,
...
المبحث الأول: في سبب غزوة الخندق1
76- قال ابن إسحاق فحدثني يزيد بن رومان مولى آل الزبير عن عروة بن الزبير ومن لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك ومحمد بن كعب القرظي، والزهري وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، وغيرهم من علمائنا كلهم قد اجتمع حديثهم في الحديث عن الخندق2 وبعضهم يحدث ما لا يحدث به بعض قالوا3: إنه كان من حديث الخندق أن نفراً من اليهود ومنهم: سلاّم بن أبي
__________
1 سميت هذه الغزوة بهذا الاسم لأجل الخندق الذي حفر حول المدينة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم. فتح الباري 7/ 392.
2 أي: عن غزوة الخندق.
3 لعل ابن إسحاق أخذ هذا المنهج - أعني منهج الإسناد الجمعي - عن شيخه الزهري، وقد تقدم كلام العلماء حول طريقة الزهري في اتباعه لهذا المنهج في قصة الإفك التي حدثت في غزوة بني المصطلق رواية رقم [68] ، هذه الرواية مروية بإسنادين: 1- عن يزيد بن رومان، عن عروة، وهي حسنة إلى عروة، ولكنها مرسلة. 2- عن مجهول عن جمع من الشيوخ ومنهم الزهري، وهي ضعيفة لجهالة شيخ ابن إسحاق.
الحقيق النضري، وحُيي بن أخطب النضري، وكنانة بن أبي الحقيق النضري، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلي، في نفرٍ من بني النضير، ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب1 على رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرجوا حتى قدموا على قريش مكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله،
فقالت لهم قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟
قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَن يَلْعَنِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} 2 إلى قوله تعالى: {أَمْ
__________
1 الأحزاب: الطوائف من الناس، جمع حزب بالكسر. النهاية 1/ 376.
2 أخرج ابن حبان في صحيحه (الإحسان 14/ 534، رقم 6572) من حديث ابن عباس أن هذه الآية نزلت في كعب بن الأشرف قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة أتوه فقالوا: نحن أهل السقاية والسدانة وأنت سيد أهل يثرب، فنحن خير أم هذا الصنيبير المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا؟
فقال: أنتم خير منه.
فنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} ونزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا} الآية، وقال محقق الكتاب شعيب الأرناؤوط: "إسناده صحيح على شرط الصحيح"، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 164، عن عكرمة مرسلاً، وابن جرير الطبري في تفسيره 8/ 466 رقم (9786) بالسند المتقدم عند ابن حبان، وأخرجه عن عكرمة مرسلاً، انظر: رقم (9787) و (9789) ، والواحدي في أسباب النزول 160 رقم (320 و321) .
وأخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة مرسلاً كما قال ابن كثير في تفسيره 1/ 513: "وذكر خروج كعب بن الأشرف إلى مكة ومعه حيي بن أخطب.
ثم قال ابن كثير في تفسيره 1/ 513: "وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال: (لما قدم كعب) " فذكره.
يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ} أي: من النور {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} 1.
قال: فلما قالوا ذلك لقريش، سرّهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا لذلك، واتعدوا له، ثم خرج أولئك النفر من يهود، حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليهم، وأن قريشاً قد تابعوهم على ذلك فاجتمعوا معهم فيه2.
__________
1 الآيتان من سورة النساء (51- 52) .
2 ابن هشام 2/ 214- 215، وأخرج نحوه ابن جرير الطبري في تفسيره 8/ 469 رقم (9792) ، من حديث ابن عباس ومن طريق ابن إسحاق أخرجه الطبري في التاريخ 2/ 565.
فقال: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق عمن قاله قال: أخبرني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب وسلاَّم بن أبي الحقيق أبو رافع والربيع بن أبي الحقيق، فذكر نحوه.
ثم قال أبو جعفر الطبري بعد ذكره لأقوال العلماء في ذلك: "وأولى الأقوال بالصحة في ذلك قول من قال: إن ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن جماعة من أهل الكتاب من اليهود، وجائز أن تكون كانت الجماعة الذين سماهم ابن عباس في الخبر الذي رواه محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد أو يكون حُيياً وآخر معه إما كعباً وإما غيره". تفسير الطبري 8/ 471 رقم (9794) .
77- أخرج الواقدي1 عن جمع كبير من الرواة ومنهم الزهري قالوا: لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير ساروا إلى خيبر، وكان بها من اليهود قوم أهل عدد وجلد، وليست لهم من البيوت والأحساب ما لبني النضير - كان بنو النضير سِرَّهم وقريظة من ولد الكاهن من بني هارون - فلما قدموا خيبر خرج حيي بن أخطب، وكنانة بن أبي الحقيق، وهوذة بن الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي من الأوس من بني خَطْمة، وأبو عامر الراهب في بضعة عشر رجلاً إلى مكة يدعون قريشاً وأتباعها إلى حرب محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا لقريش: نحن معكم حتى نستأصل
__________
1 المغازي 2/ 441- 443 ولم تتميز هنا رواية الزهري من غيره.
محمداً.
