withprophet faceBook withprophet twitter withprophet instagram withprophet youtube withprophet new withprophet pinterest


خلوه وتعبده بغار حراء وبداية أمر الوحي من كتاب السيرة الحلبية

خلوه وتعبده بغار حراء وبداية أمر الوحي من كتاب السيرة الحلبية

اسم الكتاب:
السيرة الحلبية

باب: بدء الوحي له صلى الله عليه وسلم

عن عائشة رضي الله تعالى عنها أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين أراد الله تعالى كرامته ورحمة العباد به الرؤيا الصالحة «لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق» أي وفي لفظ «كفرق الصبح» أي كضيائه وإنارته، فلا يشك فيها أحد كما لا يشك أحد في وضوح ضياء الصبح ونوره. وفي لفظ «فكان لا يرى شيئا في المنام إلا كان» أي وجد في اليقظة كما رأى، فالمراد بالصالحة الصادقة. وقد جاءت في رواية البخاري في التفسير: أي ولا يخفى أن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم كلها صادقة وإن كانت شاقة كما في رؤياه يوم أحد.

قال القاضي وغيره وإنما ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك الذي هو جبريل عليه السلام بالنبوة: أي الرسالة، فلا تتحملها القوى البشرية: أي لأن القوى البشرية لا تتحمل رؤية الملك وإن لم يكن على صورته التي خلقه الله عليها ولا على سماع صورته ولا على ما يخبر به لا سيما الرسالة، فكانت الرؤيا تأنيسا له صلى الله عليه وسلم والمراد بالملك جبريل، لكن ذكر بعضهم أن من لطف الله تعالى بنا عدم رؤيتنا للملائكة أي على الصورة التي خلقوا عليها لأنهم خلقوا على أحسن صورة فلو كنا نراهم لطارت أعيننا وأرواحنا لحسن صورهم.

وعن علقمة بن قيس «أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام، أي ما يكون في المنام حتى تهدأ قلوبهم، ثم ينزل الوحي» اهـ: أي في اليقظة لأن رؤيا الأنبياء وحي وصدق وحق، لا أضغاث أحلام ولا تخيل من الشيطان، إذ لا سبيل له عليهم، لأن قلوبهم نورانية، فما يرونه في المنام له حكم اليقظة، فجميع ما ينطبع في عالم مثالهم لا يكون إلا حقا، ومن ثم جاء «نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا» .

أقول: وحينئذ يكون في القول بأن من خصوصياته صلى الله عليه وسلم اجتماع أنواع الوحي

الثلاثة له وعد منها الرؤيا في المنام، وعد منها الكلام من غير واسطة، وبواسطة جبريل نظر، لما علمت أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعهم مشتركون في الرؤيا، وموسى عليه الصلاة والسلام حصل له كل من الكلام بلا واسطة وبواسطة جبريل.

وذكر بعضهم أن مدة الرؤيا ستة أشهر قال فيكون ابتداء الرؤيا حصل في شهر ربيع الأول، وهو مولده صلى الله عليه وسلم ثم أوحى الله إليه في اليقظة أي في رمضان ذكره البيهقي وغيره.

وجاء في الحديث: «الرؤيا الصادقة» وفي البخاري «الرؤيا الحسنة: أي الصادقة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزآ من النبوة» . قال بعضهم: معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث أقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين يوحي إليه ومدة الوحي إليه في اليقظة ثلاث وعشرون سنة، ومدة الوحي إليه في المنام أي التي هي الرؤيا ستة أشهر، فالمراد خصوص رؤيته وخصوص نبوته صلى الله عليه وسلم، وهذا القيل نقله في الهدى وأقره حيث قال: كانت الرؤيا ستة أشهر، ومدة النبوة ثلاثا وعشرين سنة، فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزآ، هذا كلامه. وحينئذ يكون المعنى ورؤيتي جزء من ستة وأربعين جزآ من نبوتي، ولا يخفى أن هذا لا يناسب «الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح» إذ هو يقتضي أن مطلق الرؤيا الصالحة جزء من مطلق النبوة الشامل لنبوته صلى الله عليه وسلم ونبوة غيره فليتأمل. ولم أقف في كلام أحد على مشاركة أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام له صلى الله عليه وسلم في هاتين المدتين. وحينئذ تحمل الخصوصية التي ادعاها بعضهم على هذا.

ومما يدل على أن المراد مطلق الرؤيا ومطلق النبوة لا خصوص رؤياه ونبوته صلى الله عليه وسلم، ما جاء في ذلك من الألفاظ التي بلغت خمسة عشر لفظا.

ففي رواية «أنها جزء من سبعين جزآ» وفي رواية «من أربعة وأربعين» وفي رواية «أنها جزء من خمسين جزآ من النبوة» وفي رواية «من تسعة وأربعين» وفي أخرى «أنها جزء من ستة وسبعين» وفي أخرى «من خمسة وعشرين جزآ» وفي أخرى «من ستة وعشرين جزآ» وفي أخرى «من أربعة وعشرين جزآ» فإن ذلك باعتبار الأشخاص لتفاوت مراتبهم في الرؤيا.

وذكر الحافظ ابن حجر أن أصح الروايات مطلقا رواية ستة وأربعين، ويليها رواية أنها جزء من سبعين جزآ.

فعلم أن الرؤية المذكورة جزء من مطلق النبوة: أي كجزء منها من جهة الاطلاع على بعض الغيب، فلا ينافي انقطاع النبوة بموته صلى الله عليه وسلم.

ومن ثم جاء «ذهبت النبوة» أي لا توجد بعدي. «وبقيت المبشرات» أي المرائي التي كانت مبشرات للأنبياء بالنبوة، بدليل ما في رواية «لم يبق بعدي من المبشرات» أي مبشرات النبوة «إلا الرؤيا» أي مجرد الرؤيا الخالية عن شيء من مبشرات النبوة، بدليل ما في لفظ «لم يبق إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم» أي لنفسه «أو ترى له» .

