ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من بدر لم يقم إلا سبع ليال حتى غزا بنفسه، يريد بني سليم. واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري أو ابن أم مكتوم.
أي وفي رواية أبي داود لأن استخلاف ابن أم مكتوم إنما كان على الصلاة بالمدينة دون القضايا والأحكام، فإن الضرير لا يجوز له أن يحكم بين الناس، لأنه لا يدرك الأشخاص ولا يثبت الأعيان، ولا يدري لمن يحكم ولا على من يحكم، أي فأمر القضايا والأحكام يجوز أن يكون فرضه صلى الله عليه وسلم لسباع فلا مخالفة. فلما بلغ ماء من مياههم يقال له الكدر، أي وقيل لهذا الماء الكدر، لأن به طيرا في ألوانها كدرة،
فأقام صلى الله عليه وسلم على ذلك ثلاث ليال، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا، أي وكان لواؤه صلى الله عليه وسلم أبيض حمله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وكان في تلك السنة تزويج عليّ بفاطمة رضي الله تعالى عنهما: أي عقد عليها في رمضان وقيل في رجب، ودخل بها في ذي الحجة. وقيل بعد أن تزوّجها بنى بها بعد سبعة أشهر ونصف، أي فيكون عقد عليها في أول جمادى الأولى. وكان عمرها خمس عشرة سنة، وكان سن عليّ يومئذ إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر، أي وأولم عليها بكبش من عند سعد وآصع من ذرة من عند جماعة من الأنصار. ولما خطبها عليّ قال صلى الله عليه وسلم «إن عليا يخطبك فسكتت» أي وفي رواية قال لها «أي بنية إن ابن عمك عليا قد خطبك فماذا تقولين؟ فبكت، ثم قالت: كأنك يا أبت إنما أدخرتني لفقير قريش، فقال صلى الله عليه وسلم: والذي بعثني بالحق ما تكلمت في هذا حتى أذن لي الله فيه من السماء، فقالت فاطمة رضي الله عنها: رضيت بما رضي الله ورسوله» .
وقد كان خطبها أبو بكر ثم عمر فسكت صلى الله عليه وسلم. وفي رواية قال لكل انتظر بها القضاء، فجاآ أي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى علي كرم الله وجهه يأمرانه أن يخطبها، قال علي «فنبهاني لأمر كنت عنه غافلا فجئته صلى الله عليه وسلم فقلت: تزوّجني فاطمة، قال: وعندك شيء؟ قلت فرسي وبدني: أي درعي، قال: أما فرسك فلا بدّ لك منها، وأما بدنك فبعها فبعتها بأربعمائة وثمانين درهما فجئته صلى الله عليه وسلم بها فوضعها في حجره فقبض منها قبضة فقال: أي بلال ابتع لنا بها طيبا.
وفي رواية «لما خطبها قال له صلى الله عليه وسلم ما تصدقها» وفي لفظ «هل عندك شيء تستحلها به؟ قال: ليس عندي شيء، قال: فأين درعك الحطمية التي أعطيتك يوم كذا وكذا؟ قال عندي، فباعها من عثمان بن عفان بأربعمائة وثمانين درهما. ثم إن عثمان رضي الله عنه رد الدرع إلى علي كرم الله وجهه فجاء عليّ بالدرع والدراهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا لعثمان بدعوات» .
وفي فتاوى الجلال السيوطي أنه سئل هل لصحة ما قيل إن عثمان بن عفان رأى درع علي رضي الله تعالى عنهما يباع بأربعمائة درهم ليلة عرسه على فاطمة رضي الله عنها فقال عثمان: هذا درع علي فارس الإسلام لا يباع أبدا، فدفع لغلام علي أربعمائة درهم وأقسم أن لا يخبره بذلك ورد الدرع معه، فلما أصبح عثمان وجد في داره أربعمائة كيس، في كل كيس أربعمائة درهم، مكتوب على كل درهم:
هذا ضرب الرحمن لعثمان بن عفان، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: هنيئا لك يا عثمان.
وفيها أيضا أن عليا خرج ليبيع إزار فاطمة ليأكل بثمنه، فباعه بستة دراهم، فسأله سائل فأعطاه إياه، فجاء جبريل في صورة أعرابي ومعه ناقة، فقال: يا أبا
الحسن اشتر هذه الناقة، قال: ما معي ثمنها، قال: إلى أجل، فاشتراها بمائة ثم عرض له ميكائيل في صورة رجل في طريقه، فقال: أتبيع هذه الناقة؟ قال نعم، قال: بكم اشتريتها؟ قال: بمائة، قال: آخذها بمائة ولك من الربح ستون، فباعها له، فعرض له جبريل فقال: بعت الناقة؟ قال نعم، قال: ادفع إليّ ديني، فدفع له مائة ورجع بستين، فقالت له فاطمة: من أين لك هذا؟ قال: ضاربت مع الله بستة فأعطاني ستين، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال: البائع جبريل والمشتري ميكائيل، والناقة لفاطمة تركبها يوم القيامة له أصل أم لا؟.
