1 - سبب نزول قوله تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)} [التوبة: 49].
قال ابن إسحاق -رحمه الله- في حديثه عن غزوة تبوك: " ... فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم وهو في جهازه ذلك للجدّ بن قيس أحد بني سلمة: يا جدّ، هل لك جلاد بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله أوَ تأذن لي ولا تفتنّي؟ فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجبًا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: قد أذنت لك. ففي الجدّ بن قيس نزلت هذه الآية: (ومنهم من يقول .... ).
وقد ساق ابن إسحاق سنده في أول الخبر فقال: "وقد ذكر لنا الزهري ويزيد بن رمان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن قتادة وغيرهم من علمائنا، كل حدّث في غزوة تبوك مابلغه عنها، وبعض القوم يحدّث مالًا يحدّث بعض" (1).
قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: "ضعيف"، رواه ابن هشام عن ابن إسحاق مرسلًا، وكذلك رواه عنه ابن جرير" (2). أي في تاريخه (3).
وأخرجه الطبري أيضًا في تفسيره فقال: "حدثني محمَّد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: (ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اغزوا تبوك تغنموا بنات بني الأصفر ونساء الروم، فقال الجدّ: ائذن لنا ولا تفتنا بالنساء" (4).
__________
(1) الروض الأنف (7/ 304 - 305).
(2) تخريج أحاديث فقه السيرة، ص 406.
(3) تاريخ الطبري (2/ 181). ذكر الخبر عن غزوة تبوك.
(4) تفسير الطبري، تفسير الآية، 49 سورة التوبة.
ومجاهد بن جبر تابعي فالخبر مرسل. قال يحيى بن سعيد: ابن أبي نجيح لم يسمع التفسير من مجاهد (5). قال الذهبي: "هو من أخصّ الناس بمجاهد (6) ". وأخرجه البيهقي من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة (7). وفيه علتان: ضعف ابن لهيعة، والإرسال.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "ويقال إن الجدّ بن قيس كان منافقًا، وروى أبو نُعيم وابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه نزل فيه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي} ورواه ابن مردويه. من حديث عائشة بسند ضعيف أيضًا، ومن حديث جابر بسند فيهم مبهم" (8).
قال ابن عبد البر -رحمه الله-: "وقد قيل إنه تاب فحسنت توبته، فالله أعلم" (9).
وذكرها الهيثمي في "المجمع وقال: "رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه يّحيى الحمّاني، وهو ضعيف (10) " ويحيى بن عبد الحميد الحمّاني قال عنه الذهبي: "حافظ منكر الحديث، وقد وثّقه ابن معين وغيره، وقال أحمد بن حنبل: كان يكذب جهارًا. وقال النسائي: ضعيفًا (11) " وتوسّع في ترجمته في (التهذيب) (12).
ولاريب أن من المنافقين من اعتذر بهذا العذر، كما ذكر الله تبارك وتعالى في الآية السابقة، لكن الجزم بنزولها في الجدّ بن قيس صعب. نعم لو صحّ السند بذلك فلا كلام، أما وهو لم يصح فلا ينبغي ذكره إلا مع بيان
__________
(5) تهذيب التهذيب (6/ 54).
(6) سير أعلام النبلاء (6/ 126).
(7) دلائل النبوة (9/ 33).
(8) الإصابة (1/ 230).
(9) الاستيعاب (1/ 255) بهامش الإصابة.
(10) مجمع الزوائد (7/ 30).
(11) المغني في الضعفاء (2/ 522).
(12) (11/ 245).
ضعفه. بل قد ذكر الحافظ في ترجمة الجدّ في (الإصابة) ما يدل على شهوده بيعة العقبة الثانية، فقال: "روى الطبراني وابن منده من طريق معاوية بن عمار الدهني عن أبيه عن أبي الزبير عن جابر قال: حملني خالي جدّ بن قيس وما أقدر أن أرمي بحجر في السبعين راكبًا من الأنصار الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث في بيعة العقبة، وإسناده قوي، قال ابن منده: غريب من حديث معاوية بن عمار، تفرّد به محمَّد بن عمران بن أبي ليلى (13) " ومعاوية وأبوه عمار روى لهما مسلم، ومحمد بن عبد الله روى له البخاري في الأدب المفرد، والترمذي في سننه، ووصف ابن حجر كل واحد منهم في (التقريب) أنه صدوق.
