2ـ روى ابن إسحاق خبر هذه السرية عن الزهري ويزيد2 بن رومان، عن عروة فقال: "وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش3 ابن رئاب الأسدي في رجب4 مقفله من بدر
__________
1 هما نخلتان: الشامية واليمانية، والمقصود هنا اليمانية، لأنها على الطريق القديم بين مكة والطائف والنخلتان متجاورتان في المنبع والمصب؛ فكلاهما تأخذ أعلا مساقط مياهها من السراة الواقعة غرب الطائف ثم تنحدر شمالاً ثم غرباً حتى تجتمعا في مَلْقى كان يسمى "بستان ابن معمر" ثم تكونان وادي مر الظهران. معجم المعالم الجغرافية 318، والمعالم الأثيرة 287.
2 هو يزيد بن رومان المدني، أبو رَوْح مولى آل الزبير، ثقة من الخامسة. مات سنة ثلاثين، وروايته عن أبي هريرة مرسلة. التقريب 601.
3 هو عبد الله بن جحش بن رياب، براء تحتانية وآخره موحدة ابن يعمر الأسدي حليف بني عبد شمس أحد السابقين، هاجر إلى الحبشة وشهد بدراً ... بعثه صلى الله عليه وسلم في سرية إلى نخلة. الإصابة 2/286-287.
4 حددتها بعض المصادر التاريخية في آخر يوم من رجب، انظر: تاريخ خليفة 62-63، وأنساب الأشراف للبلاذري 371، وتاريخ المدينة لابن شبة 2/472، وتاريخ الطبري 3/10-11، ودلائل البيهقي 3/17، والواحدي في أسباب النزول 69، وتفسير ابن كثير 1/254، والبداية والنهاية 3/248-250.
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في تفسيره 1/87 أن هذه السرية كانت في أول ليلة من رجب، وذكر ذلك أبو يعلي في المسند 3/102 رقم (1534) بسند حسن كما قال محققه حسين سليم أسد، والطبري في تفسيره 4/307 رقم: (4085، 4086، 4087، 4089، 4096) والطبراني في الكبير 2/62، رقم (1670) ، والواحدي في أسباب النزول 71 رقم (131) نقلاً عن المفسرين، وابن كثير في البداية 3/251.
الأولى1 وبعث معه ثمانية2 رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد وكتب له كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين3 ثم ينظر فيه
__________
1 كان رجوعه من بدر الأولى في جمادى الآخرة عند ابن إسحاق، (ابن هشام 1/601) وعند الواقدي في المغازي ج1/12، أن ذلك كان في ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهراً.
2 قال الواقدي في المغازي: "كانوا اثني عشر، ويقال: كانوا ثلاثة عشر، والثابت عندنا ثمانية". المغازي 1/17-18 ومما يرجح أنهم كانوا أقل من عشرة قوله: (ثمانية رهط) فإن الرهط من الرجال دون العشرة. النهاية (2/283) .وقال ابن سعد في الطبقات 2/10:بعثه في اثني عشر.
3 ورد عند الطبراني في الكبير 2/168 رقم (1670) من حديث أبي السوار العدوي عن جندب بن عبد الله وفيه ( ... وكتب له كتاباً وأمره أن لا يقرأ إلا في مكان كذا وكذا) كذا بالإبهام، قال في المجمع 6/198، ورجاله ثقات، وأخرجه البيهقي أيضاً في السنن الكبرى 9/21، والبخاري معلقاً، انظر: صحيح البخاري مع الفتح 1/153 بعد رقم (36) .
فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحداً.
وكان أصحاب عبد الله بن جحش من المهاجرين ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف: أبو حذيفة1 بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، ومن حلفائهم: عبد الله بن جحش، وهو أمير القوم، وعكاشة2 بن محصن ابن حرثان أحد بني أسد خزيمة حليف لهم.
ومن بني نوفل بن عبد مناف: عتبة بن غزوان بن جابر حليف لهم.
ومن بني زهرة بن كلاب: سعد بن أبي وقاص.
ومن بني عدي بن كعب: عامر3 بن ربيعة حليف لهم؛ من عنز
__________
1 هو أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي العبشمي، قال معاوية اسمه: مهشم وقيل: هشيم: وقيل هاشم، وقيل: قيس،.. كان من السابقين إلى الإسلام وهاجر الهجرتين وصلى القبلتين.
قال ابن إسحاق: "أسلم بعد ثلاثة وأربعين إنساناً..شهد بدراً، استشهد يوم اليمامة وهو ابن ستة وخمسين سنة ط. الإصابة 4/42-43.
