قال ابن إسحق: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة بعثه الله رحمة للعالمين، وكافة للناس أجمعين. وكان الله قد أخذ له الميثاق على كل نبيّ بعثه قبله بالإيمان به، والتصديق له، والنصر على من خالفه، وأن يؤدّوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم: أي فهم وأممهم من حملة أمته صلى الله عليه وسلم كما سيأتي عن السبكي.
فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث على رأس الأربعين» . قال: وهذا هو المشهور بين الجمهور من أهل السير، والعلم بالأثر.
وقيل بزيادة يوم. وقيل بزيادة عشرة أيام، وقيل بزيادة شهرين. وقيل بزيادة سنتين، وهو شاذ، وأكثر منه شذوذا ما قيل إنه بزيادة ثلاث سنين، وما قيل إنه بزيادة خمس سنين. قال بعضهم: والأربعون هي سن الكمال، ونهاية بعث الرسل: أي لا يرسلون دونها، ومن ثم قال في الكشاف: ويروى أنه لم يبعث نبي إلا على رأس أربعين سنة، هذا كلام الكشاف. وأما ما يذكر عن المسيح أنه رفع إلى السماء وهو ابن ثلاث أو أربع وثلاثين سنة: أي ومعلوم أنه دعا إلى الله قبل ذلك، فهو قول شاذ حكاه وهب بن منبه عن النصارى اهـ: أي وعليه جرى غير واحد من المفسرين، بل قال في ينبوع الحياة: لم يبلغني أن أحدا من المفسرين ذكر في مبلغ سنه إذ رفع أكثر من ثلاث وثلاثين سنة هذا كلامه.
وفي الهدى: وأما ما يذكر عن المسيح أنه رفع إلى السماء وله ثلاث وثلاثون سنة، فهذا لا يعرف به أثر متصل يجب المصير إليه، هذا كلامه. ويوافق ما تقدم عن المفسرين وما في «العرائس» : ولما تمت له يعني عيسى عليه الصلاة والسلام ثلاثون سنة أوحى الله تعالى إليه أن يبرز للناس، ويدعوهم، ويضرب الأمثال لهم، ويداوي المرضى والزمنى والعميان والمجانين، ويقمع الشياطين، ويذلهم ويدحرهم، ففعل ما أمر به، وأظهر المعجزات، فأحيا ميتا يقال له عازر بعد ثلاثة أيام من موته.
وعبارة الجلال المحلي في قطعة التفسير: أحيا عيسى عليه الصلاة والسلام أربعة. عازر صديقا له، وابن العجوز، وابنة العاشر، وسام بن نوح، هذا كلامه.
وذكر البغوي قصة كل واحد فراجعه. وكان عيسى عليه الصلاة والسلام يمشي على الماء، ومكث في الرسالة ثلاث سنوات ثم رفع، ويوافق ذلك أيضا قول ابن الجوزي: وأما حديث: وما من نبي إلا نبىء بعد الأربعين فموضوع، لأن عيسى عليه
الصلاة والسلام نبىء ورفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، بل قيل نبىء وهو طفل، فاشتراط الأربعين في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس بشيء، هذا كلامه: أي وفيه أن هذا بمجرده لا يدل على وضع الحديث، ويوافقه أيضا قول القاضي البيضاوي: ونبىء نوح وهو ابن خمسين سنة، وقيل أربعين، ويوافقه أيضا قول بعضهم: ومما يدل على أن بلوغ الأربعين ليس شرطا للنبوة، وقصة سيدنا يحيى صلوات الله وسلامه عليه بناء على أن الحكم في قوله تعالى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم: الآية 12] النبوة، لا الحكمة وفهم التوراة كما قيل بذلك، بل أحكم إليه عقله في صباه واستنبأه، قيل كان ابن سنتين أو ثلاث.
ولما ولي الخلافة المقتدر وهو غير بالغ صنف الإمام الصولي له كتابا فيمن ولي الأمر وهو غير بالغ، واستدل على جواز ذلك بأن الله بعث يحيى بن زكريا نبيا وهو غير بالغ، وذكر فيه كل من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم من الصبيان. قال بعضهم: وهو كتاب حسن، فيه فوائد كثيرة.
وكان ذبح يحيى قبل رفع عيسى عليهما الصلاة والسلام بسنة ونصف سنة.