فأجاب عن ذلك كله بأنه لم يصح، أي وهي تصدق بأن ذلك لم يرد فهو من الكذب الموضوع.
ولما أراد صلى الله عليه وسلم أن يعقد خطب خطبة منها «الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، الذي خلق الخلق بقدرته، وميزهم بحكمته، ثم إن الله عز وجل جعل المصاهرة نسبا وصهرا وكان ربك قديرا. ثم إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من عليّ على أربعمائة مثقال فضة، أرضيت يا علي؟ قال رضيت» بعد أن خطب علي كرّم الله وجهه أيضا خطبة منها: الحمد لله شكرا لأنعمه وأياديه، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تبلغه وترضيه: أي وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال «يا عليّ اخطب لنفسك، فقال عليّ الحمد لله الذي لا يموت، وهذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم زوّجني ابنته فاطمة على صداق مبلغه أربعمائة درهم فاسمعوا ما يقول واشهدوا. قالوا: ما تقول يا رسول الله؟ قال:
أشهدكم أني قد زوّجته» كذا رواه ابن عساكر. قال الحافظ ابن كثير: وهذا خبر منكر. وقد ورد في هذا الفصل أحاديث كثيرة منكرة وموضوعة أضربنا عنها.
ولما تمّ العقد دعا صلى الله عليه وسلم بطبق بسر فوضع بين يديه ثم قال للحاضرين انتهبوا.
وقول علي كرم الله وجهه: نبهاني لأمر كنت عنه غافلا لا ينافي ما روي عن أسماء بنت عميس أنها قالت: قيل لعلي: ألا تتزوج بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ما لي صفراء ولا بيضاء ولست بمأبور بالباء الموحدة: يعني غير الصحيح الدين، ولا المتهم في الإسلام: أي لا أخشى الفاحشة إذا لم أتزوج. وليلة بنى بها قال صلى الله عليه وسلم لعلي: لا تحدث شيئا حتى تلقاني، فجاءت بها أم أيمن حتى قعدت في جانب البيت وعليّ في جانب آخر، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لفاطمة ائتيني بماء، فقامت تعثر في ثوبها. وفي لفظ في مرطها من الحياء، فأتته بقعب فيه ماء، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومج فيه، ثم قال لها: تقدمي، فتقدمت، فنضح بين ثدييها وعلى رأسها وقال: اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم. ثم قال: ائتوني بماء، فقال علي كرم الله وجهه: فعلمت الذي يريد، فقمت وملأت القعب فأتيته به، فأخذه فمج فيه وصنع بي كما صنع بفاطمة ودعا لي بما دعا لها به، ثم قال: اللهم بارك فيهما،
وبارك عليهما، وبارك لهما في شملهما: أي الجماع، وتلا: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) والمعوذتين، ثم قال أدخل بأهلك باسم الله والبركة، وكان فراشها إهاب كبش: أي جلده، وكان لهما قطيفة إذا جعلاها بالطول انكشفت ظهورهما وإذا جعلاها بالعرض انكشفت رؤوسهما.
ثم مكث صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام لا يدخل على فاطمة. وفي اليوم الرابع دخل عليهما في غداة باردة وهما في تلك القطيفة، فقال لهما: كما أنتما وجلس عند رأسهما ثم أدخل قدميه وساقيه بينهما، فأخذ علي كرم الله وجهه إحداهما فوضعها على صدره وبطنه ليدفئها وأخذت فاطمة رضي الله عنها الأخرى فوضعتها كذلك.
وقالت له في بعض الأيام: يا رسول الله ما لنا فراش إلا جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه ناضحنا بالنهار، فقال لها صلى الله عليه وسلم يا بنية اصبري، فإن موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام أقام مع امرأته عشر سنين ليس لهم فراش إلا عباءة قطوانية: أي وهي نسبة إلى قطوان: موضع بالكوفة، أي ولعل العباءة التي كانت تجلب من ذلك الموضع كانت صفيقة. وعن علي رضي الله تعالى عنه: لم يكن لي خادم غيرها.
وعنه رضي الله تعالى عنه «لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأني لأربط الحجر على بطني من الجوع، وإن صدقتي اليوم لتبلغ أربعين ألف دينار» ولعل المراد في السنة.
