,
...
المبحث الأول: في سبب وقعة أحد
34- قال ابن إسحاق: وكان من حديث أحد، كما حدثني محمد بن مسلم الزهري، ومحمد1 بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة2، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ3 وغيرهم من علمائنا كلهم قد حدث بعض الحديث عن يوم أحد، وقد اجتمع حديثهم كله فيما سقت من هذا الحديث عن يوم أحد قالوا أو من قاله منهم: لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب4 ورجع فَلُّهُم5 إلى مكة، ورجع أبو سفيان بن حرب بِعيرِه، مشى عبد الله بن أبي
__________
1 هو محمد بن يحيى بن حَبَّان، بفتح المهملة وتشديد الموحدة، ابن مُنْقذ الأنصاري، المدني، ثقة فقيه، من الرابعة، مات سنة إحدى وعشرين وهو ابن أربع وسبعين ع، التقريب 512.
2 عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأوسي الأنصاري أبو عمر المدني، ثقة عالم بالمغازي، من الرابعة، توفي بعد العشرين ومائة، ع، التقريب (ص: 286) .
3 هو حصين بن عبد الرحمن بن سعد بن معاذ الأشهلي، أبو محمد المدني، مقبول، من الرابعة، د س، التقريب 170 رقم (1368) .
4 القليب: البئر التي لم تطو، ويذكر ويؤنث، النهاية 4/ 98.
5 الفَلُّ: القوم المنهزمون، من الفَلِّ: الكسر. وهو مصدر سُمي به النهاية (3/ 473) .
ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش: إن محمداً قد وتركم1، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، فلعلنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منا، ففعلوا2.
__________
1 الموتور: من قتل له قتيل فلم يدرك بدمه. القاموس المحيط 631 - 632.
2 سيرة ابن إسحاق (ابن هشام 2/ 60) ، ومن طريقه أخرجه الطبري في التاريخ 2/ 499 - 500، وفي التفسير 3/ 46، والبيهقي في دلائل النبوة 3/ 224، وانظر: تفسير ابن كثير 2/ 30، وتاريخ الإسلام للذهبي قسم المغازي 168، وفتح الباري لابن حجر 7/ 346، وهي رواية حسنة إلى الزهري وإن لم تميز روايته لأن شيوخ ابن إسحاق الآخرين ثقات ما عدا الحصين بن عبد الرحمن فإنه مقبول كما ترى، لكن قد توبع.
,
35- قال البيهقي: أخبرنا أبو الحسين1 بن الفضل القطان ببغداد، قال أخبرنا عبد الله2 بن جعفر النحوي قال حدثنا يعقوب3 بن سفيان قال: حدثنا الحجاج بن أبي منيع4 قال: حدثنا جدي5 عن الزهري عن عروة قال: "ثم كانت وقعة أُحُد6 في شوال7 على رأس سنة من وقعة
__________
1 ثقة تقدم في الرواية رقم [7] .
2 ثقة تقدم في الرواية رقم [12] .
3 ثقة تقدم في الرواية رقم [12] .
4 حجاج بن أبي منيع: يوسف، وقيل: عبيد الله بن أبي زياد الرصافي، ثقة، من العاشرة، خت، التقريب 153 رقم (1138) .
5 عبيد الله بن أبي زياد الرصافي؛ صدوق، من السابعة، خت، التقريب 371، رقم (4291) .
6 أحد: بضم أوله وثانيه معاً: اسم الجبل الذي كانت عنده غزوة أحد، وهو جبل أحمر، بينه وبين المدينة قرابة ميل في شمالها، وعنده كانت الوقعة العظيمة، معجم البلدان 1/ 109.
وهو يبعد عن المسجد النبوي خمسة كيلومترات وربع الكيلومتر بدءاً من باب المجيدي أحد أبواب المسجد النبوي الشريف (مرويات غزوة أحد، حسين الباكري 19، وهي رسالة ماجستير، نوقشت بالجامعة الإسلامية عام 1399 - 1400هـ) . وقد وصله العمران اليوم، بل تعداه.
7 وقد ذكر الزهري أنها في شوال في رواية أخرى أخرجها البيهقي في الدلائل 3/ 206، من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب وستأتي بطولها. في الرواية الآتية رقم (36) .
وممن قال أنها في شوال: ابن إسحاق (ابن هشام 2/ 60) ، والواقدي 1/ 199، إلا أنه قال يوم السبت لسبع خلون من شوال، وعبد الرزاق كما في المصنف من طريق الزهري رقم (9735) ، والبلاذري في تاريخ أنساب الأشراف، قسم السيرة 1/ 311، 312، وخليفة بن خياط في تاريخه 67، وحدد قتادة اليوم والشهر فقال: واقع نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد من العام المقبل بعد بدر في شوال يوم السبت لإحدى عشرة ليلة مضت من شوال. دلائل البيهقي 3/ 201، وذكر خليفة بن خياط عن ابن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان، أن رسول الله خرج عشية الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من شوال، وكانت الوقعة يوم السبت للنصف من شوال. تاريخ خليفة 67.
بدر، ورئيس المشركين يومئذ أبو سفيان بن حرب1.
__________
1 دلائل النبوة للبيهقي 3/ 201، و3/ 206، 3/ 278.
,
36- قال البيهقي: أخبرنا أبو الحسين1 بن الفضل القطان ببغداد، قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر النحوي2، قال: حدثنا يعقوب بن سفيان3، قال: حدثنا أصبغ بن الفرج4، قال: أخبرني ابن وهب5، قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أُحد، قال: حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشوط6
__________
1 ثقة تقدم في الرواية رقم (7) .
2 ثقة تقدم في الرواية رقم (12) .
3 ثقة تقدم في الرواية رقم (12) .
4 أصبغ بن الفرج بن سعيد الأموي مولاهم الفقيه المصري أبو عبد الله، ثقة، مات مستتراً أيام المحنة سنة خمس وعشرين، من العاشرة، خ د. ت س التقريب 113 رقم (536) .
5 هو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي، مولاهم أبو محمد المصري الفقيه، ثقة حافظ عابد، من التاسعة، مات سنة سبع وسبعين، وله اثنتان وسبعون سنة (ع) التقريب 328، رقم (3694) .
6 الشوط: هو مكان ملعب التعليم بالمدينة الآن، انظر: العياشي، المدينة بين الماضي والحاضر، 369، وقال البلادي: إن مكانه بين وادي قناة وبين المدينة، معجم المعالم الجغرافية 170.
وفي تفسير عبد الرزاق من رواية الزهري (حتى إذا كان بالواسط من الجبانة..) قال السمهودي: واسط؛ أطم لبني خدرة. وفاء الوفاء 4/1329. وذكر السمهودي: أن الشوط يقع في شامي ذباب، قرب منازل بني ساعدة. وفاء الوفاء 4/1248، فلعل المكانين قريبان من بعضهما، وقريبان أيضاً من الجبانة.
من الجبانة1، انخزل2 عبد الله بن أبي بقريب من ثلث الجيش، ومضى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في سبعمائة3، وتعبأت قريش وهم ثلاثة4 آلاف، ومعهم مائتا فرس، قال: جنَّبوها وجَعَلوا على ميمنة الخيل خالدَ بنَ الوليد5، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل6، هكذا، وجدته في
__________
1 الجبانة اسم موضع، يقع شمالي المدينة. وفاء الوفاء 4/1248.
2 انخزل: أي انفرد. النهاية 2/29.
3 يعني أن الجيش الإسلامي كان ألفاً قبل رجوع عبد الله بن أبي بثلثه.
4 ذكر ذلك موسى بن عقبة عن الزهري في رواية أخرجها البيهقي في الدلائل 3/206، وكذلك قال ابن إسحاق (ابن هشام 2/66) والواقدي في المغازي 1/203، وابن سعد في الطبقات الكبرى 2/37.
5 هو خالد بن الوليد بن مغيرة القرشي المخزومي سيف الله المسلول، أبو سليمان أسلم سنة سبع بعد خيبر، وقيل قبلها 1/413.
6 هو عكرمة بن أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة القرشي المخزومي، أسلم عام الفتح، قتل بأجنادين كما قال الجمهور، وقيل قتل يوم اليرموك؛ سنة خمس عشرة في خلافة عمر، وقيل: قتل يوم مرج الصُّفَّر، وذلك سنة ثلاث عشرة في خلافة أبي بكر. الإصابة 2/496.
كتابي1.
قال البيهقي: وأعاد يعقوب بن سفيان هذه القصة بهذا الإسناد بعينه تخالف هذه القصة في بعض ألفاظها، ويقول فيها: والمسلمون يومئذ قريب من أربع مائة رجل، والمشركون يومئذ قريب من ثلاثة آلاف.
وقوله الأول أشبه بما رواه موسى بن عقبة2، وأشهر عند أهل المغازي، وإن كان المشهور عن الزهري أربع مائة3.
__________
1 دلائل النبوة للبيهقي 3/220-221، وسندها صحيح.
2 في رواية أخرجها البيهقي في الدلائل 3/206.
3 سيأتي في رواية البيهقي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري أن عدد المسلمين كانوا سبعمائة كما في صدر هذه الرواية، بعد انسحاب ابن أُبي بثلث الجيش، وفي الرواية التي ذكرها ابن إسحاق عن شيوخه ومنهم الزهري. انظر: تفسير الطبري 3/4. ولم أجد ما ذكره البيهقي من أن المشهور عن الزهري أنهم كانوا أربعمائة.