ومما يدل على ما تقدم عن الهدى: أي من إنكار أن عيسى عليه الصلاة والسلام رفع وله ثلاث وثلاثون سنة قول بعضهم: الأحاديث الصحيحة تدل على أنه إنما رفع وهو ابن مائة وعشرين سنة. من تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم في مرض موته لابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها «أخبرني جبريل أنه لم يكن نبي إلا عاش نصف عمر الذي كان قبله، وأخبرني أن عيسى ابن مريم عاش عشرين ومائة سنة، ولا أراني إلا ذاهبا على رأس الستين» وفي الجامع الصغير «ما بعث الله نبيا إلا عاش نصف ما عاش الذي قبله» وعلى كون كل نبي عاش نصف ما عاش النبي الذي قبله يشكل أن نوحا كان أطول الأنبياء عمرا، ومن ثم قيل له كبير الأنبياء، وشيخ المرسلين. وهو أول من تنشق عنه الأرض بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم رأيت أن الحافظ الهيتمي ضعف حديث: ما بعث الله نبيا إلا عاش نصف ما عاش النبي الذي قبله.
وقال العماد بن كثير: إنه غريب جدا. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك قام من الليل يصلي، فاجتمع رجال من أصحابه يحرسونه:
أي ينتظرون فراغه من الصلاة، لأن نزول وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: الآية 67] كان قبل هذا، حتى إذا صلى وانصرف إليهم قال لهم: لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد قبلي» زاد في رواية «لا أقولهن فخرا. أما أولاهنّ فأرسلت إلى الناس كلهم عامة» أي من في زمنه وغيرهم ممن تقدم أو تأخر: أي وللشجر والحجر إلى آخر ما يأتي «وكان من قبلي» وفي لفظ «وكان كل نبي إنما يرسل إلى قومه» أي جميع أهل زمنه أو جماعة منهم خاصة. ومن الأول نوح، فإنه كان مرسلا لجميع من كان في زمنه من أهل الأرض، ولما
أخبر بأنه لا يؤمن منهم إلا من آمن معه وهم أهل السفينة وكانوا ثمانين: أربعين رجلا، وأربعين امرأة.
وفي عوارف المعارف: أصحاب السفينة، كانوا أربعمائة. وقد يقال من الآدميين وغيرهم فلا مخالفة، دعا على من عدا من ذكر باستئصال العذاب لهم، فكان الطوفان الذي كان به هلاك جميع أهل الأرض إلا من آمن، ولو لم يكن مرسلا إليهم ما دعا عليهم بسبب مخالفتهم له في عبادة الأصنام، لقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ [الإسراء: الآية 15] أي حتى في الدنيا حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: الآية 15] .
وقد ثبت أن نوحا أول الرسل: أي لمن يعبد الأصنام، لأن عبادة الأصنام أول ما حدثت في قومه وأرسله الله إليهم ينهاهم عن ذلك، وحينئذ لا يخالف كون أول الرسل آدم أرسله الله تعالى إلى أولاده بالإيمان بالله تعالى وتعليم شرائعه. وذكر بعضهم أنه كان مرسلا لزوجته حواء في الجنة، لأن الله تعالى أمره أن يأمرها وينهاها في ضمن أخباره بأمره ونهيه، بقوله تعالى: يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ [البقرة: الآية 35] وذلك عين الإرسال كما ادعاه بعضهم.
فعلم أن عموم رسالة نوح عليه الصلاة والسلام لجميع أهل الأرض في زمنه لا يساوي عموم رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم، لما علمت أن رسالته عامة حتى لمن يوجد بعد زمنه، وحينئذ يسقط السؤال وهو لم يبق بعد الطوفان إلا مؤمن، فصارت رسالة نوح عليه الصلاة والسلام عامة. ويسقط جواب الحافظ ابن حجر عنه بأن هذا العموم الذي حصل بعد الطوفان لم يكن من أصل بعثته بل طرأ بعد الطوفان، بخلاف رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قيل كان بين الدعوة والطوفان مائة عام، وقد حققنا فيما سبق أن آدم ومن بعده دعا إلى الإيمان بالله تعالى وعدم الإشراك به، إلا أن الإشراك به وعبادة الأصنام اتفق أنه لم يقع إلا زمن نوح ومن بعده.
وأما قول اليهود أو بعضهم وهم العيسوية طائفة من اليهود أتباع عيسى الأصفهاني: إنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث للعرب خاصة دون بني إسرائيل، وإنه صادق ففاسد، لأنهم إذا سلموا أنه رسول الله، وأنه صادق لا يكذب لزمهم التناقض، لأنه ثبت بالتواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه رسول الله لكل الناس.
أقول: قال بعضهم: ولا ينافيه قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: الآية 4] لأنه لا يدل على اقتصار رسالته عليهم، بل على كونه متكلما بلغتهم ليفهموا عنه أولا، ثم يبلغ الشاهد الغائب، ويحصل الإفهام لغير أهل تلك اللغة من الأعاجم بالتراجم الذين أرسل إليهم، فهو صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الكافة وإن كان هو وكتابه عربيين كما كان موسى وعيسى عليها الصلاة والسلام مبعوثين لبني إسرائيل بكتابيهما
العبراني: أي وهو التوراة، والسرياني وهو الإنجيل، مع أن من جملتهم جماعة لا يفهمون بالعبرانية ولا بالسريانية كالأروام، فإن لغتهم اليونانية والله أعلم.
