوَ الْأَعْوَرُ الدّجّالُ مَا يُشَاكِلُ حَالَهُ، وَيُنَاسِبُ صُورَتَهُ الْبَاطِنَةَ، عَلَى نَحْوِ مَا شَرَحْنَا وَبَيّنّا فِي إمْلَاءٍ أَمْلَيْنَاهُ عَلَى هَذِهِ النّكْتَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ وَالْحَمْدُ لِلّهِ.
وَضَعْتهَا أُنْثَى:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ فِي تَفْسِيرِ مَا نَزَلَ فِيهِمْ قَوْلَ حَنّةَ أُمّ مَرْيَمَ، وهى بنت ماثان «2»
__________
- وهدى الله فى الآيات التى ذكرت المحاورة بين الروح المتمثل بشرا وبين مريم تنفى هذا المفهوم الصليبى.
(1) يوجد فى العهد القديم ما يدل على أن الأبرص كان يعيش بين بنى إسرائيل منبوذا من المجتمع محكوما بنجاسته من الكهنة. اقرأ تفصيل أحكامه هو وغيره فى سفر اللاويين لا سيما الإصحاح الثالث عشر منه.
(2) من أين جاء بهذه الأسماء؟ الخير أن نقف عند الحد الذى بين القرآن.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التّأْوِيلِ: أَشَارَتْ إلَى مَعْنَى الْحَيْضِ أَنّ الْأُنْثَى تَحِيضُ، فَلَا تَخْدُمُ الْمَسْجِدَ، ولذلك قال: (وليس الذكر كالأنثى) لِأَنّ الذّكَرَ لَا يَحِيضُ، فَهُوَ أَبَدًا فِي خِدْمَةِ الْمَسْجِدِ، وَهَذِهِ إشَارَةٌ حَسَنَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: كَانَ الْقِيَاسُ فِي الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: وَلَيْسَ الْأُنْثَى كَالذّكَرِ، لِأَنّهَا دُونَهُ، فَمَا بَالُهُ بَدَأَ بِالذّكْرِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنّ الْأُنْثَى إنّمَا هِيَ دُونَ الذّكَرِ فِي نَظَرِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنّهُ يَهْوَى ذكران البنين، وهم مع الأمول زِينَةُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَأَقْرَبُ إلَى فِتْنَةِ الْعَبْدِ، وَنَظَرُ الرّبّ لِلْعَبْدِ خَيْرٌ مِنْ نَظَرِهِ لِنَفْسِهِ، فَلَيْسَ الذّكَرُ كَالْأُنْثَى عَلَى هَذَا، بَلْ الْأُنْثَى أَفْضَلُ فِي الْمَوْهِبَةِ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ:
يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً فبدأ بذكرهنّ قبل الذكور، وفى الحديث: ابدؤوا بِالْإِنَاثِ، يَعْنِي: فِي الرّحْمَةِ وَإِدْخَالِ السّرُورِ عَلَى الْبَنِينَ، وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا «مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ دَخَلْت أَنَا وَهُوَ الْجَنّةَ كَهَاتَيْنِ» «1» فَتَرَتّبَ الْكَلَامُ فِي التّنْزِيلِ عَلَى حَسْبِ الْأَفْضَلِ فِي نَظَرِ اللهِ لِلْعَبْدِ، وَاَللهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ.
الْمُبَاهَلَةُ فَصْلٌ: وَذَكَرَ دُعَاءَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ أَهْلَ نَجْرَانَ إلى المباهلة «2» ، وأنهم
__________
(1) رواية مسلم: «من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه» وقريب من هذه رواية الترمذى.
