,
...
المبحث السادس: في غزوة بني قريظة1.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في تحديد خروجه إليهم.
83- قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر2 بن الحسن القاضي، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب3، قال: حدثنا محمد4 بن خالد بن خَليّ، قال: حدثنا بشر5 بن شعيب عن
__________
1 بنو قريظة هم: أبناء قريظة بن النمام بن الخزرج بن الصريح بن السبط بن اليسع بن سعد بن لاوي بن جبر بن النمام بن عازر بن عيزر بن هارون بن عمران عليه السلام. وفاء الوفاء للسمهودي 1/ 161.
وقد سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة بثلاثة آلاف رجل وستة وثلاثين فرساً. انظر: ابن هشام 2/ 234، والطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 74.
2 هو: الإمام العالم المحدث مسند خراسان، قاضي القضاة أبو بكر أحمد بن أبي علي الحسن بن الحافظ أبي عمرو أحمد بن محمد بن أحمد الحرشي الحيري، النيسابوري، الشافعي، قال السمعاني: هو ثقة في الحديث. السير 17/ 356.
3 تقدم في رواية رقم [20] .
4 هو محمد بن خالد بن خَليّ - بوزن علي - الكلاعي أبو الحسين الحمصي، صدوق من الحادية عشرة، س، التقريب 4762.
5 هو بشر بن شعيب بن أبي حمزة، دينار القرشي مولاهم، أبو القاسم الحمصي، ثقة من كبار العاشرة، قال ابن حبان: "قال البخاري: تركناه"، فأخطأ ابن حبان، وإنما قال البخاري: "تركناه حياً سنة اثنتي عشرة"، مات سنة ثلاث عشرة خ، س، التقريب 123.
أبيه1. قال: حدثنا الزهري، قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عمه عبد الله بن كعب أخبره:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من طلب الأحزاب وضع عنه الَّلأْمة، واغتسل واستجمر فتبدا له جبريل عليه السلام فقال: عَذِيرك من محارب، ألا أراك وضعت اللأمة، وما وضعناها بعد، قال: فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً، فعزم على الناس ألا يصلوا العصر حتى يأتوا بني قريظة، قال: فلبس الناس السلاح، فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس فاختصم الناس عند غروب الشمس فقال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم علينا أن لا نصلي حتى نأتي بني قريظة، فإنما نحن في عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس علينا إثم، وصلى طائفة من الناس احتساباً، وتركت طائفة منهم الصلاة حتى غربت الشمس، فصلوها حين جاءوا بني قريظة، فلم يُعَنِّفْ رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً منهم2.
__________
1 هو شعيب بن أبي حمزة الأموي، مولاهم، واسم أبيه دينار، أبو بشر الحمصي، ثقة عابد، قال ابن معين: من أثبت الناس في الزهري، من السابعة، مات سنة اثنتين وستين، أو بعدها، (ع) ، التقريب، 297.
2 دلائل النبوة للبيهقي 4/ 7 بسند حسن، وأخرجه الطبراني في الكبير 19/ 80 رقم (160) من طريق مرزوق بن أبي الهذيل عن الزهري به، ومن طريق مرزوق ابن أبي الهذيل أخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة ص 247. وله شاهد عند البخاري في الصحيح من حديث عائشة وابن عمر مختصراً. انظر: البخاري مع الفتح رقم (4117 و4119) ، ومسلم برقم (1770) ، وأحمد 21/ 84 الفتح الرباني.
وأخرج ابن إسحاق نحوه من حديث الزهري مرسلاً (ابن هشام 2/ 233) وأبو عبيد في الأموال 164 رقم (463) عن الزهري مرسلاً، ومن طريقه أخرجه ابن زنجويه في الأموال 1/ 416 رقم (683) ، وأخرجه البيهقي في الدلائل (4/ 11- 19) مطولاً.
وأخرج نحوه أبو نعيم في الدلائل رقم (437 عن الزهري عن سعيد بن المسيب.