وأشار إلى الثانية من الخمس بقوله: «ونصرت بالرعب على العدو ولو كان بيني وبينه مسيرة شهر» أي أمامه وخلفه «يملأ مني رعبا» أي يقذف الرعب في قلوب أعدائه صلى الله عليه وسلم، وجعل الغاية شهرا لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه: أي المحاربين له أكثر من شهر.
أي وجاء أن سيدنا سليمان عليه الصلاة والسلام ذهب هو وجنده من الإنس والجن وغيرهما إلى الحرم. وكان يذبح كل يوم خمسة آلاف ناقة، وخمسة آلاف ثور، وعشرين ألف شاة لأن مساحة جنده كانت مائة فرسخ، قال لمن حضر من أشراف جنده: هذا مكان يخرج منه نبي عربي يعطى النصر على جميع من ناوأه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء، لا تأخذه في الله لومة لائم. ثم قالوا: فبأي دين يا نبي الله يدين؟ قال: بدين الحنيفية، فطوبى لمن آمن به، قالوا: كم بين خروجه وزماننا، قال مقدار ألف عام.
وأشار إلى الثالثة بقوله: «وأحلت لي الغنائم كلها، وكان من قبلي» أي من أمر بالجهاد منهم «يعطونها ويحرمونها» أي لأنهم كانوا يجمعونها: أي والمراد ما عدا الحيوانات من الأمتعة والأطعمة والأموال، فإن الحيوانات تكون ملكا للغانمين دون الأنبياء. ولا يجوز للأنبياء أخذ شيء من ذلك بسبب الغنيمة كذا في الوفاء. وجاء في بعض الروايات «وأطعمت أمتك الفيء ولم أحله لأمة قبلها» أي والمراد بالفيء ما يعم الغنيمة، كما أنه قد يراد بالغنيمة ما يعم الفيء. هذا وفي بعض الروايات «وكانت الأنبياء يعزلون الخمس فتجيء النار، أي نار بيضاء من السماء فتأكله» أي حيث لا غلول «وأمرت أن أقسمه في فقراء أمتي» وفي تكملة تفسير الجلال السيوطي لتفسير الجلال المحلي أن ذلك لم يعهد في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام، ولعله لم يكن ممن أمر بالجهاد، فلا يخالف ما سبق.
وأشار إلى الرابعة بقوله: «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت» أي تيممت حيث لا ماء «وصليت» فلا يختص السجود منها بموضع دون غيره «وكان من قبلي لا يعطون ذلك» أي الصلاة في أي محل أدركتهم فيه، إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم: أي ولم يكن أحد منهم يتيمم، لأن التيمم من خصائصنا. وفي رواية جابر «ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه» .
وجاء في تفسير قوله تعالى: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: الآية 155] الآيات.
من المأثور أن الله تعالى قال لموسى: «أجعل لكم الأرض مسجدا؟ فقال لهم موسى: إن الله قد جعل لكم الأرض مسجدا، قالوا: لا نريد أن نصلي إلا في كنائسنا، فعند ذلك قال
الله تعالى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ [الأعراف: الآية 156] إلى قوله الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: الآية 157] أي وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وفيه أنه قيل إن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يسيح في الأرض يصلي حيث أدركته الصلاة. ويحتاج إلى الجمع بين هذا وبين ما تقدم من قوله: لم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه، إلا أن يقال لا يصلي مع أمته إلا في محرابه.
وأما عيسى عليه الصلاة والسلام فخص بأنه كان يصلي حيث أدركته الصلاة وسيأتي في الخصائص الكلام على ذلك.
وأشار إلى الخامسة بقوله: «قيل لي سل فإن كل نبي قد سأل، فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله، وهي لإخراج من في قلبه ذرة من الإيمان ليس له عمل صالح إلا التوحيد» أي إخراج من ذكر من النار لأن شفاعة غيره صلى الله عليه وسلم تقع فيمن في قلبه أكثر من ذلك قاله القاضي عياض.
أي وقد جاء في بيان من يشفع بإذن الله له في الشفاعة، فلا يبقى نبي ولا شهيد إلا شفع وفي رواية «ثم تشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون والمؤمنون، فيشفعهم الله عز وجل» وقد جاء «إن أول شافع جبريل ثم إبراهيم، ثم موسى ثم يقوم نبيكم رابعا لا يقوم بعده أحد فيما يشفع فيه» .