2 هو عكاشة: - بضم أوله وتشديد الكاف وتخفيفها أيضاً -: ابن محصن بن حُرثان - بضم المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة - ابن قيس بن مرة بن بُكير بضم الموحدة ابن غنم بن داود ين أسد بن خزيمة الأسدي حليف بني عبد شمس، من السابقين إلى الإسلام، شهد بدراً، وورد ذكره في الصحيحين في حديث ابن عباس في السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، قيل: استشهد في قتال أهل الردة، قتله طليحة بن خويلد. الإصابة 2/494-495.
3 عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك بن ربيعة بن عامر بن سعد بن عبد الله بن الحارث بن رفيدة بن عنز بن وائل العنزي، أبو عبد الله حليف بن عدي ... كان أحد السابقين الأولين وهاجر إلى الحبشة ومعه امرأته ليلى بنت أبي حَثْمة ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدراً وما بعدها. مات سنة 32،، كذا قال أبو عبيدة ثم ذكره في سنة سبع وثلاثين وقال: أظن هذا أثبت، وقال الواقدي، كان موته بعد قتل عثمان بأيام، وقيل غير ذلك. الإصابة 2/249.
ابن وائل، وواقد1 بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع أحد بني تميم حليف لهم، وخالد2 بن البكير أحد بني سعد بن ليث حليف لهم.
ومن بني الحارث بن فهر: سهيل بن بيضاء3.
فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب، فنظر فيه فإذا فيه: "إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة، بين مكة
__________
1 واقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك.. التميمي الحنظلي اليربوعي، حليف بني عدي بن كعب شهد بدراً، كان مع سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة وهو الذي قتل ابن الحضرمي 3/628، بتصرف.
2 خالد بن بكير بن عبد ياليل بن ناشب بن غيرة بن سعد بن بكر الليثي، حليف بني عدي بن كعب، مشهور من السابقين وشهد بدراً، واستشهد يوم الرجيع وهو ابن أربع وثلاثين سنة. الإصابة 1/402.
3 سهيل بن بيضاء القرشي، وبيضاء أمه واسمها: دعد، واسم أبيه وهب بن ربيعة بن عمرو بن عامر القرشي، شهد بدراً وتوفي سنة تسع. الإصابة 2/91. ويلحظ أن ابن إسحاق ذكر في بداية الرواية أنهم ثمانية، ولكنه ذكر أثناء الرواية تسعةً.
والطائف، فترصد بها قريشاً، وتعلم لنا من أخبارهم"، فلما نظر عبد الله ابن جحش في الكتاب قال: سمعاً وطاعة، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشاً، حتى آتيه منهم بخبر، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد، وسلك1 على الحجاز حتى إذا كان بمَعْدِن2 فوق الفُرُع3 يقال له: بُحْران4 أضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيراً لهما، كانا يعتقبانه، فتخلفا عليه في طلبه ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بطن نخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً، وتجارة من تجارة قريش فيها عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل
__________
1 سلك: السلوك مصدر سلك طريقاً، وسلك المكان يسلكه سلكاً وسلوكاً. والسَّلَكُ بالفتح مصدر سلكت الشيء فانسلك، أي أدخلته فيه فدخل، والمسلك: الطريق اللسان (سلك) .
2 مَعْدِن: هي قرية مهد الذهب، أو المهد، في نواحي المدينة على طريق نجد (المعالم الأثيرة 276) .
3 الفُرُع: بضم الفاء والراء، وآخره عين مهملة، واد فحل من أودية الحجاز يمر على مسافة 150 كيلاً جنوب المدينة، كثير العيون والنخل، (المعالم الأثيرة 267) .
4 بُحْران: بضم الباء الموحدة وسكون الحاء المهملة جبل يقع شرق مدينة رابغ على مسافة 90 كيلاً. (المعالم الأثيرة 44) ، وضبطه البكري بفتح أوله على وزن فعلان، معجم ما استعجم 1/228.
بن عبد الله المخزوميان، والحكم بن كيسان؟، مولى هشام بن المغيرة، فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريباً منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا، وقالوا: عُمَّار، لا بأس عليكم منهم، وتشاور القوم فيهم وذلك في آخر يوم من رجب، فقال القوم والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم، فليمتنعن منكم به ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام، فتردد القوم، وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان1، وأفلت2 القوم، نوفل بن عبد الله فأعجزهم، وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير وبالأسيرين، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش: أن عبد الله قال لأصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس وذلك قبل أن يفرض الله تعالى الخمس من المغانم.
فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير وقسم سائرها بين أصحابه، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال: "ما أمرتكم بقتال في الشهر
__________
1 الحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة المخزومي، أسر في أول سرية جهزها رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة وأميرها عبد الله بن جحش
2 أفلت: التَّفَلُّتُ والإفلات والانفلات: التخلص من الشيء فجأة من غير تمكث. النهاية (3/467) .
الحرام"، فوقَّف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً.
فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سُقط في أيدي القوم وظنوا أنهم هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال، فقال من يرد عليهم من المسلمين ممن كان في مكة: إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان، وقالت يهود – تفاءَلُ بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم - عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله بن عمرو، عمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله، وقدت الحرب، فجعل الله ذلك عليهم لا لهم، فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّه} ِ1.
أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} .
أي قد كانوا يفتنون المسلم في دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، فذلك أكبر عند الله من القتل {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ
__________
1 البقرة آية (217) .
اسْتَطَاعُوا} .
أي ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا نازعين، فلما نزل القرآن بهذا من الأمر، وفرج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا – يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان – فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم، فقدم سعد وعتبة فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيداً، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافراً، فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن طمعوا في الأجر، فقالوا: يا رسول الله: أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟
فأنزل الله عز وجل فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1.
فوضعهم الله عز وجل من ذلك على أعظم الرجاء، والحديث في هذا عن الزهري وزيد بن رومان عن عروة2
__________
1 البقرة آية (218) .
2 سيرة ابن هشام، 2/601-605. وهو حديث مرسل صحيح إلى عروة.
وقد ورد موصولاً من طريق أبي السوار العدوي عن جندب بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه أبو يعلى بإسناد حسن كما قال محققه، انظر المسند 3/102-103، رقم: (1534) أرناؤوط، والطبراني في الكبير 2/162 رقم (1770) قال في المجمع: 6/198 رواه الطبراني ورجاله ثقات، والبيهقي في السنن 9/12.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح رواية ابن إسحاق هذه ورواية الطبراني التي أخرجها عن جندب البجلي ورواية ابن عباس عند الطبري في التفسير، ثم قال: فبمجموع هذه الطرق يكون صحيحاً. الفتح 1/155.
وقد ذكر السيوطي: أن حديث جندب بن عبد الله البجلي أخرجه الطبري وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في سننه بسند صحيح، الدر المنثور 1/600.
وأخرجها الطبري في التفسير 4/302 رقم (4082) مرسلة عن الزهري عن عروة، والبيهقي في السنن 9/58-59، والطبري أيضاً في التفسير 4/308 رقم (4086) مرسلة عن الزهري وعثمان الجزري ومقسم مولى ابن عباس. وبهذا يكون قد تابع الزهري. عثمان الجزري ومقسم.
3- قال عمر بن شبَّة1: حدثنا إبراهيم بن المنذر2 قال: حدثنا محمد بن فليح3، عن موسى بن عقبة4، عن ابن شهاب قال: لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعة عشر شهراً، ثم بعث عبد الله بن جحش في ركب من المهاجرين وكتب معه كتاباً فدفعه إليه، وأمره أن يسير ليلتين ثم
__________
1 تاريخ المدينة 2/472.
2 صدوق، تقدم في الرواية رقم (1) .
3 صدوق، يهم، تقدم في الرواية رقم (1) .
4 ثقة، تقدم في الرواية رقم (1) .
يقرأ الكتاب فيتبع ما فيه، وفي بعثه ذلك أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعمرو بن سراقة1، وعامر بن ربيعة، وسعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان، وواقد بن عبد الله، وصفوان بن بيضاء2، فلما سار ليلتين فتح الكتاب فإذا فيه: (أن امض حتى تبلغ نخلة) ، فلما قرأه قال: سمعاً وطاعة لله ولرسوله، فمن كان منكم يريد الموت في سبيل الله فليمض فإني ماض على ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضى ومضى معه أصحابه، ولم يتخلف عنه منهم أحد وسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفُرُع يقال له: بُحْرَن، أضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كان يتعاقبانه فتخلفا عليه في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارةٍ منْ تجارة قريش فيها عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد الله المخزومي ان، والحكم بن كيسان، مولى هشام بن المغيرة، فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريباً منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا وقالوا: عُمَّار لا بأس عليكم منهم،
__________
1 هو عمرو بن سراقة بن المعتمر بن أنس بن أداة بن رباح بن قرط بن عبد الله بن رزاح بن عدي بن كعب القرشي العدوي ... ذكره موسى بن عقبة فيمن خرج في سرية عبد الله بن جحش ... وذكر خليفة أنه مات في خلافة عثمان رضي الله عنه، الإصابة (2/573) .
2 وفي سائر كتب المغازي: سهيل بن بيضاء. ويلاحظ أن ابن شبة ذكر ثمانية أشخاص، ولم يذكر عكاشة بن محصن ولا خالد بن البكير كما عند ابن اسحاق.
وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب فقال القوم: والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام، فتردد القوم، وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت القوم؛ نوفل بن عبد الله فأعجزهم، وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير وبالأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة1.
4- قال البيهقي: أخبرنا أبو سعيد2 بن أبي عمرو الصيرفي، قال: حدثنا أبو محمد3 أحمد بن عبد الله المزني أخبرنا علي4 بن
__________
1 وهي رواية مرسلة.
2 هو محمد بن موسى بن الفضل بن شاذان الصيرفي أبو سعيد بن أبي عمرو النيسابوري، وصفه الذهبي بقوله: "الشيخ الثقة المأمون"، السير 17/350.
3 هو أحمد بن عبد الله بن محمد المزني الهروي، أحد الأئمة، أبو محمد المغفلي، قال الحاكم: "كان إمام أهل خرسان بلا مدافعة وكان فوق الوزراء، وكانوا يصدرون عن رأيه"، ت سنة 356 هـ شذرات الذهب لابن العماد، 3/18.
4 هو أبو الحسن: علي بن محمد بن عيسى الخزاعي الهروي الحكاني، وحكان: محلة على باب مدينة هراة، قال الذهبي: "ووثقه بعض الحفاظ" السير، 13/454.
محمد بن عيسى قال: حدثنا أبو اليمان1 قال أخبرنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية من المسلمين وأمَّر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي، فانطلقوا حتى هبطوا نخلة فوجدوا بها عمرو بن الحضرمي في عير تجارة لقريش في يوم2 بقي من الشهر الحرام، فاختصم المسلمون، فقال قائل منهم: هذه غرة من عدو، وغنم رزقتموه، ولا ندري أمن الشهر الحرام هذا اليوم أم لا، وقال قائل منهم: لا نعلم اليوم إلا من الشهر الحرام، ولا نرى أن تستحلوه لطمع أشفيتم عليه، فغلب على الأمر الذين يريدون عرض الدنيا3، فشدّوا على ابن الحضرمي فقتلوه، وغنموا عيره، فبلغ ذلك كفار قريش، وكان ابن الحضرمي أول قتيل قتل بين المسلمين والمشركين، فركب وفد كفار قريش حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقالوا: أتحل القتال في الشهر الحرام؟ فأنزل الله عز وجل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ
__________
1 أبو اليمان هم: الحكم بن نافع البهراني، بفتح الموحدة، أبو اليمان الحمصي، مشهور بكنيته ثقة ثبت، يقال إن أكثر حديثه عن شعيب مناولة، من العاشرة، مات سنة اثنتين وعشرين، ع، التقريب 176هـ.
2 تقدم الخلاف في ذلك ص131، وفي نظري أن هذا الخلاف (المراد الخلاف في تاريخ وقوع القتال في هذه السرية) ، لا يترتب عليه كبير فائدة لأن المقصود أن قتل ابن الحضرمي كان في الشهر الحرام، سواء كان ذلك في أوله أم في آخره، والله أعلم.
3 هذه العبارة ليست عند ابن إسحاق ولا ابن شبة.
كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 1 إلى آخر الآية، فحدثهم الله في كتابه: أن القتال في الشهر الحرام حرام كما كان، وأن الذين يستحلون من المؤمنين هو أكبر من ذلك: من صدهم عن سبيل الله حين يسجنونهم ويعذبونهم ويحبسونهم أن يهاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفرهم بالله وصدهم المسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة، والصلاة فيه، وإخراجهم أهل المسجد الحرام وهم سكانه من المسلمين وفتنتهم إياهم عن الدين، فبلغنا2 أن النبي صلى الله عليه وسلم عقل3 ابن الحضرمي، وحرم الشهر الحرام كما كان يحرمه
__________
1 سورة البقرة (217) .
2 القائل (فبلغنا) عروة بن الزبير، يشهد لذلك ما أخرجه الواقدي في المغازي 1/18 من طريق معمر، عن الزهري عن عروة قال: فودى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن الحضرمي، وحرم الشهر الحرام ... الحديث.
3 في رواية ابن إسحاق المتقدمة ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قبض العير والأسيرين وبعثت قريش إليه بفدائها، وهذا يدل على أنه لم يعقل ابن الحضرمي، لأنه لو عقله لما قبض العير ولا فادى الأسيرين، وقد ذكر البيهقي في الدلائل 3/111 رواية الزهري المطولة عن غزوة بدر وفيها إشارة حكيم بن حزام على عتبة أن يتحمل دية ابن الحضرمي ويرجع بالناس ... الخ، فلو كان عقله النبي صلى الله عليه وسلم لما أشار حكيم على عتبة بذلك. وقد أخرج الواقدي من طريق الزهري، عن عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودى عمرو بن الحضرمي. المغازي (1/18) ، وذكر رواية أخرى عن ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يودِ ابن الحضرمي. المصدر السابق. ورجح الواقدي رأي ابن عباس ثم قال: "المجتمع عليه عندنا أنه لم يود". المغازي 1/18.
ولم أر عقل ابن الحضرمي في الروايات التي ذكرت سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة.. لا من طريق الزهري ولا من غيره، سوى ما ذكر في هذه الرواية، والرواية التي ذكرها الواقدي عن الزهري.
حتى أنزل الله عز وجل: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} 1.
5- وأخرج عبد الرزاق2 عن معمر3 عن الزهري. وعن عثمان4 الجزري عن مقسم5 مولى ابن عباس قال: "لقي واقد بن عبد الله
__________
1 سورة التوبة آية رقم (1) .
2 عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري مولاهم، أبو بكر الصنعاني، ثقة حافظ، مصنف شهير عمي في آخر عمره، فتغير وكان يتشيع، من التاسعة توفي سنة إحدى عشرة وله خمس وثمانون، ع، التقريب 354، رقم 4064.
3 معمر بن راشد الأزدي مولاهم، أبو عروة البصري، نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل إلا أن في روايته عن ثابت والأعمش وهمام بن عروة شيئاً، وكذا فيما حدث به بالبصرة، من كبار السابعة، توفي سنة أربع وخمسين وهو ابن ثمان وخمسين سنة، ع، التقريب 541 رقم (6809) ، لكنه من أثبت الناس في الزهري، قال الدوري عن ابن معين أثبت الناس في الزهري مالك ومعمر ثم عد جماعة، وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: معمر أثبت في الزهري من ابن عيينة، وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: معمر أحب إليك في الزهري أو ابن عيينة أو صالح بن كيسان أو يونس، فقال في ذلك معمر. تهذيب التهذيب 10/244.
4 عثمان بن عمرو بن ساج بمهملة وآخره جيم الجزري، مولى بني أمية، وقد ينسب إلى جده، فيه ضعف من التاسعة، س، التقريب 386 رقم (4506) .
5 مقسم - بكسر أوله - ابن بُحره بضم الموحدة وسكون الجيم، ويقال: نجدة بفتح النون وبدال، أبو القاسم مولى عبد الله بن الحارث، ويقال: مولى عبد الله بن عباس للزومه له، صدوق، وكان يرسل، من الرابعة، نوفي سنة 101، وماله في البخاري سوى حديث واحد خ4، التقريب، 545، رقم (6873) .
عمرو بن الحضرمي في أول ليلة من رجب وهو يرى أنه في جمادى فقتله، وهو أول قتيل من المشركين، فَعَيَّر المشركون المسلمين قالوا: أتقتلون في الشهر الحرام؟ فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ} 1.
يقول: وكفر بالله، والمسجد الحرام، يقول: وصد عن المسجد الحرام {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ} من قتلكم عمرو بن الحضرمي، (والفتنة) ، يقول: والشرك الذي أنتم فيه أكبر من ذلك أيضاً.
قال الزهري: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا يحرم القتال في الشهر الحرام ثم أحله بعد"2.
__________
1 سورة البقرة آية (217) .
2 تفسير عبد الرزاق 1/87-88، وتفسير الطبري 4/308، رقم (4086) .
وهو حديث مرسل؛ مروي بإسنادين عن اثنين من التابعين هما الزهري ومقسم مولى ابن عباس، فرواه معمر عن الزهري، ورواه عن عثمان الجزري عن مقسم.
الفصل الثاني: في غزوة بدر الكبرى والأحداث التي أعقبتها