,
37- قال البيهقي في الدلائل1: أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن عتاب، قال: حدثني القاسم بن عبد الله بن المغيرة، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثني إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن عمه موسى بن عقبة، وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ في المغازي، قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد بن الفضل، قال: حدثنا جدي، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب، وهذا لفظ حديث إسماعيل عن عمه: موسى بن عقبة قال:
ورجعت2 قريش فاستجلبوا من استطاعوا من مشركي العرب، وسار أبو سفيان بن حرب في جمع قريش وذلك في شوال من العام المقبل من وقعة بدر، حتى طلعوا من بئر الحماوين3، ثم نزلوا ببطن الوادي4
__________
1 دلائل النبوة 3/206، وسندها حسن، وقد تقدم تراجم إسناد هذه الرواية.
2 أي من بدر، كما ستحددها روايات أخرى ستأتي قريباً.
3 لم أجد له تعريفاً بعد البحث.
4 اسم هذا الوادي (وادي قناة) بفتح القاف والنون وألف، وآخرها هاء، انظر معجم البلدان لياقوت الحموي 4/399، وانظر: وفاء الوفاء للسمهودي 3/1074، والمدينة بين الماضي والحاضر للعياشي 490، ومعجم المعالم الجغرافية للبلادي 258.
الذي قِبَل أُحد، وكان رجال من المسلمين الذين لم يشهدوا بدراً ندموا على ما فاتهم من سابقة بدر، وتمنوا لقاء العدوّ، وليبلوا ما أبلى إخوانهم يوم بدر فلما نزل أبو سفيان والمشركون بأصل أُحدٍ، فرح المسلمون الذين لم يشهدوا بدراً بقدوم العدوّ عليهم، وقالوا: قد ساق الله إلينا بأمنيتنا، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري ليلة الجمعة رؤيا فأصبح فجاءه نفر من أصحابه، فقال: " رأيت البارحة في منامي بَقَراً والله خير"، وفي رواية ابن فليح "بقَراً تُذْبح"، ورأيت سيفي ذا الفقار انفصم1 من عند ظُبَّته2 - أو قال: به فلول3 فكرهته وهما مُضَبَّبتان - ورأيت أني في درع حصينة4 وأني مردف كبشاً، فلما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم برؤياه، قالوا: يا رسول الله! ماذا أولت رؤياك؟
قال: أوّلت البقر الذي رأيت نفراً فينا وفي القوم، وكرهت ما رأيت
__________
1 انفصم: انقطع، وفصمه يفصمه: كسره فانفصم وتفصم، القاموس 1478 مادة (فصم) .
2 ظبة السيف: أي طرفه وحده. النهاية لابن الأثير 3/ 156، ولسان العرب 2/ 641.
3 الفلة: الثلمة في السيف، وجمعها: فلول. النهاية 3/ 472.
وأخرج الواقدي في المغازي (1/ 209) عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ورأيت في سيفي فلاً فكرهته"، فهو الذي أصاب وجهه صلى الله عليه وسلم.
4 المراد بالدرع الحصينة: المدينة، وذلك كما جاء في تأويله صلى الله عليه وسلم لهذه الرؤيا انظر: مسند أحمد 4/ 259 رقم (2445) بتحقيق: شعيب الأرناؤوط وزملائه.
بسيفي"، ويقول رجال: وكان الذي رأى بسيفه الذي أصاب وجهه فإن العدو أصابوا وجهه يومئذ، وفصموا رَباعيته، وخرقوا شفته، يزعمون أن الذي رماه عتبة بن أبي وقاص، وكان البَقَرُ من قُتل يومئذ من المسلمين، وقال: "أولت الكبش أنه كبش كتيبة العدو فقتله"، وفي رواية ابن فليح: "يقتله الله، وأوّلت الدرع الحصينة المدينة، فامكثوا1، وأجمعوا الذراري في الآطام2، فإن دخل علينا القوم في الأزقة قاتلناهم"، ورموا من فوق البيوت وكانوا قد شكوا أزقة المدينة بالبنيان، حتى كانت كالحصن.
فقال الذين لم يشهدوا بدراً: كنا يا نبي الله نتمنى هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه الله إلينا وقرَّب المسير.
وقال رجال من الأنصار: متى نقاتلهم يا نبي الله إن لم نقاتلهم عند شَعَبِنا3؟
وقال رجال: ماذا نمنع إذا لم نمنع الحرث يزرع، وقال رجال قولاً صدقوا به ومضوا عليه، منهم حمزة بن عبد المطلب قال: "والذي أنزل
__________
1 كان هذا رأي النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنهم يمكثون في المدينة فيقاتلونهم فيها، ولا يخرجون إلى العدو. انظر: مستدرك الحاكم 2/ 128ـ129، ودلائل البيهقي 3/ 204 - 205.
2 الأطم: بالضم: بناء مرتفع وجمعه آطام، ومنه الحديث: ":حتى توارت بآطام المدينة" يعني أبنيتها المرتفعة كالحصون. النهاية 1/ 54.
3 من معاني: الشَعَب: الزرع، اللسان (شعب) ، والمراد: إذا لم نقاتلهم عند زرعنا وأموالنا فمتى نقاتلهم؟!
عليك الكتاب لنجالدنَّهم".
وقال يعمر1 بن مالك بن ثعلبة وهو أحد بني سالم: "يا نبي الله لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلنها"، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بمَ؟ قال: بأني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت، فاستشهد يومئذ.
وأبى كثير من الناس إلا الخروج إلى العدو، ولم يتناهوا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيه، ولو رضوا بالذي أمرهم به كان ذلك، ولكن غلب القضاء والقدر، وعامة من أشار إليه بالخروج لم يشهدوا بدراً، قد علموا الذي سبق لأصحاب بدر من الفضيلة2 فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة
__________
1 لم أجد ليعمر ترجمة، ولعله: النعمان بن مالك بن ثعلبة أخو بني سالم، انظر: مغازي الواقدي 1/ 211، والإصابة 3/ 565.
2 من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه: " ... لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، فدمعت عينا عمر، وقال: "الله ورسوله أعلم". صحيح البخاري مع الفتح 7/ 305 رقم (3983) ، وما أخرجه البخاري من حديث معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه - وكان من أهل بدر - قال: "جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدُّون أهل بدر فيكم، فقال: من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها - قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة) . صحيح البخاري مع الفتح 7/ 311 - 312 رقم (3992) .
ومنها ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر أن عبداً لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبت لا يدخلها فإنه شهد بدراً والحديبية" مسلم بشرح النووي 16/ 55.
وعظ الناس وذكرهم، وأمرهم بالجد والجهاد، ثم انصرف من خطبته وصلاته، فدعا باللأمة1 فلبسها، ثم أذن في الناس بالخروج، فلما رأى ذلك رجال من ذوي الرأي قالوا: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمكث بالمدينة، فإن دخل علينا العدو قاتلناهم في الأزقة وهو أعلم بالله وما يريد، ويأتيه الوحي من السماء، ثم أشخصناه، يا نبي الله: امكث كما أمرتنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب وآذن بالخروج إلى العدو أن يرجع حتى يقاتل2، وقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا
__________
1 اللأمة: مهموزة: الدرع، وقيل: السلاح، ولأمة الحرب أداته، وقد يترك الهمز تخفيفاً. النهاية 4/ 320.
2 أخرجه البيهقي في السنن 7/ 41 موصولاً بإسناد حسن عن ابن عباس، ثم قال رحمه الله: (وهكذا ذكره موسى بن عقبة عن الزهري، وكذلك ذكره محمد بن إسحاق بن يسار عن شيوخه من أهل المغازي وهو عام في أهل المغازي وإن كان منقطعاً، وقد كتبناه موصولاً بإسناد حسن. أ. هـ.
وانظر: ابن هشام 2/ 60، ومغازي الواقدي 1/ 214، والطبقات الكبرى 2/ 38.
وأخرج عبد الرزاق عن الزهري بلفظ: "إنه لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يلقى البأس" تفسير عبد الرزاق 1/ 135.
وأخرجها الطبري في التفسير 7/ 372، بإسناد حسن إلى قتادة ولكنه مرسل، وأخرجها الحاكم في المستدرك 2/ 128 - 129، وصححها ووافقه الذهبي، وقد حسن إسناد هذه الرواية الألباني في تعليقه على حاشية فقه السيرة للغزالي (ص: 269) ، وذلك بناء على ما ذكر من روايات يقوي بعضها بعضاً، والله أعلم.
الخروج، فعليكم بتقوى الله والصبر عند البأس إذا لقيتم العدوّ، انظروا ما أمركم به فافعلوه،: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون فسلكوا على البدائع1 وهم ألف2 رجل والمشركون ثلاثة آلاف، فمضى رسول الله حتى نزل بأُحد، ورجع عنه عبد الله بن أُب ي بن سلول في ثلاثمائة فبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة فقال كعب بن مالك3 الأنصاري:
إنّا بهذا الجذع لو كان أهله ... سوانا لقد ساروا بليل فأقشعوا4
جلادٌ على ريب الحوادث لا ترى ... على هالك عيناً لنا الدهر تدمع
ثلاثة آلاف ونحن نصية5 ... ثلاثِ ميْينٍ إن كثرنا وأربع
__________
1 البدائع: اسم موضع بين المدينة وبين جبل أحد على الطريق الشرقية مع الحرّة إلى جبل أُحد، وفاء الوفاء، للسمهودي 1/282، ويسمى هذا المكان بالشيخين، وبه مسجد يقال له: مسجد الشيخين، ويقال له: مسجد البدائع. انظر: وفاء الوفاء 3/865، ويسمى الآن بمسجد المستراح، وهو على الناحية الغربية لشارع سيد الشهداء. انظر: الدر الثمين في معالم دار الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم ص: 175.