,
84- قال الزهري1 في حديثه عن ابن المسيب: فبينا هم كذلك إذ جاءهم نعيم بن مسعود الأشجعي، وكان يأمنه الفريقان، كان موادعاً لهما، فقال: إني كنت عند عيينة وأبي سفيان إذ جاءهم رسول بني قريظة: أن اثبتوا فإنا سنخالف المسلمين إلى بيضتهم2، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فلعلنا أمرناهم بذلك، وكان نعيم رجلاً لا يكتم الحديث، فقام بكلمة النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه عمر، فقال: يا رسول الله إن كان هذا الأمر من الله فامضه، وإن كان رأياً منك فإن شأن قريش وبني قريظة أهون من أن يكون لأحد عليك فيه مقال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليّ الرجل ردوه"، فردوه فقال: "انظر
__________
1 مصنف عبد الرزاق 5/368، رقم (9737) ، هذه الرواية علقها عبد الرزاق عن الزهري فهي ضعيفة، لكن يشهد لبعض ما جاء فيها ما أخرجه البخاري ومسلم كما سيأتي.
2 بيضتهم: أي مجتمعهم وموضع سلطانهم، ومستقر دعوتهم، بيضة الدار: وسطها ومعظمها. النهاية 1/ 172.
الذي ذكرنا لك، فلا تذكره لأحد" فإنما أغراه، فانطلق حتى أتى عيينة وأبا سفيان، فقال: هل سمعتم من محمد يقول قولاً إلا كان حقاً؟
قالا: لا، قال: فإني لما ذكرت له شأن قريظة، قال: فلعلنا أمرناهم بذلك، قال: أبو سفيان: سنعلم ذلك إن كان مكراً، فأرسل إلى بني قريظة، أنكم قد أمرتمونا أن نكتب وأنكم ستخالفون المسلمين إلى بيضتهم فأعطونا بذلك رهينة، فقالوا: إنها دخلت ليلة السبت، وإنا لا نقضي في السبت شيئاً1، فقال أبو سفيان: إنكم في مكر من بني قريظة، فارتحلوا، وأرسل الله عليهم الريح وقذف في قلوبهم الرعب، فأطفأت نيرانهم وقطعت أرسان2 خيولهم، وانطلقوا منهزمين من غير قتال، قال: فذلك حين يقول: {وكفى اللهُ المؤمنين القِتَالَ وكانَ اللهُ قَوِيّاً عَزِيْزَاً} 3.
قال: فندب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في طلبهم، فطلبوهم حتى بلغوا حمراء
__________
1 السبت: الراحة والسكون، أو أصله من القطع ترك الأعمال، وسَبَتَتْ اليهود تسبت إذا أقاموا عمل يوم السبت، وقيل: سمي يوم السبت، لأن الله خلق العالم في ستة أيام آخرها يوم الجمعة، وانقطع العمل فسمي اليوم السابع يوم السبت. النهاية 2/ 331.
2 أرسان: جمع رَسَن وهو الحبل الذي يقاد به البعير وغيره، يقال: رسنت الدابة وأرسنتها، النهاية 2/ 224.
3 سورة الأحزاب، آية (25) .
الأسد، قال: فرجعوا، قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته1، واغتسل واستجمر2، فنادى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل: عذيرك3 من محارب، ألا أراك قد وضعت اللأمة؟ ولم نضعها نحن بعد، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً؛ فقال لأصحابه: "عزمت عليكم ألا تصلوا العصر4 حتى تأتوا بني قريظة"، فغربت الشمس قبل أن يأتوها، فقالت طائفة من المسلمين: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أن تدعوا الصلاة، فصلوا، وقالت طائفة: إنا لفي عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما علينا من بأس، فصلت طائفة إيماناً واحتساباً، وتركت طائفة إيماناً واحتساباً، قال: فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحداً من الفريقين5، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم
__________
1 تقدم التعريف بها في غزوة أحد.
2 استجمر: بالجمر، إذا تبخر بالعود. اللسان (جمر) . وانظر ما يشهد لذلك في صحيح البخاري مع الفتح 7/ 407.
3 عذيرك: هو فعيل. بمعنى فاعل: أي هات من يعذرك فيه. النهاية 3/ 197.
4 يشهد له ما رواه البخاري في صحيحه. الفتح 7/ 407 رقم (4119) ، ومسلم (1770) إلا أنه ذكر الظهر بدلاً من العصر، وقد نقل ابن حجر جمع بعض العلماء بين الروايتين أي الرواية التي تذكر العصر والأخرى التي تذكر الظهر، والتي ذكرها مسلم في صحيحه فقال: "وقد جمع بعض العلماء بين الروايتين باحتمال أن يكون بعضهم قبل الأمر كان صلى الظهر، وبعضهم لم يصلها، فقيل لمن لم يصلها لا يصلين أحد الظهر، ولمن صلاها، لا يصلين أحد العصر. الفتح 7/ 409.