وفي الحديث «آتي تحت العرش فأخر ساجدا فيقال يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه واشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأقول يا رب أمتي يا رب أمتي، فيقال انطلق، فمن كان في قلبه مثقال حبة من بر أو شعير من إيمان» وفي لفظ «حبة من خردل» وفي لفظ «أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل فأخرجه» أي من النار «فانطلق فأفعل» أي أخرجه من النار «وأدخله الجنة» .
وله صلى الله عليه وسلم شفاعة قبل هذه في إدخال أهل الجنة الجنة بعد مجاوزة الصراط، ففي الحديث «فإذا دخلت الجنة فنظرت إلى ربي خررت ساجدا، فيأذن الله لي في حمده وتمجيده، ثم يقول: ارفع رأسك يا محمد واشفع تشفع واسأل تعطه، فأقول: يا رب شفعني في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، فيأذن الله تعالى في الشفاعة إلى آخر ما تقدم.
ومن هذا يعلم أن الشفاعة في الإخراج من النار، إنما تكون منه صلى الله عليه وسلم وهو في الجنة، فما تقدم من قوله: «آتي تحت العرش فأخر ساجدا» إلى آخره، إنما ذلك في الشفاعة في فصل القضاء، فهذا خلط من بعض الرواة: أي خلط الشفاعة في الموقف التي هي الشفاعة في فصل القضاء بالشفاعة، بعد مجاوزة الصراط في دخول أهل الجنة الجنة وبالشفاعة بعد دخول الجنة في إخراج أهل التوحيد من النار، والشفاعة في فصل القضاء هي المشار إليها في قوله صلى الله عليه وسلم: «وأعطيت الشفاعة» فقد قال ابن دقيق
العيد: الأقرب أن اللام فيها للعهد، والمراد الشفاعة العظمى في إراحة الناس من هول الموقف: أي وهذا هو المقام المحمود الذي يحمده ويغبطه فيه الأولون والآخرون، المعني بقوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: الآية 79] .
وعن حذيفة رضي الله تعالى عنه «تجمع الناس في صعيد واحد، فأول مدعو محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: لبيك وسعديك، والشر ليس إليك، والمهدي من هديت، وعبدك بين يديك، ولك وإليك لا ملجأ ولا منجي منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت» .
وقد هاجت فتنة كبيرة ببغداد بسبب هذه الآية، أعني عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) [الإسراء: الآية 79] فقالت الحنابلة: معناه يجلسه الله تعالى على عرشه. وقال غيرهم: بل هي الشفاعة العظمى في فصل القضاء، فدام الخصام إلى أن اقتتلوا فقتل كثيرون.
وهذه الشفاعة إحدى الشفاعات الثلاث المعنية بقوله صلى الله عليه وسلم: «لي عند ربي ثلاث شفاعات وعدنيهن» .
وفي كلام بعضهم: له صلى الله عليه وسلم تسع شفاعات أخر غير فصل القضاء، جرى في اختصاصه ببعضها خلاف، وهي: الشفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب ولا عقاب. قال النووي وجماعة: هي مختصة به صلى الله عليه وسلم، والشفاعة في أناس استحقوا دخول النار فلا يدخلونها. قال القاضي عياض وغيره: ويشترك فيها من يشاء الله تعالى. والشفاعة في إخراج من أدخل النار من الموحدين وفي قلبه مثقال ذرة من إيمان وهي مختصة به صلى الله عليه وسلم. والشفاعة في إخراج من أدخل منهم النار وفي قلبه أزيد من ذرة من إيمان، ويشاركه فيها الأنبياء والملائكة والمؤمنون. وظاهر هذا السياق أن المراد بمن في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلى آخره عام في أمته وغيرهم من الأمم.
وهو يخالف قول بعضهم: جاء في الصحيح «فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله. أي ومات على ذلك- قال: ليس ذلك لك ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله» .
ولا يشكل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «أتاني آت من عند ربي، فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي» وفي رواية «ثلثي أمتي الجنة» أي بلا حساب ولا عذاب «وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئا، فاخترت الشفاعة وعلمت أنها أوسع لهم» .
لأنا نقول: المراد بالذين تناله شفاعته صلى الله عليه وسلم ممن مات لا يشرك بالله شيئا
خصوص أمته: وأما من قيل له فيه ليس ذلك لك فهم الموحدون من الأمم السابقة فليتأمل مع ما سبق من شفاعة الأنبياء والملائكة والمؤمنين. والشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها. وجوّز النووي اختصاصها به صلى الله عليه وسلم. والشفاعة في تخفيف العذاب عن بعض الكفار كأبي طالب وأبي لهب في كل يوم اثنين بالنسبة لأبي لهب، والشفاعة لمن مات بالمدينة الشريفة، ولعل المراد أنه لا يحاسب.