(2) أخرج البخارى بسنده عن حذيفة رضى الله عنه قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريدان أن يلاعناه قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل فو الله لئن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من، بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعث-
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رَضُوا بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ وَالصّغَارِ، وَأَنْ لَا يُلَاعِنُوهُ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنّ بَعْضَهُمْ قَالَ لِبَعْضِ: إنْ لَاعَنْتُمُوهُ، وَدَعَوْتُمْ بِاللّعْنَةِ عَلَى الْكَاذِبِ اضْطَرَمَ الْوَادِي عَلَيْكُمْ نَارًا، وَفِي تَفْسِيرِ الْكَشّيّ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ:
لَقَدْ تَدَلّى إلَيْهِمْ الْعَذَابُ، وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ بَاهَلُونِي لَاسْتُؤْصِلُوا مِنْ عَلَى جَدِيدِ الْأَرْضِ.
نُكْتَةٌ: فى قوله: نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ، وَ [نِساءَنا وَنِساءَكُمْ] بَدَأَ بِالْأَبْنَاءِ وَالنّسَاءِ قَبْلَ الْأَنْفُسِ. وَالْجَوَابُ: أَنّ أَهْلَ التّفْسِيرِ قَالُوا أَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ، أَيْ لِيَدْعُ بَعْضُنَا بَعْضًا، وَهَذَا نَحْوَ قَوْلُهُ: فَسَلّمُوا عَلَى أنفسكم فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، أَيْ: يُسَلّمُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَبَدَأَ بِذِكْرِ الْأَوْلَادِ الّذِينَ هُمْ فَلَذُ الْأَكْبَادِ، ثُمّ بِالنّسَاءِ الّتِي جَعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مَوَدّةً وَرَحْمَةً، ثُمّ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ دُعَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، لِأَنّ الْإِنْسَانَ لَا يَدْعُو نَفْسَهُ، وَانْتَظَمَ الْكَلَامَ عَلَى الْأُسْلُوبِ الْمُعْتَادِ فِي إعْجَازِ الْقُرْآنِ. وَفِي حَدِيثِ أَهْلِ نَجْرَانَ زِيَادَةٌ كَثِيرَةٌ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ، مِنْهَا أَنّ رَاهِبَ نَجْرَانَ حِينَ رَجَعَ الْوَفْدُ وَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ رَحَلَ إلَى النّبِيّ- صَلَّى الله عليه وسلم- فسمع منه وَأَهْدَى إلَيْهِ الْقَضِيبَ وَالْقَعْبَ وَالْبُرْدَ «1» الّذِي هُوَ الآن عند خلفاء بنى العبّاس يتوارثونه.
__________
- معنا إلا أمينا فقال: لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين، فاستشرف لها أصحاب رسول الله «ص» فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام، قال رسول الله «ص» «هذا أمين هذه الأمة» ورواه أيضا مسلم والترمذى والنسائى وابن ماجة بنحوه. ومن حديث آخر «لو خرج الذين يباهلون رسول الله «ص» لرجعوا لا يجدون مالا، ولا أهلا» البخارى والترمذى والنسائى.