لا يقال: الرؤيا الصادقة تكون من الكافر أو ترى له، وهو خارج بالرجل الصالح وبالمسلم. لأنا نقول: لو فرض وقوع ذلك كان استدراجا. وفيه أنها واقعة، وظاهر سياق الحديث الحصر، وكما تكون الرؤيا مبشرة بخير عاجل أو آجل تكون منذرة بشر كذلك قال بعضهم: وقد تطلق البشارة التي هي الخبر السار على ما يشمل النذارة التي هي الخبر الضار بعموم المجاز، بأن يراد بالبشارة ما يعود إلى الخير، لأن النذارة ربما قادت إلى الخير.

وفي الإتقان: ومن المجاز تسمية الشيء باسم ضده نحو فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: الآية 21] اهـ أي وهي في هذه الآية للتهكم.

وجاء رجل أي وهو أبو قتادة الأنصاري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله إني أرى في المنام الرؤيا تمرضني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: الرؤيا الحسنة من الله، والسيئة من الشيطان، فإذا رأيت الرؤيا تكرهها فاستعذ بالله من الشيطان واتفل عن يسارك ثلاث مرات فإنها لا تضرك» أي وحكمة التفل احتقار الشيطان واستقذاره.

وفي رواية «إذا رأى أحدكم ما يكره فليعذ بالله من شرها ومن الشيطان، كأن يقول: أعوذ بالله من شر ما رأيت ومن شر الشيطان، وليتفل ثلاثا، ولا يحدّث بها أحدا فإنها لا تضره» زاد في رواية «وأن يتحول عن جنبه الذي كان عليه» زاد في أخرى «وليقم فليصلّ» أي ليكون فعل ذلك سببا للسلامة من المكروه الذي رآه.

وفي البخاري «إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليتحدث بها: أي ولا يخبر بها إلا من يحب، وإذا رأى غير ذلك مما كره فإنما هي من الشيطان» أي لا حقيقة لها، وإنما هي تخيل يقصد به تخويف الإنسان والتهويل عليه «فليستعذ بالله من شرها، ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره» وفي الأذكار «ثم ليقل: اللهم إني أعوذ بك من عمل الشيطان وسيئات الأحلام» وفي الحديث «الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان» .

قيل في معناه لأن صاحب الرؤيا يرى الشيء على ما هو عليه، بخلاف صاحب الحلم فإنه يراه على خلاف ما هو عليه، فإن الحلم مأخوذ من حلم الجلد: إذا فسد. والرؤيا قيل إنها أمثلة يدركها الرائي بجزء من القلب لم تستول عليه آفة النوم،

وإذا ذهب النوم من أكثر القلب كانت الرؤيا أصفى وذكر الفخر الرازي أن الرؤيا الرديئة يظهر تعبيرها، أي أثرها عن قرب، والرؤيا الجيدة إنما يظهر تعبيرها بعد حين.

والسبب فيه أن حكمة الله تعالى تقتضي أن لا يحصل الإعلام بوصول الشر إلا عند قرب وصوله حتى يكون الحزن والغم أقل.

وأما الإعلام بالخير فإنه يحصل متقدما على ظهوره بزمان طويل حتى تكون البهجة الحاصلة بسبب توقع حصول ذكر الخير أكثر، وهذا جري على ما هو الغالب، وإلا فقد قيل لجعفر الصادق: كم تتأخر الرؤيا؟ فقال: «رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه كأن كلبا أبقع يلغ في دمه» فكان أي ذلك الكلب الأبقع شمرا قاتل الحسين وكان أبرص، فكان تأخير الرؤيا بعد خمسين سنة.

وجاء عن عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: «إذا خلوت سمعت نداء أن يا محمد يا محمد» وفي رواية «أرى نورا» أي يقظة لا مناما «وأسمع صوتا وقد خشيت أن يكون والله لهذا الأمر» وفي رواية «والله ما أبغضت بغض هذه الأصنام شيئا قط ولا الكهان، وإني لأخشى أن أكون كاهنا» أي فيكون الذي يناديني تابعا من الجن، لأن الأصنام كانت الجن تدخل فيها، وتخاطب سدنتها، والكاهن يأتيه الجني بخبر السماء وفي رواية «وأخشى أن يكون بي جنون» أي لمة من الجن «فقالت: كلا يا بن عم ما كان الله ليفعل ذلك بك، فو الله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث» وفي رواية «إن خلقك لكريم» أي فلا يكون للشيطان عليك سبيل. استدلت رضي الله تعالى عنها بما فيه من الصفات العلية والأخلاق السنية على أنه لا يفعل به إلا خيرا، لأن من كان كذلك لا يجزى إلا خيرا.

ونقل الماوردي عن الشعبي أن الله قرن إسرافيل عليه السلام بنبيه ثلاث سنين يسمع حسه ولا يرى شخصه، يعلمه الشيء بعد الشيء ولا يذكر له القرآن، فكان في هذه المدة مبشرا بالنبوة، وأمهله هذه المدة ليتأهب لوحيه.

وفيه أنه لو كان في تلك المدة مبشرا بالنبوة ما قال لخديجة ما تقدم، إلا أن يقال ما تقدم إنما قاله لخديجة في أول أمر، ويدل لذلك ما قيل إنه صلى الله عليه وسلم مكث خمس عشرة سنة يسمع الصوت أحيانا ولا يرى شخصا، وسبع سنين يرى نورا ولم ير شيئا غير ذلك، وإن المدة التي بشر فيها بالنبوة كانت ستة أشهر من تلك المدة التي هي اثنان وعشرون سنة، وهذا الشيء الذي كان يعلمه له إسرافيل لم أقف على ما هو، والله أعلم.