قال أبو سفيان: هذا الذي أقدمكم ونزعكم؟ قالوا: نعم، جئنا لنحالفكم على عداوة محمد وقتاله، قال أبو سفيان: مرحباً وأهلاً، أحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد، قال النفر: فأخرجْ خمسين رجلاً من بطون قريش كلها أنت فيهم، وندخل نحن وأنتم بين أستار الكعبة حتى نلصق أكبادنا بها، ثم نحلف بالله جميعاً لا يخذل بعضنا بعضاً، ولتكونن كلمتنا واحدة على هذا الرجل ما بقي منا رجل، ففعلوا فتحالفوا على ذلك وتعاقدوا، ثم قالت قريش بعضها لبعض: قد جاءكم رؤساء أهل يثرب وأهل العلم والكتاب الأول فسلوهم عما نحن عليه ومحمد، أينا أهدى؟
قالت قريش: نعم، فقال أبو سفيان: يا معشر يهود، أنتم أهل الكتاب الأول والعلم، أخبرونا عما أصبحنا نحن فيه ومحمد، ديننا خير أم دين محمد؟ فنحن عُمَّار البيت وننحر الكوم، ونسقي الحجيج، ونعبد الأصنام، قالوا: اللهم أنتم أولى بالحق منه، إنكم لتعظمون هذا البيت، وتقومون على السقاية، وتنحرون البُدْن وتعبدون ما كان عليه آباؤكم، فأنتم أولى بالحق منه، فأنزل الله تعالى في ذلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى
مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً} 1، فاستعدوا لوقتٍ وَقَّتُوه، فقال صفوان بن أمية: يا معشر قريش إنكم قد وعدتم هؤلاء القوم لهذا الوقت وفارقوكم عليه، فَفُوا لهم به، لا يكون هذا كما كان، وعدنا محمداً بدر الصفراء فلم نف بموعده واجترأ علينا بذلك، وقد كنت كارهاً لميعاد أبي سفيان يومئذ. فخرجت يهود حتى أتت غطفان، وأخذت قريش في الجهاز، وسيرت في العرب تدعوهم إلى نصرها، وألّبوا أحابيشهم ومن تبعهم، ثم خرجت اليهود حتى جاءوا بني سُليم، فوعدوهم يخرجون معهم إذا سارت قريش، ثم ساروا في غطفان فجعلوا لهم تمر خيبر سنة، وينصرونهم ويسيرون مع قريش إلى محمد إذا ساروا، فأنعمت بذلك غطفان، ولم يكن أسرع إلى ذلك من عيينة بن حصن2، وخرجت قريش ومن تبعها من أحابيشها أربعة آلاف، وعقدوا اللواء في دار الندوة، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس، وكان معهم من الظهر ألف بعير وخمسمائة بعير، وأقبلت سُليم فلاقوهم بمر الظهران، وبنو سُليم يومئذ سبعمائة يقودهم سفيان بن عبد شمس حليف حرب بن أمية، وهو أبو أبي الأعور الذي كان مع معاوية بن أبي
__________
1 سورة النساء، آية رقم (51) .
2 هو: عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو ... الفزاري أبو مالك، له صحبة، وكان من المؤلفة، أسلم قبل الفتح، وشهدها وشهد حنيناً والطائف، وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني تميم فسبى بعض بني العنبر؛ كان ممن ارتد في عهد أبي بكر، ثم عاد إلى الإسلام، عاش إلى خلافة عثمان. الإصابة 3/ 54- 55.
سفيان بصفين، وخرجت قريش يقودها أبو سفيان بن حرب، وخرجت بنو أسد وقائدها طليحة بن خويلد الأسدي، وخرجت بنو فزارة وأوعبت، وهم ألف يقودهم عيينة بن حصن، وخرجت أشجع وقائدها مسعود بن رُخيلة وهم أربعمائة، لم توعب أشجع، وخرج الحارث بن عوف يقود قومه مرة وهم أربعمائة.
لما أجمعت غطفان السير أبو الحارث بن عوف المسير وقال لقومه: تفرقوا في بلادكم ولا تسيروا إلى محمد، فإني أرى أن محمداً أمره ظاهر لو ناوأه من بين المشرق والمغرب لكانت له العاقبة، فتفرقوا في بلادهم ولم يحضر واحد منهم، وهكذا روى الزهري وروت بنو مرة1.
__________
1 وهذه الرواية ضعيفة لكونها جاءت من طريق الواقدي ولكونه جمع بين كثير من الرواة ولم يفرق بينهم، وبالتالي لم تعرف رواية الزهري من غيرها، ولكنها عند الإخباريين مقبولة.
,
...
المبحث الثاني: في تأريخ الغزوة
78- قال أبو عبيد القاسم بن سلام1: حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد عن عُقيل بن خالد عن ابن شهاب قال: كانت وقعة الأحزاب بعد أحد بسنتين2.
__________
1 القاسم بن سلاّم بالتشديد البغدادي، أبو عبيد، الإمام المشهور، ثقة، فاضل، مصنف من العاشرة، مات سنة أربع وعشرين، ولم أر له في الكتب حديثاً مسنداً، بل من أقواله في شرح الغريب، خت د ت، التقريب 450.
2 كتاب الأموال، لأبي عبيد 158 رقم (445) ، وأخرجه ابن زنجويه في كتاب الأموال 1/ 398 رقم (657) ، والبيهقي في الدلائل 3/ 394، وكلها من طريق عبد الله بن صالح، كاتب الليث، قال عنه الحافظ: صدوق كثير الغلط. التقريب 308، ومثل هذه الروايات مما يتساهل فيها.
قال ابن كثير: وقد كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة نص على ذلك ابن إسحاق (ابن هشام 2/ 214) ، وعروة بن الزبير كما في دلائل البيهقي 3/ 394، وقتادة (انظر: دلائل البيهقي 3/ 394) ، والبيهقي (دلائل 3/ 395) وغير واحد من العلماء سلفاً وخلفاً. البداية والنهاية 4/ 93.
وذكر ابن سعد عن الواقدي أنها كانت سنة خمس، الطبقات 4/ 84، والبلاذري في أنساب الأشراف 1/ 427.
ومما يدل على أن غزوة الأحزاب كانت في السنة الخامسة ما أخرجه الطبراني في الأوسط 4/ 65 رقم (3624) من حديث ابن عباس قال: "كان قدومنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس من الهجرة خرجنا متوصلين بقريش عام الأحزاب، وأنا مع أخي الفضل ... حتى دخلنا المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق، وأنا يومئذ ابن ثمان سنين وأخي ابن ثلاث عشرة سنة".
79- قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله1 الحافظ، قال: أخبرنا إسماعيل2 بن محمد بن الفضل الشعراني، قال: حدثنا جدي3 قال: حدثنا إبراهيم4 بن المنذر قال: حدثنا محمد5 بن فليح، عن موسى6 بن عقبة عن ابن شهاب ح وأخبرنا أبو الحسين7 بن الفضل القطان، قال: أخبرنا محمد8 بن عبد الله بن عَتَّاب قال: حدثنا القاسم9 بن عبد الله بن المغيرة قال: ابن أبي10 أويس قال: حدثنا إسماعيل11 بن إبراهيم بن عقبة، عن عمه موسى بن عقبة في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قاتل يوم بدر في رمضان سنة اثنتين، ثم قاتل يوم أحد في شوال سنة ثلاث، ثم قاتل
__________
1 ثقة، تقدم في الرواية رقم [1] .
2 ثقة، تقدم في الرواية رقم [1] .
3 ثقة، تقدم في الرواية رقم [1] .
4 صدوق، تقدم في الرواية رقم [1] .
5 صدوق، تقدم في الرواية رقم [1]
6 ثقة، تقدم في الرواية رقم [1]
7 ثقة، تقدم في الرواية رقم [7] .
8 ثقة، تقدم في الرواية رقم [7] .
9 ثقة، تقدم في الرواية رقم [7] .
10 صدوق، تقدم في الرواية رقم [7] .
