المشهور عند الجمهور أنه - صلى الله عليه وسلم - وُلد عام الفيل. فقيل: بعده بشهر، وقيل: بأربعين يومًا، وقيل: بخمسين، قال السهيلي (1) وابن كثير (2): وهو أشهر. وقيل: إنه ولد بعد عام الفيل بعشر سنين، وقيل: ثلاث وعشرين سنة، وقيل: ثلاثين.
قال الذهبي: "وقال أبو أحمد الحاكم: وُلد بعد الفيل بثلاثين يومًا، قاله بعضهم. قال: وقيل بعده بأربعين يومًا. قلت (الذهبي): لا أُبعد أنّ الغلط وقع من هنا على من قال ثلاثين عامًا أو أربعين عامًا، فكأنه أراد أن يقول: يومًا فقال: عامًا" (3). ومما يؤكد أنه ولد عام الفيل ما رواه ابن إسحاق قال: حدثني المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن أبيه عن جده قيس بن مخرمه قال: "وُلدتُ أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل، فنحن لِدَتان (4) " قال الذهبي في (تاريخ الإِسلام): إسناده حسن (5).
وروى ابن سعد عن يّحي بن معين قال: أخبرنا حجاج بن محمَّد قال: أخبرنا يونس بن أبي إسحاق [عن أبيه] (**) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "ولد
__________
(*) قال الإِمام النووي -رحمه الله-: ميلاد الرجل اسم للوقت الذي وُلد فيه، المولد اسم للموضع الذي وُلد فيه. (تهذيب الأسماء واللغات 3/ 196).
(1) الروض الأُنُف (22/ 159).
(2) البداية والنهاية (2/ 262).
(3) تاريخ الإِسلام (ص 27)
(4) الروض الأٌنف (2/ 143) وأخرجه أيضًا الإِمام أحمد (20/ 190،الفتح الرباني) وقال المحقق: سنده جيد. والترمذي 3698 (تحفة 10/ 88).
(5) ص 23.
(**) ساقطة من الطبقات.
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفيل، يعني عام الفيل (6) " وساقه الذهبي بسنده في: (تاريخ الإِسلام) وقال: صحيح (7).
وهذا يكاد يكون مجمعًا عليه عند أهل العلم. قال خليفة بن خياط في تاريخه: "والمجمع عليه عام الفيل" (8). وقال ابن القيم في (الزاد): "لا خلاف أنه ولد بجوف مكة وأن مولده عام الفيل" (9).
وصحّ عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعمييْن مقعديْن يستطعمان الناس" (10).
أما الشهر فالجمهور أيضًا على أنه في ربيع الأول، وقيل: في رمضان. قال ابن كثير: "نقله ابن عبد البر عن الزبير بن بكار، وهو قول غريب جدًا" (11).
أما اليوم فقد ثبت في الحديث عن أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: "ذلك يوم وُلدت فيه ويوم بُعثت أو أنزل عليّ فيه" (12).
أما تاريخ ذلك اليوم، فقال ابن كثير: "قيل لليلتين خلتا منه (ربيع الأول) قاله ابن عبد البر في الاستيعاب، ورواه الواقدي: عن أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن المدني وقيل: لثمان خلون منه حكاه الحميدي عن ابن حزم ورواه مالك وعُقيل ويونس بن يزيد وغيرهم عن الزهري عن محمَّد بن جبير بن مطعم، ونقل ابن عبد البر عن أصحاب التاريخ أنهم صححوه، وقطع به الحافظ
__________
(6) الطبقات (1/ 101) والحاكم (4180).
(7) ص 22.
(8) تحقيق أكرم العمري. دار طيبة. ص 53.
(9) (1/ 76).
(10) رواه ابن إسحاق،، قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن عمرة ابنة عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة عن عائشة - رضي الله عنها - (الروض الأنف 1/ 281) (سيرة ابن إسحاق -رحمه الله- رواية أحمد بن عبد الجبار العطاردي عن يونس بن بكير، تحقيق محمَّد حميد الله. ص 42).
(11) البداية والنهاية (2/ 260) وقال في (الفصول) ص 34: وهو شاذ.
(12) رواه مسلم (8/ 51 نووي).
الكبير محمَّد بن موسى الخوارزمي، ورجحه الحافظ أبو الخطاب بن دحية في كتابه (التنوير في مولد البشير النذير) وقيل: لعشر خلون منه، ورواه ابن عساكر عن أبي جعفر الباقر، ورواه مجالد عن الشعبي. وقيل: لثنتي عشرة خلت منه نصّ عليه ابن إسحاق، ورواه أبي شيبة في مصنفه عن عفان عن سعيد بن مينا عن جابر وابن عباس أنهما قالا: "ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول وفيه بُعث وفيه عُرج به إلى السماء وفيه هاجر وفيه مات" وهذا هو المشهور عند الجمهور والله أعلم. وقيل: لسبعة عشر خلت منه، كما نقله ابن دحية عن بعض الشيعة. وقيل: لثمان بقين منه نقله ابن دحية من خط الوزير أبي رافع بن الحافظ أبي محمَّد بن حزم عن أبيه، والصحيح عن ابن حزم الأول أنه لثمان مضين منه كما نقله الحُميدي، وهو أثبت (13) ".
