بضم النون وقيل بكسرها أي وقيل بفتحها، فهي مثلثة النون، والضم أشهر:
قوم من اليهود وكانوا أشجع يهود، وكانوا صاغة، وكانوا حلفاء عبادة بن الصامت رضي الله عنه وعبد الله بن أبيّ ابن سلول. فلما كانت وقعة بدر أظهروا البغي والحسد، ونبذوا العهد أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان عاهدهم وعاهد بني قريظة وبني النضير أن لا يحاربوه، وأن لا يظاهروا عليه عدوه.
وقيل على أن لا يكونوا معه ولا عليه. وقيل على أن ينصروه صلى الله عليه وسلم على من دهمه من عدوه أي كما تقدم، فهم أول من غدر من يهود؟ فإنه مع ما هم عليه من العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت امرأة من العرب بجلب لها: أي وهو ما يجلب ليباع من إبل وغنم وغيرهما فباعته بسوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ منهم. أي وفي الإمتاع أن المرأة كانت زوجة لبعض الأنصار، أي ومعلوم أن الأنصار كانوا بالمدينة، أي وقد يقال: لا مخالفة، لجواز أن تكون زوجة بعض الأنصار من الأعراب وأنها جاءت بجلب لها، فجعلوا أي جماعة منهم يراودونها عن كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها. قال وفي رواية: خله بشوكة وهي لا تشعر، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون أي وتقدم وقوع مثل ذلك، وأنه كان سببا لوقوع حرب الفجار الأول.
ولما غضب المسلمون على بني قينقاع أي وقال لهم صلى الله عليه وسلم «ما على هذا أقررناهم» تبرأ عبادة بن الصامت رضي الله عنه من حلفهم، أي قال: يا رسول الله أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وتشبث به عبد الله بن أبي ابن سلول أي لم يتبرأ من حلفهم كما تبرأ منه عبادة بن الصامت، أي وفيه نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [المائدة: الآية 51] إلى
قوله فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ [المائدة: الآية 56] فجمعهم صلى الله عليه وسلم وقال لهم «يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما أنزل بقريش من النقمة» أي ببدر «وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله تعالى إليكم، قالوا: يا محمد إنك ترى أنا قومك أي تظننا أنا مثل قومك، ولا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت لهم فرصة، إنا والله لو حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس» وفي لفظ «لتعلمن أنك لم تقاتل مثلنا» أي لأنهم كانوا أشجع اليهود وأكثرهم أموالا وأشدهم بغيا، فأنزل الله تعالى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمران: الآية 12] الآية، أي وأنزل الله وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال: الآية 58] الآية فتحصنوا في حصونهم، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولواؤه وكان أبيض بيد عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه.
قال ابن سعد: ولم تكن الرايات يومئذ.
وقد قدّمنا أن هذا يرده ما تقدم في ضمن غزاة بدر من أنه كان أمامه رايتان سوداوتان إحداهما مع علي ويقال لها العقاب، ولعلها سميت بذلك في مقابلة الراية التي كانت في الجاهلية تسمى بهذا الاسم، ويقال لها راية الرؤساء، لأنه كان لا يحملها في الحرب إلا رئيس، وكانت في زمنه صلى الله عليه وسلم مختصة بأبي سفيان رضي الله عنه، لا يحملها في الحرب إلا هو أو رئيس مثله إذا غاب كما في يوم بدر.
والأخرى مع بعض الأنصار، وسيأتي في خيبر أن العقاب كان قطعة من برد لعائشة رضي الله عنها.
واستخلف صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا لبابة، وحاصرهم خمس عشرة ليلة أشد الحصار، لأن خروجه صلى الله عليه وسلم كان في نصف شوّال، واستمر إلى هلال ذي القعدة الحرام، فقذف الله في قلوبهم الرعب وكانوا أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلي سبيلهم، وأن يجلوا من المدينة: أي يخرجوا منها، وأن لهم نساءهم والذرية وله صلى الله عليه وسلم الأموال، أي ومنها الحلقة التي هي السلاح. والظاهر من كلامهم أنه لم يكن لهم نخيل ولا أرض تزرع، وخمست أموالهم أي مع كونها فيئا له صلى الله عليه وسلم لأنها لم تحصل بقتال ولا جلوا عنها قبل التقاء الصفين، فكان له صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الأربعة الأخماس.
أقول: ولا يخفى أن من جملة أموالهم دورهم، ولم أقف على نقل صريح دال على ما فعل بها، وعلم أنه صلى الله عليه وسلم جعل هذا الفيء كالغنيمة. ومذهبنا معاشر الشافعية أن الفيء المقابل للغنيمة كالواقع في هذه الغزوة وغزوة بني النضير الآتية كان في زمنه صلى الله عليه وسلم يقسم خمسة أقسام، له صلى الله عليه وسلم أربعة منها، والقسم الخامس يقسم خمسة أقسام له صلى الله عليه وسلم منها قسم، فيكون له أربعة أخماس وخمس الخمس والأربعة الأخماس الباقية من الخمس، منها واحد لذوي القربى، وآخر لليتامى، وآخر للمساكين، وآخر لابن
السبيل، فجميع مال الفيء مقسوم على خمسة وعشرين سهما منها أحد وعشرون سهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأربعة أسهم لأربعة أصناف، هم: ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، ولعل إمامنا الشافعي رضي الله عنه رأى أن ذلك كان أكثر أحواله صلى الله عليه وسلم وإلا فهو هنا وفي بني النضير كما سيأتي لم يفعل ذلك بل خمسه هنا، ثم استقل به: أي لم يعط الجيش منه، وقد جعل صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم أي وبنات هاشم وبني أي وبنات المطلب دون بني أخويهما عبد شمس ونوفل من أن الأربعة أولاد عبد مناف كما تقدم.