2 يؤيد ذلك ما أخرجه البيهقي من طريق يونس عن ابن شهاب في الرواية المتقدمة رقم (19) .
3 هو كعب بن مالك بن أبي بن كعب الأنصاري السلمي شهد العقبة، وبايع بها وتخلف عن بدر وشهد أحداً وما بعدها وتخلف في تبوك وهو أحد الثلاثة الذي تيب عليهم، قال البغوي: بلغني أنه مات بالشام في خلافة معاوية. الإصابة 3/ 302.
4 أقشع القوم: تفرقوا، لسان العرب المحيط 3/ 93، مادة (قشع) .
5 النصية: من يتنصى من القوم، أي يختار من نواصيهم، وهم الرؤوس والأشراف، وقد انتصيت في القوم رجلاً: أي اخترته. النهاية 5/ 68.
فراحوا سراعاً موجفين كأنهم ... غمام هراقت ماءها الريح تقلع
ورحنا وأخرانا بطاء كأننا ... أسود على لحم ببيشة ظُلّع
فلما رجع عبد الله بن أُب ي بالثلاث مائة، سقط في أيدي الطائفتين من المسلمين، وهمتا أن تفشلا، وهما بنو حارثة وبنو سلمة1 كما يقال، وصفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بأصل أُحد وصف المشركون بالسبخة2 التي قِبَل أُحد، وتعبأ الفريقان للقتال، وجعل المشركون على خيلهم خالد ابن الوليد بن المغيرة، ومعهم مائة فرس، وليس مع المسلمين فرس، وحامل لواء3 المشركين من عبد الدار، واشتكى صاحب لوائهم طلحة بن عثمان
__________
1 يؤيد ذلك ما ذكره البخاري من أن المراد بالطائفتين: بنو حارثة وبنو سلمة، انظر صحيح البخاري مع الفتح 7/ 357.
2 السبخة: محركة ومسكنة: أرض مالحة، أو هي الأرض التي تعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر. النهاية 2/ 333.
3 اللواء: بكسر اللام والمد هي: الراية، ويسمى أيضاً العلم، وكان الأصل أن يمسكها رئيس الجيش ثم صارت تحمل على رأسه، وقال أبو بكر بن العربي: اللواء غير الراية، فاللواء ما يعقد في طرف الرمح ويلوى عليه، والراية: ما يعقد فيه ويترك حتى تصفقه الرياح، وقيل اللواء دون الراية، وقيل اللواء: العلم الضخم، والعلم علامة لمحل الأمير يدور معه حيث دار، والراية يتولاها صاحب الحرب، فتح الباري 6/ 126.
وقد أخرج الترمذي من حديث ابن عباس قال: "كانت راية النبي صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض" سنن الترمذي 3/ 115.
قال الحافظ ابن حجر بعد ذكره لحديث ابن عباس: "وهو ظاهر في التغاير، فلعل التفرقة بينهما عرفية"، الفتح 7/ 477.
وقد ورد أن لواء النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة أبيض. سنن الترمذي 3/ 115، وقد يكتب عليها بعض العبارات مثل: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فتح الباري 7/ 477.
أو يكون فيها هلال أبيض، التراتيب الإدراية للكتاني 1/ 320، وتكون مربعة ذراع في ذراع. ابن حجر الفتح 6/ 126.
أخو شيبة بن عثمان1، وكانت لهم الحجابة، والندوة، واللواء، فقال أبو سفيان بن حرب: إن اللواء ضاع يوم بدر حتى قتل حوله من قد علمتم، وأرى أن أعارضهم بلواء آخر، فقالت بنو عبد الدار والأحلاف2: إن شئتم فارفعوا لواءً آخر، ولكن لا يرفعه إلا رجل من بني عبد الدار، فقال أبو سفيان: بل عليكم بلوائكم فاصبروا عنده.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين رجلاً من الرماة فجعلهم نحو خيل
__________
1 شيبة بن عثمان وهو الأوقص بن أبي طلحة بن عبد الله بن عبد العزى القرشي العبدري الحجبي أبو عثمان، أسلم يوم الفتح، وكان ممن ثبت يوم حنين، توفي سنة تسع وخمسين، الإصابة 2/ 161.
2 الأحلاف: ست قبائل هي: عبد الدار، وجمح، ومخزوم، وعدي، وكعب، وسهم، سموا بذلك لأنهم لما أرادت بنو عبد مناف ما في أيدي عبد الدار من الحجابة والرفادة واللواء والسقاية، وأبت عبد الدار، عقد كل قوم على أمرهم حلفاً مؤكداً على أن لا يتخاذلوا، فأخرجت جفنة مملوءة طيباً فوضعتها لأحلافهم وهم أسد، وزهرة، وتيم، في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها، وتعاهدوا، وتعاقدت بنو عبد الدار وحلفاؤها حلفاً آخر مؤكداً فسُمّوا الأحلاف لذلك. النهاية 1/425.
العدو، وأَمَّر عليهم عبد الله بن جبير1 أخا خوَّات بن جبير2 وقال لهم: "أيها الرماة3، إذا أخذنا منازلنا من القتال فإن رأيتم خيل المشركين تحركت وانهزم أعداء الله فلا تتركوا منازلكم إني أتقدم إليكم أن لا يفارقن رجل منكم مكانه، واكفوني الخيل"4.
فوعز5 إليهم فأبلغ، ومن نحوهم كان الذي نزل بالنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ
__________
1 هو عبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري الأوسيّ، شهد العقبة وبدراً واستشهد بأحد، وكان أمير الرماة يومئذ، وكان المشركون عندما انهزموا ذهبت الرماة ليأخذوا من الغنيمة فنهاهم عبد الله بن جبير فمضوا وتركوه. الإصابة 2/286.
2 هو خوَّات بن جبير بن النعمان بن أمية بن امرئ القيس الأنصاري الأوسيّ، شهد بدراً والمشاهد كلها، عاش إلى سنة أربعين، ومات وهو ابن أربع وسبعين سنة بالمدينة. الإصابة 1/457_458.
3 كان عددهم خمسين رجلاً أميرهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه. صحيح البخاري مع الفتح 6/162 رقم (3039) ومسند أحمد 4/209، وصحح شاكر إسناده، والمستدرك 2/296، وصححه ووافقه الذهبي.
4 وردت قصة الرماة عند البخاري بألفاظ فيها بعض الاختلاف، انظر: صحيح البخاري مع الفتح 6/ 162، رقم (3039) ، 7/ 349 رقم (4043) ، وانظر هذه القصة في مسند أحمد 4/ 209، وصحح شاكر إسناده، والمستدرك 2/ 296، وصححه ووافقه الذهبي، وانظر أيضاً مغازي الواقدي 1/ 219 - 220، وابن سعد 2/ 39.
5 وعز: وعز إليه في كذا أن يفعل أو يترك، وأوعز، ووعز: تقدم وأمر، القاموس المحيط 679.
ر
والذي أصابه، فلما عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه عهده في القتال، وكان حامل لواء المهاجرين رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا عاصم1 إن شاء الله لما معي، فقال له طلحة - يعني ابن عثمان ـ: هل لك يا عاصم في المبارزة؟
قال: نعم، فبدره ذلك الرجل، فضرب بالسيف على رأس طلحة حتى وقع السيف في لحيه فقتله، فكان قتل صاحب لواء المشركين تصديقاً لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أني مردف كبشاً، فلما صرع صاحب اللواء انتشر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وصاروا كتائب2 متفرقة، فجاسوا3 العدوّ ضرباً حتى أجهضوهم عن أثقالهم، وحملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مراتٍ، كل ذلك تنضح بالنبل، فترجع مغلولةً، وحمل المسلمون فنهكوهم قتلاً، فلما أبصر الرماة الخمسون أن الله عزوجل قد فتح لإخوانهم قالوا: والله ما نجلس ههنا لشيءٍ، قد أهلك العدو إخواننا في عسكر المشركين، وقال طوائف منهم: على ما نصفُّ، وقد هزم الله العدو؟! فتركوا منازلهم التي عهد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ألاّ يتركوها، وتنازعوا وفشلوا وعصوا الرسول،
__________
1 ورد في سيرة ابن هشام 2/ 73: أنا أبو الفصم، والرجل هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما ذكر في المصدر السابق، وتفسير الطبري 7/ 281 من مراسيل السدي.
2 الكتيبة: القطعة العظيمة من الجيش والجمع: كتائب. النهاية 4/ 148.
3 الجوس: هو طلب الشيء بالاستقصاء والتردد خلال الدور والبيوت في القارة، القاموس المحيط 691.
فأوجفت1 الخيل فيهم قتلاً، وكان عامتهم2، في العسكر، فلما أبصروا ذلك الرجال المتفرقة أن الخيل قد فعلت ما فعلت، اجتمعوا وأقبلوا وصرخ صارخ: أُخراكم أُخراكم، قُتِل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فسقط في أيدي المسلمين فقتل منهم من قتل وأكرمهم الله بأيدي المشركين وأصعد الناس في الشعب لا يلوون على أحد3، وثَبَّت الله عزوجل النبي صلى الله عليه وسلم حين انكشف عنه من انكشف من أصحابه، وهو يدعوهم في أخراهم حتى جاءه من جاءه منهم إلى قريب من المِهْرَاسِ4 في الشِّعب.