(1) البرد: ثوب مخطط، والقعب: القدح الضخم، والقضيب: السيف اللطيف الدقيق
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سَلُولُ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قِصّةَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبىّ بن سَلُولَ، وَسَلُولُ: هِيَ أُمّ أُبَيّ، وَهِيَ خُزَاعِيّةٌ، وَهُوَ أُبَيّ بْنُ مَالِكٍ مِنْ بَنِي الْحُبْلَى، وَاسْمُ الْحُبْلَى: سَالِمٌ وَالنّسَبُ إلَيْهِ:
حُبُلِيّ بِضَمّتَيْنِ، كَرِهُوا أَنْ يَقُولُوا: حُبْلَوِيّ أَوْ حُبُلِيّ أَوْ حُبْلَاوِيّ عَلَى قِيَاسِ النّسَبِ، لِأَنّ حُبْلَى وَسَكْرَى وَنَحْوَهُمَا إذَا كَانَا اسْمًا لِرَجُلِ، لَمْ يَجْرِ فِي الْجَمْعِ عَلَى حُكْمِ التّأْنِيثِ، وَكَذَلِكَ فَعْلَاءُ بِالْمَدّ تَقُولُ فِي جَمْعِ رَجُلٍ اسْمُهُ: سَلْمَى أَوْ وَرْقَاءُ الْوَرْقَاوُونَ وَالسّلَمُونَ، وَهَذَا بِخِلَافِ تَاءِ التّأْنِيثِ، فَإِنّك تَقُولُ فِي طَلْحَةَ اسْمُ رَجُلٍ طَلَحَاتٍ، كَمَا كُنْت تَقُولُ فِي غَيْرِ الْعَلَمِيّةِ، لِأَنّ التّاءَ لَا تَكُونُ إلّا لِلتّأْنِيثِ، وَالْأَلِفُ تَكُونُ لِلتّأْنِيثِ وَغَيْرِهِ، فَلَمّا كَانَتْ أَلِفُ التّأْنِيثِ بِخِلَافِ تَاءِ التّأْنِيثِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَعْلَامِ كَانَ النّسَبُ إلَيْهَا مُخَالِفًا لِلنّسَبِ إلَى مَا فِيهِ أَلِفُ التّأْنِيثِ فِي غَيْرِ الْأَعْلَامِ، غَيْرَ أَنّ هَذَا فِي بَابِ النّسَبِ لَا يَطْرُدُ وَإِنْ اطّرَدَ الْجَمْعُ، كَمَا قَدّمْنَا، وَكَانَتْ النّكْتَةُ الّتِي خُصّ بِهَا النّسَبُ فِي بَنِي الْحُبْلَى بِمُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ كَرَاهِيَتَهُمْ لِحُكْمِ التّأْنِيثِ فِيهِ لِأَنّ الْحُبْلَى وَصْفٌ لِلْمَرْأَةِ بِالْحَبَلِ، فَلَيْسَ كَرَاهِيَتُهُمْ لِبَقَاءِ حُكْمِ التّأْنِيثِ فِيمَنْ اسْمُهُ سَلْمَى مِنْ الرّجَالِ كَكَرَاهِيَتِهِمْ لِبَقَاءِ حُكْمِ التّأْنِيثِ فِيمَنْ اسْمُهُ: حُبْلَى؛ فَلِذَلِكَ غَيّرُوا النّسَبَ، حَتّى كَأَنّهُمْ نَسَبُوا إلَى حُبُلٍ والله أعلم» .
__________
(1) فى اللباب لابن الأثير «الحبلى بضم الحاء المهملة والباء الموحدة. قال أبو على البغدادى فى كتاب التاريخ: فلان الحبلى منسوب إلى حى من اليمن من الأنصار يقال لهم: بنو الحبلى. وذكر سيبويه النحوى: الحبلى بفتح الباء؛ وقال: هو منسوب إلى بنى الحبلى والمشهور بهذه النسبة أبو عبد الرحمن الحبلى من تابعى أهل مصر.» ثم قال ابن الأثير: هذا نص كلام السمعانى لم أسقط منه شيئا، وهو يدل على أن أبا عبد الرحمن الحبلى من بنى الحبلى من الأنصار، وليس كذلك، إنما هو منسوب إلى بطن من المعافر، وهم أيضا من اليمن، وأما بنو-
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمّا سَلُولُ فِي خُزَاعَةَ، وَقَدْ تَقَدّمَ عِنْدَ ذكر حبشيّة بن سلول فاسم رَجُلٍ مَصْرُوفٍ، وَأَمّا بَنُو سَلُولَ بْنِ صَعْصَعَةَ إخْوَةُ بَنِي عَامِرٍ فَهُمْ: بَنُو مُرّةَ بْنِ صَعْصَعَةَ. وَسَلُولُ: أُمّهُمْ، وَهِيَ بِنْتُ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ، فَجَمِيعُ مَا وَقَعَ لِابْنِ إسْحَاقَ فِي السّيَرِ مِنْ سَلُولَ: ثَلَاثَةٌ: وَاحِدٌ اسْمُ رَجُلٍ مَصْرُوفٍ، وَثِنْتِيَانِ غَيْرُ مَصْرُوفَتَيْنِ، وَهُمَا اللّتَانِ ذَكَرْنَا.