11 ثقة، تقدم في الرواية رقم [1] .
يوم الخندق وهو يوم الأحزاب وبني قريظة في شوال سنة أربع1.
__________
1 دلائل النبوة للبيهقي 3/ 392- 393، والسند حسن إلى الزهري، لكنه مرسل.
وقال البخاري: "قال موسى بن عقبة: كانت في شوال سنة أربع" الصحيح مع الفتح 7/ 392.
وقد عقب الحافظ ابن حجر على كلام البخاري فقال: "قلت: وتابع موسى على ذلك مالك وأخرجه أحمد عن موسى بن داود عنه" الفتح 7/ 393، وانظر: رواية مالك المذكورة في دلائل البيهقي 3/ 397، ثم ذكر أن ذكر الخندق في السنة الخامسة هو المعتمد، المصدر نفسه.
وقال في موضع آخر عند حديثه على من قال بأن غزوة بني المصطلق كانت في شعبان سنة ست فقال: "فلو كان المريسيع في شعبان سنة ست مع كون الإفك كان فيها لكان ما وقع في الصحيح من ذكر سعد بن معاذ غلطاً، لأن سعد بن معاذ مات أيام قريظة، وكانت سنة خمس على الصحيح". الفتح 7/ 430، وقريظة كانت بعد الخندق مباشرة.
فيظهر مما تقدم أن للعلماء في تاريخ الغزوة قولين: قول إنها في سنة أربع، كما قال مالك وابن عقبة والبخاري والفسوي، ورواية عن الزهري، وقول إنها سنة خمس وعلى ذلك الجمهور ومعهم الزهري في رواية. أما إذا أخذنا بما ذكره البيهقي من الجمع بين الروايتين - كما سيأتي - فلا إشكال، ويكون الخلاف لفظي والمعنى واحد.
وقد جمع البيهقي رحمه الله بين القولين بكلام حسن أظهر من خلاله عدم اختلافهم في تاريخ الغزوة فقال: قلت: "لا اختلاف بينهم في الحقيقة، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل يوم بدر لسنة ونصف من مقدمه المدينة في شهر رمضان، ثم قاتل يوم أحد من السنة القابلة لسنتين ونصف من مقدمه المدينة في شوال، ثم قاتل يوم الخندق بعد أحد بسنتين على رأس أربع سنين ونصف من مقدمه المدينة، فمن قال: سنة أربع أراد بعد أربع سنين وقبل بلوغ الخمس، ومن قال: سنة خمس أراد بعد الدخول في السنة الخامسة وقبل انقضائها، والله أعلم" أ. هـ. دلائل البيهقي 3/ 395.
واختلافهم في ذلك مبني على أن بعض العلماء جعلوا التاريخ الهجري من شهر المحرم من السنة القابلة وحذفوا الأشهر الماضية، وهو قول مخالف للجمهور الذي عدَّ التاريخ الهجري من أول شهر محرم من السنة التي قدم فيها صلى الله عليه وسلم المدينة. انظر: دلائل البيهقي 3/ 396، والفتح 7/ 268.
,
80- قال البيهقي1: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: أخبرنا إسماعيل ابن محمد بن الفضل بن محمد الشعراني قال: حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال: حدثنا محمد بن فليح2 عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب (ح) وأخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد، واللفظ له، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن عتَّاب العبدي، قال: حدثنا القاسم بن عبد الله بن المغيرة قال: حدثني ابن أبي أويس قال: حدثنا
__________
1 دلائل النبوة 3/ 398- 407، بسند حسن إلى الزهري، لكنه مرسل.
2 تقدمت تراجم رواة السند في الرواية رقم [1] و [7] .
إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة قال: خرج أبو سفيان وقريش ومن اتبعهم من مشركي العرب معهم حيي بن أخطب، واستمدوا عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، فأقبل بمن أطاعه من غطفان.
وبنو أبي الحقيق كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق سعى في غطفان وحضهم على القتال على أن لهم نصف ثمر خيبر1، فزعموا أن الحارث ابن عوف2 أخا بني مرة قال لعيينة بن بدر وغطفان: يا قوم أطيعوني ودعوا قتال هذا الرجل وخلّوا بينه وبين عدوه من العرب، فغلب عليهم الشيطان، وقطع أعناقهم الطمع، فانقادوا لأمر عيينة بن بدر على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا إلى حلفائهم من أسد، فأقبل طليحة3 فيمن اتبعه من بني أسد وهما حليفان: أسد وغطفان، وكتبت قريش إلى الرجال من بني سُليم أشرافٍ بينهم وبينهم أرحام، فأقبل أبو الأعور4 فيمن اتبعه من
__________
1 خيبر سيأتي التعريف بها عند الحديث عن غزوة خيبر.
2 هو الحارث بن عوف بن أبي حارثة المزني من فرسان الجاهلية، قدم في وفد بني مرة منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك. الإصابة 1/ 286.
3 هو: طليحة بن خويلد بن نوفل بن فضلة بن الأشتر ... الأسدي الفقعي، قدم في وفد بني أسد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد ارتد، فهرب إلى الشام، ثم أسلم إسلاماً صحيحاً، استشهد بنهاوند سنة إحدى وعشرين. الإصابة 2/ 234.
4 هو: عمرو بن سفيان بن عبد شمس بن سعد بن قائف ... بن ثعلبة بن سليم أبو الأعور السلمي مشهور بكنيته، قال أبو عمر: شهد حنيناً مع مالك بن عوف ثم أسلم، الإصابة 2/ 540.
سليم مدداً لقريش، فخرج أبو سفيان في آخر السنتين فيمن اتبعه من قبائل العرب، وأبو الأعور فيمن اتبعه من بني سُليم، وعيينة بن بدر في جمع عظيم، فهم الذين سماهم الله الأحزاب1، فلما بلغ خروجهم النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في حفر الخندق2، وخرج معه المسلمون فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في العمل معهم، فعملوا مستعجلين ويبادرون قدوم العدو، ورأى المسلمون أنما بطش رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم في العمل ليكون أجدّ لهم وأقوى
__________
1 إشارة لقوله تعالى: {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ} الآية [سورة الأحزاب آية (20) ] إلى قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب آية (22) ] .
2 يقع الخندق في المنطقة الشمالية من المدينة، بين سلع وأسفل حرة الوبرة إلى طرف واقم من الشمال الشرقي ليربط بينهما. انظر: معجم المعالم الجغرافية 114، والعمري في السيرة الصحيحة 2/ 420، والدر الثمين الغالي الشنقيطي 205.