5 يشهد له ما رواه البخاري ومسلم. انظر: البخاري مع الفتح 7/ 407- 408 رقم (4119) ومسلم رقم (1770) .
فمر بمجالس بينه1 وبين بني قريظة، فقال: "هل مر بكم من أحد؟ "
فقالوا: نعم، مر علينا دحية الكلبي2 على بغلة شهباء3 تحته قطيفة4 ديباج5، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس ذلك ولكنه جبريل، أُرسل إلى بني قريظة ليزلزل حصونهم ويقذف في قلوبهم الرعب"، فحاصرهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يستروه بِحُجُفِهم6 ليقوه الحجارة حتى يسمع كلامهم، ففعلوا، فناداهم: "يا إخوة القردة والخنازير"، فقالوا: يا أبا القاسم ما كنت فاحشاً7، فدعاهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم، فأبوا أن يجيبوه إلى الإسلام فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، وأبوا
__________
1 هذه المجالس مجالس بني (غَنْم) . انظر: الرواية رقم [86] ص 408، وانظر: البخاري رقم (4118) .
2 هو: دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة بن زيد بن امرئ القيس بن الخزرج الكلبي صحابي مشهور، أول مشاهده الخندق، وقيل أحد، ولم يشهد بدراً، وكان يضرب به المثل في حسن الصورة، وكان جبريل عليه السلام ينزل على صورته، عاش إلى خلافة معاوية. الإصابة 1/ 473- 474.
3 شهباء: الشهب: بياض بصدغه سواد. القاموس، مادة (شهب) .
4 القطيفة: كساء له خَمْل ... ، القاموس، مادة (قطف) .
5 الديباج: الثياب المتخذة من الإبريسم. فارسي معرب. النهاية 2/ 97.
6 الحجف: التروس من جلود بلا خشب ولا عقب، واحدتها حجفة. القاموس، مادة (حجف) .
7 الفحش: القول القبيح. القاموس، مادة (فحش) .
أن ينزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم فنزلوا على داء1، فأقبلوا بهم وسعد ابن معاذ أسيراً2 على أتان3، حتى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستأمراً ينتظره فيما يريد أن يحكم به فيجيب به رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريد أن يقول: انفر بما أنا حاكم وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بقول نعم، قال سعد: فإني أحكم بأن يقتل مقاتلتهم وتقسم أموالهم وتسبى ذراريهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصاب الحكم"4، قال: وكان حيي بن أخطب استجاش5 المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء لبني قريظة، فاستفتح عليهم ليلاً فقال سيدهم6: إن هذا رجل مشؤوم فلا يشأمنكم حيي، فناداهم يا بني قريظة ألا تستجيبون؟ ألا تلحقوني؟ ألا تضيفوني؟ فإني جامع مغرور.
فقالت بنو قريظة: والله لنفتحن له فلم يزالوا حتى فتحوا له، فلما دخل عليهم أُطُمَهم7 قال: يا بني قريظة: جئتكم
__________
1 هكا في المطبوع من المصنف.
2 أسيراً: أي مُعْتَلاًّ. القاموس (أسر) .
3 الأتان: أنثى الحمير. النهاية 1/ 21.
4 يشهد له ما رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رصي الله عنه وفيه: ( ... فقال: تُقْتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، قال: قضيت بحكم الله، وربما قال: بحكم الملك) . البخاري مع الفتح 7/ 411 رقم 4121، ومسلم رقم (1768) .
5 استجاش: أي طلب لهم الجيش وجمعه عليهم. لسان العرب (جيش) .
6 هو: كعب بن أسد. كما في رواية البيهقي الماضية. الدلائل 3/ 398- 407.
7 الأطم: بالضم؛ الأبنية المرتفعة كالحصون. النهاية 1/ 54.