وبعد ذلك حبب الله إليه صلى الله عليه وسلم الخلوة التي يكون بها فراغ القلب والانقطاع عن

الخلق فهي تفرغ القلب عن أشغال الدنيا لدوام ذكر الله تعالى، فيصفو وتشرق عليه أنوار المعرفة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده. وكان يخلو بغار حراء بالمد والقصر، وهذا الجبل هو الذي نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله إلي يا رسول الله لما قال له ثبير وهو على ظهره: اهبط عني، فإني أخاف أن تقتل على ظهري فأعذب، فكان صلى الله عليه وسلم يتحنث: أي يتعبد به أي بغار حراء الليالي ذوات العدد، ويروى أولات العدد: أي مع أيامها، وإنما غلب الليالي لأنها أنسب بالخلوة. قال بعضهم: وأبهم العدد لاختلافه بالنسبة إلى المدد، فتارة كان ثلاث ليال، وتارة سبع ليال، وتارة شهر رمضان أو غيره.

وفي كلام بعضهم ما قد يدل على أنه لم يختل صلى الله عليه وسلم أقل من شهر، وحينئذ يكون قوله في الحديث الليالي ذوات العدد محمول على القدر الذي كان يتزود له فإذا فرغ زاده رجع إلى مكة وتزود إلى غيرها إلى أن يتم الشهر، وكذا قول بعضهم؟

فتارة كان ثلاث ليال، وتارة سبع ليال، وتارة شهرا. ولم يصح أنه صلى الله عليه وسلم اختلى أكثر من شهر. قال السراج البلقيني في شرح البخاري: لم يجئ في الأحاديث التي وقفنا عليها كيفية تعبده عليه الصلاة والسلام، هذا كلامه وسيأتي بيان ذلك قريبا.

ثم إذا مكث صلى الله عليه وسلم تلك الليالي: أي وقد فرغ زاده يرجع إلى خديجة رضي الله تعالى عنها فيتزود لمثلها: أي قيل وكانت زوادته صلى الله عليه وسلم الكعك والزيت. وفيه أن الكعك والزيت يبقى المدة الطويلة، فيمكث جميع الشهر الذي يختلى فيه ثم رأيت عن الحافظ ابن حجر مدة الخلوة كانت شهرا، فكان يتزود لبعض ليالي الشهر فإذا نفد ذلك الزاد رجع إلى أهله يتزود قدر ذلك، ولم يكونوا في سعة بالغة من العيش، وكان غالب أدمهم اللبن واللحم، وذلك لا يدخر منه لغاية شهر لئلا يسرع الفساد إليه، ولا سيما وقد وصف بأنه صلى الله عليه وسلم كان يطعم من يرد عليه هذا كلامه.

وهو يشير فيه إلى ثلاثة أجوبة:

الأول: أنه لم يكن في سعة بحيث يدخر ما يكفيه شهرا من الكعك والزيت.

الثاني: أن غالب أدمهم كان اللحم واللبن وهو لا يدخر شهرا.

الثالث: أنه على فرض أن يدخر ما يكفيه شهرا أي من الكعك والزيت إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان يطعم فربما نفد ما ادخره.

وإنما اختار الزيت للأدم لأن دسومته لا ينفر منها الطبع، بخلاف اللبن واللحم، ومن ثم جاء «ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة» وقوله: «ائتدموا من هذه الشجرة المباركة» أي من عصارة ثمرة هذه الشجرة المباركة التي هي الزيتونة وهو الزيت. وقيل لها مباركة لأنها لا تكاد تنبت إلا في شريف

البقاع التي بورك فيها كأرض بيت المقدس، حتى فجأه الحق وهو في غار حراء: أي في اليوم والشهر المتقدم ذكر.

وعن عبيد بن عمير رضي الله عنه «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء في كل سنة شهرا، وكان ذلك مما تتحنث فيه قريش في الجاهلية» أي المتألهين منهم: أي وكان أول من تحنث فيه من قريش جده صلى الله عليه وسلم عبد المطلب، فقد قال ابن الأثير: أول من تحنث بحراء عبد المطلب، كان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين ثم تبعه على ذلك من كان يتأله: أي يتعبد كورقة بن نوفل وأبي أمية بن المغيرة، وقد أشار إلى تعبده صلى الله عليه وسلم صاحب الهمزية بقوله:

ألف النسك والعبادة والخل ... وة طفلا وهكذا النجباء

وإذا حلت الهداية قلبا ... نشطت في العبادة الأعضاء

أي ألف صلى الله عليه وسلم العبادة والخلوة في حال كونه طفلا، ومثل هذا الشأن العلى شأن الكرام، وإنما كان هذا شأن الكرام، لأنه إذا حلت الهداية قلبا نشطت الأعضاء في العبادة، لأن القلب رئيس البدن المعول عليه في صلاحه وفساده ولعل الخلوة في كلام صاحب الهمزية المراد بها مطلق اعتزاله للناس، وأراد بطفلا زمن رضاعه صلى الله عليه وسلم عند حليمة.

فقد تقدم عنها رضي الله تعالى عنها أنها قالت: لما ترعرع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى الصبيان وهم يلعبون فيتجنبهم لا خصوص اعتزاله الناس في غار حراء فلا ينافي قوله طفلا ظاهر ما تقدم من أن خلوته صلى الله عليه وسلم بغار حراء كانت في زمن تزوجه صلى الله عليه وسلم بخديجة رضي الله تعالى عنها، فكان صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر، يطعم من جاءه من المساكين: أي لأنه كان من نسك قريش في الجاهلية: أي في ذلك المحل أن يطعم الرجل من جاءه من المساكين.

وقد قيل إن هذا كان تعبده في غار حراء أي مع الانقطاع عن الناس، وإلا فمجرد إطعام المساكين لا يختص بذلك المحل: إلا إن كان ذلك المحل صار في ذلك الشهر مقصودا للمساكين دون غيره.

وقيل كان تعبده صلى الله عليه وسلم التفكر مع الانقطاع عن الناس: أي لا سيما إن كانوا على باطل، لأن في الخلوة يخشع القلب وينسى المألوف من مخالطة أبناء الجنس المؤثرة في البنية البشرية، ومن ثم قيل: الخلوة صفوة الصفوة.