الْمُلْكُ فِي الْعَرَبِ وَذَكَرَ أَنّ الْأَنْصَارَ كَانُوا قَدْ نَظَمُوا الْخَرَزَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ لِيُتَوّجُوهُ وَيُمَلّكُوهُ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَنّ الْأَنْصَارَ يَمَنٌ، وَقَدْ كَانَتْ الْمُلُوكُ الْمُتَوّجُونَ مِنْ الْيَمَنِ فِي آلِ قَحْطَانَ، وَكَانَ أَوّلَ مَنْ تَتَوّجَ مِنْهُمْ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ، وَلَمْ يُتَوّجْ مِنْ الْعَرَبِ إلّا قَحْطَانِيّ كَذَلِكَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَقِيلَ لَهُ: قَدْ تَتَوّجَ هَوْذَةُ بْنُ عَلِيّ الْحَنَفِيّ صَاحِبُ الْيَمَامَةِ، وَقَالَ فيه الأعشى:
__________
- الحبلى من الأنصار، فينسب إليهم عبد الله بن أبى مالك بن الحارث بن عبيد ابن مالك بن سالم الحبلى وأم أبى سلول الخزاعية» ثم قال ابن الأثير: «الحبلى: بضم الحاء وسكون الباء الموحدة وإمالة اللام، هذه اللفظة لقب سالم بن غنم ابن عوف بن الخزرج بن حارثة قال ابن الكلبى: إنما سمى الحبلى لعظم بطنه» ثم قال ابن الأثير: «قلت وهذه الترجمة أيضا لفظ السمعانى ولا شك أنه ظن أن سالم ابن غنم بن عوف هو غير الذى تقدم فى الترجمة قبلها، ولعله اشتبه عليه حيث رأى فى تلك الأولى أن الحبلى منسوب إلى حى من اليمن من الأنصار ورأى ههنا أنه لقب سالم، وهو من الأنصار، والانصار من اليمن، ولولا أنه ظن أنهما اثنان لما ترجم عليهما ترجمتين، والله أعلم» وفى القاموس عن النسب إلى بنى الحبلى «وهو حبلى بالضم وبضمتين، وكجهنى»
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَنْ يَرَى هَوْذَةَ يَسْجُدُ غَيْرَ مُتّئِبٍ ... إذَا تَعَمّمَ فَوْقَ التّاجِ أَوْ وَضَعَا «1»
وَفِي الْخَرَزَاتِ الّتِي بِمَعْنَى التّاجِ يَقُولُ الشّاعِرُ [لَبِيدٌ يَذْكُرُ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي شِمْرٍ الْغَسّانِيّ] .
رَعَى خَرَزَاتِ الْمُلْكِ عِشْرِينَ حَجّةً ... وَعِشْرِينَ حَتّى فَادَ وَالشّيْبُ شامل «2»
وقال أبو عبيدة: لم يكن قاجا، وَإِنّمَا كَانَتْ خَرَزَاتُ تُنَظّمُ، وَكَانَ سَبَبُ تَتَوّجِ هَوْذَةَ أَنّهُ أَجَارَ لَطِيمَةً لِكَسْرَى مَنَعَهَا مِمّنْ أَرَادَهَا مِنْ الْعَرَبِ، فَلَمّا وَفَدَ عَلَيْهِ تَوَجّهَ لِذَلِكَ وَمَلّكَهُ:
مُزَاحِمٌ أُطُمِهِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) البيت فى اللسان فى مادة هوذ: «من يلق هوذة يسجد غير متتب» وهذا هو الصواب. وأتأب: خزى واستحيا.