قال الإمام أحمد بن حنبل: ما ورد لأحد من الصحابة ما ورد لعلي رضي الله تعالى عنه أي من ثنائه صلى الله عليه وسلم عليه.
وسبب ذلك أنه كثرت أعداؤه والطاعنون عليه من الخوارج وغيرهم، فاضطر لذلك الصحابة أن يظهر كل منهم من فضله ما حفظه ردا على الخوارج وغيرهم.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما نزل في أحد من الصحابة من كتاب الله ما نزل في عليّ. نزل في عليّ ثلاثمائة آية.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما تكلمت به في التفسير فإنما أخذته عن علي كرم الله وجهه.
ومن كلماته البديعة الوجيزة: لا يخافنّ أحد إلا ذنبه، ولا يرجونّ إلا ربه، ولا يستحي من لا يعلم أن يتعلم، ولا من يعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول الله أعلم.
ما أبردها على الكبد إذا سئلت عما لا أعلم أن أقول الله أعلم.
ومن ذلك: العالم من عمل بما علم ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف علمهم
عملهم، يجلسون حلقا فيباهي بعضهم بعضا، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم من مجالسهم تلك إلى الله.
وقال صلى الله عليه وسلم لعلي «يهلك فيك رجلان: محب مطر، وكذاب مفتر مكره لك يأتي بالكذب المفترى» وقال له «يا علي ستفترق أمتي فيك كما افترقت في عيسى ابن مريم» وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال «إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، فلا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما هي بضعة مني، يريا بني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها» .
,
ويقال قرقرة الكدرة ويقال قراقر. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من بني سليم وغطفان بقرقرة الكدر: أي لعله بلغه أنهم يريدون الإغارة على المدينة بعد أن غزاهم صلى الله عليه وسلم كما تقدم. وقرقرة الكدر: أرض ملساء فيها طيور في ألوانها كدرة عرف بها ذلك الموضع، كما تقدم أن الماء الذي بأرضهم الذي بلغه صلى الله عليه وسلم ولم يجد به أحدا منهم يسمى الكدر، لوجود ذلك الطير به، فسار إليهم في مائتين من أصحابه، وحمل لواءه عليّ بن أبي طالب، واستخلف على المدينة ابن أمّ مكتوم، وتقدم في تلك أنه استخلف على المدينة سباع بن عرفطة أو ابن أمّ مكتوم وتقدم ما فيه، فلما سار إليه أي إلى ذلك الموضع لم يجد به أحدا، وأرسل نفرا من أصحابه إلى أعلى الوادي واستقبلهم في بطن الوادي فوجد خمسمائة بعير مع رعاة، منهم غلام يقال له يسار فحازوها وانحدروا بها إلى المدينة، فلما كانوا بمحل على ثلاثة أميال من المدينة خمسها صلى الله عليه وسلم، فأخرج خمسة وقسم الأربعة الأخماس على أصحابه، فخص كل رجل منهم بعيران، ووقع يسار في سهمه صلى الله عليه وسلم، فأعتقه صلى الله عليه وسلم لأنه رآه يصلي أي وقد أسلم، وتعلم الصلاة من المسلمين بعد أسره، أي وفي كون هذا غنيمة حيث قسمه كذلك وقفة.
وكانت مدة غيبته صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، فعلم أنه صلى الله عليه وسلم غزا بني سليم؛ وأنه وصل إلى ماء من مياههم يقال له الكدر لوجود ذلك الطير به، وأنه استعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري أو ابن أمّ مكتوم. وهنا وقع الجزم بالثاني، وأن الأولى لم يذكر أنه وجد فيها شيئا من النعم.
وظاهر هذا يدل على التعدد، وجرى عليه الأصل، أي وحينئذ تكون تلك الطيور توجد في ذلك الماء وفي تلك الأرض. فعلى هذا يكون صلى الله عليه وسلم غزا بني سليم مرتين: مرة وصل فيه لذلك الماء ولم يجد شيئا من النعم، ومرة وصل فيها لتلك الأرض ووجد بها تلك النعم، ولم أقف على أن محل ذلك الماء سابق على تلك الأرض، أو أن تلك الأرض سابقة على محل ذلك الماء.
وفي السيرة الشامية أن غزوة بني سليم هي غزوة قرقرة الكدر، فعليه يكون إنما غزا بني سليم مرة واحدة، أي وحينئذ يكون الماء الذي كان به ذلك الطير كان في تلك الأرض الملساء أو قريبا منها، فليتأمل. والحافظ الدمياطي جعل غزوة بني سليم هي غزوة بحران الآتية؛ وسنذكرها.