في عز الدهر، جئتكم في عارض برد لا يقوم لسبيله شيء، فقال له سيدهم: أتعدنا عارضاً برداً؟ ينكشف عنا وتدعنا عند بحر دائم لا يفارقنا، إنما تعدنا الغرور، قال: فواثقهم وعاهدهم لئن انفضت جموع الأحزاب أن يجيء حتى يدخل معهم أطمهم، فأطاعوه بالغدر بالنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فلما فض الله جموع الأحزاب انطلق حتى إذا كان بالروحاء1 ذكر العهد والميثاق الذي أعطاهم، فرجع حتى دخل معهم فلما أقبلت بنو قريظة أتى به مكتوفاً بِقَدٍّ2، فقال حيي للنبي صلى الله عليه وسلم: أما والله ما لمتُ نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يخذل، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فضربت عنقه3.
__________
1 الروحاء: - بفتح الراء وسكون الواو والحاء المهملة -: اسم موضع من أعمال الفُرُع وتبعد عن المدينة (75) كيلاً. معجم المعالم الجغرافية 143 و164.
2 القد: قطعة من الجلد. اللسان 3/ 28، مادة (قدد) .
3 وانظر: تفسير عبد الرزاق 1/84، وابن هشام 2/ 241، ومغازي الواقدي 2/ 516.
,
85- قال البيهقي1: أخبرنا أبو عبد الله2 الحافظ قال أخبرنا إسماعيل3 بن محمد بن الفضل قال: حدثنا جدي4 قال: حدثنا إبراهيم5 ابن المنذر قال: حدثنا محمد6 بن فليح عن موسى7 بن عقبة عن ابن شهاب (ح) وأخبرنا أبو الحسين8 بن الفضل القطان، واللفظ له قال: أخبرنا أبو بكر بن عتاب9 قال: حدثنا القاسم10 بن عبد الله بن المغيرة، قال: حدثنا أبو11 أويس قال: حدثنا إسماعيل12 بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألوه أن يحكم فيهم رجلاً، اختاروا من شئتم من أصحابي،
__________
1 دلائل البيهقي 4/ 19- 22.
2 ثقة، تقدم في الرواية رقم [1] .
3 ثقة، تقدم في الرواية رقم [1] .
4 ثقة، تقدم في الرواية رقم [1] .
5 صدوق، تقدم في الرواية رقم [1] .
6 صدوق، تقدم في الرواية رقم [1] .
7 ثقة، تقدم في الرواية رقم [1] .
8 ثقة، تقدم في الرواية رقم [7] .
9 ثقة، تقدم.
10 ثقة، تقدم في الرواية رقم [7] .
11 صدوق، تقدم في الرواية رقم [7] .
12 ثقة، تقدم في الرواية رقم [50] .
فاختاروا سعد بن معاذ فرضي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأمر رسول الله بسلاحهم فجعل في قبته1، وأُمِر بهم فكُتِّفوا2، وأوثقوا، وجُعلوا في دار أسامة، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ فأقبل على حمار أعرابي3، يزعمون أن وطأة برذعته4 من ليف5، واتَّبعه رجل من بني عبد الأشهل، فجعل يمشي معه ويعظِّم حق بني قريظة، ويذكر حلفهم، والذي أبلوه في يوم بعاث، ويقول: اختاروك على من سواك من قومك رجاء رحمتك وعطفك، وتحننك عليهم، فاستَبْقِهم، فإنهم لك جمال وعدد، قال: فأكثر ذلك الرجل ولا يرجع إليه سعد شيئاً حتى دنوا فقال الرجل: ألا ترجع إليّ فيما أكلمك فيه؟
قال سعد: قد آن لي أن لا تأخذني في الله لومة لائم، ففارقه الرجل فأتى قومه، فقالوا: ما وراءك، فأخبرهم أنه غير مستبقيهم، وأخبرهم بالذي كلمه به والذي رجع سعد إليه، فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم،
__________
1 القبة من الخيام: بيت صغير مستدير، وهو من بيوت العرب. النهاية 4/ 3.
2 المكتوف: هو الذي شدت يداه من خلفه. النهاية 4/ 150.
3 أعرابي: أي أَنَّ الحمار المذكور ليس ملكاً له، وإنما أسلفوه، وهو من العربان. النهاية 3/ 202، أو أن يكون معناه أنه منسوب إلى العرب. النهاية 3/ 203.
4 البرذعة: الحلس الذي يلقى تحت الرجل، والجمع: براذع، وخص بعضهم به الحمار، اللسان (برذع)
5 الليف: ليف النخل معروف، القطعة منه ليفة، وليفت الفسيلة غلظت. اللسان (ليف) .