وقد أوصل ابن القيم شفاعاته صلى الله عليه وسلم إلى أكثر من عشرين شفاعة. وفي رواية «أعطيت ما لم يعطه أحد من الأنبياء: نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض» أي وفي لفظ «وبينا أنا نائم رأيتني أوتيت مفاتيح خزائن الأرض، فوضعت بين يديّ» ولا منافاة، لأنه يجوز أنه أعطى ذلك يقظة بعد أن أعطيه مناما «وسميت أحمد» أي ومحمدا أي لأن أحدا من الأنبياء لم يسمّ بذلك، فهو من خصائصه صلى الله عليه وسلم بالنسبة للأنبياء، كذا في الخصائص الصغرى، وتقدم أن التسمية بأحمد من خصائصه صلى الله عليه وسلم على جميع الناس: وفي وصفه صلى الله عليه وسلم نفسه بما ذكر، وقول عيسى عليه الصلاة والسلام إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم: الآية 30] الآية، وقول سليمان عليه الصلاة والسلام عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النّمل: الآية 16] الآية هو الأصل في ذكر العلماء مناقبهم في كتبهم، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) [الضّحى: الآية 11] ومن قوله صلى الله عليه وسلم: «التحدث بنعمة الله شكر، وتركه كفر» قال الله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: الآية 7] .
صعد سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه المنبر فقال: الحمد لله الذي صيرني ليس فوقي أحد ثم نزل، فقيل له في ذلك؟ فقال: إنما فعلت ذلك إظهارا للشكر.
وعن سفيان الثوري رحمه الله: من لم يتحدث بنعمة الله فقد عرّضها للزوال.
والحق في ذلك التفصيل، وهو أن من خاف من التحدث بالنعمة وإظهارها الرياء، فعدم التحدث بها وعدم إظهارها أولى، ومن لم يخف ذلك فالتحدث بها وإظهارها أولى أي وفي الشفاء أنه أحمد المحمودين، وأحمد الحامدين، ويوم القيامة يحمده الأولون والآخرون لشفاعته لهم، فحقيق أن يسمى محمدا وأحمد، وتقدم أن هذا يوافق ما تقدم عن الهدى أن أحمد مأخوذ من الفعل الواقع على المفعول.
وقد جاء «أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي، وجعلت أمتي خير الأمم» .
قال القاضي البيضاوي، وفي التسمية بالأسماء العربية تنويه إلى تعظيم المسمى، هذا كلامه. وفي رواية «لما أسري بي إلى السماء قرّبني ربي حتى كان بيني وبينه كقاب قوسين أو أدنى، قيل لي: قد جعلت أمتك آخر الأمم لأفضح الأمم
عندهم» أي بوقوفهم على أخبارهم «ولا أفضحهم عند الأمم» أي لتأخرها عنهم، وعليه فالضمير في (دنا) يعود إليه صلى الله عليه وسلم. وذكر بعضهم أن دَنا فَتَدَلَّى [النجم: الآية 8] الآية، عبارة عن تقريبه تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم، فالضمير في دنا إلى آخره يعود إلى الله تعالى وهو معنى لطيف. وفي رواية «نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضيّ لهم قبل الخلائق» وفي رواية «نحن آخر الأمم، وأول من يحاسب، تنفرج لنا الأمم عن طريقنا فنمضي غرّ محجلين من أثر الطهور» وفي رواية «من آثار الوضوء، فتقول الأمم: كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها» هذا، وفي رواية «غرا من أثر السجود محجلين من أثر الوضوء» وفي رواية «فضلت على الأنبياء بست» أي ولا مخالفة بين ذكر الخمس أولا وبين ذكر الست هنا، لأنه يجوز أن يكون اطلع أولا على بعض ما اختص به ثم اطلع على الباقي، هذا على اعتبار مفهوم العدد، ثم أشار إلى بيان الست بقوله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة» والخلق يشمل الإنس والجن والملك والحيوانات والنبات والحجر.
قال الجلال السيوطي: وهذا القول، أي إرساله للملائكة. رجحته في كتاب الخصائص وقد رجحه قبلي الشيخ تقي الدين السبكي، وزاد أنه مرسل لجميع الأنبياء والأمم السابقة من لدن آدم إلى قيام الساعة. ورجحه أيضا البارزي، وزاد أنه مرسل إلى جميع الحيوانات والجمادات، وأزيد على ذلك أنه أرسل إلى نفسه.
وذهب جمع إلى أنه لم يرسل للملائكة منهم ما الحافظ العراقي في نكته على ابن الصلاح والجلال المحلي في شرح جمع الجوامع، ومشيت عليه في شرح التقريب. وحكى الفخر الرازي في تفسيره والبرهان النسفي في تفسيره فيه الإجماع هذا كلامه، وبهذا الثاني أفتى والد شيخنا الرملي، وعليه فيكون قوله صلى الله عليه وسلم: «أرسلت للخلق كافة» وقوله تعالى: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: الآية 1] من العام المخصوص أو الذي أريد به الخصوص.