وكان طوله: خمسة آلاف ذراع وعرضه تسعة أذرع، وعمقه من سبعة أذرع إلى عشرة، انظر: تفسير الطبري 21/ 33، ومجمع الزوائد 6/ 130، والفتح 7/ 397، وكان الذي أشار به سلمان الفارسي رصي الله عنه، انظر: ابن هشام 2/ 223، ومغازي الواقدي 2/ 445، وفتح الباري 7/ 393.
لهم بإذن الله عزوجل، فجعل الرجل يضحك من صاحبه إذا رأى منه فترة1، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يغضب اليوم أحد من شيء ارتجز2 به ما لم يقل قول كعب أو حسان فإنهما يجدان من ذلك قولاً كثيراً ونهاهما أن يقولا شيئاً يحفظان3 به أحداً، فذكروا أنه عرض لهم حجر في محفرهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم معولاً من أحدهم فضرب به ثلاثاً فكسر الحجر في الثالثة، فزعموا أن سلمان الخير الفارسي4 أبصر عند كل ضربة برقة5 ذهبت في ثلاث وجوه كل مرة يتبعها سلمان بصره، فذكر ذلك سلمان6 لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: رأيت كهيئة البرق أو موج الماء عن ضربة ضربتها يا رسول الله، ذهبت إحداهن نحو المشرق والأخرى نحو الشام، والأخرى نحو اليمن،
__________
1 فترة: أي ضعف. النهاية 3/ 408.
2 الرَّجز: بحر من بحور الشعر معروف ونوع من أنواعه. وتسمى قصائده أراجيز، فهو كهيئة السجع إلا أنه في وزن الشعر، ويسمى قائله راجز. النهاية 2/ 199.
3 يحفظان به: أي يغضبان. النهاية 1/ 408.
4 هو: سلمان أبو عبد الله الفارسي، ويقال له: سلمان الإسلام، وسلمان الخير، أصله من رام هرمز وقيل من أصبهان، وكان أول مشاهده الخندق، وشهد بقية المشاهد وفتوح العراق. الإصابة 2/ 62.
5 برقة: أي لمعان كالبرق. النهاية 1/ 120.
6 المعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي بشر الصحابة بالفتوحات عند تكسيره للحجرة التي عجز الصحابة عن تكسيرها، كما روى ذلك أحمد والنسائي وحسن الحافظ ابن حجر إسنادها. انظر: فتح الباري 7/ 397، والطبراني في الكبير 11/ 376.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وقد رأيت ذلك يا سلمان؟ " قال: نعم، قد رأيت ذلك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإنه أُبْيضَ1 لي في إحداهن مدائن كسرى2 ومدائن من تلك البلاد، وفي الأخرى مدينة الروم، والشام، وفي الأخرى مدينة اليمن وقصورها، والذي رأيت النصر يبلغهن إن شاء الله"، وكان سلمان يذكر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وكان سلمان رجلاً قوياً، فلما وكل رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل جانب من الخندق، قال المهاجرون: يا سلمان احفر معنا، فقال رجل من الأنصار: لا أحد أحق به منا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما سلمان منا أهل البيت"3.
[وقال عبد الله بن عباس: لما قتل الأسودَ العنسيَّ كذابَ صنعاء فيروز الديلمي وقدم قادمهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسلموا قالوا: يا رسول الله من نحن؟ قال: "أنتم إلينا أهل البيت ومنا"، فلما قضوا حفر
__________
1 البياض: ضد السواد، الإصابة 1/ 295، والمراد: أنه ظهر لي شيء أبيض.
2 المدائن: جمع مدينة وتقع هذه المدائن بين أرض الفرات ودجلة بناها الأكاسرة من آل ساسان، بينهما وبين بغداد ستة فراسخ. ياقوت 5/ 74- 75.
3 أخرجه ابن سعد في الطبقات 4/ 98، والحاكم 3/ 589، وقال الذهبي: "سنده ضعيف، وأخرجه الطبراني في الكبير 6/ 212 رقم (6040) قال في المجمع (6/ 130) : "وفيه كثير بن عبد الله المزني وقد ضعفه الجمهور وحسن الترمذي حديثه، وبقية رجاله ثقات"، وقال الألباني في ضعيف الجامع الصغير وزيادته ص 480- 481 رقم (3272) : "ضعيف جداً".
خندقهم وذلك في شوال سنة أربع، وهو عام الأحزاب] 1 وعام الخندق أقبل أبو سفيان بن حرب ومن معه من مشركي قريش ومن اتبعه من أهل الضلالة فنزلوا بأعلى وادي قناة من تلقاء الغابة، وغلقت بنو قريظة حصنهم، وتأشموا2 بحيي بن أخطب وقالوا: لا تكونوا من هؤلاء القوم في شيء فإنكم لا تدرون لمن تكون الدَّبْرة3، وقد أهلك حيي قومه ما حذروه، وأقبل حيي حتى أتى باب حصنهم، وهو مغلق عليهم، وسيد اليهود يومئذ كعب بن أسد، فقال حيي: أَثَمَّ كعب؟
قالت امرأته: ليس ههنا، خرج لبعض حاجاته.
فقال حيي: بل هو عندك مكث على جشيشته4 يأكل منها، فكره أن أصيب معه من العشاء.
فقال كعب: ائذنوا له فإنه مشؤوم، والله ما طرقنا بخير، فدخل حيي فقال: إني جئتك والله بعز الدهر إن لم تتركه عليّ، أتيتك بقريش وسقت إليك الحليفين: أسدٌ وغطفان فقال كعب بن أسد: إنما مثلي ومثل ما جئت به كمثل سحابة أفرغت ما فيها ثم انطلقت، ويحك يا حيي دعنا
__________
1 من قوله: وقال ابن عباس إلى هنا، أظنه من كلام موسى بن عقبة، والله أعلم.
2 تأشموا: لعل معناها تشاءموا، والشؤم: ضد اليُمْن، وقد شأم فلان على قومه يشأمهم فهو شائم إذا جر عليهم الشؤم. اللسان (شأم) .
3 الدَّبَرْ: بالفتح الهلاك. النهاية 2/ 98.
4 الجشيشة: الحنطة تطحن طحناً جليلاً، ثم تجعل في القدور ويقلى عليها لحم أو تمر وتطبخ وقد يقال لها: دشيشة، النهاية 1/ 273.