وتسبى ذراريهم ونساؤهم وتقسم أموالهم1، فذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعدٍ: "لقد حكمت فيهم بحكم الله عزوجل".
فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاتلتهم، وكانوا زعموا ستمائة2 مقاتل، قتلوا عند دار أبي جهل3 التي بالبلاط4، ولم تكن يومئذ بلاط، فزعموا أن دماءهم بلغت أحجار الزيت5 التي كانت بالسوق، وسبى نساءهم
__________
1 وقد أخرج البلاذري من طريق عبد الرزاق عن معمر قال: سألت الزهري، هل كانت لبني قريظة أرض؟
فقال: سديداً قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين على السهام، فتوح البلدان 35، ومعنى سديداً: أي عيوناً لأن السُدُد بالضم: العيون التي لا يبصر بها، كما في القاموس: (سدد)
2 ذكر ابن إسحاق بدون إسناد أن عدتهم ست مائة أو سبع مائة، ثم قال: والمكثر لهم يقول: كانوا بين الثمان مئة والتسع مائة، ابن هشام 2/ 241، وفي مسند أحمد من حديث أبي الزبير عن جابر: أن عدتهم كانوا أربعمائة، المسند 23/ 190 رقم [14773] أرناؤوط، وسنده حسن كما قال العمري في السيرة الصحيحة 1/ 316.
وقال الحافظ ابن حجر: وفي حديث جابر عند الترمذي والنسائي وابن حبان بإسناد صحيح أنهم كانوا أربعمائة مقاتل، فيحتمل في طريق الجمع أن يقال إن الباقين كانوا أتباعاً، الفتح 7/ 414 رقم (4122) .
3 ذكر ابن إسحاق (ابن هشام 2/ 240- 241) : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بهم إلى سوق المدينة فحفر لهم خنادق ثم ضرب أعناقهم في تلك الخنادق.
4 البلاط: ضرب من الحجارة تفرش به الأرض، وهو موضع معروف بالمدينة. النهاية 1/ 152.
5 أحجار الزيت: موضع بالمدينة قريب من الزوراء، وهو موضع صلاة الاستسقاء، معجم البلدان 1/ 109، وهذا المكان يقع اليوم في الجهة الغربية من المسجد النبوي الشريف قرب مسجد الغمامة الذي بناه العثمانيون. انظر: الدر الثمين 237.
وذراريهم وقسم أموالهم بين من حضر من المسلمين، وكانت جميع الخيل التي كانت للمسلمين ستاً وثلاثين1 فرساً، فقسم لها لكل فرس سهمين، وأخرج حيي بن أخطب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل أخزاك الله؟ "
قال له: لقد ظهرت عليّ، وما ألوم نفسي في جهادك والشدة عليك، فأمر به فضربت عنقه، وكل ذلك بعين سعد بن معاذ وكان عمرو ابن سعد اليهودي في الأسرى، فلما قدموا إليه ليقتلوه فقدوه، فقال: أين عمرو، قالوا: والله ما نراه، وإن هذه لرمته التي كان فيها فما ندري كيف انفلت، فقال رسول الله: "أفلتنا بما علم الله في نفسه"2.
وأقبل ثابت بن قيس بن شَمَّاس3 أخو بني الحارث بن الخزرج إلى
__________
1 وكذلك ذكر ابن سعد في الطبقات 3/ 74، وابن سيد الناس في عيون الأثر 2/ 104.
2 قصة نجاة عمرو بن سعد من القتل، ذكرها أبو عبيد في الأموال رقم (301) من طريق الليث بن سعد عن عُقيل عن ابن شهاب وفيها ... فقتل منهم يومئذ كذا وكذا رجلاً، إلا عمرو بن سعد - أو ابن سعدى - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه كان يأمر بالوفاء وينهى عن الغدر فلذلك نجا"، أما ابن إسحاق فقد ذكر هذه القصة بدون إسناد وفيها: أنه ذهب فلم يدر أين توجه من الأرض إلى يومه هذا. ابن هشام 2/ 238.
3 هو: ثابت بن قيس بن شماس بن زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الخزرجي، خطيب الأنصار. الإصابة 1/ 195.