فهذه ستة أقوال ذكرها ابن كثير ولا يستند أي قول منها لحديث صحيح، وحديث جابر وابن عباس في تحديده بالثاني عشر لو صحّ لكان فيصلًا في النزاع لكنه ضعيف. قال ابن كثير: "فيه انقطاع" (14). وبما أنه لم يثبت تحديد تاريخ المولد فلا بأس من الاستئناس بأقوال أهل الفلك، فقد ذهب غير واحد منهم إلى تحديده باليوم التاسع أو ليلة التاسع من ربيع الأول. مثل: الأستاذ محمود باشا الفلكي (ت 1302 هـ) (15) كما في هامش (الكامل في التاريخ) (16) لابن الأثير. والأستاذ محمَّد سليمان المنصور فوري.
__________
(13) البداية والنهاية (2/ 260).
(14) البداية (3/ 109).
(15) له ترجمة في (الأعلام) (7/ 164) وذكر من آثاره: "نتائج الإفهام في تقويم العرب قبل الإِسلام "وفي تحقيق مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمره عليه الصلاة والسلام" وأشار إلى أنه طبع. (وقد ألفه بالفرنسية ثم ترجمه إلى العربية، وقدم العلامة علي الطنطاوي -رحمه الله- لإحدى طبعاته وأيد المؤلف في تحديد المولد في اليوم التاسع. (مقدمات الطنطاوي، ص 83).
(16) 1/ 270.
كما نقل ذلك صاحب (الرحيق المختوم) (17). قال الفلكي الأستاذ عبد الله بن إبراهيم بن محمَّد السليم في كتابه: (تقويم الأزمان) في تحقيق مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - ما نصه "لقد جاء في كتب التاريخ والسيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد يوم الاثنين لعشر خلون من ربيع الأول وقيل لثمان خلون منه وقيل لثنتي عشرة منه وأخذ بذلك جمهور العلماء. وقد ثبت بما لا يّحتمل الشك من النقل الصحيح أن ولادته - صلى الله عليه وسلم - كانت في20 نيسان إبريل سنة 571 هـ عام الفيل ... كما ثبت من طريق النقل الصحيح أنه وفاته - صلى الله عليه وسلم - كانت في 13 ربيع الأول سنة 11 من الهجرة وأنه يوافق 8 حزيران سنة 632. وما دامت هذه التواريخ ثابتة ومعروفة فبالإمكان معرفة يوم ولادته ويوم وفاته - صلى الله عليه وسلم - بالدقة، وكذلك مقدار عمره. وبتحويل السنين الرومية إلى أيام فإنها تكون 22330 وبتحويل هذه الأيام إلى سنين قمرية كل سنة 11/ 20 (354) فإنه يكون عمره - صلى الله عليه وسلم - 63 سنة وحوالي 3 أيام ويتفق هذا مع قول الجمهور على أن مبدأ التاريخ الهجري 16 تموز حسب الرؤية، وبالحساب 15 تموز يتفق مع 1/ 1/1 هـ مع اليوم الأول من شهر محرم أول سنة أُرِّخ فيها التاريخ الهجري وعلى هذا فتكون ولادته - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين الموافق 9 ربيع الأول سنة 53 قبل الهجرة، ويوافق 20 نيسان إبريل سنة 571 هـ نقلًا وحسابًا" (18).
قال الشيخ محمَّد بن عثيمين -رحمه الله-: "وقد حقق بعض الفلكيين المتأخرين ذلك (أي مولده - صلى الله عليه وسلم -) فكان اليوم التاسع لا في اليوم الثاني عشر" (19).
لقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه ولد يوم الاثنين - كما سبق - مع أنه لم يُسأل عن ذلك، وإنما سئل عن صوم يوم الاثنين فأخبر أنه ولد في ذلك اليوم، فصار لصوم الاثنين ثلاث خصال: أنه يوم تُعرض فيه الأعمال على الله - وكَذلك يوم
__________
(17) ص 62.
(18) تقويم الأزمان، ص 143، الطبعة الأولي، 1404 هـ.
(19) القول المفيد على كتاب التوحيد (1/ 491) الطبعة الأولى 1418 هـ. دار ابن الجوزي، دار العاصمة.
الخميس -، وأنه يوم وُلد فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويوم أُنزل عليه فيه. لكنه - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر تاريخ مولده، ولم يسأله صحابته - رضي الله عنهم - عن ذلك - وهم أحرص الناس على الخير- لأنه لا يترتب على ذلك شيء، ولو كان هناك من خير في معرفة ميلاده الشريف - صلى الله عليه وسلم - لما كان له أن يكتمه -وحاشاه- عن أمته.
والذين يحتفلون بميلاده في الثاني عشر من ربيع الأول من كل عام، إنما يحتفلون بيوم وفاته - صلى الله عليه وسلم - فالمشهور أنه مات في الثاني عشر من ربيع الأول عام إحدى عشرة كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر (20)، وغيره.