وقول بعضهم: كان يتعبد بالتفكر: أي مع الانقطاع عما ذكرنا، وإلا فمجرد التفكر لا يختص بذلك المحل، إلا أن يدعي أن التفكر فيه أتم من التفكر في غيره لعدم وجود شاغل به. وقيل تعبده صلى الله عليه وسلم كان بالذكر وصححه في «سفر السعادة» وقيل بغير ذلك.

من ذلك الغير أنه قيل كان يتعبد قبل النبوة بشرع إبراهيم. وقيل بشريعة موسى غير ما نسخ منها في شرعنا وقيل بكل ما صح أنه شريعة لمن قبله غير ما نسخ من ذلك في شرعنا.

وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي: تعبد صلى الله عليه وسلم قبل نبوته بشريعة إبراهيم حتى فجأه الوحي وجاءته الرسالة، فالولي الكامل يجب عليه متابعة العمل بالشريعة المطهرة حتى يفتح الله له في قلبه عين الفهم عنه فيلهم معاني القرآن، ويكون من المحدثين بفتح الدال ثم يصير إلى إرشاد الخلق. وكان صلى الله عليه وسلم إذا قضى جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف قبل أن يدخل بيته الكعبة فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله تعالى ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به ما أراد من كرامته صلى الله عليه وسلم وذلك شهر رمضان، وقيل شهر ربيع الأول، وقيل شهر رجب خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله: أي عياله التي هي خديجة رضي الله تعالى عنها إما مع أولادها أو بدونهم، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله تعالى فيها برسالته ورحم العباد بها، وتلك الليلة ليلة سبع عشرة من ذلك الشهر، وقيل رابع عشر منه، وقيل كان ذلك ليلة ثمان من ربيع الأول: أي وقيل ليلة ثالثة.

قال بعضهم: القول بأنه في ربيع الأول يوافق القول بأنه بعث على رأس الأربعين لأن مولده صلى الله عليه وسلم كان في ربيع الأول على الصحيح: أي وهو قول الأكثرين وقيل كان ذلك ليلة أو يوم السابع والعشرين من رجب.

فقد أورد الحافظ الدمياطي في سيرته عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:

«من صام يوم سبع وعشرين من رجب كتب الله تعالى له صيام ستين شهرا» وهو اليوم الذي نزل فيه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأول يوم هبط فيه جبريل هذا كلامه، أي أول يوم هبط فيه على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يهبط عليه قبل ذلك، وسيأتي في بعض الروايات أن جبريل عليه السلام نزل في سحر تلك الليلة التي هي ليلة الاثنين.

ويجوز أن يكون كل من تلك الليالي كانت ليلة الاثنين، فقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: «لا يفوتك صوم يوم الاثنين، لأني ولدت فيه، ونبئت فيه» فلا مخالفة بين كونه نبئ في الليل وبين كونه نبئ في اليوم، لأن السحر قد يلحق بالليل.

وفي كلام بعضهم أتاه صلى الله عليه وسلم جبريل ليلة السبت وليلة الأحد، ثم ظهر له بالرسالة يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان في حراء، فجاء بأمر الله تعالى وهذا القول: أي أن البعث كان في رمضان قال به جماعة، منهم الإمام الصرصري حيث قال:

وأتت عليه أربعون فأشرقت ... شمس النبوة منه في رمضان

واحتجوا بأن أول ما أكرمه الله تعالى بنبوته أنزل عليه القرآن. وأجيب بأن المراد بنزول القرآن في رمضان نزوله جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة في سماء الدنيا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فجاءني وأنا نائم بنمط» وهو ضرب من البسط، وفي رواية «جاءني وأنا نائم بنمط من ديباج، فيه كتاب أي كتابة، فقال اقرأ، فقلت:

ما أقرأ» أي أنا أمي لا أحسن القراءة أي قراءة المكتوب أو مطلقا «فغطني، أو فغتني» بالتاء بدل من الطاء به: أي غمني بذلك النمط، بأن جعله على فمه وأنفه قال: «حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال اقرأ أي من غير هذا المكتوب، فقلت: ماذا أقرأ وما أقول ذلك إلا افتداء منه: أي تخلصا منه أن يعود لي بمثل ما صنع أي إنما استفهمت عما أقرؤه ولم أنف خوفا أن يعود لي بمثل ما صنع عند النفي: أي وفي رواية «فقلت والله ما قرأت شيئا قط، وما أدري شيئا أقرؤه» : أي لأني ما قرأت شيئا فهو من عطف السبب على المسبب قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) [العلق:

الآيات 1- 5] فقرأتها فانصرف عني، وهببت» أي استيقظت «من نومي فكأنما كتب في قلبي كتابا» .

أقول: أي استقر ذلك في قلبي وحفظته. ثم لا يخفى أن كلام هذا البعض، وهو أنه جاءه ليلة السبت وليلة الأحد، ثم ظهر له يوم الاثنين، محتمل لأن يكون أتاه بذلك النمط في ليلة السبت وليلة الأحد، وسحر يوم الاثنين وهو نائم لا يقظة لقوله: «ثم هببت من نومي» .

ولا ينافي ذلك قوله، ثم ظهر له بالرسالة، أي أعلن له بما يكون سببا للرسالة الذي هو أقرأ الحاصل في اليقظة. وحينئذ يكون تكرر مجيئه هو السبب في استقرار ذلك في قلبه صلى الله عليه وسلم. وحينئذ لا يبعده قوله في الليلة الثانية: «ما قرأت شيئا» لأن المراد لم يتقدم لي قراءة قبل مجيئك إلي، ولا يبعده أيضا قوله: «ما أدري ما أقرأ» لأنه لم يستقر ذلك في قلبه لما علمت أن سبب الاستقرار التكرر، فلم يستقر ذلك في قلبه صلى الله عليه وسلم في الليلة الأولى.