فلما فُقِدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال رجل منهم: إن رسول الله قد قُتل فارجعوا إلى قومكم فيؤمنونكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم، فإنهم داخلون البيوت.
وقال رجل منهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا.
__________
1 الإيجاف: سرعة السير، وقد أوجف دابته يوجفها إيجافاً إذا حثّها. النهاية 5/ 157.
2 لم يبق من الرماة مع أميرهم سوى اثني عشر رجلاً كما في البخاري حديث رقم (3039) .
3 كما قال تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ... } الآية، آل عمران (153) .
4 المهراس: بالكسر ثم السكون وآخره سين مهملة، وهو حجر يشبه القدح يمسك ماء المطر، والمراد المهراس الذي في الشعب من جبل أحد، معجم المعالم الجغرافية 306 - 307.
وقال آخرون: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل أفلا تقاتلون عن دينكم، وعلى ما كان عليه نبيكم، حتى تلقوا الله شهداء؟
منهم: أنس بن النضر1 شهد له بها سعد بن معاذ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقال: أحد بني قشير الذي قال: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا.
ومضى النبي صلى الله عليه وسلم يلتمس أصحابه، فإذا المشركون نحو وجهه على طريقه، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبلوه، قال: "اللهم إن تشأ لا يغلبك أحد في الأرض، وقال: اللهم إن تشأ لا تعبد" 2.
فانصرف المشركون والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو أصحابه مصعداً في الشعب، معه عصابة صبروا معه، منهم: طلحة بن عبيد الله3، والزبير بن العوام، وبايعوه على الموت وجعلوا يسترونه بأنفسهم ويقاتلون معه حتى قتلوا إلا
__________
1 هو أنس بن النضر بن ضمضم الأنصاري الخزرجي عم أنس بن مالك، كان قد غاب عن بدر وشهد أحداً واستشهد بها. انظر: الإصابة 1/ 74.
2 قد ورد بمعناه في غزوة بدر كما في البخاري رقم (2915) ومسلم بشرح النووي 12/ 84، من حديث عمر رضي الله عنه، وقد قال الحافظ ابن حجر: "ووقع عند مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام أيضاً يوم أحد". فتح الباري 7/ 289.
3 هو طلحة بن عبيد الله بن عبد الله بن عمرو بن كعب القرشي التيمي أبو محمد، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق، وأحد الستة أصحاب الشورى، قتل يوم الجمل سنة ست وثلاثين. الإصابة 2/ 229ـ230.
ستة نفر أو سبعة وهم مع ذلك يمشون حول المهراس، ويقال: كان كعب ابن مالك أول من عرف عين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فقد من وراء المغفر فنادى بصوته الأعلى: الله أكبر، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه، - زعموا - رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن اسكت1 - وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وكُسِرت رَباعيتُه2، وكان أُبيّ بن خلف قال حين افتدى: "والله إن عندي لفرس أعلفها كل يوم فَرَق3 ذرة، ولأقتلنّ عليها محمداً"، فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
1 يشهد له ما رواه عبد الرزاق في مصنفه 5/ 363 - 366 رقم (9735) عن الزهري عن عروة وفي تفسيره عن الزهري 1/ 134، وما رواه إسحاق بن راهويه في مسنده كما في إتحاف الخيرة للبوصيري، رقم (4565) عن الزهري دون ذكر عروة، وانظر مسند إسحاق في المطالب العالية للحافظ ابن حجر، رقم (4262) وقال عنه الحافظ: "رجاله ثقات ولكنه مرسل أو معضل".
وأخرجه ابن سعد عن الزهري كما في الطبقات 2/45-46، وزاد بعد قوله (أن اسكت) فأنزل الله تعالى جده {وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل} الآية، وأخرجه ابن إسحاق عن الزهري مرسلاً (ابن هشام 2/83) ، وأخرجه الطبري في التفسير 7/308 رقم (8066) ، وفي التاريخ 8/518، وورد موصولاً عند الواقدي في المغازي 1/236 من رواية الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه، ومن طريقه أخرجه الطبراني في الأوسط 2/22 رقم _1104) ، ولكن الواقدي متروك.
2 الرَّباعية: - بفتح الراء وتخفيف الموحدة ـ: السنّ التي بين الثنية والناب، والمراد: أنها كسرت فذهبت منها فلقة ولم تقلع من أصلها (انظر: فتح الباري 7/366) .
3 الفَرَق بالتحريك، مكيال يسع ستة عشر رطلاً، وهي اثنا عشر مداً، أو ثلاثة آصع، وأما الفرق بالسكون: فمائة وعشرون رطلاً. النهاية 3/437.
حِلْفَته، فقال: "بل أنا أقتله إن شاء الله".
فأقبل أُبيٌّ مقنعاً في الحديد على فرسه تلك يقول: لا نجوت إن نجا محمد، فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله.
قال موسى بن عقبة [عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبيه، قال: أقبل أُبي بن خلف يوم أحد إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريده] 1، فاعترض له رجال من المؤمنين فأمرهم رسول الله فخلوا طريقه، واستقبله مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل مصعب بن عمير وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أُبي بن خلف من فُرْجة بين سابغة البيضة والدرع فطعنه بحربته فوقع أُبيّ عن فرسه، ولم يخرج من ترقوته دم، قال سعيد: فكسر ضلعاً من أضلاعه، ففي ذلك نزل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} 2، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخور خوار الثور، فقالوا: ما جزعُك إنما هو خَدْش3، فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل أنا أقتل أبياً"4، ثم
__________
1 ما بين المعقوفتين من مستدرك الحاكم 2/327، ولعلها سقطت من دلائل النبوة للبيهقي.
2 سورة الأنفال آية (17) .
3 خدش الجلد: قشره بعود أو نحوه، خدشه يخدشه خدشاً، والخدوش جمعه. النهاية 2/14.
4 ستأتي قصة قتل الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي في مبحث مستقل.
قال: والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بيْ بأهل المجاز1 لماتوا أجمعون، فمات أُبيّ قبل أن يقدم مكة، فلما لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ونظروا إليه، ومعه طلحة والزبير وسهل بن حُنيف والحارث بن الصمّة أخو بني النجار ظنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النفر من عدوهم فوضع أحدهم سهماً على كبد قوسه فأراد أن يرمي، فلما تكلموا وناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفوه، فكأنه لم يصبهم بلاء في أنفسهم قطّ حين عرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هو كذلك إذ عرض لهم الشيطان نفسه ووسوسته وتحزينه حين أبصروا عدوهم قد انفرجوا عنهم، فبينما هم كذلك يذكرون قتلاهم وإخوانهم، ويسأل بعضهم بعضاً عن حميمه، فيخبر بعضهم بعضاً بقتلاهم، وقال: اشتد حزنهم، أدبر الله عليهم المشركين، وغمهم بهم ليذهب بذلك الحزن عنهم، فإذا عدوهم فوق الجبل قد علوهم، فنسوا عند ذلك الحزن والهموم على إخوانهم، ثم أنزل الله عزوجل على طائفة {مِنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسَاً يَغْشَى طائفةً مِنْكُم} 2 كما قال: {وطائفةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيرَ الحقِّ ظَنَّ الجاهليَّةِ يقولونَ هَلْ لنا مِنَ الأمرِ مِنْ شَيءٍ قُلْ إنَّ الأمرَ كلَّه للهِ يُخْفُون في
__________
1 المجاز: أو ذو المجاز: بفتح الميم وتخفيف الجيم وآخره زاي، وهو من أشهر أسواق العرب في الجاهلية، يقع بسفح جبل كبكب من الغرب يراه من يخرج من مكة على طريق نخلة اليمانية، معجم المعالم الجغرافية للبلادي 278 - 279.
2 سورة آل عمران آية (154) .
أنفسِهِم مَا لا يُبْدُوْنَ لكَ يقولونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شيءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا} قال الله عزوجل: {قُل لوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُم} 1 إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، وكانا غَمَّين: فهذا الغمّ الآخر، والغمّ الأول: حين أُصعدوا في الشعب منهزمين، فأنساهم الهزيمة ما يخافون من طلب العدو وقتالهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا اليوم"2 ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وندب أصحابه، فانتدب منهم عصابة، فأصعدوا في الشعب حتى كانوا هم والعدو على السواء فراموهم بالنبل، وطاعنوهم حتى أهبطوهم عن الجبل، وانكفأ المشركون عنهم إلى قتلى المسلمين فَمَثَّلوا بهم: يقطعون الآذان والأنوف، والفروج، ويبقرون البطون، وهم يظنون أنهم قد أصابوا النبي صلى الله عليه وسلم وأشراف أصحابة، ثم إنهم قد اجتمعوا وصفوا مقاتلتهم، فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال إلا أنكم ستجدون في قتلاكم شيئاً من مُثْلَة، وإني لم آمر بذلك ولم أكرهه3، ثم قال: أُعل هبل، يفخر
__________
1 سورة آل عمران آية (154) .
2 أخرجه ابن إسحاق (انظر: ابن هشام 2/ 86) ومن طريقه أخرجه الطبري، في التفسير 7/ 309 رقم الحديث (8066) تحقيق: شاكر، وأخرجه الطبري في التفسير عن السدي، انظر: نفسير الطبري 7/ 307 رقم (8064) .
3 يشهد لهذا ما أخرجه البخاري بألفاظ متقاربة، صحيح البخاري مع الفتح 7/ 349 - 350 رقم (4043) ، وانظر: مسند أحمد 4/ 209، 6/ 181 تحقيق شاكر، وابن إسحاق (ابن هشام 2/ 93) بدون إسناد، والواقدي في المغازي 1/ 296، والحلية لأبي نعيم 1/ 39 من طريق الزهري.