على عهدنا لهذا الرجل فإني لم أر رجلاً أصدق ولا أوفى من محمد وأصحابه والله ما أكرهنا على دين ولا غصبنا مالاً ولا ننقم من محمد وعملك شيئاً، وأنت تدعو إلى الهلكة فنذكرك الله إلا ما أعفيتنا من نفسك.
فقال: والله لا أفعل ولا يختبزها محمد إلى يوم القيامة، ولا نفترق نحن وهذه الجموع حتى نهلك، وقال عمرو بن سعد القرظي: يا معشر يهود إنكم قد حالفتم محمداً على ما قد علمتم أن لا تخونوه ولا تنصروا عليه عدواً، وأن تنصروه على من دهم1 يثرب2، فأوفوا على ما عاهدتموه عليه فإن لم تفعلوا فخلوا بينه وبين عدوه، واعتزلوهم، فلم يزل بهم حيي حتى شامهم3، فاجتمع ملأهم في الغد على أمر رجل واحد، غير أن بني شعبة أسداً4 وأسيداً وثعلبة خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زعموا وقالت اليهود: يا حيي انطلق إلى أصحابك فإنا لا نأمنهم فإن أعطونا من أشرافهم من كل من جاء معهم رهناً5 فكانوا عندنا فإذا نهضوا لقتال
__________
1 دهم: أي فاجأ. النهاية 2/ 145.
2 يثرب: هي مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم واسمها القديم (يثرب) ، فغيرها وسماها: (طيبة الطيبة) كراهة للتثريب وهو اللوم والتعيير، وقيل سميت باسم رجل من العمالقة، وقيل: هو اسم أرضها. النهاية 5/ 292.
3 شامهم: أي عدل بهم عن رأيهم. القاموس، مادة (شمم) .
4 هم ممن أسلموا من بني قريظة. انظر: الإصابة 1/ 33.
5 قال في القاموس: "الرهن: ما وضع عندك لينوب مناب ما أخذ منك، القاموس مادة (رهن) ".
محمد وأصحابه خرجنا نحن فركبنا أكتافهم، فإن فعلوا ذلك فاشدد العقد بيننا وبينهم، فذهب حيي إلى قريش فعاقدوه على أن يدفعوا إليه السبعين، ومزقوا صحيفة القضية1 التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم، ونبذوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحرب وتحصنوا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فعبأ أصحابه للقتال، وقد جعلهم المشركون في مثل الحصن بين كتائبهم، فحاصروهم قريباً من عشرين ليلة2، وأخذوا بكل ناحية حتى ما يدري الرجل أتم صلاته أم لا، ووجهوا نحو منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة غليظة يقاتلونه يوماً إلى الليل، فلما حضرت الصلاة، صلاة العصر، دنت الكتيبة، فلم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه الذين كانوا معه أن يصلوا الصلاة على نحو ما أرادوا فانكفأت الكتيبة مع الليل فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "شغلونا عن صلاة العصر ملأ الله بطونهم وقبورهم ناراً"3، وفي
__________
1 هي الصحيفة التي عملها النبي صلى الله عليه وسلم وكتبها بين المسلمين واليهود عندما قدم المدينة بعد الهجرة وكان من ضمن بنودها: أن بينهم النصر جميعاً على من دهم يثرب، انظر هذه الصحيفة والوثيقة في رسالة هارون رشيد محمد إسحاق، بعنوان: صحيفة المدينة دراسة حديثية وتحقيق، من قسم الدراسات العليا من كلية التربية جامعة الملك سعود عام 1405هـ- ص133 فما بعدها.
2 وفي مصنف عبد الرزاق 5/ 367 رقم (9737) بضع عشرة ليلة، وتفسيره 1/ 83، وأخرج الواقدي في المغازي 2/ 291 من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب مرسلاً أن مدة الحصار كانت بضعة وعشرين يوماً، وأخرج كذلك ابن سعد في الطبقات الكبرى 2/ 73 عن الزهري عن ابن المسيب، وفي رواية أخرى لسعيد بن المسيب: أنهم حاصروهم أربعاً وعشرين ليلة. انظر: الإصابة 2/ 73.
3 أخرجه البخاري في الصحيح. انظر: الفتح 7/ 405 رقم (4111) وانظر رقم (4112) ورقم (2931) ورقم (4533) ومسلم في المساجد (627) باب التغليظ في تفويت الصلاة، وأبا داود في الصلاة رقم (409) ، وأحمد 2/ 129 رقم [591] أرناؤوط، والدارمي في الصلاة 1/ 280، باب في الصلاة الوسطى من طريق هشام بن حسان عن ابن سيرين عن عبيدة عن علي رصي الله عنه.
رواية ابن فليح: "بطونهم وقبورهم ناراً"1.
فلما اشتد البلاء على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نافق ناس كثير وتكلموا بكلام قبيح، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيه الناس من البلاء والكرب جعل يبشرهم ويقول: "والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمناً، وأن يدفع الله عزوجل إليّ مفاتيح الكعبة، وليهلكن الله كسرى وقيصر ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله عزوجل".
وقال رجل ممن معه لأصحابه: ألا تعجبون من محمد يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق وأن نقسم كنوز فارس والروم ونحن ههنا لا يأمن أحدنا أن يذهب الغائط، والله لما يعدنا إلا غروراً2، وقال آخرون ممن معه: إئذن لنا فإن بيوتنا عورة3، وقال آخرون: يا أهل يثرب لا مقام
__________
1 هكذا في المطبوع من دلائل النبوة للبيهقي 3/ 402، ولعلها: "قبورهم وبطونهم ناراً"
2 ذكر الله عنهم ذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلاّ غُرُوراً} [الأحزاب آية رقم (12) ] .
3 حكى الله عنهم في ذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاّ فِرَاراً} [الأحزاب آية (13) ] .
لكم فارجعوا1.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ أخا عبد الأشهل، وسعد بن عبادة وعبد الله بن رواحة2 وخوات بن جبير إلى بني قريظة ليكلموهم ويناشدوهم في حلفهم، فانطلقوا حتى أتوا باب حصن بني قريظة، استفتحوا ففُتح لهم، فدخلوا عليهم فدعوهم إلى الموادعة3 وتجديد الحلف، فقالوا: الآن وقد كسروا جناحنا، يريدون بجناحهم المكسورة بني النضير، ثم أخرجوهم وشتموا النبي صلى الله عليه وسلم شتماً، فجعل سعد بن عبادة يشاتمهم، فأغضبوه، فقال سعد بن معاذ لسعد بن عبادة: إنا والله ما جئنا لهذا ولَمَا بيننا أكثر من المشاتمة ثم ناداهم سعد بن معاذ فقال: إنكم قد علمتم الذي بيننا وبينكم يا بني قريظة، وأنا خائف عليكم مثل يوم بني
__________
1 جزء من الآية السابقة.