وفي سيرة الشامي أن مجيء جبريل عليه السلام له صلى الله عليه وسلم بالنمط لم يتكرر، وأنه كان قبل دخوله صلى الله عليه وسلم غار حراء، وهذا السياق يدل على أنه كان بعده.

وفي «سفر السعادة» ما يقتضي أنه جاء بالنمط يقظة في حراء، ونصه «فبينما هو في بعض الأيام قائم على جبل حراء إذ ظهر له شخص وقال: أبشر يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله لهذه الأمة، ثم أخرج له قطعة نمط من حرير مرصعة بالجواهر ووضعها في يده وقال: اقرأ، قال والله ما أنا بقارئ ولا أدري في هذه الرسالة كتابة» أي لا أعلم ولا أعرف المكتوب فيها، قال: «فضمني إليه وغطني حتى

بلغ مني الجهد، فعل ذلك بي ثلاثا وهو يأمرني بالقراءة، ثم قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ.

هذا كلامه فليتأمل، والله أعلم «قال فخرجت» أي من الغار: أي وذلك قبل مجيء جبريل إليه صلى الله عليه وسلم باقرأ خلافا لما يقتضيه السياق «حتى إذا كنت في شط من الجبل» أي في جانب منه «سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، فوقفت أنظر إليه، فإذا جبريل على صورة رجل صافّ قدميه» أي وفي رواية «واضعا إحدى رجليه على الأخرى في أفق السماء» أي نواحيها «يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، فوقفت أنظر إليه، فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا، ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة: أي في الغار، فجلست إلى فخذها مضيفا إليها أي مستندا إليها، فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فو الله لقد بعثت رسلي في طلبك فبلغوا مكة ورجعوا إلي» .

أقول: وهذا يدل على أن خديجة رضي الله تعالى عنها كانت معه بغار حراء، وهو الموافق لما تقدم من قوله ومعه أهله أي خديجة رضي الله تعالى عنها على ما تقدم.

وقد يخالف ذلك ما روي أن خديجة رضي الله تعالى عنها صنعت طعاما ثم أرسلته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تجده بحراء، فأرسلت في طلبه إلى بيت أعمامه وأخواله فلم تجده، فشق ذلك عليها، فبينما هي كذلك إذا أتاها فحدثها بما رأى وسمع، فإن هذا يدل على أنها لم تكن معه صلى الله عليه وسلم بحراء.

وقد يقال: يجوز أن تكون خرجت معه أولا وأرسلت رسلها إليه صلى الله عليه وسلم وهي بحراء فلم تجده، وأن الرسل أخطؤوا محل وقوفه صلى الله عليه وسلم بالجبل الذي هو حراء، ثم رجعت إلى مكة وأرسلت رسلها إليه صلى الله عليه وسلم بحراء، لاحتمال عوده إليه، ثم أرسلت إلى بيت أعمامه وأخواله لما لم تجده صلى الله عليه وسلم بحراء، فإرسالها تكرر مرتين مع اختلاف محلها، ويكون قوله: «وانصرفت راجعا إلى أهلي» : أي بمكة لا بحراء، لأنه يجوز أن يكون بلغه رجوع خديجة رضي الله تعالى عنها إلى مكة.

هذا على مقتضى الجمع. وأما على ظاهر الرواية الأولى يكون رجوعه إلى أهله بحراء كما ذكرنا، وهو يدل على أن خروجه صلى الله عليه وسلم إلى شط الجبل كان من غار حراء كما ذكرنا لا من مكة الذي يدل عليه قول الشمس الشامي «فخرج مرة أخرى إلى حراء، قال: فخرجت حتى أتيت الشط من الجبل سمعت صوتا» إلى آخره فليتأمل والله أعلم.

قال «ثم حدثتها بالذي رأيت» : أي من سماع الصوت ورؤية جبريل، وقوله له:

يا محمد أنت رسول الله، فقالت أبشر يا ابن عمي واثبت، فو الذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأمة، ثم قامت فجمعت عليها ثيابها: أي التي تتجمل بها عند الخروج.

ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى وسمع: أي رأى جبريل وسمع منه أنت رسول الله وأنا جبريل، فقال ورقة: قدوس قدوس بالضم والفتح، والذي نفسي بيده لئن كنت صدقت يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي يأتي موسى الذي هو جبريل، وإنه لنبيّ هذه الأمة، فقولي له يثبت. والقدوس: الطاهر المنزه عن العيوب، وهذا يقال للتعجب، أي وجاء بدل قدوس سبوح سبوح، وما لجبريل يذكر في هذه الأرض التي تعبد فيها الأوثان، جبريل أمين الله بينه وبين رسله: أي لأن هذا الاسم لم يكن معروفا بمكة ولا غيرها من بلاد العرب، فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة بن نوفل، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف: أي فرغ ما تزوّده وليس المراد انقضاء جواره بانقضاء الشهر، لأن ذلك كان قبل أن يجيء إليه جبريل باقرأ باسم ربك يقظة كما تقدم. أي وذلك كان في الشهر الذي أكرمه الله فيه برسالته.