بآلهته.
فقال: عمر: اسمع يا رسول الله ما يقول عدو الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ناده فقل: الله أعلى وأجل، لا سواء: قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار".
قالوا: "إن لنا العزى ولا عزى لكم".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله مولانا ولا مولى لكم".
ثم نادوا محمداً باسمه1، فلما علموا أنه حيٌّ ونادوا رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرافاً فعلموا أنهم أحياء، كبتهم الله فانكفؤوا إلى أثقالهم، لا يدري المسلمون ما يريدون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن رأيتموهم ركبوا وجعلوا الأثقال تتبع آثار الخيل فهم يريدون أن يدنوا من البيوت والآطام التي فيها الذراري والنساء، وأقسم بالله لئن فعلوا لأواقعنهم في جوفها، وإن كانوا ركبوا الأثقال وجنبوا الخيل فهم يريدون الفرار"، فلما أدبروا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص في آثارهم فقال: أعلم لنا أمرهم، فانطلق سعد يسعى حتى علم علمهم، ثم رجع فقال: رأيت خيلهم تضرب بأذنابها مجنوبة2 مدبرة، ورأيت القوم قد
__________
1 انظر: صحيح البخاري مع الفتح 7/ 349 رقم (4043) بألفاظ متقاربة من ألفاظ هذه الرواية.
2 جنب الرجل: دفعه، وسحابة مجنوبة هبت بها الجنوب، لسان العرب 1/ 508، والقاموس 89، والمعنى: دفعوها إلى جهة الجنوب ذاهبين إلى مكة والله أعلم.
تحملوا على الأثقال سائرين فطابت أنفس القوم لذهاب العدو، وانتشروا يتبعون قتلاهم، فلم يجدوا قتيلاً إلا قد مَثَّلُوا به إلا حنظلة بن أبي عامر1، كان أبوه مع المشركين فتُرِك له، وزعموا أن أباه وقف عليه قتيلاً، فدفع صدره برجله ثم قال: ذنبان أصبتهما قد تقدمت إليك في مصرعك هذا يا دُبَيْس2، ولعمر الله إن كنت لواصلاً للرحم براً بالوالد، ووجدوا حمزة ابن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم قد بقر بطنه، وحملت كبده، احتملها وحشي3 وهو قتله يذهب بكبده إلى هند4 بنت عتبة في نذر نذرته حين
__________
1 هو: حنظلة بن أبي عامر بن صيفي بن مالك بن أمية الأنصاري الأوسي المعروف بغسيل الملائكة، وكان أبوه في الجاهلية يعرف بالراهب واسمه عمرو، ويقال: عبد عمرو، استشهد حنظلة بأحد لا يختلف أصحاب المغازي في ذلك. الإصابة 1/ 360 - 361.
2 الدبسة: لون بين السواد والحمرة. النهاية 2/ 99.
3 هو: وحشي بن حرب الحبشي مولى بني نوفل، قيل: كان مولى طعيمة بن عدي، وقيل: مولى أخيه مطعم، وهو قاتل حمزة قتله يوم أحد، أسلم وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم وكان قدومه عليه مع وفد أهل الطائف، شارك في قتل مسيلمة، يكنى أبا سلمة، وقيل: أبا حرب، شهد اليرموك ثم سكن حمص ومات بها في خلافة عثمان. الإصابة 3/ 361.
4 هي: هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشية العبشمية والدة معاوية، أسلمت يوم الفتح، ماتت في خلافة عمر بعد أبي بكر بقليل في اليوم الذي مات فيه أبو قحافة. الإصابة 4/ 425 - 426.
قتل أباها يوم بدر، وأقبل المسلمون على قتلاهم يدفنونهم فدفن حمزة في نمرة1 كانت عليه إذا رفعت إلى رأسه بدت قدماه، وإذا أنزلت إلى رجله بدا وجهه، فجعلوا أعواداً من شجرٍ وحجارةٍ فوضعوا على قدميه وغطوا وجهه2.
قال موسى: قال ابن شهاب: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم لدفن الشهداء قال: "زملوهم3 بجراحهم فإنه ليس كَلْم4 يكلم في الله إلا وهو يأتي يوم القيامة يَدْمَى لونه لون الدم، وريحه ريح المسك" 5، ثم قال
__________
1 النمرة: شملة فيها خطوط بيض وسود. لسان العرب 721، والنهاية 5/ 118.
2 يشهد لذلك ما أخرجه الترمذي من حديث الزهري عن أنس، سنن الترمذي رقم (1016) ، وقال الترمذي: حديث أنس حديث غريب، وقد حكم عليه الألباني بالصحة، انظر: صحيح سنن الترمذي 1/ 297 - 298، تحت رقم (1027) .
والطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 14 - 15، وسنن الدارقطني 4/ 116 رقم (43) ، ومصنف ابن أبي شيبة 7/ 367، ومستدرك الحاكم 1/ 365، 2/ 120، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 10.
3 زملوهم: لفوهم فيها، يقال: تزمل بثوبه إذا التف به. النهاية 2/ 313.
4 هو جمع: كليم: وهو الجريح، وأصل الكلم: الجرح. النهاية 4/ 199.
5 أخرجه أحمد في المسند 39/ 63 رقم [23658] الأرناؤوط من طريق معمر عن الزهري، وسنن سعيد بن منصور رقم (2583) ، والنسائي في السنن 4/ 78 رقم (2002) ، و6/ 29 رقم (3148) ، وكتاب الجهاد لابن أبي عاصم، رقم (176) ، والآحاد والمثاني له 5/ 68 رقم (2608) ، والطحاوي في مشكل الآثار 1/ 99ـ100، ومسند ابن الجعد رقم (1638) ، والبخاري من حديث مالك عن أبي الزناد ومسلم من حديث سفيان ولفظه: "لا يُكْلم أحد في سبيل الله - والله أعلم بمن يُكْلَم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعُب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك" البخاري رقم (2803) ومسلم رقم (105) ، (1876) باب فضل الجهاد 3/ 1496، عبد الباقي.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا الشهيد على هذا يوم القيامة"1.
ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفنون على عينيه، ولم يغسلهم ولم يصل على أحد منهم كما يصلي على الموتى، ولم يدفنهم في غير ثيابهم التي قتلوا فيها، قال: وهم يدفنون الرهط في الحفرة الواحدة: (أي هؤلاء كان أكثر أخذاً للقرآن؟) فإذا أشير إلى الرجل منهم قدمه في اللحد قبل أصحابه حتى فرغ من دفنهم، وخرج نساء من المهاجرات والأنصار يحملن على ظهورهن الماء والطعام وخرجت فيهن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأت أباها والذي به من الدماء اعتنقته، وجعلت تمسح الدماء عن وجهه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله، واشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله"2.
وقال سهل بن سعد الساعدي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر
__________
1 أخرجه البخاري من طريق الزهري، صحيح البخاري مع الفتح 3/ 209، رقم (1343) ، وابن إسحاق (ابن هشام 2/ 98) .
2 أخرجه البخاري في الصحيح، فتح الباري 7/ 372، ومسلم 2/ 150، ومسند أحمد انظر: الفتح الرباني 21/ 57، وابن هشام 2/ 85 - 86.
لقومي فإنهم لا يعلمون" 1.
قال موسى بن عقبة: قال ابن شهاب: رمى يومئذٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني الحارث بن عبد مناة يقال له: ابن قَمِئَة2، ويقال: بل رماه عتبة بن أبي وقاص3، قال: وسعى علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى المهراس، وقال لفاطمة: أمسكي هذا السيف غير ذميمة، فأتى بماءٍ في مَجنَّة4 فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشرب منه فوجد له ريحاً، فقال: (هذا
__________
1 له شاهد عند البخاري رقم (3477) ، وأحمد 6/ 103 - 104 رقم [3611] الأرناؤوط، والفسوي في المعرفة والتاريخ 1/ 338، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني 4/ 123 رقم (2096) ، وابن حبان (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 3/ 254 رقم 973) ، والطبراني في الكبير 6/ 120 رقم 5694، وقال في المجمع 6/ 117 "ورجاله رجال الصحيح، قال أبو حاتم: "يعني هذا الدعاء أنه قال يوم أحد لما شُجَّ وجهه قال: (اللهم اغفر لقومي) ذنبهم بي من الشج لوجهي لا أنه دعاء للكفار بالمغفرة، ولو دعا لهم بالمغفرة لأسلموا في ذلك الوقت لا محالة". الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 3/ 255.
2 اسمه: عبد الله بن قمئة الليثي. ابن هشام 2/94.
3 ذكر الذهبي في المغازي، ص (192) عن معمر، عن الزهري، وعن عثمان الجزري، عن مقسم أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة حين كسر رباعيته "اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافراً"، فما حال عليه الحول حتى مات كافراً إلى النار) قال الذهبي: وهو مرسل. وانظر: السيرة النبوية لابن كثير (2/59) . وقد ذكر الواقدي في المغازي (1/245) نحواً من هذا من غير طريق الزهري.
4 المجنّ: الترس. النهاية 4/301، وفي رواية ابن إسحاق (ابن هشام 2/85) أن علياً ملأ درقته من ذلك الماء.