2 هو عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس بن مالك الخزرجي الأنصاري الشاعر المشهور يكنى أبا محمد من السابقين الأولين من الأنصار وكان أحد النقباء ليلة العقبة، وشهد بدراً وما بعدها إلى أن استشهد بمؤتة. الإصابة 2/ 306.
3 الموادعة: يقال: توادع الفريقان: إذا أعطى كل واحد منهم الآخر عهداً ألاَّ يغزوه، النهاية (5/ 167) .
النضير أو أمّر منه.
فقالوا: أكلتَ أَيْر أبيك، فقال: غير هذا من القول كان أجمل وأحسن منه.
فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يئسوا مما عندهم، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوههم الكراهية لما جاءوا به، فقال: ما وراءكم؟
فقالوا: أتيناك من عند أخابث خلق الله وأعداهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبروه بالذي قالوا، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتمان خبرهم وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، وهم في بلاء شديد يخافون أشد من يوم أحد فقالوا: حين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً: ما وراءك يا رسول الله، قال: "خيراً فأبشروا"، ثم تقنع بثوبه فاضطجع ومكث طويلاً واشتد عليهم البلاء والخوف حين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا أنه لم يأته من بني قريظة خير، ثم إنه رفع رأسه فقال: "أبشروا بفتح الله ونصره"، فلما أصبحوا دنا القوم بعضهم إلى بعض، فكان بينهم رمي بالنبل والحجارة، قال ابن شهاب: قال سعيد بن المسيب1: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أسألك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لا تعبد" 2، وأقبل نوفل بن عبد الله المخزومي وهو من المشركين
__________
1 انظر: مصنف عبد الرزاق 5/ 367 رقم (9737) .
2 هذا الدعاء ذكره صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر كما في البخاري وغيره. انظر: الصحيح مع الفتح 7/ 287، وأخرجه ابن سعد عن الزهري، عن سعيد بن المسيب مرسلاً. الطبقات الكبرى 2/ 73.
على فرس له ليقحمه1 الخندق فقتله الله، وكبت به المشركين وعظم في صدورهم وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إِنّا نعطيكم الدية على أن تدفعوه إلينا فندفنه، فرد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم: إنه خبيث خبيث الدية، فلعنه الله، ولعن ديته، فلا أربَ2 لنا بديته، ولسنا مانِعِيكُم أن تدفنوه، ورمي سعد بن معاذ رمية فقطعت منه الأكحل3 من عضده4 ورماه زعموا حبان بن قيس5 أخو بني عامر بن لؤي، ثم أحد بني العَرِقَة6، ويقول آخرون: أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم، وقال سعد بن معاذ: رب اشفني من بني قريظة قبل الممات فرَقَأَ7 الكلْم8 بعدما كان قد انفجر، وصبر أهل
__________
1 ليقحمه: يقال: اقتحم الإنسان الأمر العظيم، وتقحمه، إذا رمى نفسه فيه من غير روية وتثبت. النهاية 4/ 18.
2 لا أرب: أي لا حاجة. النهاية 1/ 35.
3 الأكحل: عرق في وسط الذراع يكثر فصده. النهاية 4/ 154.
4 العضد: ما بين الكتف والمرفق. النهاية 3/ 252.
5 قال السهيلي: "هو حبان بن قيس بن العرقة. الروض 3/ 280، قال: وحبان هو عبد مناف بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤي. ويشهد له ما في صحيح البخاري فقد ذكر أن الذي رماه: حبان بن العرقة". انظر: الصحيح مع الفتح 7/ 411.
6 العَرِقَة: هي: قلابة بنت سعيد بن سعد بن سهم تكنى أم فاطمة، سميت العرقة لطيب ريحها. وهي جدة خديجة أم أمها هالة. الروض 3/ 280.
7 رقأ: يقال: رقأ الدمع والدم والعرق يرقأ رقوءاً بالضم إذا سكن وانقطع. النهاية 2/ 248.
8 الكلم: الجرح. النهاية 4/ 199.
الإيمان على ما رأوا من كثرة الأحزاب وشدة أمرهم، وزادهم يقيناً لموعد الله تبارك وتعالى الذي وعدهم، ثم رجع بعضهم عن بعض، ثم إن أبا سفيان أرسل إلى بني قريظة أن قد طال ثُواؤنا1 ههنا وأجدب2 من حولنا فما نجد رعياً للظهر، وقد أردنا أن نخرج إلى محمد وأصحابه فيقضي الله بيننا وبينهم فماذا ترون؟
وبعثت بذلك غطفان، فأرسلوا إليهم: أن نعم ما رأيتم فإذا شئتم فانهضوا فإنا لا نحبسكم إذا بعثتم بالرهن إلينا، وأقبل رجل من أشجع يقال له نعيم بن مسعود3 يذيع4 الأحاديث وقد سمع الذي أرسلت به قريش وغطفان إلى بني قريظة والذي رجعوا إليهم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار إليه وذلك عشاءً، فأقبل نعيم بن مسعود حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبَّةً له تُركية ومعه نفر من أصحابه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما وراءكم؟ ".
__________
1 ثوى: المثوى المنزل من ثوى بالمكان يثوي إذا أقام فيه. النهاية 1/ 230.
2 الجدْب: هو القحط، وهي الأرض التي لا نبات فيها. النهاية 1/ 242- 243.
3 هو: نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ الأشجعي يكنى أبا سلمة الأشجعي أسلم ليالي الخندق، وهو الذي أوقع الخلف بين الحيين قريظة وغطفان، قتل في أول خلافة علي رصي الله عنه، وقيل مات في خلافة عثمان رصي الله عنه. الإصابة 3/ 568.
4 ذاع الخبر يذيع ذيعاً وذيوعاً: انتشر، والمذياع: بالكسر من لا يكتم السر. القاموس (ذاع) .