(2) قبل البيت:
وغسان زلت يوم جلق زلة ... لسيدها والأريحى الحلاحل
وبعده:
فأضحى كأحلام النيام نعيمهم ... وأى نعيم خلته لا يزايل
اللسان والأمالى ص 75 ط 2 ح. ويعنى بالبيت المذكور فى الروض أنه ساش] الملك أربعين سنة، وقال يقول: مات: أما فاد يفيد: تبختر.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مرّ به، وهو فى ظِلّ مُزَاحِمٍ أُطُمِهِ، وَآطَامُ الْمَدِينَةِ: سُطُوحٌ «1» ، وَلَهَا أَسْمَاءٌ، فَمِنْهَا مُزَاحِمٌ وَمِنْهَا الزّوْرَاءُ أُطُمُ بَنِي الْجِلَاحِ، وَمِنْهَا مُعْرِضٌ أُطُمُ بَنِي سَاعِدَةَ، وَمِنْهَا: فارغ أُطُمُ بَنِي حُدَيْلَةَ، وَمِنْهَا مِسْعَطٌ «2» ، وَمِنْهَا: وَاقِمٌ، وَفِي مُعْرِضٌ يَقُولُ الشّاعِرُ:
وَنَحْنُ دَفَعْنَا عَنْ بُضَاعَةَ كُلّهَا ... وَنَحْنُ بَنَيْنَا مُعْرِضًا فَهُوَ مُشْرِفُ
فَأَصْبَحَ مَعْمُورًا طَوِيلًا قَذَالُهُ ... وَتَخْرَبُ آطَامٌ بِهَا وَتَقَصّفُ
وَبُضَاعَةُ أَرْضُ بَنِي سَاعِدَةَ، وَإِلَيْهَا تُنْسَبُ بِئْرُ بَنِي بُضَاعَةَ. وَالْأَجَشّ وَكَانَ بِقُبَاءَ، وَالْحَمِيمُ وَالنّوّاحَانِ، وَهُمَا أُطُمَانِ لِبَنِي أُنَيْفٍ وَصِرَارٍ وَكَانَ بالجوّانيّة والرّيّان والشّبعان وهو فى نمغ. وراتح والأبيض، ومنها عاصم والرّعل «3» وَكَانَ لِحَضِيرِ بْنِ سِمَاكٍ، وَمِنْهَا خَيْطٌ وَوَاسِطٌ وَحُبَيْشٌ، وَالْأَغْلَبُ وَمَنِيعٌ، فَهَذِهِ آطَامُ الْمَدِينَةِ ذَكَرَ أَكْثَرَهَا الزّبَيْرُ، وَالْأُطُمُ: اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ ائْتَطَمَ: إذَا ارْتَفَعَ وَعَلَا، يُقَال: ائْتَطَمَ عَلَيّ فُلَانٌ إذَا غَضِبَ وَانْتَفَخَ، وَالْأَطَمَاتُ: نِيرَانٌ مَعْرُوفَةٌ فِي جِبَالٍ لَا تَخْمُدُ فِيهَا، تَأْخُذُ بِأَعْنَانِ السّمَاءِ، فهى
__________
(1) جمع القلة آطام، والكثرة: أطوم وأطم. والمفرد: أطمة، وهو كل بيت مربع مسطح، أو الحصن المبنى بالحجارة.
(2) فى الأصل مسعط والتصويب من وفاء الوفاء وهى أطم لبنى حديلة غربى مسجد أبى بن كعب ص 374 ح 2.