ولما فعل ذلك جاء إليه صلى الله عليه وسلم جبير بن مطعم من بني نوفل وعثمان بن عفان من بني عبد شمس فقالا: يا رسول الله، هؤلاء إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله منهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا» وفي لفظ «ومنعتنا وإنما قرابتنا وقرابتهم واحدة» وفي رواية «أن بني هاشم شرفوا بمكانك منهم وبنو المطلب، ونحن ندلي إليك بنسب واحد ودرجة واحدة فبم فضلتهم علينا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيئا واحد هكذا، وشبك بين أصابعه» زاد في رواية «أنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا في إسلام» أي لأن الصحيفة إنما كتبت على بني هاشم والمطلب، لأنهم هم الذين قاموا دونه صلى الله عليه وسلم ودخلوا الشعب.
وبعده صلى الله عليه وسلم صار الفيء أربعة أخماس للمرتزقة المرصدة للجهاد؟ وخمس الخامس لمصالح المسلمين، والخمس الثاني منه لذوي القربى، والخمس الثالث منه لليتامى، والخمس الرابع منه للمساكين، والخمس الباقي منه لابن السبيل.
ثم لا يخفى أنه صلى الله عليه وسلم إذا كان مع الجيش وغنم شيئا بقتال أو إيجاف خيل أو جلا عنه أهله بعد التقاء الصفين كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن يختار من ذلك قبل قسمته، ويقال لهذا الذي يختاره الصفيّ والصفية كما تقدم.
أقول: وتقدم عن الإمتاع عن محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما خلافه، وتقدم هل صفيه صلى الله عليه وسلم كان محسوبا عليه من سهمه أو لا؟ قيل نعم، وقيل كان خارجا عنه وتقدم الجواب عن ذلك في غزاة بدر أن هذا الخلاف لا ينافي الجزم ثم بأنه كان زائدا على سهمه صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك قبل نزول آية تخميس الغنيمة، فكان سهمه صلى الله عليه وسلم كسهم واحد من الجيش، فصفيه يكون زائدا على ذلك.
وأما سهمه صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية التخميس للغنيمة فهو خمس الغنيمة، فيجري فيما يأخذه قبل القسمة الخلاف، هل يكون زائدا على ذلك الخمس أو يكون محسوبا منه؟ فلا مخالفة بين إجراء الخلاف والجزم، والله أعلم.
وقيل لما نزلت بنو قينقاع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتفوا فكتفوا فأراد قتلهم، فكلمه فيهم عبد الله بن أبي ابن سلول وألح عليه؛ أي فقال: يا محمد أحسن في مواليّ فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلفه، أي وتلك الدرع هي ذات الفضول، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك أرسلني وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه سمرة لشدة غضبه، ثم قال: ويحك أرسلني، فقال:
والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ، فإنهم عترتي وأنا امرؤ أخشى الدوائر، فقال صلى الله عليه وسلم: خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم، وتركهم من القتل، أي وقال له: خذهم لا بارك الله لك فيهم، وأمر صلى الله عليه وسلم أن يجلوا من المدينة؛ أي ووكل بإجلائهم عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه وأمهلهم ثلاثة أيام فجلوا منها بعد ثلاث، أي بعد أن سألوا عبادة بن الصامت أن يمهلهم فوق الثلاث، فقال: لا ولا ساعة واحدة، وتولى إخراجهم، وذهبوا إلى أذرعات بلدة بالشام، أي ولم يدر الحول عليهم حتى هلكوا أجمعون بدعوته صلى الله عليه وسلم في قوله لابن أبيّ «لا بارك الله لك فيهم» .
ويذكر أن ابن أبيّ قبل خروجهم جاء إلى منزله صلى الله عليه وسلم يسأله في إقرارهم فحجب عنه، فأراد الدخول، فدفعه بعض الصحابة فصدم وجهه الحائط فشجه، فانصرف مغضبا، فقال بنو قينقاع: لا نمكث في بلد يفعل فيه بأبي الحباب هذا ولا تنتصر له وتأهبوا للجلاء. قال: وقيل الذي تولى إخراجهم محمد بن مسلمة رضي الله عنه، أي ولا مانع أن يكونا: أي عبادة بن الصامت ومحمد بن مسلمة اشتركا في إخراجهم.
ووجد صلى الله عليه وسلم في منازلهم سلاحا كثيرا، أي لأنهم كما تقدم أكثر يهود أموالا وأشدهم بأسا، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلاحهم ثلاث قسيّ، قوسا يدعى الكتوم:
أي لا يسمع له صوت إذا رمى به، وهو الذي رمى به صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى تشظى بالظاء المشالة كما سيأتي وسيأتي ما فيه، وقوسا يدعى الروحاء، وقوسا يدعى البيضاء، وأخذ درعين: درعا يقال له السغدية أي بسين مهملة وغين معجمة، ويقال إنها درع داود التي لبسها صلى الله عليه وسلم حين قتل جالوت، والأخرى يقال لها فضة، وثلاث أرماح، وثلاثة أسياف: سيف يقال له قلعي، وسيف يقال له بتار، والآخر لم يسم انتهى أي وسماه بعضهم بالحيف، ووهب صلى الله عليه وسلم درعا لمحمد بن مسلمة، ودرعا لسعد بن معاذ رضي الله عنهما والله تعالى أعلم.