قال: إنه والله مالك طاقة بالقوم وقد تحزبوا عليك وهم معالجوك، وقد بعثوا إلى بني قريظة أنه قد طال ثواؤنا وأجدب ما حولنا وقد أحببنا أن نعاجل محمداً وأصحابه فنستريح منهم، فأرسلت إليهم بنو قريظة: أن نعم ما رأيتم فإذا شئتم، فابعثوا بالرهن ثم لا يحبسكم إلا أنفسكم.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني مسر إليك شيئاً فلا تذكره"، قال: نعم، قال: "إنهم قد أرسلوا إليّ يدعونني إلى الصلح وأرد بني النضير إلى دورهم وأموالهم"، فخرج نعيم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غطفان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحرب خدعة1، وعسى الله أن يصنع لنا"، فأتى نعيم غطفان فقال: إني لكم ناصح وإني قد اطلعت على غدر يهود، تعلمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكذب قط، وإني سمعته يحدث أن بني قريظة، قد صالحوه على أن يرد عليهم إخوانهم من بني النضير إلى ديارهم وأموالهم، ويدفعوا إليه الرهن، ثم خرج نعيم ين مسعود الأشجعي حتى أتى أبا سفيان بن حرب وقريشاً فقال: اعلموا أني قد اطلعت على غدر يهود،
__________
1 خدعة: قال النووي: فيها ثلاث لغات مشهورات، واتفقوا على أن أفصحهن خَدعة بفتح الخاء وإسكان الدال، والثانية بضم الخاء، والثالثة بضم الخاء وفتح الدال، النووي على مسلم 12/ 45.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "الحرب خدعة" أخرجه البخاري في الجهاد رقم (3030) ، ومسلم في الجهاد رقم (1739) ، وأبو داود رقم (2636) ، والترمذي في الجهاد رقم (1675) .
إني سمعت محمداً يحدث أن بني قريظة صالحوه على أن يرد عليهم إخوانهم من بني النضير إلى دورهم وأموالهم، على أن يدفعوا إليه الرهن ويقاتلون معه ويعيدون الكتاب الذي كان بينهم، فخرج أبو سفيان إلى أشراف قريش فقال: أشيروا عليّ وقد ملّوا مقامهم، وتعذرت عليهم البلاد، فقالوا: نرى أن نرجع ولا نقيم فإن الحديث على ما حدثك نعيم والله ما كذب محمد، وإن القوم لغدر.
وقال الرُّهْن حين سمعوا الحديث: والله لا نأمنهم على أنفسنا ولا ندخل حصنهم أبداً، قال أبو سفيان: لن نعجل حتى نرسل إليهم فنتبين ما عندهم، فبعث أبو سفيان إليهم عكرمة بن أبي جهل وفوارس، وذلك ليلة السبت، فأتوهم فكلموهم فقالوا: إنا مقاتلون غداً فاخرجوا إلينا.
قالوا: إن غداً السبت وإنا لا نقاتل فيه أبداً.
قال عكرمة: إنا لا نستطيع الإقامة، هلك الظهر والكراع ولا نجد رعياً.
قالت اليهود: إنا لا نعمل يوم السبت عملاً بالقتال، ولكن امكثوا إلى يوم الأحد، وابعثوا إلينا بالرهن، فرجع عكرمة وقد يئس من نصرهم، واشتد البلاء والحصر على المسلمين وشغلتهم أنفسهم فلا يستريحون ليلاً ولا نهاراً، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث رجلاً فيخرج من الخندق فيعلم ما خبر القوم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أصحابه1 فقال: "هل أنت
__________
1 الذي في صحيح مسلم 3/ 1414- 1415 رقم (1788) "أن النبي صلى الله عليه وسلم انتدب حذيفة بن اليمان رصي الله عنه بعد أن نادى في الناس أن يأتوه بخبر القوم، فلما لم يجبه أحد عين حذيفة رصي الله عنه"، ولم أر في المصادر التي وقفت عليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً من أصحابه فاعتل.
مطلع القوم؟ "
فاعتل1 فتركه، وأتى آخر، فقال مثل ذلك، وحذيفة بن اليمان يسمع ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ذلك صامت لا يتكلم مما به من الضر والبلاء، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يدري من هو، فقال: "من هذا؟ " قال: أنا حذيفة بن اليمان، قال: "إياك أريد، أسمعت حديثي منذ الليلة ومسألتي الرجال لأبعثهم فيتخبرون لنا خبر القوم؟ "
قال حذيفة: والذي بعثك بالحق إنه لبأُذني، قال: "فما منعك أن تقوم حين سمعت كلامي؟ "
قال: الضر والجوع، فلما ذكر الجوع، ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "قم حفظك الله من أمامك ومن خلفك ومن فوقك ومن تحتك وعن يمينك وعن شمالك حتى ترجع إلينا،" فقام حذيفة مستبشراً بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه احتمل احتمالاً، فما شكا من جوع ولا خوف ولا درى شيئاً مما أصابه قبل ذلك من البلاء، فانطلق حتى أجاز الخندق من أعلاه، فجلس بين ظهري المشركين، فوجد أبا سفيان قد أمرهم أن يوقدوا
__________
1 اعتل: العلة بالكسر: المرض. القاموس 1338 (علل) .
النيران، وقال: ليعلم كل امرئ مَنْ جليسه، فقبض حذيفة على يد رجل عن يمينه، فقال: من أنت؟ قال: أنا فلان، وقبض يد رجل عن يساره قال: من أنت؟ قال: أنا فلان، وبَدَرَهُم بالمسألة خشية أن يفطنوا له، ثم إن أبا سفيان أذَّن بالرحيل، فارتحلوا وحملوا الأثقال، فانطلقت ووقفت الخيل ساعة من الليل، ثم انطلقت، وسمعت غطفان الصياح والإرصاء1 من قبل قريش، فبعثوا إليهم، فأتاهم الخبر برحيلهم فانقشعوا2 لا يلوون على شيء، وقد كان الله عزوجل قَبْلَ رحيلهم قد بعث عليهم بالريح3 بضع عشرة ليلة، حتى ما خلق الله لهم بيتاً يقوم، ولا رمحاً حتى ما كان في الأرض منزل أشد عليهم ولا أكره إليهم من منزلهم ذلك، فأقشعوا والريح أشد ما كانت معها جنود الله لا تُرى كما قال الله عزوجل4، ورجع حذيفة ببيان خبر القوم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي - وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج محمد بن مسلمة وأصحابه فقتلوا كعب بن الأشرف، فلم يزل قائماً يصلي حتى فرغوا منه وسمع التكبير، - ولما دنا
__________
1 لم يتبين لي معناها.
2 انقشعوا: تفرقوا. القاموس المحيط (قشع) .
3 إشارة لقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا ... } الآية [الأحزاب آية رقم (9) ] .
4 قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} [الأحزاب آية رقم (9) ] .
حذيفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يدنو حتى ألصق ظهره برجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فثنا ثوبه حتى دفئ، ثم انصرف إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن القوم، فأخبره الخبر، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قد فتح الله عزوجل لهم وأقرّ أعينهم، فرجعوا إلى المدينة شديداً بلاؤهم مما لقوا من محاصرة العدوّ، وكانوا حاصروهم في شتاء شديد فرجعوا مجهودين فوضعوا السلاح1.
__________
1 وقد أخرج الواقدي في المغازي 2/486 من طريق معمر، عن الزهري مرسلاً نحوه.
المبحث الرابع: في هَمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقد الصلح بينه وبين غطفان وعدوله عن ذلك
81- قال ابن إسحاق1: فلما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة ومن لا أتهم عن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري: إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر وإلى الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري2، وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهم الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة3، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه، فقالا له: يا رسول الله أمراً تحبه فنصنعه أم شيئاً أمرك الله به لا بد لنا من العمل به أم شيئاً تصنعه لنا؟
قال: (بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت
__________
1 ابن هشام 2/ 223. والرواية حسنة إلى الزهري.
2 في رواية عبد الرزاق أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى عيينة فقط. انظر: الرواية في التفسير، (1/ 83) وستأتي.
3 المراوضة: المجاذبة في البيع والشراء، وهو ما يجري بين المتبايعين من الزيادة والنقصان، وقيل هي المواصفة بالسلعة، وهو أن تصفها وتمدحها عنده. النهاية 2/ 276- 277.
العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم1 من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما،" فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قِرىً2 أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فأنت وذاك". فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا"3.
82- عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: لما كان يوم الأحزاب حصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بضع عشرة ليلة، حتى خلص إلى كل امرئ منهم الكرب، وحتى قال النبي صلى الله عليه وسلم كما قال ابن المسيب: "اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لا تعبد" 4.
فبينما هم على ذلك أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن بن بدر:
__________
1 كالبوكم: أي: اشتدوا عليكم. النهاية 4/ 195، والقاموس (كلب) .
2 قرى: الضيف - بالكسر والفتح والمدّ - القاموس، مادة (قرى) .
3 الجهد: - بالضمّ - الوسع والطاقة، وبالفتح: المشقة. النهاية 1/320، والمراد: أي ليجتهدوا وليبذلوا ما في وسعهم في تهديدنا، فلن نعطيهم شيئاً.
4 تقدم أن هذا الدعاء ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر كما في البخاري وغيره. وقد تكرر منه صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء في أكثر من موضع.
"أرأيت إن جعلت لك ثلث ثمر الأنصار أترجع بمن معك من غطفان، وتخذل بين الأحزاب؟ " فأرسل إليه عيينة: إن جعلتَ لي الشطر فعلتُ1، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فقال: "إني أرسلت إلى عيينة، فعرضت عليه أن أجعل له ثلث ثمركم، ويرجع بمن معه من غطفان، ويخذل بين الأحزاب فأبى إلا الشطر"،
فقالا: يا رسول الله إن كنت أُمرتَ بشيء فامض لأمر الله.
قال: "لو كنت أُمرت بشيء ما استأمرتكما، ولكن هذا رأي أعرضه عليكما".
قالا: فإنا لا نرى أن تعطيهم إلا السيف.
قال ابن أبي نجيح: قالا: فوالله يا رسول الله، لقد كان يمرّ في الجاهلية يجرّ صرمه2 في عام السنة حول المدينة ما يطيق أن يدخلها، أفلآن حين جاء الله بالإسلام نعطيهم ذلك3؟
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فنعم إذاً"4.
__________
1 في رواية ابن إسحاق (ابن هشام 2/223) أن الصلح كان على الثلث فقط.
2 الصرمة: القطعة الخفيفة من الإبل. النهاية 3/ 62.
3 إلى هنا أخرجها أبو عبيد في الأموال رقم (445) عن الزهري مرسلاً، ومن طريق أبي عبيد أخرجها البلاذري في أنساب الأشراف 1/ 345.
4 تفسير عبد الرزاق 1/ 83، والمصنف 5/ 367 رقم (9737) وقد وردت هذه الرواية في المصنف دون ذكر معمر والزهري، فلعلهما سقطا والله أعلم. وهي رواية صحيحة إلى الزهري.
وانظر مغازي الواقدي 2/ 477، فقد ذكر هذه الرواية عن الزهري عن سعيد بن المسيب ولكن الواقدي متروك.
وقضية المفاوضة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين غطفان بشأن إعطائهم بعض ثمار المدينة ويرجعوا عنه، انظرها في كشف الأستار 1/ 331- 332، ومجمع الزوائد 6/ 132، بإسنادين كلاهما حسن، وانظر: مغازي الواقدي 2/ 477، والطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 73 من طريق الزهري عن ابن المسيب مرسلاً، وابن أبي شيبة 14/ 420، وابن إسحاق كما مر، ودلائل البيهقي 3/ 398- 407.
,
1- أنس بن أوس بن عتيك بن عمرو بن عبد الأعلم الأنصاري2.
2- أنس بن معاذ بن أوس بن عبد عمرو3.
3- ثعلبة بن عَنَمة - بفتح المهملة والنون - ابن عدي الخزرجي الأنصاري4.
__________
1 من جاء ذكره في هذه القائمة في معجم الطبراني فهو من طريق موسى بن عقبة عن الزهري، والباقون ذكروا من دون إسناد أي تعليقاً عن الزهري.
2 الإصابة 1/68، عن الزهري.
3 المعجم الكبير 2/90 تحت رقم (770) ومجمع الزوائد 6/142، عن الزهري.
4 المعجم الكبير 2/90، تحت رقم (1403) ، عن الزهري.
وقد ذكر ابن إسحاق أنّ شهداء الخندق ستة نفر، الثلاثة الذين ذكرهم الزهري، وزاد عليهم: سعد بن معاذ، وعبد الله بن سهل، والطفيل بن النعمان. ابن هشام 2/252، من غير طريق الزهري.
وقد ذكر الزهري أن عدد قتلى المشركين في غزوة الخندق ثلاثة:
1- عمرو بن عبد ودّ العامريّ1.
2- نوفل بن عبد الله المخزومي2.
3- حسل بن عمرو بن عبد ودّ العامريّ3.
__________
1 المستدرك 3/32، عن الزهري.
2 السير، للفزاري 115، رقم (32) ، والمستدرك للحاكم 3/32، ودلائل النبوة للبيهقي 3/404، عن الزهري. وقال ابن هشام: أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده عشرة آلاف درهم، فيما بلغني عن الزهري (ابن هشام 2/253) .
3 ابن هشام 2/253، عن الزهري.