(3) ضبطها البكرى بفتح الراء، وكذا صاحب المراصد، وفى وفاء الوفا للسمهودى بكسر الراء، وقال: أطم بمنازل عبد الأشهل ص 312 ح 2.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَبَدًا بَاقِيَةٌ، لِأَنّهَا فِي مَعَادِنِ الْكِبْرِيتِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمَسْعُودِيّ مِنْهَا جُمْلَةً، وَذَكَرَ مَوَاضِعَهَا، وَقَوْلَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ:
مَتَى مَا يَكُنْ مَوْلَاك خَصْمُك لَا تَزَلْ ... تَذِلّ وَيَصْرَعْك الّذِينَ تُصَارِعُ
يُقَالُ: إنّ ابْنَ أَبِي تَمَثّلَ بِهِمَا، ويقال: إنهما لخفاف بن نُدْبَةَ وَخُفَافٌ هُوَ: ابْنُ عَمْرِو بْنِ الشّرِيدِ أَحَدُ غِرْبَانِ «1» الْعَرَبِ، وَأُمّهُ. نُدْبَةَ، وَيُقَالُ فِيهَا: نَدْبَةُ، وَنُدْبَةُ، وَهُوَ سَلْمَى.
وَذَكَرَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ يَعُودُهُ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ زِيَادَةٌ، فِيهَا فِقْهٌ قَالَ: كَانَ سَعْدٌ قَدْ دَعَاهُ رَجُلٌ مِنْ اللّيْلِ فَخَرَجَ إلَيْهِ فَضَرَبَهُ الرّجُلُ بِسَيْفِ فَأَشْوَاهُ «2» ، فَجَاءَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ مِنْ تِلْكَ الضّرْبَةِ، وَلَامَهُ عَلَى خُرُوجِهِ لَيْلًا، وَهَذَا هُوَ مَوْضِعُ الْفِقْهِ.
وَعْكُ أَبِي بَكْرٍ وَبِلَالٍ وَعَامِرٍ فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ حِينَ وعك أبو بكر، وبلال وعامر بن فهيرة، وَمَا أَجَابُوهَا بِهِ مِنْ الرّجَزِ فَيَذْكُرُ أَنّ قول عامر:
__________
(1) غربان العرب: سودانهم. والأغر به فى الجاهلية: عنترة وخفاف، وأبو عمير بن الحباب، وسليك بن السلسكة. وهشام بن عقبة بن أبى معيط إلا أنه مخضرم. ومن الإسلاميين: عبد الله بن خازم، وعمير بن أبى عمير، وهمام ابن مطرف، ومنتشر بن وهب، ومطر بن أوفى، وتأبط شرا، والشنفرى وحاجز غير منسوب.
(2) لم يصب منه مقتلا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَقَدْ وَجَدْت الْمَوْتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ «1» إنّهُ لِعَمْرِو بْنِ مَامَةَ، وَفِي هَذَا الْخَبَرِ وَمَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ حَنِينِهِمْ إلَى مَكّةَ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النّفُوسُ مِنْ حُبّ الْوَطَنِ وَالْحَنِينِ إلَيْهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أُصَيْلٍ الْغِفَارِيّ «2» ، وَيُقَالُ فِيهِ: الْهُدَلِيّ أَنّهُ قَدِمَ مِنْ مَكّةَ، فَسَأَلْته عَائِشَةُ:
كَيْفَ تَرَكْت مَكّةَ يَا أُصَيْلُ؟ فَقَالَ: تركتها حين ابيضّت أباطحها، وأحجن ثمامها، وأعذق إذْخِرَهَا، وَأَمْشَرَ سَلَمُهَا، فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وقال: لا تشوّقنا يَا أُصَيْلُ، وَيُرْوَى أَنّهُ قَالَ لَهُ: دَعْ الْقُلُوبَ تَقَرْ «3» وَقَدْ قَالَ الْأَوّلُ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَن لَيْلَةً ... بِوَادِي الْخُزَامَى حَيْثُ رَبّتْنِي أَهْلِي
بِلَادٌ بِهَا نِيطَتْ عَلَيّ تَمَائِمِي ... وَقُطّعْنَ عَنّي حِينَ أَدْرَكَن