ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما رأى ما يصيب أصحابه من البلاء وأنه لا يقدر على أن يحميهم ويمنعهم مما هم فيه، قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإنّ بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه» .
فخرج عند ذلك المسلمون إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام. وكان في مقدمة المهاجرين: عثمان بن عفان وزوجته، رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة وزوجته، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف ... حتى اجتمع في أرض الحبشة من أصحابه صلّى الله عليه وسلم بضعة وثمانون رجلا «11» .
فلما رأت قريش ذلك، أرسلت إلى النجاشي عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص (ولم يكن قد أسلم بعد) بهدايا مختلفة كثيرة، إليه وإلى حاشيته وبطارقته، رجاء أن يرفض قبول هؤلاء المسلمين في جواره ويسلمهم مرة أخرى إلى أعدائهم.
فلما كلّما النجاشي في ذلك- وكانا قد كلّما من قبله بطارقته وقدّما إليهم ما جاءا به من الهدايا- رفض النجاشي أن يسلم أحدا من المسلمين إليهما حتى يكلمهم في شأن دينهم الجديد هذا.
فجيء بهم إليه، ورسولا قريش عنده، فقال لهم: «ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من الملل؟» .
فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال: «أيها الملك: كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم، ونهانا عن الفواحش.. فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان.. فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك» .
فسأله النجاشي أن يتلو عليه شيئا مما جاءهم به الرسول صلّى الله عليه وسلم من عند الله.
فقرأ عليه جعفر صدرا من سورة مريم، فبكى النجاشي حتى اخضلّت لحيته، ثم قال لهم:
__________
(11) هذا هو الصحيح كما ذكره ابن هشام في سيرته: 1/ 330 وانظر فتح الباري: 7/ 130
«إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. ثم التفت إلى رسولي قريش قائلا:
انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون» .
ثم إنهما عادا فقالا للنجاشي: «أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون» . فأرسل إليهم، في ذلك، فقال جعفر بن أبي طالب: «نقول فيه الذي جاءنا به نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يقول: «هو عبد الله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول» .
فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا، ثم قال: «والله ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود» .
ثم ردّ إليهما هداياهما، وزاد استمساكه بالمسلمين الذين استجاروا به، وعاد الرسل إلى قريش خائبين.
وبعد فترة من الزمن بلغهم إسلام أهل مكة، فرجعوا لما بلغهم ذلك حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما قد سمعوه من إسلام أهل مكة باطل، فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار، أو مستخفيا وكان جميعهم ثلاثة وثلاثين رجلا. وكان من بين من دخل بجوار، عثمان بن مظعون، دخل بجوار الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة دخل بجوار أبي طالب.