ماء آجن) 1، فمضمض منه وغسلت فاطمة عن أبيها، ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف عليّ مخضباً دماً، قال: (إن تكن أحسنت القتال فقد أحسن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، والحارث2 بن الصِّمَّة، وسهل3 بن حُنيف) 4، ثم قال: "أخبروني عن الناس ما فعلوا وأين ذهبوا"؟
قالوا: كفر عامتهم، فقال: "إن المشركين لم يصيبوا منا مثلها حتى نبيحهم"، ثم أقبلوا إلى دورهم وقد كان أبو سفيان ناداهم والمشركون حين ارتحلوا أن موعدهم الموسم موسم بدر، وهي سوق كانت تقوم ببدر كل عام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا لهم نعم قد فعلنا".
__________
1 الماء الآجن: الماء المتغير الطعم واللون. لسان العرب المحيط 1/26.
2 هو الحارث بن الصِّمَّة - بكسر الصاد المهملة وتشديد الميم - ابن عمرو بن عتيك بن عمرو بن عامر بن مالك بن النجار والد أبي جهم عُدّ في أهل بدر، كسر بالروحاء فرده النبي صلى الله عليه وسلم وضرب له بسهم وشهد أحداً واستشهد ببئر معونة. الإصابة 1/181.
3 هو: سهل بن حُنيف بن وهب بن العكيم الأوسي الأنصاري، يكنى أبا سعد وأبا عبد الله من أهل بدر، وكان من السابقين، وثبت يوم أُحد حين انكشف الناس، وبايع يومئذ على الموت. الإصابة 2/87.
4 أخرجه الحاكم في المستدرك 3/24، وصححه وأقرّه الذهبي، وأخرجه الطبراني كما في المجمع 6/123، وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح".
قال أبو سفيان: فذلك الموعد1.
وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عرض يومئذ سيفه فقال: "من يأخذ هذا بحقه"؟ قالوا: وما حقه؟ قال: يضرب به إذا لقي العدوّ"، فقال عمر - زعموا - أنا آخذه، فأعرض عنه، ثم عرضه الثانية، فقال الزبير: أنا آخذه فأعرض عنه، فوجد عمر والزبير في أنفسهما من ذلك، ثم عرضه الثالثة بذلك الشرط، فقال أبو دجانة سماك بن خرشة2 أخو بني ساعدة: أنا آخذه يا رسول الله بحقه، فدفعه إليه.
فصدق به حين لقي العدو وأعطى السيف بحقه3.
__________
1 بدر الموعد: ستأتي في بحث مستقل إن شاء الله تعالى.
2 اسمه: سِماك بن خرشة، وقيل: أوس بن خرشة، متفق على شهوده بدراً، وقد كثرت فيه الجراحة يوم أُحد، وثبت أنه أخذ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ففلق به هام المشركين، قيل: إنه شهد موقعة اليمامة، وشارك في قتل مسيلمة، واستشهد بها. انظر: الإصابة 4/58.
3 يشهد له ما أخرجه مسلم في صحيحه 16/224، النووي، ومغازي ابن إسحاق [انظر: ابن هشام 2/66] والمغازي للواقدي 1/258-259، وسنن سعيد بن منصور 2/364، ومصنف ابن أبي شيبة 14/401، ومعجم الطبراني الكبير 19/ 9 رقم (14) ،والمطالب العالية 4/221، وأخرجه أيضاً البزار في مسنده 3/193- 194 رقم (979) ، وانظر: تاريخ الأمم والملوك للطبري 2/510، والكنى للدولابي 1/69، ومستدرك الحاكم 3/230، والإصابة لابن حجر 4/58-56.
وزعموا أن كعب بن مالك قال: كنت فيمن خرج من المسلمين فلما رأيت مُثَل المشركين بقتلى المسلمين قمت فتجاوزت، فإذا رجل من المشركين جمع اللأمة تحوية المسلمين ويقول: استوسقوا1 كما تستوسق جرد الغنم، قال: وإذا رجل من المسلمين قائم ينتظره، وعليه لأمته، فمضيت حتى كنت من ورائه، ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة، قال: فلم أزل أنظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر على حبل عاتقه ضربة بالسيف بلغت وركه وتفرق فرقتين ثم كشف المسلم عن وجهه، فقال: كيف ترى يا كعب أنا أبو دجانة.
فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم أزقَّة المدينة إذا النوح والبكاء في الدور، فقال: "ما هذا"؟ قالوا: هذه نساء الأنصار يبكين قتلاهنّ، قال: وأقبلت امرأة تحمل ابنها وزوجها على بعير قد ربطتهما بحبل ثم ركبت بينهما، وحمل منهم قتلى فدفنوا في مقابر المدينة، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن حملهم، وقال: "واروهم2 حيث أصيبوا"3، وقال رسول الله حين سمع البكاء: "لكن حمزة لا بواكي له "، واستغفر له، فسمع ذلك سعد بن معاذ وسعد بن
__________
1 استوسقوا: أي استجمعوا وانضموا. النهاية 5/185.
2 واروهم: أي ادفنوهم، وارى الميت: دفنه. لسان العرب 1/ 994.
3 يشهد له ما رواه الإمام أحمد في المسند 22/ 208 رقم [14305] الأرناؤوط، وعبد الرزاق في المصنف 5/ 278، والحميدي 2/ 544، وابن أبي شيبة 5/ 321، وأبو داود 3/ 202 رقم (3165) ، والنسائي 4/ 79، والترمذي 5/ 279 مع التحفة.
عبادة ومعاذ بن جبل وعبد الله بن رواحة، فمشوا في دورهم فجمعوا كل نائحة وباكية كانت بالمدينة، فقالوا: والله لا تبكين قتلى الأنصار حتى تبكين عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قد ذكر أنه لا بواكي له بالمدينة.
- وزعموا - أن الذي جاء بالنوائح عبد الله بن رواحة، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم البكاء قال: (ما هذا؟)
فأخبر بما فعلت الأنصار بنسائهم، فاستغفر لهم وقال لهم خيراً، وقال: (ما هذا أردت، وما أحب البكاء، ونهى عنه) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من عمل الجاهلية لن تتركهن أمتي: النياحة على الموتى، والطعن في الأنساب، وقيل هذا المطر بنوء1 كذا وكذا، وليس بنوء إنما هو عطاء الله ورزقه"2.
وأخذ المنافقون عند بكاء المسلمين في المكر والتفريق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحزين المؤمنين وظهر غش اليهود وفارت المدينة بالنفاق فور المِرْجَل3، وأظهروا النفاق والغش عند بكاء المسلمين ما كانوا مستخفين، وقالت اليهود: لو كان نبياً ما ظهروا عليه، ولا أصيب منه ما أصيب،
__________
1 مطرنا بنوء كذا: أي مطرنا بفضل نجم كذا، والأنواء ثمان وعشرون منزلة، ينزل القمر كل ليلة منها منزلة، وإنما غلّظ النبي من أمر الأنواء لأن العرب كانت تنسب المطر إليها. النهاية 5/ 122.
2 يشهد له ما رواه البخاري في صحيحه 7/ 156 مع الفتح، ومسلم 2/ 57 - 59، والترمذي 3/ 325.
3 المرجل: هو بالكسر الإناء الذي يُغلى فيه الماء. النهاية 4/ 315.
ولكنه طالب ملك تكون له الدولة مرة وعليه مرة، وكذلك أهل طلب الدنيا بغير نبوة1.
وقال المنافقون نحو قولهم، وقالوا للمسلمين: لو كنتم أطعتمونا ما أصابوا الذي أصابوا منكم.
وقدم رجل من أهل مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستخبره عن أبي سفيان وأصحابه فقال: نازلتهم فسمعتهم يتلاومون، يقول بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئاً، أصبتم شوكة القوم وحدَّهم ثم تركتموهم ولم تبروهم، فقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وبهم أشد القرح بطلب العدو ليسمعوا بذلك، وقال: لا ينطلقن معي إلا من شهد القتال، فقال عبد الله بن أبي ّ: أنا راكب معك.
فقال: (لا) ، فاستجابوا لله ورسوله على الذي بهم من البلاء فانطلقوا، فقال الله عزوجل في كتابه: {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} 2.
__________
1 قال ابن هشام: "وذكر غير زياد،,
43- قال البخاري: حدثنا عبدان، أخبرنا يونس، عن ابن شهاب، قال ثعلبة بن أبي مالك: (إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم مروطاً1 بين نساء من نساء المدينة، فبقي مرط جيد، فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين أعط هذا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم - يريدون أم كلثوم بنت علي2 - فقال عمر: أم سليط3 أحق، وأم سليط من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمر: فإنها كانت تزفر4 لنا القرب يوم أحد.
__________
1 المروط: الأكسية، الواحد: مِرْط، يكون من صوف، وربما يكون من خز أو غيره. النهاية 4/ 319.
2 هي: أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولدت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها عمر فأصدقها أربعين ألفاً وأنجبت له زيداً ورقية، الإصابة 4/ 492.
3 أم سليط: امرأة من المبايعات، حضرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، قال عمر بن الخطاب: كانت تزفر لنا القرب يوم أحد. الاستيعاب 4/ 4923 رقم (3595) ، وقال الحافظ ابن حجر: قلت: ثبت ذكرها في صحيح البخاري عن عمر كناها عمر بابنها سليط بن أبي سليط بن أبي حارثة، وهي أم قيس بنت عبيد ذكر ذلك ابن سعد. الإصابة 4/ 460.
4 تزفر: بفتح أوله وسكون الزاي وكسر الفاء أي تحمل. الفتح 6/ 79.