فعند ذلك صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة، فقال له: يا ابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ورقة والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذبنه ولتؤذينه، ولتقاتلنه ولتخرجنه بها السكت، ولا تكون إلا ساكنة. ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرنّ الله نصرا يعلمه، ثم أدنى ورقة رأسه صلى الله عليه وسلم منه وقبل يأفوخه، أي وسط رأسه، لأن اليأفوخ بالهمزة وسط الرأس إذا استد وقبل استداده كما في رأس الطفل يقال له الفادية بالفاء. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله أي ولا مانع من تكرار مراجعة ورقة فتارة قال قدوس قدوس، وتارة قال سبوح سبوح، أو جمع بين ذلك في وقت واحد. وبعض الرواة اقتصر على أحد اللفظين، وقد جاء أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه دخل على خديجة أي وليس عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له: يا عتيق اذهب بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى ورقة:

أي بعد أن أخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيذكر، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده فقال: انطلق بنا إلى ورقة، وذهب به إلى ورقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا إلى الأرض، فقال له: لا تفعل، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني:

أي وهذا قبل أن يراه ويجتمع به ويجيء إليه بالقرآن. وحينئذ يكون تكرر سؤال ورقة

ثلاث مرات، الأولى على يد أبي بكر رضي الله تعالى عنه. وذلك قبل أن يرى جبريل. والثانية التي رأى فيها جبريل وسمع منه ولم يجتمع به، وذلك عند اجتماعه صلى الله عليه وسلم به في المطاف. والثالثة التي بعد مجيء جبريل له يقظة بالقرآن أي باقرأ باسم ربك على المشهور، من أنه أوّل ما نزل، وذلك على يد خديجة، ولا ينافي ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر كما سيأتي أن القصة واحدة لم تتعدد ومخرجها متحد، لأن مراده قصة مجيء جبريل له يقظة باقرأ باسم ربك وسيأتي ما فيه.

وإنما قال ورقة له صلى الله عليه وسلم يا ابن أخي، قيل لأنه يجتمع مع عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم في قصيّ فكان عبد الله بمثابة الأخ له أو أنه قال ذلك توقيرا له وإنما ذكر ورقة موسى دون عيسى عليهما الصلاة والسلام، مع أن عيسى أقرب منه وهو على دينه لأنه كان على دين موسى، ثم صار على دين عيسى عليهما الصلاة والسلام أي كان يهوديا. ثم صار نصرانيا، أي لأن نبوّة موسى عليه الصلاة والسلام مجمع عليها أي على أنها ناسخة لما قبلها، وأن شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام، قيل إنها متممة ومقررة لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام لا ناسخة لها، قيل ولأن ورقة كان ممن تنصر أي كما علمت، والنصارى لا يقولون بنزول جبريل على عيسى عليه الصلاة والسلام أي بل كان يعلم الغيب، لأنهم يقولون فيه إنه أحد الأقانيم الثلاثة اللاهوتية وذلك الأقنوم هو أقنوم الكلمة التي هي العلم حل بناسوت المسيح واتحد به، فلذلك كان يعلم علم الغيب ويخبر بما في الغد.

أقول: وفيه أن في رواية «وإنك على مثل ناموس موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام» أي ففي بعض الروايات جمع وفي بعضها اقتصر على موسى. وفي الاقتصار على موسى دون الاقتصار على عيسى ما علمت، ثم رأيت أنه جاء في غير الصحيح الاقتصار على عيسى فقال هذا الناموس الذي نزل على عيسى، فهو كما جاء الجمع بينهما جاء الاقتصار على كل منهما.

ولا ينافي ذلك أي مجيء جبريل لعيسى ما تقدم عن النصارى من أنهم لا يقولون بنزول جبريل على عيسى، لجواز أن يكون المراد لا ينزل عليه دائما وأبدا بالوحي، بل في بعض الأحيان، وفي بعضها يعلم الغيب بغير واسطة. ثم رأيت في فتح الباري أن عند إخبار خديجة لورقة بالقصة قال لها هذا ناموس عيسى بحسب ما هو فيه من النصرانية، وعند إخبار النبي صلى الله عليه وسلم له بالقصة قال له هذا ناموس موسى للمناسبة بينهما لأن موسى أرسل بالنقمة على فرعون، وقد وقعت النقمة على يد نبينا صلى الله عليه وسلم على فرعون هذه الأمة الذي هو أبو جهل، هذا كلامه فليتأمل. وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال في حق أبي جهل في يوم بدر «هذا فرعون هذه الأمة» والله أعلم.

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «جاءه الملك سحرا» أي سحر يوم الاثنين

يقظة لا مناما، أي بغير نمط «فقال له اقرأ. قال: ما أنا بقارئ» أي لا أوجد القراءة، قال: «فأخذني فغطني» أي ضمني وعصرني. وفي لفظ «فأخذ بحلقي حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ» أي لا أحسن القراءة، أي لا أحفظ شيئا أقرؤه «فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ» أي أيّ شيء أقرؤه.

وفيه أنه لو كان كذلك لقال ما أقرأ، أو ماذا أقرأ. إلا أن يقال أطلق ذلك وأراد لازمه الذي هو الاستفهام، خصوصا وقد قدمه قال: «فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) [العلق: الآيات 1- 5] » .

أقول: فقولنا: أي بغير نمط هو ظاهر الروايات، ويجوز أن يكون لفظ النمط سقط في هذه الرواية كغيرها من الروايات، ويؤيده اقتصار السيرة الشامية على مجيئه بالنمط. وأيضا كيف الجمع بين قوله هنا ما ذكر وبين قوله هناك: «فكأنما كتب في قلبي كتابا» «وما بالعهد من قدم» . إلا أن يقال يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم جوز أن يكون جبريل يريد منه قراءة غير الذي قرأه وكتب في قلبه. ولا يخفى أنه علم أن قول جبريل اقرأ أمر بالقراءة.

وفيه أنه من التكليف بما لا يطاق، أي في الحال: أي ومن ثم ادعى بعضهم أنه لمجرد التنبيه واليقظة لما يلقى إليه.

وفيه أنه لو كان كذلك لم يحسن أن يقال في جوابه: ما أنا بقارئ الذي معناه لا أوجد القراءة. إلا أن يقال جبريل عليه الصلاة والسلام أراد التنبيه لا الأمر، وجوابه صلى الله عليه وسلم بناء على مقتضى ظاهر اللفظ.

وعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ في المواضع الثلاثة معناه مختلف: ففي الأول معناه الإخبار بعدم إيجاد القراءة، والثاني معناه الإخبار بأنه لا يحسن شيئا يقرؤه وإن كان ذلك هو مستند الأول، والثالث معناه الاستفهام عن أي شيء أن يقرؤه، وفيه ما علمت.