ولا يشكل عليه حديث سلمان «إذا كان الرجل في أرض وأقام الصلاة صلى خلفه من الملائكة ما لا يرى طرفاه، يركعون بركوعه، ويسجدون بسجوده» لأنه يجوز أن لا يكون ذلك صادرا عن بعثته إليهم.
ولا يشكل ما ورد «بعثت إلى الأحمر والأسود» لما تقدم أن المراد بذلك العرب والعجم. وفي الشفاء: وقيل الحمر الإنس، والسود الجانّ، واستدل للقول الأول القائل بأنه أرسل للملائكة بقوله تعالى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ [الأنبياء: الآية 29] أي من الملائكة إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الأنبياء: الآية 29] فهي إنذار للملائكة على لسانه صلى الله عليه وسلم في القرآن العظيم الذي أنزل عليه، فثبت بذلك إرساله إليهم
ودعوى الإجماع منازع فيها، فهي دعوى غير مسموعة، ثم رأيت الجلال السيوطي ذكر هذا الاستدلال وهو واضح، وذكر تسعة أدلة أيضا، وهي لا تثبت المدعي الذي هو أن الملائكة يكلفون بشرعه صلى الله عليه وسلم، كما لا يخفى على من رزق نوع فهم بالوقوف عليها.
فعلم أنه صلى الله عليه وسلم مرسل لجميع الأنبياء وأممهم على تقدير وجوده في زمنهم، لأن الله تعالى أخذ عليهم وعلى أممهم الميثاق على الإيمان به ونصرته مع بقائهم على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم، فنبوته ورسالته أعم وأشمل، وتكون شريعته في تلك الأوقات بالنسبة إلى أولئك الأمم ما جاءت به أنبياؤهم، لأن الأحكام والشرائع تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات قاله السبكي: أي فجميع الأنبياء وأممهم من جملة أمته صلى الله عليه وسلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: «والذي نفسي بيده لو أن موسى عليه الصلاة والسلام كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني» .
وأخرج أحمد وغيره عن عبد الله بن ثابت، قال: «جاء عمر رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني مررت بأخ لي من قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، فسرّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:
والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه لضللتم، «إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين» .
وفي النهر لأبي حيان «إن عبد الله بن سلام استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم على السبت، وأن يقرأ من التوراة في صلاته من الليل فلم يأذن له» وكون جميع الأنبياء وأممهم من أمته صلى الله عليه وسلم، فالمراد أمة الدعوة لا أمة الإجابة لأنها مخصوصة بمن آمن به بعد البعثة على ما تقدم ويأتي. وبعثته صلى الله عليه وسلم رحمة حتى للكفار بتأخير العذاب عنهم، ولم يعاجلوا بالعقوبة كسائر الأمم المكذبة، وحتى للملائكة، قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) [الأنبياء: الآية 107] .
وقد ذكر في الشفاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: «هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟ قال: نعم، كنت أخشى العاقبة، فآمنت لثناء الله تعالى عليّ في القرآن بقوله عز وجل: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) [التكوير: الآية 20] » .
قال الجلال السيوطي: إن هذا الحديث لم نقف له على إسناد، فهو صلى الله عليه وسلم أفضل من سائر المرسلين وجميع الملائكة المقربين، وفي لفظ آخر «فضلت على الأنبياء بست لم يعطهن أحد كان قبلي: غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وأحلت لي الغنائم، وجعلت أمتي خير الأمم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأعطيت الكوثر، ونصرت بالرعب، والذي نفسي بيده إن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه» وفي رواية «فما من أحد إلا وهو تحت لوائي يوم القيامة
ينتظر الفرج، وإن معي لواء الحمد، أنا أمشي ويمشي الناس معي حتى آتي باب الجنة» الحديث.