وأما قول البخاري: (تزفر: تخيط) فقد قال الحافظ: "كذا في رواية المستملي وحده، وتُعقب بأن ذلك لا يعرف في اللغة، وإنما الزفر الحمل، وهو بوزنه ومعناه"، ثم قال الحافظ: "قلت: وقع عند أبي نعيم في المستخرج بعد أن أخرجه من طريق عبد الله ابن وهب عن يونس قال عبد الله: تزفر: تحمل، وقال أبو صالح كاتب الليث: تزفر: تخرز". قال الحافظ: "فلعل هذا مستند البخاري في تفسيره" (الفتح 6/ 79) .
قال أبو عبد الله: تزفر: تخيط1.
44- وقال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس2، قال: ثنا أحمد بن خالد3 - يعني الوهبي - ثنا ابن إسحاق، عن أبي جعفر4 والزهري عن يزيد بن هرمز5 قال: كتب نجدة الحروري6 إلى ابن عباس يسأله عن النساء: هل كن يشهدن الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل كان
__________
1 صحيح البخاري مع الفتح 6/ 79 رقم (2881) ، 7/ 366 - 367 رقم (4071) .
2 هو: محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذؤيب الذهلي، النيسابوري، ثقة، حافظ، جليل، من الحادية عشرة، توفي سنة ثمان وخمسين على الصحيح وله ست وثمانون سنة خ4، التقريب رقم (6387) .
3 هو: أحمد بن خالد بن موسى الوهبي الكندي أبو سعيد، صدوق من التاسعة، توفي سنة أربع عشرة. التقريب 79 رقم (30) .
4 هو: محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو جعفر الباقر، ثقة فاضل، من الرابعة، مات سنة بضع عشرة، التقريب 497 رقم (6151) .
5 هو: يزيد بن هرمز المدني، مولى بني ليث، وهو غير يزيد الفارسي على الصحيح وهو والد عبد الله، ثقة، من الثالثة، توفي على رأس المائة، م د ت س. التقريب 606.
6 هو: نجدة بن عامر الحروري من رؤوس الخوارج، قتل سنة سبعين، لسان الميزان 6/ 148 رقم (520) .
يضرب لهنّ بسهم؟
قال: فأنا كتبت كتاب ابن عباس إلى نجدة: قد كن يحضرن الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أن يضرب لهن بسهم فلا، وقد كان يرضخ1 لهن2.
__________
1 الرضخ: العطية القليلة. النهاية 2/ 228.
2 سنن أبي داود 3/ 74، وفيه عنعنة ابن إسحاق وهو مدلس، وقد صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/ 521 رقم (2369) ، ويشهد له ما أخرجه مسلم في صحيحه بلفظ مقارب. انظر: صحيح مسلم بشرح النووي 12/ 190.
وشهود النساء الغزوات لمداواة الجرحى وسقيهم الماء ثابت في الصحيحين وغيرهما، انظر: صحيح البخاري مع الفتح 7/ 361 رقم (4064) ومسلم بشرح النووي 12/ 187 - 188، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 30.
,
45- أخرج عبد الرزاق عن معمر عن الزهري وعن عثمان الجزري عن مقسم أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي وقاص يوم أحد حين كسر رباعيته ودمى وجهه فقال: "اللهم لا يحل عليه الحول حتى يموت كافراً" 1 فما حال عليه الحول حتى مات كافراً إلى النار.
46- وأخرج2 عن معمر عن الزهري في قوله تعالى: {وَعَصَيْتُم
__________
1 تفسير عبد الرزاق 1/ 131 - 132، والمصنف 5/ 290 - 291، ومن طريق عبد الرزاق أخرجها البيهقي في الدلائل 3/ 265، وذكرها الذهبي في تاريخ الإسلام قسم المغازي 192، وهي رواية مرسلة، وانظر: ابن هشام 2/ 79، فقد ذكر ابن إسحاق بإسناد متعدد منهم الزهري، إصابة النبي صلى الله عليه وسلم رباعيته، وشج وجهه الشريف، وقد أخرج هذه الرواية من طريق ابن إسحاق. الطبري في تفسيره 7/ 308 رقم (8065) وهي مرسلة أيضاً.
ولكن يشهد لها ما أخرجه البخاري في صحيحه (مع الفتح 7/ 372 رقم 4075) بلفظ: ( ... وكُسِرتْ رباعيته يومئذٍ، وجرح وجهه، وكسرت البيضة على رأسه) دون ذكر الدعاء.
وأخرجه مسلم (بشرح النوي 12/ 148 - 149) بلفظ: ( ... جُرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه ... ) دون ذكر الدعاء. وانظر: طبقات ابن سعد 2/ 42.
2 تفسير عبد الرزاق 1/ 135 - 136، والمصنف 5/ 363 - 366 رقم (9735) .
مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ} 1 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد حين غزا أبو سفيان وكفار قريش: "إني رأيت كأني لبست درعاً حصينة، فأولتها المدينة فاجلسوا في صمعكم2، وقاتلوا من ورائه"، وكانت المدينة قد شبكت البنيان فهي كالحصن، فقال رجل ممن لم يشهد بدراً: يا رسول الله اخرج بنا إليهم فلنقاتلهم، وقال عبد الله بن أبي بن سلول: نعم ما رأيت يا رسول الله، إنا والله ما نزل بنا عدو قط فخرجنا إليه إلا أصاب فينا، ولا ثبتنا في المدينة وقاتلنا من ورائها إلا هزمنا عدونا، فكلمه ناس من المسلمين فقالوا: يا رسول الله اخرج بنا إليهم فدعا بلأمته فلبسها، ثم قال: (ما أظن الصرعى إلا ستكثر منكم ومنهم، إني أرى في النوم بقراً منحورة فأقول: بقر والله خير، فقال رجل: يا رسول الله بأبي وأمي فاجلس بنا، قال: "إنه لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يلقى البأس".
فانطلقت به الأدلاء بين يديه حتى إذا كان بالواسط من الجَبَّنَةِ انخذل عبد الله بن أبيّ بن سلول بثلث الجيش أو قريب من ثلث الجيش، وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم حتى لقيهم بأحد وفاجؤوهم، فعهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه إن هزموهم ألا يدخلوا لهم حجراً ولا يتبعوهم، فلما التقوا هزموهم وعصوا
__________
1 سورة آل عمران آية (152) .
2 الأصمع: المترقي أشرف المواضع، القاموس 953، صمع: فكأنه أراد اجلسوا في أحسن الأماكن ليكمن للعدو فيها.
النبي وتنازعوا الغنائم، ثم صرفهم الله ليبتليهم كما قال: وأقبل المشركون، وعلى خيلهم خالد بن الوليد بن المغيرة، فقتل من المسلمين سبعون رجلاً، وأصابتهم جراح شديدة، وكسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم ووثئ1 بعض وجهه حتى صاح الشيطان بأعلى صوته: قتل محمد، قال كعب بن مالك: فكنت أول من عرف النبي صلى الله عليه وسلم، عرفت عينيه من تحت المغفر فناديت بصوتي الأعلى: هذا رسول الله، فأشار إليّ أن اسكت، ثم كفَّ الله المشركين والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقوف، فنادى أبو سفيان بعدما مُثِّلَ بِبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجدعوا، ومنهم من بقر بطنه، فقال أبو سفيان: إنكم ستجدون في قتلاكم بعض المثل، وإن ذلك لم يكن عن ذوي رأينا ولا ساداتنا، ثم قال أبو سفيان: أُعل هبل، فقال عمر بن الخطاب: الله أعلى وأجل، فقال أبو سفيان: أَنعمت فعال عنها2، قتلى بقتلى بدر، فقال عمر: لا يستوي القتل؛ قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، قال أبو سفيان: لقد خبنا إذن، ثم انصرفوا راجعين، وندب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في طلبهم بعدما أصابهم القرح، فطلبوهم حتى بلغوا قريباً من حمراء الأسد ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم.
47- وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: ضرب وجه
__________
1 الوثء: والوثاءة: وصم يصيب اللحم لا يبلغ، أو توجع في العظم بلا كسر، أو هو الفك. القاموس 69 (وثا) .
2 في المصنف: (أنعمت عيناً) .
النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بالسيف سبعين ضربة وقاه الله شرها كلها1.
__________
1 ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح 7/ 372، ثم قال: وهذا مرسل قوي، ويحتمل أن يكون أراد بالسبعين حقيقتها أو المبالغة في الكثرة.
وقد ورد هذا النص في المصنف هكذا: (ولقد أخبرنا عبد الرزاق أن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب يومئذ بالسيف سبعين ضربة، وقاه الله شرها) . المصنف 5/ 367 تحت رقم (9736) .
المبحث الحادي عشر: في مقتل حمزة رضي الله عنه.
48- قال الواقدي1: فحدثني عبد الله بن جعفر2 عن ابن أبي عون3 عن الزهري عن عروة، قال: حدثنا عبيد الله بن عدي بن الخيار4، قال: غزونا الشام في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه فمررنا بحمص بعد العصر، فقلنا: وحشي، فقالوا: لا تقدرون عليه، هو الآن يشرب الخمر5 حتى يصبح، فبتنا من أجله6 وإنا لثمانون رجلاً، فلما صلينا الصبح جئنا إلى منزله فإذا شيخ كبير قد طرحت له زِرْبيّة7 قدر
__________
1 مغازي الواقدي 1/287، والواقدي متروك، ولكن أصل الحديث في البخاري، حديث رقم (4072) ، ولكن ليس فيه شرب الخمر.
2 هو عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، أبو محمد المدني، ليس به بأس، من الثامنة، توفي سنة سبعين، وله بضع وسبعون، خت، م 4، التقريب 298.