وذكر الهيثمي حديث جابر وقال: "رواه الطبراني في الثلاثة ورجاله ثقات" وأعقبه بلفظ آخر: "قال جابر: وأخرجني خالاي ... " وقال: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (14). وأصل الحديث في البخاري عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله -رحمه الله- يقول: "شهد بي خالاي العقبة" قال أبو عبد الله (البخاري) قال ابن عيينة: "أحدهما البراء بن معرور". ثم ساقه من طريق آخر عن عطاء قال: قال جابر: "أنا وأبي وخالاي من أصحاب العقبة (15) ". قال ابن حجر: "وأقارب الأمّ يُسموّن أخوالًا مجازًا، وقدر روى ابن عساكر بإسناد حسن عن جابر قال: حملني خالي الحرّ (كذا) بن قيس في السبعين راكبًا الذين وفدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار .. " ثم قال الحافظ: "لكن لم يذكر أحد من أهل السير الحرّ بن قيس في أصحاب العقبة، فكأنه لم يكن أسلم (16) " كذا ورد اسمه هنا: الحرّ، ولعله مصحّف من: الجدّ. والله أعلم.
__________
(13) الإصابة (1/ 230) وبالسند نفسه أخرجه الحاكم (3/ 365) رقم (5405).
(14) مجمع الزوائد (6/ 48، 49).
(15) البخاري، مناقب الأنصار، باب وفود الأنصار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، وبيعة العقبة (فتح 7/ 219).
(16) فتح الباري (7/ 222).
وصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "منْ سيّدكم يابني سلمة؟ قالوا: جدّ بن قيس، على أنا نُبخِّله، قال: وأي داء أدوى من البخل؟ بل سيدكم عمرو بن الجموح" رواه البخاري في (الأدب المفرد)، وصححه العراقي، والمناوي (17) بعد أن عزاه للإمام أحمد. والألباني (18) " فبنو سلمة لم يتهموا الجدّ بالنفاق، بل بالبخل، فلم يكونوا ليسوِّدوا عليهم رجلًا من المنافقين، وحاشاهم من ذلك، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تقولوا للمنافقين: سيدنا، فإنه إن يكُ سيدكم فقد أسخطتم ربكم عَزَّ وَجَلَ" أخرجه الإِمام أحمد، والبخاري في (الأدب المفرد)، وأبو داود، وصححه النووي (19)، والعراقي (20)، والألباني (21)، والأرنؤوط (22).
نعم أخرج مسلم في صحيحه في بيعة الرضوان يوم الحديبية عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كنا أربع عشرة مئة، فبايعناه، وعمر أخذ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة، فبايعناه غير جدّ بن قيس الأنصاري، اختبأ تحت بطن بعيره (23) " ولا ريب أن هذه منقصة له وحرمان، فإن كان قد تاب - كما ذكر ذلك ابن عبد البر بصيغة التضعيف، وسبق قوله - فالتوبة تجبّ ما قبلها، وان لم يكن فهي دلالة على ضعف إيمانه، أو انفاقه. وأخرجه مسلم في موضع آخر بلفظ: " .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وكلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر، فأتيناه فقلنا له: تعال يستغفر لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: والله
__________
(17) فيض القدير (6/ 360) وقد وهم الإِمام ابن كثير في غزوه للحديث إلى الصحيح. (تفسير القرآن 2/ 363).
(18) صحيح الأدب المفرد، رقم 227. وجملة: وأي داء أدوأ من البخل، قالها الصديق لجابر بن عبد الله - رضي الله عنه - لما قال له: تبخل عني؟ أخرجه البخاري، ك المغازي، باب قصة عمان والبحرين، رقم 4383 (فتح 8/ 95).
(19) الأذكار، ص 322.
(20) تخريج أحاديث الإحياء، رقم 2838.
(21) السلسة الصحيحة رقم 371.
(22) حاشية زاد المعاد (2/ 352).
(23) (13/ 3 نووي).
لأن أجد ضالتي أحب إليّ من أن يستغفر لي صاحبكم. قال: وكان رجل ينشد ضالة له (24) " وليس في هذه الرواية التصريح باسمه.