أقول: قد سئلت عما حكاه الجلال السيوطي أنه ورد إلى مصر نصراني من الفرنج وقال لي: شبهة إن أزلتموها أسلمت، فعقد له مجلس بدار الحديث الكاملية، ورأس العلماء إذ ذاك الشيخ عز الدين بن عبد السلام، فقال له النصراني والناس يسمعون: أي أفضل عندكم المتفق عليه، أو المختلف فيه؟ فقال له الشيخ عز الدين:
المتفق عليه، فقال له النصراني: قد اتفقنا نحن وأنتم على نبوة عيسى واختلفنا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيلزم أن يكون عيسى أفضل من محمد، فأطرق الشيخ عز الدين ساكتا من أول النهار إلى الظهر حتى ارتج المجلس واضطرب أهله، ثم رفع الشيخ رأسه وقال عيسى قال لبني إسرائيل وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصّف: الآية 6] فيلزمك أن تتبعه فيما قال، وتؤمن بأحمد الذي بشر به فأقام الحجة على النصراني وأسلم بأنه كيف أقام الحجة على كون محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من عيسى إذ غاية ما ذكر أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأجبت بأنه حيث ثبت أن محمدا رسول الله وجب الإيمان به وبما جاء به ومما جاء به، وأخبر به أنه أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وقد سئل أبو الحسن الحمال بالحاء المهملة من فقهائنا معاشر الشافعية: محمد وموسى أيهما أفضل؟ فقال محمد، فقيل له: ما الدليل على ذلك؟ فقال: إنه تعالى أدخل بينه وبين موسى لام الملك فقال تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه: الآية 41] وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: الآية 10] ففرق بين من أقام بوصفه وبين من أقامه مقام نفسه والله أعلم.
وفي رواية «إذا كان يوم القيامة كان لي لواء الحمد وكنت إمام المرسلين وصاحب شفاعتهم» وفي لفظ «ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر، وأنا أول شافع، وأنا أول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة: أي حلق بابها، فيفتح الله لي فأدخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر» أي وفي رواية «آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، أي بتحريك حلقة الباب أو قرعه بها لا بصوت، فيقول الخازن أي وهو رضوان: من أنت؟ فأقول محمد» وفي رواية «أنا محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح» وفي رواية «أن لا أفتح لأحد قبلك» زاد في رواية «ولا أقوم لأحد بعدك لأفتح له» فمن خصائصه صلى الله عليه وسلم أن رضوان لا يفتح إلا له، ولا يفتح لغيره من الأنبياء وغيرهم، وإنما يتولى ذلك غيره من الخزنة، وهي خصوصية عظيمة نبه عليها القطب الخضري، وكون الفاتح له صلى الله عليه وسلم الخازن لا ينافي ما قبله من كون الفاتح له الحق سبحانه وتعالى لما علم أن الخازن إنما فتح بأمر الله فهو الفاتح الحقيقي.
وفي رواية «أنا أول من يفتح له باب الجنة ولا فخر فآتي فآخذ بحلقة الجنة، فيقال من هذا؟ فأقول محمد، فيفتح لي، فيستقبلني الجبار جل جلاله فأخر له ساجدا» أي فالكلام في يوم القيامة، فلا يرد إدريس بناء على أن دخوله الجنة مترتب على فتح الباب غالبا، لأن ذلك قبل يوم القيامة، وفي يوم القيامة يخرج إلى الموقف، فيكون مع أمته للحساب. ولا ينافيه ما جاء «أول من يقرع باب الجنة بلال ابن حمامة» على تقدير صحته، لأنه يجوز أن يكون يقرع الباب الأصليّ لا حلقه، أو الأول من الأمة والله أعلم.
وفي الأوسط للطبراني بإسناد حسن «حرمت الجنة على الأنبياء حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي» وسيأتي أن هذا من جملة ما أوحي إليه ليلة المعراج، الذي أشار إليه قوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10)
[النّجم: الآية 10] ولعل هذا هو المراد مما جاء في المرفوع عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «حرمت الجنة على جميع الأمم حتى أدخلها أنا وأمتي» وأن ظاهرها من أنه لا يدخلها أحد من الأنبياء إلا بعد دخول هذه الأمة ليس مرادا.
وفي هاتين الروايتين منقبة عظيمة لهذه الأمة المحمدية، وهي أنه لا يدخل أحد الجنة من الأمم السابقة ولو من صلحائها وعلمائها وزهادها حتى يدخل من كان يعذب في النار من عصاة هذه الأمة بناء على أنه لا بد من تعذيب طائفة من هذه الأمة في النار. ولا بعد في ذلك، لأنه تقدم أن أول من يحاسب من الأمم، هذه الأمة. فيجوز أن الأمم لا يفرغ حسابهم، ولا يأتون إلى باب الجنة إلا وقد خرج من كان يعذب من هذه الأمة في النار ودخل الجنة.
وجاء «إنه يدخلها قبله من أمته سبعون ألفا مع كل واحد سبعون ألفا لا حساب عليهم» وذلك معارض لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من يدخل الجنة» إلا أن يقال: أول من يدخل الجنة من الباب، وهؤلاء السبعون ألفا ورد أنهم يدخلون من أعلى حائط الجنة فلا معارضة.
ولا يعارض ذلك ما جاء «أول من يدخل الجنة أبو بكر» لأن المراد أول من يدخلها من رجال هذه الأمة غير الموالي.
ولا يعارض ذلك ما تقدم عن بلال رضي الله تعالى عنه «أنه أول من يقرع باب الجنة» لأنه لا يلزم من القرع الدخول وعلى تسليم أن القرع كناية عن الدخول، فالمراد من الموالي.
ولا يعارض ذلك أيضا ما جاء «أول من يدخل الجنة بنتي فاطمة» كما لا يخفى، لأن المراد أول من يدخلها من نساء هذه الأمة فالأولية إضافية.
وجاء «لأشفعنّ يوم القيامة لأكثر مما في الأرض من حجر وشجر» وعن أنس رضي الله تعالى عنه «فضلت على الناس بأربع: بالسخاء، والشجاعة، وقوة البطش، وكثرة الجماع» أي فعن سلمى مولاته صلى الله عليه وسلم أنها قالت «طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على نسائه التسع ليلته وتطهر من كل واحدة قبل أن يأتي الأخرى وقال: هذا أطهر وأطيب» .
ومما يدل على قوة بطشه صلى الله عليه وسلم ما وقع له مع ركانة كما سيأتي. وفي الخصائص الصغرى: وكان أفرس العالمين، فهو صلى الله عليه وسلم أجود بني آدم على الإطلاق، كما أنه أفضلهم وأشجعهم وأعلمهم وأكملهم في جميع الأخلاق الجميلة والأوصاف الحميدة.
قال ابن عبد السلام: من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أخبره بالمغفرة: أي لما تقدم وتأخر، ولم ينقل أنه أخبر أحدا من الأنبياء بمثل ذلك: أي ولأنه لو وقع لنقل لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله، بل ومما اختص به صلى الله عليه وسلم وقوع غفران نفس الذنب المتقدم والمتأخر، كما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم في بيان ما اختص به عن الأنبياء «وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر» أي ولا ينافي ذلك قوله تعالى في حق داود فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ [ص: الآية 25] لأنه غفران لذنب واحد. قال ابن عبد السلام: بل الظاهر أنه لم يخبرهم أي بغفران ذنوبهم، بدليل قولهم في الموقف «نفسي نفسي، لأني» إلى آخره.
وعن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع بي من يهودي أو نصراني ثم لم يسلم دخل النار» أي لأنه يجب عليه أن يؤمن به.
أقول: والذي في مسلم «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» أي من سمع بنبينا صلى الله عليه وسلم ممن هو موجود في زمنه وبعده إلى يوم القيامة ثم مات غير مؤمن بما أرسل به كان من أصحاب النار. أي ومن جملة ما أرسل به أنه أرسل إلى الخلق كافة لا لخصوص العرب تأمل، وإنما خص اليهود والنصارى بالذكر تنبيها على غيرهما لأنه إذا كان حالهما ذلك مع أن لهم كتابا فغيرهم مما لا كتاب له كالمجوسي أولى، لأن اليهود كتابهم التوراة، والنصارى كتابهم الإنجيل لأن شريعة التوراة التي هي شريعة موسى يقال لها اليهودية أخذا من قول موسى عليه الصلاة والسلام إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الأعراف: الآية 156] أي رجعنا إليك، فمن كان على دين موسى يسمى يهوديا، وشريعة الإنجيل يقال لها النصرانية، أخذا من قول عيسى عليه الصلاة والسلام مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران: الآية 52] فمن كان على دين عيسى يسمى نصرانيا، وكان القياس أن يقال له أنصاري. وقيل النصراني نسبة إلى ناصرة قرية من قرى الشام نزل بها عيسى عليه السلام كما تقدم، ولا مانع من رعاية الأمرين في ذلك.
وجاء في رواية «وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة» أي والأمم السابقة كانوا يصلون متفرقين كل واحد على حدته، وإن أمته صلى الله عليه وسلم حط عنها الخطأ والنسيان وحمل ما لا تطيقه،
الذي أشارت إليه خواتيم سورة البقرة، وإن شيطانه صلى الله عليه وسلم أسلم وفي الخصائص الصغرى «وأسلم قرينه» ومجموع تلك الخصال سبع عشرة خصلة. قال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع.
وذكر أبو سعيد النيسابوري في كتابه «شرف المصطفى» أنه عد الذي اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء فإذا هو ستون خصلة: أي ومن ذلك أي مما اختص به صلى الله عليه وسلم في أمته أن وصف الإسلام خاص بها لم يوصف به أحد من الأمم السابقة سوى الأنبياء فقط فقد شرفت هذه الأمة المحمدية بأن وصفت بالوصف الذي كان يوصف به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهو الإسلام على القول الراجح نقلا ودليلا لما قام عليه من الأدلة الساطعة قاله الجلال السيوطي رحمه الله.