3 هو عبد الواحد بن أبي عون المدني، صدوق يخطئ، من السابعة، توفي سنة أربع وأربعين، خت، ق، التقريب 367.
4 هو: عبيد الله بالتصغير بن عدي بن الخيار القرشي النوفلي، ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين. الإصابة 3/74.
5 ذكر ابن سعد في الطبقات 7/419، بإسناد منقطع أنه أول من ضرب في الخمر بحمص، أما رواية البخاري فلم تذكر ذلك. انظر: البخاري حديث رقم: (4072)
6 لم تذكر رواية البخاري أنهم باتوا.
7 الزربية: الطِّننِفَسة، وقيل: البساط ذو الخمل، وتكسر زايها وتفتح وتضمّ، وجمعها زرابيّ. النهاية 2/300.
مجلسه، فقلنا له: أخبرنا عن قتل حمزة، وعن مسيلمة، فكره ذلك وأعرض عنه، فقلنا له: ما بتنا هذه الليلة إلا من أجلك، فقال: إني كنت عبداً لجبير ابن مطعم بن عديّ، فلما خرج الناس إلى أُحُد دعاني، فقال: قد رأيت مقتل طعيمة بن عديّ، قتله حمزة بن عبد المطلب يوم بدر، فلم تزل نساؤنا في حزن شديد إلى يومنا هذا، فإن قتلتَ حمزةَ فأنتَ حرٌّ، قال: فخرجت مع الناس ولي مزاريق1، وكنتُ أمرّ بِهند بنت عتبة فتقول: إيه أبا دَسْمة2، اشف واشتفِ، فلما وردنا أُحُداً نظرت إلى حمزة يقدم الناس يهدّهم هدّاً، فرآني وأنا قد كمنتُ3 له تحت شجرةٍ فأقبل نحوي، ويعترض له سباع الخزاعي، فأقبل إليه، فقال: وأنت أيضاً يا ابن مقطعة البظور4 ممن يكثر علينا هلمّ إليّ، قال: وأقبل حمزة فاحتمله حتى رأيت بَرَقان5 رجليه، ثم ضرب به الأرض ثم قتله، وأقبل نحوي سريعاً حتى يعترض له جرف فيقع فيه، وأزرقه بمزراقي فيقع في ثنته6 حتى خرج من بين رجليه فقتله، وأَمُرُّ بهند بنت عتبة فأعطتني حليها وثيابها، وأما
__________
1 المزراق الرمح القصير. القاموس: زرق.
2 إيه أبا دسمة، الدّسِم الأسود الدنيء. النهاية 2/118.
3 كمنت له: أي استترت واستخفيت. النهاية 4/201.
4 البظْر: - بفتح الباء - الهنة التي تقطعها الخافضة من فرج المرأة عند الختان. النهاية 1/138.
5 برقان رجليه: أي لمعانها. النهاية 1/120.
6 الثُّنَّة: ما بين السرة والعانة من أسفل البطن. النهاية 1/224.
مسيلمة، فإنا دخلنا حديقة الموت، فلما رأيته زرقته بالمزراق وضربه رجل من الأنصار1 بالسيف، فربك أعلم أينا قتله، إلا أني سمعت امرأة تصيح فوق الدَّير قتله العبد الحبشيّ.
قال عبيد الله: فقلت: أتعرفني؟ قال: فأكرّ بصره عليّ، وقال: ابن عدي، ولعاتكة بنت أبي العيص؟ قال: قلت: نعم. قال: أما والله ما لي بك عهد بعد أن رفعتك إلى أمك في مِحَفَّتها2 التي ترضعك فيها.
ونظرت إلى برقان قدميك حتى كان الآن، وكان في ساقي هند خدمتان من جزع3 ظفار، ومسكتان من ورِق، وخواتم من ورِق، كنّ في أصابع رجليها فأعطتني ذلك.
__________
1 هو: عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، وقيل: غيره. والأول أشهر. انظر: فتح الباري 7/370.
2 المحفة: - بالكسر -: مركب النساء كالهودج. القاموس: حفف.
3 سيأتي التعريف بها في غزوة بني المصطلق.
,
1- أنيس بن قتادة الأنصاري2.
2- أوس بن أرقم3.
3- إياس بن أوس الأنصاري4.
4- ثابت بن الدحداحة5.
5- ثعلبة بن ساعدة بن مالك بن خالد بن ثعلبة الخزرجي الأنصاري6.
6- ثعلبة بن سعد بن مالك من بني ساعدة7.
7- الحارث بن أوس بن رافع الأنصاري8.
__________
1 ما كان في هذه القائمة معزواً إلى الطبراني فهو من طريق موسى بن عقبة عن الزهري، وما كان معزواً لغيره فقد جاء ذكره عرضاً كقولهم: ذكره الزهري فيمن استشهد بأحدٍ.
2 الطبراني في الكبير 1/268-269 رقم (777) ومجمع الزوائد 6/123.
3 الطبراني في الكبير 1/230 رقم (630) ومجمع الزوائد 6/123.
4 الطبراني في الكبير 1/275 رقم (802) ومجمع الزوائد 6/123.
5 السنن الكبرى للبيهقي 6/216.
6 أسد الغابة رقم (599) .
7 الطبراني في الكبير 2/88 رقم (1393) والمجمع 6/123.
8 مجمع الزوائد 6/123.
8- الحباب بن قيظي1.
9- حنظلة بن أبي عامر بن الراهب الأنصاري ثم الأوسيّ2.
10- ذكوان بن عبد قيس الأنصاري3.
11- رفاعة بن عمرو بن زيد بن عمرو بن ثعلبة، عقبيٌّ، بدريٌّ4.
12- زيد بن وديعة بن عمرو بن قيس الأنصاري الخزرجي5.
13- سعد بن أبي قيس بن أبي بن كعب بن القين الأنصاري6.
14- سعد بن الربيع7.
15- سعد بن سويد الأنصاري الخزرجي8.
16- سعد بن سهيل، من بني دينار، وقيل: من بني خنساء9.
17- عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة والد جابر10.
__________
1 أسد الغابة، رقم (1022) .
2 الطبراني في الكبير 4م10 رقم (3487) والمجمع 6/123.
3 الطبراني في الكبير 4/233 رقم (4221) والمجمع 6/123.
4 الطبراني في الكبير 5/48-49، وأسد الغابة رقم (1695) ، ومجمع الزوائد 6/123.
5 أسد الغابة رقم (1878) .
6 مجمع الزوائد 6/124.
7 مستدرك الحاكم 3/607، ومجمع الزوائد 6/124.
8 الطبراني في الكبير 6/48 رقم (5472) ، وأسد الغابة 2/354، ومجمع الزوائد 6/124.
9 أسد الغابة 2/354 رقم (2008) .
10 صحيح البخاري مع الفتح 5/59، ودلائل النبوة للفريابي 84 رقم (49) ،والحلية لأبي نعيم 2/4 رقم (89) ، والسنن الكبرى للبيهقي 6/64، ومجمع الزوائد 6/124.
18- عبد الله بن عمرو الدوسيّ1.
19- عبد الله بن عمرو بن وهب ثعلبة بن الخزرجي الأنصاري2.
20- عمارة بن مخلد بن الحارث3.
21- عمرو بن مطرف بن علقمة الأنصاري4.
22- عمرو بن معاذ بن النعمان امرؤ القيس5.
23- مخيريق النضري الإسرائيلي، من بني النضير، ويقال: إنه من بني قينقاع6.
__________
1 الإصابة رقم (4860) .
2 أسد الغابة 3/354 رقم (3096) والإصابة رقم (4857) .
3 أسد الغابة 4/ 143 رقم (3818) .
4 أسد الغابة 4/271 رقم (4022) .
5 الإصابة 3/17.
6 الإصابة 3/393. هؤلاء الذين نصّ الزهري على استشهادهم في أحد، ومعلوم أنه قد ثبت أن الذين استشهدوا في أُحُد كانوا سبعين كما تقدم.
,
...
المبحث الثالث عشر: كيفية دفن شهداء أحد وعدم الصلاة عليهم
49- أخرج البخاري في صحيحه من حديث ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد، قال: أنا شهيد على هؤلاء، وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصلّ عليهم، ولم يغسلهم"1.
__________
1 صحيح البخاري مع الفتح 3/212، و3/209 رقم (1343) و 3/211 رقم (1345) و3/217 رقم (1353) ، و7/374 رقم (4079) ، وسنن أبي داود رقم (3138، 3139) والترمذي رقم (1036) والنسائي 4/62، وابن ماجه رقم (1514) ومنتقى ابن الجارود (انظر: غوث المكدود رقم 552) ، والطبقات الكبرى 3/562، وعبد الرزاق في المصنف 5/272، وابن أبي شيبة في مصنفه 12/290 رقم (12861) والبيهقي في السنن الكبرى 4/34،,في معرفة السنن والآثار 5/251 –252 رقم (7418) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/501) ومسند ابن الجعد رقم (1638) ، والبغوي في شرح السنة 5/ 365 رقم (1500) .
وقد أخرج أبو داود في سننه 3/196 عن أسامة بن زيد الليثي عن الزهري عن أنس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بحمزة، وقد مثِّل به، ولم يصلِِّّ على أحد من الشهداء غيره". ولكن العلماء رجحوا رواية الليث عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب عن جابر، وقالوا: بأن أسامة غلط فيه، انظر: نيل الأوطار للشوكاني 4/78. والحق أن ما في الصحيح مقدم على غيره.