وبعضهم جعل قوله الأول لا أقرأ: لا أحسن القراءة بدليل أنه جاء في بعض الروايات ما أحسن أن أقرأ. وحينئذ يكون بمعنى الثاني، فيكون تأكيدا له: أي الغرض منهما شيء واحد.

قال بعضهم: وجه المناسبة بين الخلق من العلق والتعليم وتعليم العلم أن أدنى مراتب الإنسان كونه علقة، وأعلاها كونه عالما، فالله سبحانه وتعالى امتن على الإنسان بنقله من أدنى المراتب وهي العلقة إلى أعلاها، وهي تعلم العلم.

وقد اشتملت هذه الآيات على براعة الاستهلال: وهو أن يشتمل أول الكلام على ما يناسب الحال المتكلم فيه، ويشير إلى ما سبق الكلام لأجله فإنها اشتملت على الأمر بالقراءة والبداءة فيها ببسم الله، إلى غير ذلك مما ذكره في الإتقان. قال فيه: من ثم قيل إنها جديرة أن تسمى عنوان القرآن، لأن عنوان الكتاب ما يجمع مقاصده بعبارة موجزة في أوله، وكرر جبريل الغط ثلاثا للمبالغة. وأخذ منه بعض التابعين وهو القاضي شريح أن المعلم لا يضرب الصبي على تعليم القرآن أكثر من ثلاث ضربات.

وأورد الحافظ السيوطي عن الكامل لابن عدي بسند ضعيف عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يضرب المؤدب الصبي فوق ثلاث ضربات» .

وذكر السهيلي أن في ذلك: أي الغط ثلاثا إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم يحصل له شدائد ثلاث ثم يحصل له الفرج بعد ذلك فكانت الأولى إدخال قريش له صلى الله عليه وسلم الشعب والتضييق عليه. والثانية اتفاقهم على الاجتماع على قتله صلى الله عليه وسلم. والثالثة خروجه من أحب البلاد إليه، وجاءه صلى الله عليه وسلم جبريل وميكائيل: أي قبل قول جبريل له اقرأ فشق جبريل بطنه وقلبه، إلى آخر ما تقدم في الكلام على أمر الرضاع ثم قال له جبريل:

اقرأ الحديث، فعلم أن اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ نزلت من غير بسملة، وقد صرح بذلك الإمام البخاري، وما ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «بأن أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد استعذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ قال الحافظ ابن كثير. هذا الأثر غريب، في إسناده ضعف وانقطاع، أي فلا يدل للقول بأن أول ما نزل بسم الله الرحمن الرحيم، حكاه ابن النقيب في مقدمة تفسيره، وبه يرد على الجلال السيوطي حيث قال: وعندي فيه أن هذا لا يعد قولا برأسه، فإن من ضرورة نزول السورة أي سورة اقرأ نزول البسملة معها، فهي أول آية نزلت على الإطلاق، هذا كلامه والله أعلم.

قال الحافظ ابن حجر: هذا الذي وقع له صلى الله عليه وسلم في ابتداء الوحي من خصائصه، إذ لم ينقل عن أحد من الأنبياء عليه الصلاة والسلام أنه جرى له عند ابتداء الوحي مثل ذلك. «ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الآية رجع بها ترجف بوادره» والبادرة اللحمة التي بين المنكب والعنق، تتحرك عند الفزع ويقال لها الفريصة والفرائص: أي وفي رواية «فؤاده» أي قلبه، ولا مانع من اجتماع الأمرين، لأن تحرك البادرة ينشأ عن فزع القلب «حتى دخل صلى الله عليه وسلم على خديجة فقال: زملوني زملوني» أي غطوني بالثياب «فزملوه حتى ذهب عنه الروع» بفتح الراء: أي الفزع «ثم أخبرها الخبر وقال:

لقد خشيت على نفسي» وفي رواية «على عقلي» كما في «الأمتاع» «قالت له خديجة:

كلا أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبدا» أي لا يفضحك «إنك لتصل الرحم، وتصدق

الحديث، وتحمل الكل» أي الشيء الذي يحصل منه التعب والإعياء لغيرك «وتكسب المعدوم» بضم التاء. والمعدوم الذي لا مال له لأن من لا مال له كالمعدوم: أي توصل إليه الخير الذي لا يجده عند غيرك.

وبهذا يعلم سقوط قول الخطابي الصواب المعدوم بلا واو، لأن المعدوم: أي الشخص المعدوم لا يكسب: أي لا يعطى الكسب «وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» أي على حوادثه «فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل، فقالت له خديجة رضي الله تعالى عنها: أي عم اسمع من ابن أخيك» أي وقولها أي عم صوابه ابن عم، لأنه ابن عمها لا عمها كما وقع في مسلم.

قال ابن حجر: وهو وهم لأنه وإن كان صحيحا لجواز إرادة التوقير، لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد: أي فلا يقال يجوز أنها جاءت إليه بعد نزول الآية مرتين، قالت في مرة أي عم، وفي مرة أي ابن عم «قال ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى: فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى» أي صاحب سر الوحي وهو جبريل «يا ليتني فيها جذعا» أي يا ليتني حينئذ أكون في زمن الدعوى إلى الله: أي إظهاره الذي جاء به وأنذر، أو أصل وجودها بناء على تأخر الدعوى التي هي الرسالة عن النبوة على ما يأتي شابا حتى أبالغ في نصرتها «يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجيّ هم؟» بتشديد الياء المفتوحة لأنه جمع مخرج، والأصل أو مخرجوني حذفت النون للإضافة فصار مخرجوي، قلبت الواو ياء وأدغمت، قال ورقة: «نعم لم يأت رجل بما جئت به إلا عودي» أي فتكون المعاداة سببا لإخراجه.