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هب لي الزبير1 وامرأته، فوهبهما، فرجع ثابت إلى الزبير فقال: يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني؟ وكان الزبير يومئذ كبير أعمى، قال: هل ينكر الرجل أخاه؟
قال ثابت: أردت أجزيك اليوم بتلك2، قال: افعل فإن الكريم يجزي الكريم، قال: قد فعلت، قد سألتك رسول الله فوهبك لي، فأطلق عنك الأسار، قال الزبير: ليس لي قائد وقد أخذتم امرأتي وبني، فرجع ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله ذرية الزبير وامرأته فوهبهما له فرجع ثابت إلى الزبير فقال: قد رد إليك الرسول صلى الله عليه وسلم امرأتك وبنيك.
قال الزبير: فحائط لي فيه أغدق3 ليس لي ولأهلي عيش إلا به، فرجع ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله حائط الزبير فوهبه له فرجع ثابت إلى الزبير فقال: قد رد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلك ومالك فأسلم تسلم،
__________
1 ذكر الزبير وقصته مع ثابت بن قيس، ذكرها ابن إسحاق عن الزهري مرسلاً، (ابن هشام 2/ 242) ، ومن طريق ابن إسحاق أخرجها الطبري في التاريخ 2/ 589، وأخرج هذه الرواية أيضاً أبو عبيد في الأموال ص 111 رقم (301) ومن طريقه أخرجها ابن زنجويه في كتابه الأموال 1/ 299 رقم (461) .
2 قال ابن إسحاق: وقد كان ثابت بن قيس بن شماس كما ذكر لي ابن شهاب الزهري أتى الزبير بن باطا القرظي، وكان يكنى أبا عبد الرحمن، وكان الزبير قد منَّ على ثابت في الجاهلية في يوم بعاث فأخذه وجز ناصيته ثم خلَّى سبيله، ابن هشام 2/ 243، فأراد ثابت رصي الله عنه رد تلك الصنيعة للزبير.
3 الغدق: محركة: الماء الكثير. القاموس 1180 مادة (غدق) .
قال: ما فعل المجلسان؟ فذكر رجالاً من قومه بأسمائهم، فقال ثابت: قد قتلوا وفرغ منهم، ولعل الله أن يهديك وأن يكون أبقاك لخير. قال الزبير: أسألك بالله وبيدي عندك إلا ما ألحقتني بهم فما في العيش خير بعدهم.
فذكر ذلك ثابت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بالزبير فقتل، فلما قضى الله عزوجل قضاءه من بني قريظة ورفع الله عن المؤمنين بلاء تلك المواطن نزل القرآن يعرف الله فيه المؤمنين نعمة الله تبارك وتعالى التي أنعم عليهم بها حين أرسل على عدوهم الريح وجنوداً لم تروها على الجنود التي جاءتهم من فوقهم ومن أسفل منهم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ويظنون بالله الظنونا حين نزل البلاء والشدة بأحاديث المنافقين، فإنه قالت طائفة منهم: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً، ووقعت طائفة منهم يفرقون عن نصر الله ورسوله ويدعون إخوانهم ويأمرون بترك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكر حدة ألسنتهم وضعفهم عن البأس، ثم ذكر المسلمين وتصديقهم عند البلاء، وذكر أن {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيْلاً،} 1 ثم ذكر أنه ردّ {رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} 2، ثم ذكر بني قريظة ومظاهرتهم عدو
__________
1 سورة الأحزاب آية (23) .
2 سورة الأحزاب آية (25) .
الله ورسوله فقال: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} 1 وما سلّط المسلمون عليهم من قتلهم وسبائهم وما أورثهم من أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطؤوها وكان الله على كل شيء قديراً، وأنزل في القرآن قرآناً إذا قرأته عرفته تسعاً وعشرين آية فاتحتها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} 2.
86 - قال البيهقي3: أخبرنا أبو عبد الله4 الحافظ قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد بن الفضل قال: حدثنا جدي قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب (ح) وأخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان واللفظ له، قال: أخبرنا أبو بكر بن عتاب قال: حدثنا القاسم بن عبد الله بن المغيرة، قال: حدثنا ابن أبي أويس قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة عن الزهري قال:
__________
1 جزء من آية (26) من الأحزاب. والصياصي: الحصون. انظر: تفسير الطبري 21/ 95. وتفسير ابن كثير 3/ 478.
2 الأحزاب آية (9) .
3 دلائل النبوة 4/ 11- 14. والرواية حسنة إلى الزهري لكنها مرسلة.
4 سبق التعريف برجال إسناد هذه الرواية في الرواية المتقدمة رقم [86] .
فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون في المغتسل يرجل1 رأسه قد رجَّل أحد شقيه، أتاه جبريل عليه السلام على فرس عليه لأمته، حتى وقف بباب المسجد عند موضع الجنائز، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له جبريل: غفر الله لك، أقد وضعت السلاح؟
قال: نعم، قال جبريل: لكن نحن لم نضعه منذ نزل بك العدو، وما زلت في طلبهم، فقد هزمهم الله، ويقولون: إن على وجه جبريل عليه السلام لأثر الغبار، فقال له جبريل: إن الله قد أمرك بقتال بني قريظة، وأنا عامد لهم بمن معي من الملائكة صلوات الله عليهم لأزلزل بهم الحصون، فاخرج بالناس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثر جبريل فمر على مجلس بني غنم وهم ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم: مر عليكم فارس الآن؟ فقالوا: مر علينا دحية الكلبي على فرس أبيض، تحته نمط2 أو قطيفة3 من ديباج4 عليه اللأمة، فذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذاك جبريل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبه دحية الكلبي بجبريل عليه السلام، فقال: الحقوني - يعني قريظة -، فصلوا فيهم العصر، فقام ومن شاء الله عزوجل منهم فانطلقوا إلى بني قريظة، فحانت العصر وهم في الطريق، فذكروا
__________
1 الترجل: تسريح الشعر وتنظيفه وتحسينه. النهاية 2/ 203.
2 نمط: ضرب من السبط له خمل رقيق، واحدها: نمط. النهاية 5/ 119.
3 القطيفة: كساء له خمل. النهاية 4/ 84.
4 تقدم شرحها.
الصلاة، فقال بعضهم لبعض: ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمركم أن تصلوا العصر في بني قريظة، وقال آخرون: هي الصلاة، فصلى منهم قوم، وأخرت طائفة منهم الصلاة، حتى صلوها ببني قريظة بعد أن غابت الشمس، فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من عجّل منهم الصلاة ومن أخّرها، فذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعنّف أحداً من الطائفتين، قال: ولما رأى عليّ بن أبي طالب رصي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً تلقاه، وقال: ارجع يا رسول الله، فإن الله كافيك اليهود، وكان عليّ سمع منهم قولاً سيئاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه، فكره علي أن يسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِمَ تأمرني بالرجوع؟!
فكتمه ما سمع. فقال: أظنك سمعت بي منهم أذى؟ فامض، فإن أعداء الله لو رأوني لم يقولوا شيئاً مما سمعت.
فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصنهم وكانوا أعلاه، نادى بأعلى صوته نفراً من أشرافها حتى أسمعهم فقال: أجيبونا يا معشر يهود، يا إخوة القردة، قد نزل بكم خزي الله.
فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتائب المسلمين بضع عشرة ليلة، وردّ الله عزوجل حيي بن أخطب الحصار، فصرخوا بأبي لبابة بن عبد المنذر، وكانوا حلفاء للأنصار، فقال أبو لبابة: لا آتيهم حتى يأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أذنت لك. فأتاهم أبو لبابة، فبكوا إليه وقالوا: يا أبا لبابة، ماذا ترى؟ وما تأمرنا؟ فإنه لا طاقة لنا بالقتال.
فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه، وأمَرَّ عليه أصابعه يريهم، إنما يراد بكم القتل. فلما انصرف أبو لبابة سقط في يده، ورأى أنه قد أصابته فتنة عظيمة، فقال: والله لا أنظر في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أُحدث لله عزوجل توبةً نصوحاً يعلمها الله عزوجل من نفسي. فرجع إلى المدينة، فربط يديه إلى جذعٍ من جذوع المسجد، فزعموا أنه ارتبط قريباً من عشرين ليلةً1.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكر حين راث2 عليه أبو لبابة: أما فرغ أبو لبابة من حلفائه؟ قالوا: يا رسول الله قد والله انصرف من عند الحصن، وما ندري أين سلك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد حدث لأبي لبابة أمرٌ، ما كان عليه؟
فأقبل رجلٌ من عند المسجد فقال: يا رسول الله، قد رأيت أبا لبابة ارتبط بحبل إلى جذع من جذوع المسجد.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أصابته بعدي فتنة، ولو جاءني لاستغفرت له، فإذا فعل هذا فلن أحركه من مكانه حتى يقضي الله فيه ما يشاء.
__________
1 قد ربط أبو لبابة نفسه مرة أخرى بعد غزوة تبوك عندما تخلف عنها وكانت في ليال شديدة الحرارة كما أخرج البيهقي في الدلائل من طريق شعيب عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب، وذكر حديث أبي لبابة بن عبد المنذر وفيه: (ففزع أبو لبابة فارتبط بسارية التوبة التي عند باب أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم سبعاً بين يوم وليلة في حر شديد ... ) . دلائل النبوة للبيهقي 5/ 270.
وذكر ابن هشام بدون إسناد (2/ 238) أنه مكث مرتبطاً بالجذع ست ليال.
2 راث: أي أبطأ. القاموس المحيط 218.
87- قال البيهقي1: ثنا أبو سعيد محمد2 بن موسى بن الفضل، قال: حدثنا أبو محمد أحمد3 بن عبد الله المزني قال: أخبرنا علي4 بن محمد بن عيسى، حدثنا أبو اليمان5 قال: أخبرني شعيب عن الزهري، قال: أخبرني سعيد بن المسيب أن بني قريظة كانوا حلفاء لأبي لبابة، فاطلعوا إليه وهو يدعوهم إلى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا لبابة: أتأمرنا أن ننزل؟ فأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح. فأخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال له: لم تر عيني.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحسبت أن الله غفل عن يدك حين تشير إليهم بها إلى حلقك، فلبث حيناً ورسول الله صلى الله عليه وسلم عاتب عليه، ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوكاً وهي غزوة العسرة، فتخلف عنه أبو لبابة فيمن تخلف، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها جاءه أبو لبابة، فارتبط بسارية التوبة التي عند باب أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم سبعاً6 بين يومٍ وليلة في حرٍّ شديد، لا يأكل فيهن ولا يشرب قطرةً، وقال: لا يزال هذا مكاني حتى أفارق الدنيا أو يتوب
__________
1 دلائل النبوة 5/ 270.
2 ثقة، تقدم في الرواية رقم [4] .
3 تقدم في الرواية رقم [4] .
4 تقدم في الرواية رقم [4] .
5 ثقة، تقدم في الرواية رقم [4] .
6 وانظر: نفسير الطبري 9/ 146 في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ... } الآية.
الله عليّ، فلم يزل كذلك حتى ما يسمع الصوت من الجهد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه بكرة وعشية، ثم تاب الله تعالى عليه، فنودي أن الله تعالى قد تاب عليك، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلق عنه بيده1، فقال أبو لبابة حين أفاق: يا رسول الله، إني أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأنتقل إليك فأساكنك، وإني أختلع2 من مالي صدقة إلى الله عزوجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فقال صلى الله عليه وسلم: "يجزئ عنك الثلث". فهجر أبو لبابة دار قومه، وساكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصدق بثلث ماله، ثم تاب فلم ير منه بعد ذلك في الإسلام إلا خيراً حتى فارق الدنيا3.
__________
1 أخرج نحو هذه الرواية الواقدي في المغازي 2/ 508 من طريق الزهري مرسلاً.
2 أختلع: أي أخرج. النهاية 2/ 65.
3 وقد أخرج هذه الرواية الواقدي في المغازي 2/ 509 و2/ 508، 509، وانظر: تفسير ابن جرير الطبري 9/ 146، فقد أخرج من طريق معمر عن الزهري هذه الرواية مختصرة. وانظر تفسير ابن كثير 2/ 30.
وقد أخرج ابن جرير الطبري رواية البيهقي من طريق معمر، عن الزهري، إلا أنه ذكر فيها أن سبب ربط أبي لبابة وتوبته إنما كانت بسبب تخلفه عن غزوة تبوك، ولم تذكر الرواية شيئاً عن بني قريظة. انظر: تفسير الطبري 5/ 11 ط شاكر.
وهذه الرواية التي أخرجها البيهقي عن الزهري، عن سعيد بن المسيب أقوى من رواية ابن جرير الطبري التي أخرجها عن الزهري، لأن مراسيل سعيد أقوى من مراسيل الزهري.
ويمكن الجمع بين الروايتين: بأن تخلفه عن غزوة تبوك ضاعف من ذنبه، فأدى به ذلك إلى المبادرة بالتوبة النصوح من الذنبين معاً. والله أعلم.