وهذا يفيد بظاهره أن من تقدم من الأنبياء أخرجوا من أماكنهم لمعاداة قومهم لهم، وإلا فمجرد المعاداة لا يقتضي الإخراج، فلا يحسن أن يكون علامة عليه، وقد يؤيد ذلك ما تقدم عند الكلام على بناء الكعبة أن كل نبي إذا كذبه قومه خرج من بين أظهرهم إلى مكة يعبد الله عز وجل بها حتى يموت وتقدم ما فيه.

وفي كونه صلى الله عليه وسلم لم يقل شيئا في جواب قول ورقة إنه يكذب ويؤذي ويقاتل، وقال في جواب قوله: إنه يخرج أو مخرجيّ هم؟ استفهاما إنكاريا، دليل على شدة حب الوطن وعسر مفارقته، خصوصا وذلك الوطن حرم الله وجوار بيته ومسقط رأسه، قال ورقة: «وإن أدركت يومك أنصرك نصرا مؤزرا» أي شديدا قويا، من الأزر وهو الشدة. الذي في الحديث الصحيح «وإن يدركني يومك» وسيأتي في بعض الروايات «وإن يدركني ذلك» قال السهيلي: وهو القياس، لأن ورقة سابق بالوجود، والسابق: هو الذي يدركه ما سيأتي بعده كما جاء «أشقى الناس من أدركته الساعة وهو حي» هذا كلامه.

أي وفي بعض الروايات أنه قال لها: «إن ابن عمك لصادق وإن هذا لبدء نبوة» وفي لفظ «إنه لنبي هذه الأمة» أي وفي الشفاء أن قوله صلى الله عليه وسلم لخديجة: «لقد خشيت على نفسي» ليس معناه الشك فيما آتاه الله تعالى من النبوة، ولكنه لعله خشي أن لا تحتمل قوته صلى الله عليه وسلم مقاومة الملك وأعباء الوحي، بناء على أنه قال ذلك بعد لقاء الملك وإرساله إليه بالنبوة، فإن للنبوة أثقالا لا يستطيع حملها إلا أولو العزم من الرسل.

وفي كلام الحافظ ابن حجر، اختلف العلماء في هذه الخشية على اثني عشر قولا، وأولاها بالصواب وأسلمها من الارتياب أن المراد بها الموت أو المرض أو دوام المرض هذا كلامه، فليتأمل مع رواية «خشيت على عقلي» .

قال: وفي بعض الروايات أن خديجة قبل أن تذهب به إلى ورقة ذهبت به إلى عداس وكان نصرانيا من أهل نينوى: قرية سيدنا يونس عليه الصلاة والسلام، فقالت له: يا عداس أذكرك الله إلا ما أخبرتني هل عندكم علم من جبريل: أي فإن هذا الاسم لم يكن معروفا بمكة ولا بغيرها من أرض العرب كما تقدم، فقال عداس:

قدوس قدوس، ما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل أوثان؟ أي والقدوس المنزه عن العيوب وأن هذا يقال للتعجب كما تقدم، فقالت: أخبرني بعلمك فيه؟ قال: هو أمين الله بينه وبين النبيين، وهو صاحب موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام اهـ.

وفيه أنه سيأتي عند الكلام على ذهابه صلى الله عليه وسلم للطائف بعد موت أبي طالب يلتمس إسلام ثقيف اجتماعه بعداس الموصوف بما ذكر، لكن في تلك القصة ما قد يبعد معه كل البعد أنه المذكور هنا فليتأمل، ثم رأيت أن عداسا المذكور هنا كان راهبا وكان شيخا كبير السن، وقد وقع حاجباه على عينيه من الكبر، وأن خديجة قالت له:

أنعم صباحا يا عداس، فقال: كأن هذا الكلام كلام خديجة سيدة نساء قريش، قالت أجل، قال ادني مني فقد ثقل سمعي، فدنت منه ثم قالت له ما تقدم، وهذا صريح في أنه غير عداس الآتي ذكره، وأنهما اشتركا في الاسم والبلد والدين، أي وكونهما غلامين لعتبة بن ربيعة.

ففي كلام ابن دحية: عداس كان غلاما لعتبة بن ربيعة من أهل نينوى، عنده علم من الكتاب، فأرسلت إليه خديجة تسأله عن جبريل، فقال: قدوس قدوس الحديث ولا يخفى أن هذا اشتباه وقع من بعض الرواة بلا شك.

وفي رواية أن عداسا هذا قال لها: يا خديجة إن الشيطان ربما عرض للعبد فأراه أمورا، فخذي كتابي هذا فانطلقي به إلى صاحبك، فإن كان مجنونا فإنه سيذهب عنه، وإن كان من الله فلن يضره، فانطلقت بالكتاب معها، فلما دخلت منزلها إذا هي برسول الله صلى الله عليه وسلم مع جبريل يقرئه هذه الآيات ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ

(1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) [القلم: الآيات 1- 6] فلما سمعت خديجة قراءته اهتزت فرحا ثم قالت للنبي صلى الله عليه وسلم فداك أبي وأمي، امض معي إلى عداس، فلما رآه عداس كشف عن ظهره فإذا خاتم النبوة يلوح بين كتفيه، فلما نظر عداس إليه خر ساجدا يقول: قدوس قدوس، أنت والله النبي الذي بشر بك موسى وعيسى الحديث.

وفيه إن كان هذا قبل أن تذهب به إلى ورقة اقتضى أن نزول سورة ن قبل اقرأ، ولا يحسن ذلك مع قوله لجبريل ما أنا بقارئ، إذ هو صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ قبل ذلك شيئا، ومن ثم كان المشهور أن أول ما نزل اقرأ. وكون ن نزلت لهذا السبب مخالف لما ذكر في أسباب النزول أنها نزلت لما وصفه المشركون بأنه مجنون، إلا أن يقال لا مانع من تعدد النزول.

وذكر ابن دحية أيضا أنه صلى



كلمات دليلية: